صدام الزيدي
كاتب وشاعر يمني
في دراسته النقدية، الصادرة حديثًا عن دار النشر “كنوز المعرفة- عمّان”، في جزأين، والتي تحمل عنوان: “متخيل الديستوبيا في الخطاب الروائي”
يتقاطع الباحث والناقد اليمني، عبد الحميد الحسامي، مع امتداد زمني طويل، يبدأ منذ أفلاطون وحتى اللحظة الراهنة، حيث ظل الفلاسفة والمبدعون مسكونين بتأسيس عالم الحلم المنتظر، والسعادة الأبدية التي لا تنقضي مُتعها، ولذائذها، فـ (المدينة الفاضلة) التي كانت حلم الفلاسفة، وأمل الشعراء، ومنتهى النبوءات، ووعد الأيديولوجيات، على تعاقبها في خارطة الزمان والمكان، تصير اليوم شيئًا من الماضي، وهنالك نشوء ملحوظ لظاهرة “الديستوبيا” التي تعد النقيض لما يعرف بـ”اليوتوبيا”.
يقع الجزء الأول من الدراسة في (330) صفحة، وهو مكرّس لقراءة متخيل الديستوبيا في الخطاب الروائي في الرواية الغربية، بينما يمتد الجزء الثاني على (320) صفحة، ويخصصه الناقد الحسامي لقراءة متخيل الديستوبيا في خطاب الرواية العربية.
وإجمالًا، تعد دراسة الحسامي (بجزأيها) الدراسة الأولى التي تنتظم رواية الديستوبيا غربيًا وعربيًا في قراءة تاريخية، إنشائية، مقارنة، تحلل وتقارن وتستوعب قراءة الأبعاد والخصوصيات الرؤيوية، والجمالية لرواية الديستوبية غربيًا من رواية (العقب الحديدية) حتى رواية (1984)، وعربيًا من رواية (الهؤلاء) لمجيد طوبيا في السبعينيات حتى رواية “حكاية العربي الأخير”، و”حرب الكلب الثانية”، وهي رحلة متأنية في دراسة المسار الديستوبي في تداخلاته وتخارجاته… رحلة “متعبة جدًا وممتعة لأبعد حد”، على حد تعبير الحسامي.
أدب (المدينة الفاسدة)!
لطالما دأب الفلاسفة -منذ أفلاطون- على رسم صورة حلمية يوتوبية للمستقبل، يتشكل في هيئة مدينة فاضلة تتحقق فيها السعادة الأبدية، وتلبي نزعة الخلود لدى الإنسان. كما اتجه الأدباء -شعراءَ وكتّابًا- لرسم ملامح مدن فاضلة سعيدة، تعوض الإنسان عن خسائره المتكررة في الحياة، أو توهمه بذلك.
كما انشغلت تصاميم العمارة، وأفلام الخيال العلمي، ورسوم الأطفال بتصوير عوالم افتراضية لمستقبل الإنسان في ظل تقدمٍ متسارعٍ في التقنية التي منحت الإنسان المعاصر قدرات استثنائية في التصميم، ونمذجة الخيال، وإسقاطات التخيل الافتراضي، فتغري بذلك؛ وتغوي؛ وتدهش وتسترعي أنظار المتلقين.
لكن الأمر المثير للطرافة، وفقًا للحسامي، هو أن ينشغل المنجز الجمالي -بشتى صنوفه- برسم ملامح (المدينة الفاسدة) -وليس المدينة الفاضلة- والعمل على تخييل مستقبلٍ مروعٍ تعيشه الإنسانية؛ مستقبلٍ تسوده نزعة التوحش، وتستحوذُ عليه سلطةُ الأقوياء، ويغدو الإنسان فيه ضحية أخيه الإنسان؛ أو ضحية ما يقوم هو بإنجازه.
تحاول الدراسة الذهاب في خط عكسي تمامًا مع مجمل الدراسات والبحوث والقراءات النقدية والأكاديمية التي تعرضت لموضوع (اليوتوبيا) لحساب اهتمام نقدي يسعى لمقاربة عوالم الديستوبيا في الرواية، وهنا يقول الباحث الحسامي إن دراسته الأكاديمية في تناولها لموضوع الديستوبيا في الخطاب الروائي، هي الأولى من نوعها في حدود متابعته واطلاعه: دراسة أكاديمية، تستقرئ الظاهرة (الديستوبية في الرواية) في قطاع طولي تعاقبي، من ناحية، ورأسي من ناحية أخرى، فتدرسُ عددًا من النماذج الممتدة من مطالع القرن المنصرم؛ منذ البدايات حتى مرحلة النضج والاكتمال.
وإذا كان القرن التاسع عشر قد أتاح قيام اليوتوبيات، “فإن القرن العشرين أثار رياحًا مضادة لليوتوبيا. ووفقًا ليوجين ويبر: إن الفترة التي تَشَكل فيها العداء لليوتوبيا، هي السنوات التالية على الحرب العالمية الأولى، حين بقيت الآمال الكبيرة التي بلغت ذروتها في 1917 و1918 دون أن تتحقق”.
تُعنى دراسة الحسامي بقراءة ظاهرة (المدينة الفاسدة) أو (الديستوبيا) في المتخيل الروائي وهي تعد ظاهرة من ظواهر الأدب في العصر الحديث؛ انشغل بها عددٌ من الروايات؛ حين رأى المبدعون أن أفق الحياة الجميلة صار غائمًا، ملبّدًا بغيوم، تنذر ولا تبشر، من خُلَلِها يبدو شرٌ مستطيرٌ، تنتظره البشرية بسبب الاستبداد، والحروب، واغتيال الإنسان أزهار المحبة، وانسحاق معنى الإنسانية في عالم البشر، وتفشي الإرهاب الذي يلتهم الأخضر واليابس.
في الجزء الأول من الدراسة، المخصص لقراءة متخيل الديستوبيا في الخطاب الروائي الغربي، يشير الناقد الحسامي، إلى أن دراسته لموضوع الديستوبيا في الخطاب الروائي، تقدم في ثناياها شعرية هذا النسق الكتابي للرواية، وهو في سيرورته التاريخية، وتعالقات نماذجه في تأثرها وتأثيرها؛ حيث عمدت الدراسة إلى استجلاء الظاهرة من خلال عينة دالة تتمثل في عدد من الروايات الغربية ذات الصبغة الديستوبية، مراعيةً مسألة التعاقب الزمني لها حتى تتشكل لدى القارئ، ولدى الناقد على السواء، صورةً جلية لمنعرجات مسار الظاهرة تاريخيًا، ومدى تطورها منذ بواكيرها في رواية “العقب الحديدية” لجاك لندن، التي أُلِّفَت سنة 1907، وحتى استوت على سوقها في نموذجها الأكثر نضجًا واكتمالًا لدى جورج أورويل في روايته الشهيرة “1984” ألتي ألّفها سنة 1948، مرورًا بروايات عديدة، من أبرزها رواية: “نحن” للروائي الروسي يفغيني زامياتين، التي أُلّفت سنة 1920، وترجمت للإنكليزية سنة 1924، ثم رواية “عالم رائع جديد”، لهكسلي، التي كتبها سنة 1931، مرورًا برواية “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل، التي ألّفها سنة 1945.
وهذه العيّنة من الروايات، يرى الناقد، أنها كفيلة بأن تقدم ظاهرة (الرواية الديستوبية) للمشهد النقدي، وتكشف عن أهم تحولاتها التي مرت بها، وأبرز معالمها: الرؤيوية، والجمالية.
ولا ريب في أن هذه العينة الروائية- يستدرك الحسامي- هي تأويل من نوع ما، من قبل المبدعين لواقعهم، واستشرافًا لمستقبل يتراءى لهم عبر حاستهم الإبداعية، منوهًا أنه، “وبالرغم من إيماننا بأنه ليس هناك عنصر من عناصر الخطاب الروائي أولى من الآخر في التناول”، فإن دراستي لديستوبيا الخطاب الروائي، قد جنحت -بعد إصغاءٍ لما يبوح به المتن الروائي المدروس- إلى إقامة متن الدراسة على أركان أربعة، مثلت فصول الدراسة؛ هي: الشخصية الروائية، والمكان الروائي، والزمان الروائي، وأخيرًا اللغة الروائية، مع الأخذ في النظر العناصر الروائية الأخرى في سياق القراءة، ومراعاة طابع التضامنية والتفاعلية بين هذه العناصر الروائية؛ بوصف الخطاب الروائي شبكة من العناصر المتعاضدة التي تتضامّ مع بعضها، وتتكامل في بنية كلية تشكل الفضاء العام للرواية.
ويلفت الانتباه أيضًا إلى أن هذه الدراسة هي في طابعها العام دراسة شعرية، وسوسيونصية، وتاريخية: شعرية؛ لأنها تستكنه ملامح هذا المنجز الروائي، وسوسيونصية؛ إذ تستقصي الأيديولوجي -في مضامينه، وأبعاده المختلفة- في ثنايا الجمالي السردي، بوصف الشكل الروائي حاملًا لمضامينه غير منفصل عنها، ولا تتغافل الدراسة عن إشارات الخارج التاريخي إن اقتضى الأمر، لكنه ليس بغيتها، وإن كانت تحيلُ إليه، أو تتحققُ لأجله، وهي دراسة لها صبغة تاريخية، للمنجز الروائي الديستوبي تتعقب تشكله، وسيرورته في المشهد الروائي الغربي.
ويجد الباحث أن روايات الديستوبيا، تتشوف لممارسة مسؤولياتها في تبصير الوعي، ونقد الثقافة، تصغي للماضي، وتقرأ تفاصيل الحاضر، ولكن زمنيتها تتجذر في تربة مستقبل؛ فتمتد فيه، وتسمُق في تضاعيفه المجهولة المعلومة في آنٍ؛ مستقبلٍ تسكنه شرور الحياة، وتستبد فيه ساديّة الإنسان، وشروره في وجه أخيه الإنسان.
ولذلك، مهد عددٌ من الروايات لحمل رسالة النذير، وتصوير فظائع مستقبل يلوح فيه كل شيء إلا إنسانية الإنسان، وسعادة البشرية، في الوقت الذي تتباهى فيه المؤسسة السياسية المهيمنة -في متخيل الروايات المختارة ضمن دراسة الحسامي- بأنها تسعى لتحقيق (السعادة الأبدية)!.
متخيل سوداوي/ المقاومة بالرواية
وتخلص الدراسة في جزئها المكرس لقراءة متخيل الديستوبيا في الخطاب الروائي الغربي، إلى عدد من النتائج، أبرزها:
– أن (رواية الديستوبيا) لا تمثل جنسًا أدبيًا ذا هوية أجناسية محددة المعالم، لكنه يمثل نوعًا روائيًا، له خصائصه التي تتشكل من التصرف في بنية المتخيل الروائي.
– أن المنجز الروائي الديستوبي -بكافة أشكاله- كان استجابة لمؤثرات عميقة في الفكر الإنساني، وامتدادًا لتجليات عديدة مهدت له؛ على مستوى الخطابات الدينية، والأدبية، والفلسفية، وأدب الخيال العلمي، وتحولات المجتمع الرقمي والفنون البصرية، فضلًا عن تحولات الواقع، وكلها ساهمت في نشأة الهاجس الديستوبي في متخيل الرواية الغربية؛ سواء اشتغلت على المستقبل المرعب بسبب الاستبداد السياسي، وهو ما تخصصت به هذه الدراسة، أم اشتغلت على رعب التقنية، أو الأوبئة، أو غير ذلك.
– أن الرواية الديستوبية تمارس من خلال تشكيل متخيلها السوداوي، وظيفة مقاومة بالرواية، ومن خلال الفن تقوم بمهمة نقد الواقع، والكشف عن خطاب الحرية في مواجهة خطاب الاستبداد، وهي بذلك تمارس وظيفتها الأيديولوجية في التغيير الاجتماعي.
– أن الروايات الغربية ذات الخصوصية الديستوبية السياسية بدأت بالعقب الحديدية، لجاك لندن، التي كانت نقدًا لهيمنة الرأسمالية، ثم برواية «نحن»، لزمياتين، التي تمكنت من ممارسة نقد عميق للمؤسسة السياسية الاشتراكية، ثم رواية عالم جديد وشجاع لهكسلي، التي قدمت مرثية للعالم الذي تهيمن فيه قوى سياسية تتوسل بالتقنية في إنجاب البشر في معامل تقنية، وصياغتهم عبر برامج في مراكز هندسية متخصصة، وتنميط المجتمع إلى فصائل. ثم تأتي (مزرعة الحيوان) لجورج أورويل، التي كانت مجازًا روائيًا مركبًا في نقد النظام الماركسي، من خلال توظيف المعادل الحيواني، في تشكيل عالم الرواية، وبلغت الرواية الديستوبية السياسية ذروة توهجها في رواية (1984) للكاتب نفسه.
– أن هناك تأثرًا وتأثيرًا بين هذه الروايات، وقد تمكنت هذه الدراسة من التقاط أوجه تأثر كل رواية بما قبلها، وبخاصة رواية 1984 التي كانت امتدادًا لروايات سابقيه، من ناحية، ولرواية مزرعة الحيوان للروائي نفسه من ناحية أخرى- في كثير من أفكارها، وقد حققت هذه الرواية انتشارًا واسعًا في الوعي الأدبي، والفكري، والسياسي، نظرًا لسهولة أسلوبها وجاذبيته للجماهير، وجرأتها في التناول.
– أن رواية الديستوبيا تشكلت بشعرية خاصة في بناء شخصياتها، فالشخصيات في بنائها العام تنزع نحو ثنائية ضدية، حيث هناك شخصية مهيمنة، ذات حضور طاغٍ، تستمد سلطتها، وهيمنتها من مجموعة ركائز، وشبكة من العلاقات، تسعى من خلالها للسيطرة على العالم، وتنميط المجتمع، وتوظيف كل مؤسساته: السياسية والأمنية، والثقافية، والإبداعية… إلخ. لخدمة سلطتها، كما تقوم بتحجيم، أو إلغاء مساحة الفكر والتفكير، وخصاء المخيلة، وإلغاء الفردانية، بكل مظاهرها، والاستئثار بكل السلطات في يدها؛ ليكون لها الظهور والسيادة، والغلبة.
– وفي مقابل الشخصية المهيمنة هناك شخصية ضدية للشخصية المهيمنة، تثابر في انتزاع موقعها، وهويتها، وغالبًا ما ترتبط بالمرأة، والحب، والطبيعة، والرحلة؛ لكنها في الأخير -غالبًا- ما تنسحق تحت وطأة الشخصية المهيمنة، و(عقبها الحديدية).
– أن المكان الروائي في رواية الديستوبيا ذو هوية خاصة، فهو مرتبط عمومًا بسلطة الشخصية المهيمنة، وينزع نحو الهيمنة والانغلاق، فيتسم بالرهبة، وهو محاط برقابة محكمة، ويمثل المنفى، والسجن بزنازنه الضيقة، وغيرهما تمظهرات مهمة للمكان الروائي المهيمن، وصياغة المكان العدو، الذي تتلاشى فيه الشخصية الضدية، المعارضة للشخصية.
– يتشكل متخيل الرواية الديستوبية -كذلك- من المكان الضدي، المرتبط بالشخصية الضدية، والشخصيات التي تدور في فلكها، ولعل الطبيعة، والأماكن التراثية القديمة، تمثل عناصر مهمة في تأثيث المكان الضدي، وتجسيد هوية الشخصية الضدية، ونزوعها نحو الانعتاق.
– تعد التقنية عنصرًا بنائيًا عميق التأثير، وافر الحضور في تشكيل هوية متخيل المكان الروائي، فالمكان الآلي/ التقني يعمل على تكييف المكان الروائي لسلطة الشخصية المهيمنة، وضبط إيقاع الشخصية الضدية، والتحكم بحركة الجماهير، وصياغة الملامح العامة لمتخيل المكان في الرواية.
– أن الزمان الروائي في رواية الديستوبيا من عناصر بناء متخيل رواية الديستوبيا، إن لم يكن أبرز تلك العناصر؛ لكونها تتشكل في زمن (مستقبلي) يستلهمه الروائيون من وحي الزمن الحاضر، ومعطيات المخيلة، ويتنبؤون خلاله بأحداث مرعبة تسود المجتمع، وتشكل أزمنته الخاصة.
– تمكنت رواية الديستوبيا من توظيف آليات متعددة في صياغة متخيلها الزمني، مثل آلية الحلم، وآليتي: الكتاب المؤلَّف، والمخطوط، والإيهام الزمني، وأسلوب المذكرات، واشتغال الذاكرة؛… إلخ؛ لتخصيب حركة الزمن الروائي، وصياغة متخيله، والتعبير عن طبيعة الشخصيات الروائية الفاعلة في تلك الأزمنة، والمنفعلة بها.
– مثلت اللغة الروائية خصوصية بنائية في متخيل الرواية الديستوبية، من خلال عدد من التجليات؛ أبرزها: وفرة المعجم السياسي، الذي كان طاغيًا في خطاب الرواية، وشكلت المفارقة ظاهرة جلية في الكشف عن طبيعة التوتر في عالم الديستوبيا، ورهان السلطة المهيمنة على اللغة في صياغة اللغة للوعي الجمعي، كما شكل الحذف البصري ظاهرة بارزة في خطاب الرواية، مجسدًا (اللغة المقموعة)، وكاشفة عن عمق الرهبة، التي تنتاب أفراد المجتمع في الحديث عن التابو السياسي.
– كانت (اللغة الجديدة) من أبرز الظواهر اللصيقة بلغة رواية الديستوبيا، وقد بدأت بالتشكل في رواية نحن، وتطورت في رواية (1984) التي تضمن معجمًا خاصًا باللغة الجديدة، بمفرداتها، ومصطلحاتها المصكوكة، وهي لغة تسعى للمباعدة بين الدال والمدلول، وتهشيم العلاقة المألوفة بينهما في العالم القديم، ليتسنى للسلطة القيام بعملية استبدال كلي للفكر، والوعي بالعالم، وقد حققت تلك المصطلحات انتشارًا واسعًا في مضمار الاستعمال الواقعي في بريطانيا، والعالم.
– أن اللغة في خطاب الديستوبيا الروائي تنهض بوظيفة أيديولوجية في صياغة خطاب المهيمن السياسي، وتشكيل وعي الجماهير، من خلال عدد من الآليات التي تروم تنميط المجتمع، وتحقيق الإدماج، وتبرير سلوك السلطة، ونفي معارضيها، وصياغة وعيه على الشاكلة التي ترتجيها الشخصية المهيمنة.
**
ديستوبيا “عربية”:
محاكمة ضمنية للفعل السياسي الراهن
في الجزء الثاني من الدراسة، (المخصص لقراءة متخيل الديستوبيا في الرواية العربية) ينوه الحسامي، إلى أنه في العقود الأخيرة، شرعت الرواية العربية باجتراح مسار جديد ينهض على تخييل مستقبل مرعب تعيشه الأمة العربية، وهذا يعني أن الرواية تتجه إلى زاوية جديدة تتخذ منها متكأً تجريبيًا، فنيًا لقراءة المستقبل؛ فتقدم خطابها السياسي في إهاب جمالي جديد -من ناحيةٍ-؛ كما يمارس الروائي في هذا التجريب حضوره الرؤيوي انطلاقًا من وعيه بمسؤوليته الثقافية، من ناحيةٍ أخرى، “وفي هذه الحال كان على الرواية الجديدة، ذات الطابع السياسي أن تطور موضوعاتها، وتخلق أشكالًا جديدةً، قادرة على التعامل مع تلك التغيرات بما يجعلها منعكسة في الأعمال الروائية الفنية، وربما حتى بما يجعلها أكثر فرادةً، وتأثيرًا…”.
ويُلاحِظ الباحث أن الرواية الديستوبية العربية روايةٌ أيديولوجيةٌ، سياسية بامتياز؛ تتخلق في رحم اللحظة التاريخية الراهنة؛ وتنهمك بأسئلة الوعي السياسي، وتقدم رؤيتها التراجيدية للمجتمع؛ إنها محاكمة ضمنية للفعل السياسي الراهن، وللوعي المنتج لذلك الفعل، ولمقومات بنائه؛ وهي كذلك خطابٌ تحذيريٌ مصبوغٌ بطلائعيةٍ استشرافيةٍ من نوعٍ ما، تنبثق عن حساسية الفن، ونبوءات الفنان. وهنا تحقق الرواية الديستوبية (العربية) هويتها التي تقوم على الانحياز للخطاب الروائي في إهابه الإيديولوجي؛ فـ”الروائي العربي المعاصر قد أصبح -اليوم- هو (المؤرخ الحقيقي) لكثير من أحداث الأمة وقضاياها…”.
وأمام سؤال بحثي مهم: كيف تَشكَّلَ متخيل الديستوبيا في خطاب الرواية العربية؟، تتفرع عدة أسئلة، حاولَت دراسة الحسامي أن تنشغل في الإجابة عنها، وهي: كيف تشكلت عناصر المتخيل الروائي: الشخصية: (الشخصية المهيمنة، والشخصية الضدية) والمكان الروائي، والزمان الروائي، واللغة الروائية؟ وما خصوصيتها في الروايات المختارة للدراسة؟، ما ملامح التداخل والتخارج بين الرواية الديستوبية الغربية، والمنجز الغربي؟، ما مدى نجاح الروائي العربي في تخييل عالم الديستوبيا؟ وما مرجعيات هذا التخييل؟
ويتجه الحسامي، في قراءته لمتخيل الديستوبيا في نماذج من الروايات العربية المختارة للدراسة، -من خلال معطيات المقاربة الشعرية (الإنشائية) التي تسعى لتبيين الخصائص التي تنفرد بها الرواية الديستوبية العربية، من ناحية، ومن خلال معطيات المقاربة السوسيولوجية التي تتلمس الإيديولوجي من خلال النصي- لأن ذلك، كما يعتقد، قد يحقق لدراسته ما تصبو إليه من النفاذ للأيديولوجي الكامن في هذا الخطاب من خلال عناصر تكوينه الداخلية؛ كما يرى ذلك ميخائيل باختين، والوقوف على شعرية هذا الإبدال الروائي، وخصوصيته الجمالية. ومن هنا تولّي القراءة وجهها شطر الرواية الديستوبية لدى الروائيين العرب، في رحلتها التاريخية، بدءًا من رواية “الهؤلاء” لمجيد طوبيا، (1973)، ومرورًا بـ”جلالته الأب الأعظم” لحبيب مؤنسي، و”يوتوبيا” لأحمد خالد توفيق، (2008)، و”حكاية العربي الأخير” لواسيني الأعرج، (2015)، و”حرب الكلب الثانية” لإبراهيم نصر الله، (2016).
وتتفاوت الخطابات الروائية في الروايات المختارة فيما بينها من حيث مدى التمثل للظاهرة الديستوبية، والوعي بها، ومستوى تخييلها؛ بيد أنها تمثل صورة جلية، لسؤال مهم من أسئلة الرواية العربية، أخذ يشق طريقه -خلال 5 عقود تقريبًا- في استدعاء متخيل الديستوبيا في الرواية الغربية، أو الأفلام البصرية في السينما العالمية؛ والاستنارة بها في مقاربة أسئلة الواقع العربي وخصوصيته: خطابات جمالية معجونة بالخطاب السياسي الذي تسكنه، ويسكنها، وتبتغي الصدع به، في متخيلها الجمالي الخاص الذي قد لا يلتزم بتقاليد النوع الروائي؛ فالفن الروائي “يعيش صيرورة دائمة، ولا يزال غير مكتمل”.
ويقول الناقد إن اختياره لهذه العينة من الروايات العربية، له مبرراته من حيث كونها تمثل عيّنة ممتدة تاريخية منذ أول رواية -في 1973-، تجسد هذه الظاهرة، وحتى آخر رواية وقفت عندها الدراسة في 2016، كما أنها تتفاوت في مستواها الفني، وتمثل خصوصية هذه الظاهرة، فضلًا عن انتماء كتّابها إلى أقطار عربية مختلفة.
وتناولت الدراسة قضية الديستوبيا، من خلال أربعة فصول بعد مقدمة وتمهيد، تناول الفصل الأول “متخيل الشخصية الروائية” عبر ثلاثة مباحث، الأول: الشخصية المهيمنة وآليات الهيمنة، والثاني: الشخصية الضدية وأيديولوجية المقاومة، والثالث: الشخصية بين خصوصية التجربة واستدعاء الجاهز الغربي. واهتم الفصل الثاني بـ”متخيل المكان الروائي” عبر ثلاثة مباحث، الأول: المكان المهيمن، الثاني: المكان المهمش (الغياب والتلاشي)، والثالث: التقنية وتشكيل المكان. بينما الفصل الثالث المخصص لدراسة “متخيل الزمن الروائي”، انتظم في مبحثين: الزمن المرجعي، الزمن الداخلي للرواية. وجاء الفصل الرابع: “اللغة الروائية” في خمسة مباحث: العتبات الروائية، اللغة الجديدة، اللغة بين الفصحى والعامية، الحذف البصري، المفارقة اللغوية.
ويشير الحسامي إلى دراسات وبحوث كانت تناولت هذه الظاهرة في النقد العربي، ومنها: “الديستوبيا الروائية.. المفهوم- الأنواع- الوظائف”، لعبدالستار محمد نجدي، و”الرواية الديستوبية المصرية، مظاهرها ولغتها”، لأسماء إبراهيم حسين شنقار، و”الديستوبيا (أدب المدينة الفاسدة)”، ملف ضمن مجلة الدوحة، العدد 148، فبراير/ شباط 2020، ضمّ مقالات نقدية لعدد من الكتّاب العرب، وهنا ينوه الحسامي إلى أن دراسته قد أفادت من تلك الدراسات والبحوث والمقالات النقدية، وفي الوقت نفسه، نأت بنفسها عن التكرار، إذ إنها تعد الدراسة الأولى -بحسب علمه، وفي حدود اطّلاعه، كما يقول- والتي تحاول تقديم قراءة نقدية منهجية لـ(متخيل الديستوبيا في الرواية العربية)، كما تسعى في الوقت ذاته، إلى تتبع حركة هذا التحول في مسار المنجز الروائي العربي، منذ السبعينيات وحتى الآن، واستقراء تفاصيله، وآليات اشتغاله، فضلًا عن علاقاته بالمنجز الروائي- الديستوبي- الغربي في تحولاته التاريخية، وهو ما حاولت الدراسة في جزئها الأول تعقّبه.
وتخلص الدراسة إلى تبيُّن عدد من النتائج، أبرزها:
– أن الرواية العربية حققت إبدالًا جماليًا، ورؤيويًا مهمًا ضمن إبدالاتها الراهنة، تمثل في صياغة رواية ديستوبية تنزع منزعًا سياسيًا في أغلب منجزها.
– أن الرواية الديستوبية العربية تشكلت تحت ضغط عالمين مهمين: هما التأثر بالرواية الديستوبية الغربية من ناحية، وتحولات الواقع العربي من ناحية أخرى.
– أن بذور الرواية الديستوبية السياسية تمثلت في رواية (الهؤلاء) لمجيد طوبيا التي ألفها في سنة 1976. ثم امتدت لتستقطب عددًا من الروايات العربية، ومنها رواية جلالته الأب الأعظم، لحبيب مؤنسي،…. وقد وصلت إلى مرحلة النضج -كما يبدو لي- في رواية (2084 حكاية العربي الأخير) لواسيني الأعرج.
– أن الشخصية في رواية الديستوبيا العربية تمثلت في الشخصية المهيمنة، التي تتحكم بمصائر العالم، عبر مؤسسات الدولة الأمنية، والثقافية، والاقتصادية،…. وتجعل منها مؤسسات تابعة تنفذ سياسة الشخصية المهيمنة، وتعمل على إخضاع كل صوت من شأنه معارضة صوتها.
– وتأتي الشخصية الضدية لتناهض رؤية الشخصية المهيمنة، وتعمل على تحقيق حضور لائق بها؛ لكنها تتعرض للإقصاء، أو النفي، أو التلاشي. وهي شخصيات واقعية، أو شخصيات تتأسس هويتها في فضاء التقنية.
– أن الشخصية في رواية الديستوبيا العربية تباينت بين الشخصية العربية التي تمثل خصوصية التجربة، من ناحية، والشخصية الجاهزة المستدعاة من المنجز الديستوبي الغربي، ويأتي هذا الاستدعاء بشكل جزئي إشاري مثل ما هو في (يوتوبيا) أو بشكل أكثر عمقًا، وشمولًا كما هو في حكاية العربي الأخير.
– أن المكان الروائي في الرواية العربية الديستوبية، يجسد الصراع بين عالم الشخصية المهيمنة، وعالم الشخصية الضدية، فالمكان المهيمن يتمثل في المخفر، والزنزانة، والقلعة، والأماكن التقنية، ويتأثث في الغالب بالظلام، والرائحة النتنة، والغربان،…. أما الشخصية الضدية فإنها ترتحل إلى أماكن مفتوحة، وغالبًا ما تكون أماكن طبيعية، مفتوحة، أماكن قديمة، ترتبط بالماضي.
– لكنها في الأخير تعيش قسرًا في مكان مهمش، مغلق، مظلم.
– وتعاني الشخصية الضدية في بعض تشكّلاتها من ازدواج ثقافي، كما هو في رواية حكاية العربي الأخير، وهو ازدواج يجسد معاناة الشخصية في تفاعلها مع الآخر الثقافي/ الغربي.
– أن المكان الروائي أخذ ينتزع هويته من ملامح الأمكنة الواقعية كما هو في رواية (الهؤلاء) أو رواية (يوتوبيا) أو (حكاية العربي الأخير) وأحيانًا يصوغ هوية معينة تتشكل في مكان غائم كما هو في (جلالته الأب الأعظم) أو كما تجلى في رواية (حرب الكلب الثانية).
– شكّل المكان التقني حضورًا لافتًا في رواية الديستوبيا، وكانت الشاشة عنصرًا من عناصر المكان، ودالًا من دوالّه المعبرة، وهو ذو حضور يتدرج بدءًا من رواية الهؤلاء، ثم المكان التقني المتخيل في رواية (جلالته الأب الأعظم) حتى يكون أكثر حضورًا وفاعلية في رواية حكاية العربي الأخير.
– تشكلت رواية الديستوبيا -في أغلبها- في زمن مستقبلي يهيمن عليه الرعب، يقدّ هويته من الزمن المرجعي، وينتسب إليه، وقد يراوح بين المرجعي، والخيالي، في صناعة متخيل الرواية.
– تتفاوت الروايات العربية في توظيف تقنيات الاشتغال الزمني الداخلي للرواية، فيأتي الحلم، والارتداد الزمني، وتقنيات المونتاج، لتتضافر في صياغة المتخيل الزمني للرواية.
– هيمنت اللغة السياسية على اللغة الروائية، وتجلت ظاهرة الازدواج اللغوي بين العربية والأجنبية في بعض الروايات.
– حاولت الرواية الديستوبية العربية توظيف ما يسمى لدى أورويل بـ(اللغة الجديدة) التي توائم اللغة المستقبلية المتخيلة، وهوية اللغة التي تسودها، لكنها لم تتمكن من الانتقال بتلك الإشارات إلى لغة تجري على ألسنة الشخصيات إلا في حدود ضيقة جدًا.
– شكّل الحذف البصري حضوره في ثنايا اللغة الروائية، وهو حضور يدل على مدى هيمنة السلطة وقمعها للمخالفين لها.
– مثلت المفارقة ظاهرة لغوية كثيفة الحضور للتعبير عن طبيعة العالم الجديد، وعلاقة التوتر التي تسود بين السلطة المهيمنة والمجتمع، ورغبة السلطة في تزييف وعي المجتمع. وقد تناصّت بعض الروايات في صياغة مفارقاتها بالرواية الغربية، وبخاصة رواية (2084 حكاية العربي الأخير) التي تناصّت مع رواية 1984 لأورويل.