إبراهيم أزوغ
«الجنون بالنسبة للعقل ليس سوى قوّته الحيّة السريّة»(1)
عرفت الإنسانية أشكالًا مختلفة من الجنون لعل أشهرها، وأكثرها انتشارا نوعان؛ الأول: الشكل المرضي الانفعالي حيث يخرج الشخص ذاتًا وفعلا عن سلطة عقله فيفقد القدرة على التمييز والاستجابة للقواعد والقيود والأعراف ويكون بسبب خللٍ فيزيولوجي. والشكل الثاني وهو المرض النفسيّ الناجم عن اضطراب وجدانيٍّ يرتبط بالمشاعر والمزاج والتفكير في الأشياء والوجود وفي الغاية من الحياة بكلِّ تفاصيلها، وإذا كان من لحقه النوع الأول يأتي أفعالا غير مقبولة كليا، فإن من لحقه النوع الثاني تأتي أفعاله وأقواله بين المقبولة والمرفوضة، متناوبة، وغالبا ما تسيطر عليه الحدة والرمزية والإيحاء والنقد وقول الحقيقة التي يتجنب المجتمعُ قولها، أو يخاف من قولها، مثلما تنطبع أقواله بالتردد وأفعاله بالفوضى، ويعتبر هذا النوع من الجنون في المرجعية النفسية، مرحلة متقدمة من الاضطراب(2) يطلق عليه الذهان.
يقدّم التحليل النفسي العلاجي دراسات عديدة حول هذا النوع الثاني الذي أدرجناه مثل الأول ضمن دائرة ما يطلق عليه بالجنون؛ الاضطراب النفسيّ (أو الذهان) أشكاله والدوافع التي تقود إليه. وتُجمع أغلب هذه الدراسات على أن الذهان(3) اضطراب نفسيّ يؤثّر في عقل الشخص ويشوه طريقة تفكيره وفهمه للعالم المحيط به، ويفقده الاتصال بالواقع، ولا يدرك الشخص المصاب بالاضطراب أن أفكارَه وتصوراته حول هذا الواقع غير حقيقية، وهو ما يشعره بالخوف أو الضيق، والعجز عن الاضطلاع بمسؤوليته المعتادة المتعلقة بالعمل أو بالأنشطة الاجتماعية، غير أن هذه الحالة المرضية تظهر وتختفي بدرجات، وصاحبها يكون في الغالب بعيدا عن العنف والعدوان، ويرجع النفسانيون الذهان إلى أسباب عديدة يتداخل فيها الذاتي العاطفي بالاجتماعي، وحصروا أهم هذه الأسباب في: أحــداث الحيــاة العصيبــة المليئة بالمصائب؛ كالتعــّرض لأحــداث تهــدد الحيــاة، أو أحــداث مؤلمــة بشــدة، أو صدمة فقــدان صديــق قريب أو عزيز، وإدمان المخدرات كالحشيش وأشباهه من المغيّبات عن الوعي، وحِدة الاكتئاب. ويُشخصون الذهان بظهور علامات على المريض، منها: الهلاوس؛ حيث يبدأ المضطرب بسمــاع أصوات لا وجــود لهــا إلا في ذهــنه، أو يرى أشــياء غير موجودة، أو يشــعر بهــا، أو يشــم روائح لا يشمها غيره، إضافة إلى اعتقاده اعتقادا راســخا بوجود شخص أو منظمة أو شيء غـيـر حقيقــي يهدد حياته أو مستقبله(4). ولا شيء كذلك يمكــن أن يقنــعه بــأن فكرتــه خاطئــة حتــى في حالــة وجــود دليــل واضــح يثبــت عكــس ذلــك.
تقدم أعمال روائية عديدة صورا وتصورات لهذا النوع من الاضطراب الذي نطلق عليه هنا تجاوزا واتفاقا، الجنون من خلال تشخيص الحياة النفسية للشخصية الروائية، ونفترض أن الانتقال من تصوير وتشخيص الواقع الروائي الاجتماعي للشخصية الروائية إلى تشخيص حياتها النفسية، بتصوير سلوكيّاتها وأفعالها وانفعالاتها يمثل تحوّلا بارزًا في الرواية العربية.
وإذا كان تشخيص الحياة النفسية للشخصية الروائية الصيغة الوحيدة لكشف تعقيدات النفس الإنسانية وكشف أعطابها وأزماتها، قوتها وضعفها صلابتها وهشاشتها، فإننا نفترض كذلك واستنادا إلى تصوّرات فرويد(5)، أنه ليس هناك اختلاف كبير في التشخيص بين مبدع مثل ديوستفسكي وموبسان وكافكا وسراماغو أو نجيب محفوظ وغالب هلسا والطيب صالح وإلياس خوري(…)، وما قد يقدمه المحلل النفسي إلا في صيغ التشخيص والتعبير.
انطلاقا أولا، مما تقدم حول الجنون، وثانيا، من الفرضيتين السابقتين، وثالثا، وهو الأهم، من أسئلة:كيف تشخص الكتابة الروائية العربيّة الجنون؟ وهل يستطيع الروائيّ أن يغوص في أعماق النفس الإنسانية بتشخيصه للحياة النفسية للشخصية الروائية؟ وكيف يتمثل الروائي الجنون من خلال نفسيات الشخصيات وأفعالها وسلوكها؟ هل يوافق التصورات التقليدية السائدة؟ أم يوافق تصورات علماء النفس؟ ما الإضافة التي يقدمها الأدب، والروائي منه على وجه التحديد، في تسريد الجنون؟
إن الرواية العربية لم تلتفت كثيرا إلى موضوعة الجنون، ولم تمنحها مساحة واضحة في مدونتها السردية مقارنة بمثيلتها الغربية، رغم سعة مساحة الجنون في مجتمعاتنا العربية، وإذا ما التفتت فإنها لا تتجاوز وصفها لشخصية المجنون وصفا خارجيا بعيدا عن حياته الداخلية، لصعوبة تسريد ظاهرة الجنون وشدة تعقيدها، الا أنه مع ذلك لا نعدم بعض المحاولات المثيرة للاهتمام والتفكير والمقاربة. يقدم الروائي التونسي المحسن بن هنية إحدى هذه المحاولات حيث يعمل على تسريد الجنون في روايته «مرافئ الجنون»(6).
تسرد رواية مرافئ الجنون للمحسن بن هنية حكاية جنون الشاذلي بن حسين الصحفي التونسي المعروف لدى قرّائه بحكايات جحا، نتيجة صدمة نفسية قادته إلى انهيار عصبي وانعزال، وإلى أن يترك كل رغباته ومواعيده لينكفئ على نفسه ملازما السرير، وحينما غادره كان في اتجاه ريف تونس يحمل معه أعراض الجنون التي ستتوجه بلقب المجنون هناك.
-1 الصدمة بداية الجنون
شكل حدث قتل الصحفية «سلفي دي بري»، صديقة الشاذلي بن حسين، ومالكة الصحيفة التي يعمل فيها في حادث سير مفتعل واتهامه بقتلها (ص127)، سبب صدمته واضطرابه النفسي، وبداية ظهور أعراض هذيانية عرضية تعصف فيها الذاكرة بوعي الشاذلي، تطورت سريعا بفعل توالي الأحداث؛ أحداث غلق مكاتب الصحيفة، والحجز على الأموال والأدوات، لترسم الطريق لهذيان مزمن رجع معه المكبوت إلى وعيه، يقول السارد: «وتبرز من سواد الدنيا بارقة ضوء تأتي من مراتع الصبا وتنفجر» (ص23) فتصبح الأعراض الارتكاسيّة عنيفة وتفقده التوازن بإعادة بعث الأب والأم إلى الحياة «أريد أبي وأمي…لم أرهما..؟» (24)، ويبعث معهما كلّ المشاعر والعواطف التي طالها الكبت وطواها النسيان نتيجة الانشغال بهموم العمل، وغيابه الطويل عن البلدة، هذه الانشغالات التي لم تكن غير صيغة من الصيغ التي يلجأ إليها الكبت في حسم معاركه، غير أنّ حدث قتل الصديقة يدفع بكل شيء إلى الأعلى مرة أخرى بما في ذلك المشاعر الأيروسية الغافية «وهج الأيام المواضي يرج الحاضر… صوت فاطمة يدق مسمعي وكأنه آت خلف المواشي التي نرعاها ونحن طفلان ومع صوت جسدينا في الغدران نحن نستحم ونسبح» (الرواية، ص24-25).
-2 من الكبت سببًا لتطور الجنون إلى الجنون قناعًا للتعبير عن الكبت.
بوصول الشاذلي بن حسين إلى بلدته ودخوله بيت أخته حسناء، يغيب الحاضر بما فيه من الأحداث الجسيمة التي أربكت توازنه، وبما حوله من صور الأشخاص المحيطين به من الأهل والأصدقاء، لتحلّ محلها صور الذاكرة، وتحضر صورة فاطمة حبيبته في الطفولة، إلى جانبه مسيطرة على مرايا الذاكرة يقول في هذيانه محدثا فاطمة «انظري في المرآة سترين كيف كنا نلعب في الغدير عراة ….»(الرواية، ص25).
تظل مساحة حضور صور فاطمة «وصوتها الذي يستدعي الماضي» (الرواية، ص42) واسعة أمام صور أخرى للأب والأم، والأم زينة والشيخ الطيب والأخت حسناء وابنها محمود، والطبيب المشرف على متابعة حالته الجنونية ومساعدة الطبيب فاطمة، التي تعيد إليه وهي وتساعده على نزع ملابسه فوق سرير الكشف الطبي، صورة فاطمة في لحظة هذيان جنوني طويل ينتصر فيها على التقاليد التي منعت زواجه بفاطمة، وتحققت فيها رغبته المكبوتة بواسطة الاستيهام «وأنا أمسك فاطمة من يدها ونحن نتقدم نحو غرفة النوم في ملابس العرس. كانت تساعدني على نزع ثيابي وأنا أرفع عن رأسها الشال الأبيض وأفك أقفال فستان عرسها الأبيض. أخيرا حبنا انتصر على تقاليد ابن العم…» (الرواية، ص77).
إن التقدم في الرواية وتحليل أحداثها وربط سابقها بلاحقها، يكشف بعد عرض الشاذلي على الطبيب وتشخيص مرضه واقتراح وصفة علاجه المتمثلة في تزوجيه بفاطمة (الرواية، ص129) يدفعنا إلى أن نطرح سؤلا نصوغه كالآتي: هل تقول الرواية بما يقول به العلم المتمثّل تحديدا في علم التحليل النفسي، أم أن العمل الروائي يتجاوز العلم باقتراح تصوّر آخر، ويختبر صمود تفسيرات العلم أمام الأدب مثلما يطرح فرويد في سؤال قراءته لرواية «غرديفا» ليونسن، «هل العلم لا يصمد أمام العمل الروائي»(7).
الحقيقة أنّ متابعة أحداث الرواية تكشف أن الروائيّ لا يختلف في تصوره وتشخيصه لأعراض جنون الشاذلي بن حسين عمّا يقترحه التحليل النفسي، ولا يختلف عنه كذلك فيما اقترحه لعلاج واحد من أهم الأسباب المباشرة للجنون والمتمثلة في الكبت، بل حتى شكوك شخصيّة الطبيب في تعاطي الشاذلي للمخدرات، وتأكيده فيما بعد من الناحية العصبية بكونه في بداية الإدمان، الذي يرفضه الشاذلي نفسه في سرد محكيّه النفسي «كيف يَنْسبُ لي ما لم أفعل…»، تؤكده تفاصيل الحكاية في حوار بين الطبيب ومحمود ابن أخت الشاذلي؛ «هل يتناول نوعًا من المشروبات؟ أبدا إلا بعضا بل كثيرا من الشاي، الشاي فقط؟ نعم معه بعض الحشائش تقول أمي إنها من فصيلة الخشخاش وهي مهدئة. نعم هذه بها مادة مخدرة…هذا الجانب اتضح»(الرواية، ص 79- 80).
إن هندسة الحياة النفسية للشخصية المجنونة في الرواية تقتضي القدرة الفائقة في الإحساس، والإنصات لأعماق الذات الإنسانية ورغباتها وتقلباتها، هشاشتها وقوتها، ولعل المحسن بن هنية أتقن الغوص فيها، بسردٍ يرسم بألوان صراع القوى النفسيّة واضطرابها، الحياة الداخلية لشخصية الشاذلي بن حسين، مثلما استطاع أن يكشف أنّ دافعًا آخر من أهم الدوافع التي تدفع بالشخصية الإنسانية إلى تخطي الحدود القائمة بين العقل واللاعقل، بين الواقع بقوانينه إلى الجنون، يتمثل في عدم تحمّل عقل المجنون قبل جنونه للتناقض الذي يجده بين الواقع وما يراه ويعيشه من جهة، والممكن مما يفكّر فيه من جهة ثانية، فينتقل إلى الجهة الثانية (الجنون) حيث المساحة أرحب بمنطقها القابل للتناقض واللامعقول من الأفكار والأفعال ويجعل منه مجالا لإعادة التوازن لنفسيّته التي أربكها واقعه بتناقضاته.
-4 اكتمال الجنون: الرقابة والقمع طريقا ملكيّا إلى هذاء الترصد
إن شدة وقوة صدمة الشاذلي واتهامه بالقتل لصديقته صاحبة الصحيفة ومصادرة كل وسائل الصحيفة وإغلاق مقرها لإيقاف استمرار سرده لحكايات جحا التي كشفت مثلما يقول: «عوراتهم ومزقت ستائرهم وأرسلت الأضواء تهتك زورهم» (الرواية، ص127) وما نجم عنها من سيرورات نفسيّة قاده إلى ما يمكن أن نطلق عليه هذاءالترصد. ويحدد فرويد المصابين بهذاء الترصد بأنهم، من يشتكون من أنهم موضع رقابة دائمة حتى في أفعالهم الحميمية من قبل قوى مجهولة(8).
لقد شكل أسلوب الفضح خلف شخصية جحا وحكاياته للساسة والمشاهير ولأسرار القصور (الرواية، ص94/112) الذي ابتكره الشاذلي بن حسين وسايرته فيه صديقته «سلفي» ليتسرب جحاهما إلى حضور مجالس المضاربة وبيع السلاح والرشاوى وغريب الأخبار وسردها، وكشف علاقات جنسية أدت إلى سقوط حكومات وخسارة أحزاب (الرواية، ص112) سببا كافيا لدخول الشاذلي لنفقٍ مظلمٍ تختلط فيه كل الأشياء ويتداخل فيه الماضي بالحاضر ويصير الزمن المتعدد قارًّا وواحدًا، والمكان الواحد متعددًا متغيرا ولكن الذي يجمع بينها جميعا هو الشعور بالرقابة والترصد. في سرد محكيِّ نوبةِ جنونٍ واضطرابٍ نفسي للشاذلي يقول» أصبح السرير مدينة تعج بالأحداث… وقع أقدام رئيس الشرطة لها رجع في جمجمتي، طرق كقرع الطبول. ترجني أسئلته رجا…أطرد هذه العوالم وأفرّ منها بحثًا عن زاوية صمت وهدوء، يطلّ علي وجه الدكتور يتصنع ابتسامة الخبث …إنه وجه آخر من وجوه الشرطة إنّها طرق خبيثة تلتجئ إليها الشرطة…إنّ الدكتور يعمل لفائدة المتآمرين… إن لم يكن من الشرطة لماذا لا يكون مأجورا من طرفهم…ولكن هل تغري محمود أيضا الأموال»(الرواية، ص110-111) ويتجاوز شك الشاذلي في الطبيب وابن أخته من أن يكونا مأجورين إلى أخته نفسها.
4 – وعي المجنون بجنونه: الجنون قناعا لقول «الحقيقة»(9) في الرواية
يبدأ وعي الشخصية المجنونة بجنونها منذ بداية النص؛ إذ يكتشف الشاذلي من خلال حديثه لأخته حسناء وبحثه عن الأب والأم والأم زينة الذين ماتوا قبل مدة غير يسيرة من الزمن، ويتطور وعيه بجنونه ليكشف عن نفسه بشكل أوضح في محاوراته للطبيب حيث يفصح الشاذلي عبر محكيّه النفسي إدراكه لغايات الطبيب من محاورته يقول: «كنت أدرك أنه يدفعني إلى سرد أطوار عيشي هناك خلف البحر وكيف عاملت وتعاملت وعملت وبماذا اشتغلت «(الرواية، ص91-92).
غير أن لوعي المجنون بجنونه جانب آخر مهم يتمثل في كون الجنون عند المجنون، بالإضافة إلى كونه تعبيرًا بالإيحاء والرمز عن مكنونات الذات، قناع لقول الحقائق قولا مباشرا، ونقدا صريحا للواقع وتناقضاته، وبهذا يتجاوز الجنون حدوده كظاهرة وتعبير عن غياب العقل، إلى آلية للنقد في النص الإبداعي تكشف عن قدرة ونباهة المجنون الروائي ليس فقط في التعبير عن دواخله، بل في رصد تناقض شعار الحقوق والحريات وما هو قائم حقيقة في المجتمعات الإنسانية (حجا الغربي في الرواية)، والتناقضات في القول والفعل الاجتماعي والثقافي والديني التي تعيق حركة التطور والتقدم في مجتمعه التونسي والعربي (حجا الشرقي).
إن هذه القدرة والنباهة والجرأة التي يمتلكها المجنون قبل وحين جنونه ورفض المجتمع أفرادا ومؤسسات لها، هو ما يفقده الرغبة في الانخراط في المجتمع ويدفعه إلى الانسحاب من مجتمعه إلى عالمه الخاص(10) حيث قد يكون عنيفا أو دائم الارتياب، ولكن يظل قائلا للحقيقة راصدًا لما تقع عليه عينه من انحرافات. لا يخرج الشاذلي مجنون رواية «مرافئ الجنون» للمحسن بن هنية، عن عادات وتقاليد مجتمعه ولا عن طقوسه وابتهالاته للأولياء، واحتفالاته في مقابرهم(11)، إلا ليعريها ويكشف زيفها فهل يمكن القول بأن «الإنسان في علاقته بالحكمة ليس سوى جنون»؟ مثلما يؤكد مشيل فوكو في تاريخ الجنون(12)، وهل يمكننا القول إن الجنون في الرواية تعبير عن الحكمة والمعرفة، وصيغة من صيغ قولها؟
-5 الجنون من تحرير الروائي إلى تحرير السرد
لا يتمثل اختلاف المجنون الروائي «في عدم ارتهانه للضوابط الاجتماعية، لأن وجوده يقوم أصلا على خرقها، وعدم الامتثال لها»(13) فقط، وليست ميزة جنونه في بعده النقدي والكشفي، ولا في كونه جنونا «فعالا يصدر عن ذات مدركة وواعية تسعى إلى تسمية الأشياء والعالم وفق منظورها الخاص الذي قد لا ينسجم بالضرورة مع المعطيات والمفاهيم السائدة»(14)، بل كذلك في كونه خرقًا لمستويات اللغة ولأنظمتها وأنساقها الدلالية، وفيما يتيحه للروائي من إمكانات خرق كل الاعتبارات والشروط التي تقيده.
يأتي خطاب الجنون في رواية المحسن بن هنية تارة قناعًا شفافًا للقول، وتارة أخرى صيغة لترميز الخطاب الروائي وجعله إيحائيًا ملغزًا، عبر تسريد أقوال وأفعال الشاذلي بن حسين ومحكيه النفسيّ، مما أتاح للروائي من جهة أن يقول ما يريد قوله وأن يعيد التفكير في صيغ القول وتشفيرها عبر آليتي الخرق والرفض لصيغ القول والمقول وأشكال الكتابة، ومن جهة ثانية؛ جعل البناء السردي للرواية لا يقوم كسابقاتها من رواياته، على التماسك والوحدة وإنما على التغيير والتجريب في أشكال البناء الممكنة، إضافة إلى التغيير في الأشكال الطباعية للكتابة (الخطوط المتموجة/ والعادية/ وذات الحجم الزائد) لتساير حالات الشخصية الروائية المجنونة، وتحولاتها في الزمان والمكان، وتوظيف الحكايات الجزئية (حكايات جحا) داخل حكاية إطار؛ حكاية جنون الشاذلي، واعتماد نظام الملاحق لإعادة ترتيب الأحداث الكبرى للحكاية، وترتيب تسريد الجنون ومنحه مصداقية المرجع المعتمد ( محاضر الشرطة/ ملف الوثائق الذي سلمه الشاذلي لسارد الرواية أو كاتبها/ تقرير الطبيب الشرعي/ قرارات وأحكام المحكمة/ محاضر المعاينة …).
خلاصة القول لقد شكل الجنون صيغة للقول والبناء الفني في رواية «مرافئ الجنون» للروائي التونسيّ المحسن بن هنية، كما شكلت الرواية مجالا لإعادة طرح سؤال ما الجنون؟ وما أسبابه الظاهرة والخفية؟ وهل يمكن تشخيص الجنون روائيا؟ مما يجعل الكتابة عند بن هنية؛ كتابة لذواتنا وهشاشتها أمام أسئلة وجودنا وعوالمنا النفسية الداخلية والاجتماعية الخارجية وغرابتها المقلقة، وما يعبر عنها من هذيانات وأحلام واستيهامات.