«ما الذي جرى؟ أقصد لماذا لم نعد نعرف أبدا فرحة مقيقية ولا حتىأي سكينة حقيقية ؟ هل تعرف كيف ممار الأمر بحرماننا من السعادة ؟"
هكذا يتساءل ابراهيم في صوت مسموع.. يعرف ان صديقه لايملك اجابة عنه,ومن ثمة فالمسؤول والسائل يجهلان حقيقة ما حدث وما يحدث!
ترى ما الذي ود بهاء طاهر أن يقوله في روا يته الأخيرة «الحب في المنفى»؟ هل هي شهادة المنفى والمغترب أو هي بوح الذات المنكسرة أو الأنا الصادقة في لحظات الاحتضار؟ ربما تكون كل ذلك, لكن اللافت للنظر أن بهاء طاهر قد جمع شتات غربته في جنيف التي ساعدته أن يرى الوطن من حيث يستطيع أن يرده دون أن تكلأ قدماه أرضا عربية, ودون أن تكون الذات هي التي ترى بل هي الأنا / الآخر في بوتقة المنفى.. كذلك فإن هذه الرواية القاعة التي حفلها وحفل – تبعا لذلك – القارىء هموم وطن كامل على كاهلها.. أقول إن الرواية تطاردك وأنت تقرأها حيث تتحول من قارىء/ متلق الى متلق / مشارك الى متلق متهم !! هذا الاتهام في حد ذاته هو ما قصدته الأنا الحاكية التي تحولت بذاتها من دور البطل الى دور البطل المهمش في أحداث الرواية حيث يتحول الحدث الى بطل أوحد لا ينافس وتبدو الشخصيات ديكورا شارحا وليس خالقا للحدث.
تبدأ الرواية بمشهد حب وتنتهي بمشهد حب أيضا وشتان ما بينهما فالأول تمهيد لحب سينشأ بين الحاكي/ الأنا وبين بريجيت شيفي التي جعلها الكاتب واسطة عقد بين الشخصيات فالأنا/ الحاكي صحفي هجرته صحيفته المصرية – لحبه لعبدالناصر بمد الهجمة الكبيرة ضد عبدالناصر- الى مدينة أوروبية حيث يعمل مراسلا لها وهو الذي كان مرشحا ليتبوأ رئاسة تحريرها ولكنهم أبعدوه عن مصر بحجة مراسلة الصحيفة من هناك وهم يأملون الا يرسل لهم شيئا وان أرسل فقلما ينشر.
يلتقي في مؤتمر صحفي ببيرجيت التي كانت تقوم بالترجمة لمواطن من شيلي عذب وقتل أخوه من قبل النظام الديكتاتوري.. ينشأ الحب بين الأنا وبريجيت, يأتي ابراهيم زميله في الدراسة والذي يعمل ببيروت متحدثا عن أهوال الحرب الأهلية في لبنان, ويعود الى بيروت حتى يموت وهو ينقل أهوال صبرا وشاتيلا.
في خلال ذلك يحاكم الكاتب الزمان العربي من أحلام المجد الى هاوية السقوط حيث لا وطن ولا قومية ولا حلم الكل يتهاوى.
تشخيص الفشل:
كل الشخصيات الموجودة في الرواية بدأت ناجحة طموحة وانتهت بالفشل, والعجيب أن الفشل لديه في كل شيء فالأنا/ الراوي يفشل في طفولته بصعيد مصر حيث أمه التي تموت بمرض الملاريا ولا يستطيع إنقاذها، ويفشل في رؤاه العربية التي تسقط أمام عينيه, وعندما يعشق ويتزوج تلك المحبوبة ينفصلان لفشلهما في ايجاد علاقة سوية وعندما يكبر ابناه خالد وهنادي، يفاجأ وهو في الغربة أن ابنه يلجأ الى جماعات العنف, ويتغير الابن تجاه أبيه مشاعر وسلوكا وشخصية.
وعندما يعشق الراوي/ الأنا في الغربة بريجيت يفشلان أيضا لعوامل تدخل من سلطات عربية تفرض عليهما الرحيل ومن ثم الفشل المتنامي.
كذلك فشخصية صديقا ابراهيم هي مرارة الطفولة ثم السجن ثم المنفى والسقوط في دوامة الحرب الأهلية في بيروت والفشل في الحب أيضا، فشادية الصحفية التي كان يعشقها وعندما خرج من السجن تزوجت غيره, والعجيب أن لعنة الفشل تلاحق حتى الشخصيات الأجنبية في الرواية, فبريجيت التي قاست في طفولتها من أمها التي تنام مع وبتل غريب في أثناء عمل زوجها، ثم فشلها في علاقة زواجها من افريقي بسبب العنصرية الأوروبية تجاه كل ما هو ليس أوروبيا، ثم فشلها في الحصول على عمل وفي النهاية تفقد الحبيب الراوي/الأنا. والصحفي برنار الذي كان يؤمن بالاشتراكية يفشل هو الآخر فلا اشتراكية ولا علاقة مع ابنا الذي مجافيا ويتاجر بالأسلحة ويصدرها الى القبائل الافريقية كي يقتل بعضها الآخر..
كذلك لم تسلم الشخصيات الهامشية من الفشل, فيوسف الطالب المصري الفاشل في دراسته بالجامعة المصرية يهرب الى هناك ويتزوج من امرأة تكبره أعو اما عديدة حتى يحصل على الجنسية غير العربية ليتمكن من الاقامة في البلد الأوروبي، ولكنه يفشل في الحب وفي الحياة أيضا لكن ذلك لا يمنع من أن تشخيص الشخصيات عند بهاء طاهر تشخيص قوي، فهو يسبر أغوار شخوصه, ويعكس بمرآته أحاسيسهم قبل قسمات وجوههم. هذا التشخيص القوي أسهم في تقريب الشخصيات الى المتلقي لذي عرف الشخصيات عن قرب وتحاور معها.
فن الحكي عند بهاء طاهر وعلاقته بالشخصيات.
كما ذكرت آنفا جاءت الرواية في صيغة الراوي / الأنا لكنه ليس الراوي لعليم بكل شيء ماضوي وحاضر ومستقبلي, بل هو الراوي/ الأنا المتحدث لذي يجهل ما يحدث ولا يرده الا حينما نواه معه.. ومن هنا يتفوق بهاء لماهر في سبر أغوار شخصياته وتعريتها من خلال تحليل نفسي لرد فتصرفات السلوكية الى مرد طفولي عقدي، فابراهيم الذي قاسى في طفولته من خيانة أبيه لأمه في لوحة موازية لخيانة أم بريجيت لزوجها (أبو بريجيت )، هذه الخيانة تنعكس بشكل سلبي لدى ابراهيم تجاه كل النساء، كذلك على بريجيت, مما جعل كلا منهما يهرب من الآخر.
كذلك فإن المرأة لدى بهاء طاهر واضحة المعالم, ونلحظ لديه إنسانية الرؤى تجاه المرأة الأوروبية فلا ينظر اليها – شأن معظم أد بائنا العرب – من منظار أنها متخللة وإنما يتطلع اليها كامرأة تمثل النفس البشرية, فالخيانة الزوجية موجودة في الشرق والغرب على حد سواء، كذلك فالغرب لديه ليس مناقضا للشرق في صراع أبدي، وإنما يستطيع الشرقي أن يجد في الغربي التفاهم الانساني، فالمتطوعات النرويجيات يقمن بدور انقاذي يفشل فيه بعض العرب.
ويلعب بهاء طاهر بالزمن في الرواية,فالزمن ليسر منظما، وإنما هو ومضات غير منتظمة, وغير مرتبة, ويستخدم الارتداد الذهني Flash back لتوضيح جانب خفي في أبعاد أحد شخوصه, لذا فتغير الزمن هو المرادف لتغير الحدث.
وقد ترك بهاء طاهر فنية الحاكي / الأنا في بعض المواقف ولجأ الى المخاطب كي يدخل المتلقي في الحدث.
كما حاول أن يحافظ على بنائية نمو الشخصيات من خلال الحوار أو المونولوج لكنه أخفق أحيانا عندما لجأ الى المونولوج الهاملتي (نسبة الى هاملت ) الذي صار من الاكلشيهات التي ينبغي تجاوزها الا أنه قد تفوق في فنية الراوي/ الأنا الحدث وتأتي أبعاد الرواية كلها من خلال الأنا الا في مشهدين حينما ينسى الكاتب ذاته في لحظاته عشقه المنفوي لكي يتحول الى الراوي/ الأنا/ المخاطب.. وبدلا من أن يروي.. يخاطب.. وتحل كاف المخاطبة بديلا عن ماء الغائب الواصفة.. وقد ساعد ذلك على تغيير الركود الوصفي في الرواية إذ حرك بذلك ماهية الحكي ودلالته.
الدلالات السياسية في الرواية.
الابداع قناع يخفي به الأديب توجهه السياسي, هذه المقولة تنطبق الى حد كبير على بهاء طاهر الذي ضمن الحب في المنفى السياسة وأحيانا بشكل مباشر تقريري لا يخدم العمل الابداعي قدر ما يرمي توجهه السياسي ويضر العمل الابداعي، وأحيانا يفككه.
فجمال عبدالناصر البطل الذي يحبه الراوي/ الأنا والاتحاد الاشتراكي، والثورة الاجتماعية ثم رحيل عبدالناصر والانفتاح الاقتصادي ثم السجون والمعتقلات وأحداث الحرب الأهلية في بيروت, وتدخلات بعض الأنظمة العربية.. كل ذلك يذكر بوضوح في السرد الروائي لديه, ولكن ليس بمعزل عن الشخصيات. فالراوي يمثل فترة جمال عبدالناصر وزوجته تمثل فترة الانفتاح, وابناؤه يمثلون فترة جماعات العنف, وابراهيم يمثل مرحلة المعتقلات والمنفى والحرب الأهلية ببيروت, وتمثل شخصية حامد الخداع وتعدد الأقنعة لدى المواطن العربي مع محاكمة للصحافة العربية على امتداد الوطن لآفاتها المتعددة. لكن يبقى جمال أسلوب بهاء طاهر بعد أن عصرته الغربة وصقلته ثقافتها كي يأتي لنا بالحب في المنفى في زمان نضب الحب فيا.. ولكن لوحة الفنان بهجت عثمان على غلاف الرواية متضمنة أشعار محمود درويش «وما خسرت السبيلا» تنبيء أن الأمل ما يزال في الوطن كالحب في المنفى!!
محمد أبو الفضل بدران (استاذ جامعي مصري مقيم بالمانيا)