سعد القرش
كاتب مصري
منذ الكبوة الثانية لثورة 25 يناير 2011 وأنا أتجنب السبل المؤدية إلى الثورات. الناجح منها، وهو قليل، كان ختام سلسلة من الهزائم. وفي قلب الفشل، لا أحتاج إلى من يذكّرني بثورة تعسة. في هذا الإصرار دفاع عن الضعف وقلّة الحيلة. وفجأة بدا لي إصراري قابلا للانهيار، يُسأل عن هذه الهشاشة أناتول فرانس أو أكرم زعيتر، أو كلاهما. يُسأل أيضا دانتون وروبسبيير، لا يريدان أن يموتا، ولا تكفي أيّا منهما مقصلة واحدة. ها هما يخرجان من ترجمة قديمة لرواية أناتول فرانس «الآلهة عطشى»، ولا جديد في الرواية إلا مصادفة عثوري على طبعة لترجمة أكرم زعيتر الذي اختار لها عنوان «الآلهة عِطاش».
نسخة «الآلهة عِطاش» لم يقرأها أحد. ربما اشتراها أحدهم ومات، وتخلص منها ورثة يريحون رؤوسهم من وجع الثورات. خط الثلث لافت في العنوان، وتاريخ النشر 1952، مكتبة النهضة المصرية لأصحابها: حسن ويوسف محمد وإخوتهما، 9 شارع عدلي باشا بالقاهرة. عنوان الترجمة الأحدث «الآلهة عطشى» أقرب إلى نفسي. ورجحتُ أن الاختلاف لن يقتصر على ترجمة العنوان. أثبت الزمن ثراء العربية ومرونتها، وقدرتها على التطور. أضاف المترجمون إلى المعجم ألفاظا، ونحتوا تراكيب، وضخّوا في شرايين اللغة دماء جديدة. هكذا بدأتُ قراءة ذهنية، للتفكر في موت كلمات وميلاد أخرى. أقفز من الترجمة الحديثة إلى ترجمة عادل زعيتر. كيف اختلفت ترجمة العنوان والأسماء والمعالم؟
القراءة التي ظننتها لا تستهدف المتعة فتحتْ عليّ باب جهنم. لا أحب جلد الذات، وتروّعني مصائر الثائرين المخلصين والحمقى. باب الجحيم أدخلني أقبية سجون، ونجوتُ من الرصاص والتفجيرات، ودفعتني الحشود إلى ميدان الثورة، ورأيت المقصلة رأي العين. راجعت كتبا عن الثورة، واستعدت فصولا عنها في كتب أخرى، وأعدت مشاهدة فيلم «الثورة الفرنسية»، إنتاج 1989. عنوان الجزء الأول «سنوات الأمل»، 165 دقيقة، إخراج روبرت إنريكو. والجزء الثاني عنوانه «سنوات الإرهاب»، 154 دقيقة، إخراج ريتشارد هيفرون. لا وجود لنابليون في رواية «الآلهة عطشى»، أو الفيلم، وما كان له أن يظهر إلا بعد جولات إفناء المتصارعين؛ فتسقط الثمرة ناضجة، في حجر أي نابليون.
لا أعرف ترجمة للرواية قبل عادل زعيتر، ولعله قبل اختيار عنوان «الآلهة عِطاش» اطلع على ترجمة الدكتور محمد حسين هيكل للعنوان، «الآلهة ظمأى». هيكل لم يترجم الرواية، ووصفها بأنها الأفضل بين ستة وثلاثين كتابا لفرانس، «وأدقها تصويرا لعصر كتب عنه الكاتبون. وناهيك بالثورة الفرنساوية. فما نحسب مؤرخا ولا سياسيا ولا شاعرا ولا روائيا ولا خطيبا ولا صحفيا إلا تناولها في ما كتب عنه واستشهد به ووصفه واستظهره. لكن أناتول فرانس من بين هؤلاء جميعا كان أدق مصور فني يمكن تذوقه». في 16 أبريل 1924 كتب هيكل مقالا بمناسبة بلوغ فرانس سن الثمانين، وبعد وفاته في أكتوبر 1924 استأنف هيكل الكتابة.
جمع هيكل مقالاته عن أناتول فرانس، وأفسح لها أول ستين صفحة في كتابه «في أوقات الفراغ». وهذه مقارنة بين ثلاث صياغات. الأولى لهيكل: «الآلهة ظمأى»، وبطل الرواية «إفارست جاملن»، وصديقته «إلودي»، وجابي الضرائب «برتو»، والسيدة الأرستقراطية «رشمور»، والراهب «لنجمار». وعند أكرم زعيتر الحريص على تشكيل الكلمات، وضبط حروفها: «الآلهة عِطاش»، وبطل الرواية «إيفاريست غَمْلان»، وأخته «جُولْية»، وصديقته «إلُودْية»، وجابي الضرائب «بروتو»، والسيدة الأرستقراطية «رُشْمور»، والراهب «لونغمار». وفي الترجمة الحديثة التي سأعتمد عليها: «الآلهة عطشى»، وبطل الرواية «إيفاريست جاميلان»، وأخته «جولي»، وصديقته «إيلودي»، وجابي الضرائب «بروتو»، والسيدة الأرستقراطية «روشيمور»، والراهب «لونجيمار». الترجمة الشامية لعادل زعيتر ترفض الجيم القاهرية، وتفضّل حرف الغين.
يحظى حرف «G» بدلال يتمثل في خمسة أشكال عربية: «ج» «غ» «ك» «گ» «ق». أشهر الكلمات استخداما «google، group» تكتب: «جوجل، جروب» في مصر، «غوغل، غروب» في الشام، «قوقل، قروب» في تونس، «گوگل، گروب» في بلدان أخرى. في حضرة آلهة الثورة العطشى، الآن، لا مجال لمماحكات لغوية عن مفاضلة أو امتياز. آلهة الترجمة انتهوا إلى تحريف نطق اسميْ علمين هنديين، غاندي وطاغور. في زياراتي إلى الهند، لا أسمع «طاغور» و«غاندي»، بحرف الغين. هناك «طاجور» و«جاندي» بالجيم القاهرية. أنصار حرف الغين يحلو الاستثناء الاختياري، فيكتبون «مانغو»، ولا يكتبون «إنغليز»، وهو حرف «G» نفسه، ويكتبون «سكائر» ولا يكتبون «سغائر» بالسين أو بالصاد!
بطل رواية «الآلهة عطشى» إيفاريست جاميلان فنان تشكيلي فقير، شاب دون الثلاثين، لديه براءة ثورية، يعد بكتابة قائمة بأجراس الكنائس التي يجب أن تحوّل إلى مدافع. تواتيه فرصة الالتحاق بثورة دامية تلتهم الأعداء والمشتبه بهم، وفي دورانها تطحن أبناءها وترسلهم إلى المقصلة. يؤمن إيفاريست بأن الثورة «ستعمل من أجل إسعاد النوع البشري»، وأن الوطن أم تغذي طفلها. علاقته بالثورة أقامتها السيدة الأرستقراطية «روشيمور»، ذات الصلات بأعضاء لجنة الخلاص الشعبي. يصير محلفا بالمحكمة الثورية، ويتقاضى ثمانية عشر فرنكا يوميا، ويضمن أن يتناول هو وأمه الطعام كل يوم. ليس المال وحده سرّ الحمى الدموية، وإنما الجو العام الذي يذهب عقل الشاب وآدميته.
دانتون أسس المحكمة التي قطعت رأسه. إيفاريست من يحيرني. توحد نفسيا بالآلهة، متلذذا بتسليم أجساد شهية إلى الجلاد، في محكمة يكفيها واشٍ واحد للحكم بالإعدام. قضاء يغذي المقصلة يوميا بمتآمرين وأبرياء من مواطنين وثوار، ومدّعين عامّين، ورؤساء للمحكمة نفسها. صار الفنان مخيفا متوحشا، في رأي صديقته إيلودي، «وكلما كانت تراه مخضبا بدماء الضحايا، ازداد نهمها وتعطشها إليه». وأمه تراه مدفوعا بالطموح والطمع، والسياسة جعلته قاسيا. وأخته جولي تصرخ: «قاتل! يا قابيل». أعدم إيفاريست فاصطادت إيلودي تلميذه النحات «ديماهيس». ديماهيس يأسى على صديقه إيفاريست: «كان يمكنه أن يكون نابغة من الطراز الأول لو لم يعمل في السياسة». هل الهواء السام يعدي؟
يجيب تاجر الصور «جان بليز» أبو إيلودي بالنفي. يقول لديماهيس إن إيفاريست «كان له روح مجرم… كانت غرائزه دموية، وأيضا كانت مكبوتة… كان وغدا جميلا». إيفاريست نموذج مصغر لروبسبيير، رمز القابلية للطغيان، والتخلص من أقرب الناس إليه. شرور نجا منها الصحفي كاميل ديمولان، صديق طفولة روبسبيير، وعراب ولده. كان ديمولان ضميرا لروبسبيير الذي لم يحتمل ضميره فأعدمه. روبسبيير حاور جان جاك روسو، فما الذي يجعل المثقف والفنان فاشيا؟ المعرفة لا تمنع المشاركة في ارتكاب هذه الخطايا، ولا تأييد طغاة ينتظرون مباركة ممن يفوتهم تلويث أيديهم بالدماء. في التاريخ القريب مصفقون للقتلة. جون شتاينبك، وإزرا باوند، وسيد قطب، ومثقفون عرب آخرون.
شتاينبك فقد شرفه الإنساني والأدبي، بمرافقته طيارا أمريكيا، في غارة جوية على فيتنام. شبه عملية قصف المدنيين بالموسيقى. الكاتب، الذي سينال جائزة نوبل، كتب عن الطيار القاتل: «كانت أصابع المقاتل الجوي تضغط على مفاتيح إسقاط القنابل مثل أصابع عازف البيانو الماهر». وإزرا باوند لم يستنكر احتلال إيطاليا لليبيا، وانحاز إلى موسوليني، بعد أشهر على إعدام عمر المختار. سقطة أخلاقية. ربما وقع شتاينبك ضحية هوس التفوق الأمريكي، أما باوند فطالت غيبوبة ضميره، وأعجبه دور حليف الشيطان، ونشر كتابا في الدفاع عن موسوليني، وظل صوتا للفاشية حتى احتلال قوات الحلفاء لإيطاليا عام 1945، فأدخلوه سجنا عسكريا، ثم انتقل إلى السجن في بلاده.
الفكر الفاشي يجري في دماء أصحابه، مهما ينتقلون من اليسار إلى أقصى اليمين. سيد قطب حرض على الدم بعد 23 يوليو 1952، وقد أعلنها قادتها الضباط «ثورة بيضاء»، فغادر الملك بكرامته، وسط حرس الشرف. لكن سيد قطب استكثر رحمة الله، ودعا إلى إعدام شابين شاركا في احتجاج عمال شركة مصر للغزل والنسيج بمدينة كفر الدوار يومي 12 و13 أغسطس 1952. كتب يوم 15 أغسطس، في صحيفة «الأخبار»، تحت عنوان «حركات لا تخيفنا»: «لقد كسبنا المعركة من غير شك وكان أمر الله مفعولا… لقد أطلع الشيطان قرنيه. فلنضرب. لنضرب بقوة. ولنضرب بسرعة، أما الشعب فعليه أن يحفر القبر وأن يهيل التراب».
وسرعان ما حمل الفاشية إلى الضفة الأخرى. في كتابه «معالم في الطريق» وضع دستور الإخوان وسلالات التكفيريين: «وطن المسلم الذي يحن إليه ويدفع عنه ليس قطعة أرض… إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئا آخر على الإطلاق… إنها ليست معركة سياسية ولا اقتصادية… لو كانت شيئا من هذا لسهل وقفها، وسهل حل إشكالها ولكنها في صميمها معركة عقيدة، إما كفر وإما إيمان.. إما جاهلية وإما إسلام!». خمر الثورات فاضحة، تلخصّها رباعية صلاح جاهين: «رقبة قزازة وقلبي فيها انحشر/ شربت كاس واتنين وخامس عشر/ صاحبت ناس م الخمرة ترجع وحوش/ وصاحبت ناس م الخمرة ترجع بشر».
أطلقت خمر الثورة وحوشا كامنة في النفوس المحمومة. ولا تعدم الشرور مسوّغات ارتكابها. يذكر المؤرخ ويليام دويل في كتابه «مقدمة قصيرة عن الثورة الفرنسية» أن «مارات»، الثائر المشتعل حماسة، الملهم للمتشددين الجمهوريين، ظل حتى اغتياله في يوليو 1793 يسوّغ «التجاوزات الشعبية»، وأبرزها مذابح سبتمبر 1792. أدى اقتحام الغوغاء للسجون، طوال أربعة أيام، إلى قتل 1400 سجين، «لضمان عدم فرارهم»، وتآمرهم على الثورة. وفي الفيلم يرفض كاميل ديمولان هذه المذابح، ويبلغ استياءه إلى صديقه دانتون وزير العدل الذي يرد باستهانة. والراوي في «الآلهة عطشى» يصف روبسبيير بأنه كان «معبود الشعب، تقيا، وغيورا وشكاكا، وغير مندفع… والكل يتكهن بأنه سيكون جبارًا وطاغية».
يوثق كتاب ويليام دويل، الذي ترجمه الدكتور رفعت السيد علي ونشرته دار الشروق بالقاهرة، تشكك روبسبيير في الجميع: «كان مجرد إظهار الشك في الحاجة إلى بثّ الإرهاب والفزع يضع من يظهره موضع الشك في ولائه للثورة». وفي رواية «الآلهة عطشى» وشى الكثيرون بآبائهم «طمعا في الميراث». وفي الفيلم يعارض روبسبيير الداهية رأي مارات الذي يريد أن يستبدل بالنظام الملكي نظاما ثوريا دكتاتوريا. ويقول روبسبيير لدانتون إنه لا يفكر في إيذاء الملك أو عائلته. تمهيدٌ يليه خيار: «ومن المستحيل الحفاظ على الملك والثورة معا. في هذه الحالة يجب علينا أن نختار أحدهما. يجب أن نعترف كيف سنختار عندما يتحتم علينا الاختيار».
سان جوست، الذي سيُعدم مع روبسبيير، أشعل وألهب الاجتماع: «الملك يحكم أو يموت»، فيقرر المجلس محاكمة الملك وإعدامه، إيمانا بأن المقصلة تنقذ الوطن من الخونة. يقول روبسبيير لدانتون إن الأوقات الاستثنائية تتطلب إجراءات استثنائية. ويؤسس دانتون كوميون باريس المسلّح، ويعلن وهو وزير للعدل استعداده للتضحية برؤوس 30 ألف خائن، ولا يبالي بمذابح سبتمبر: «إننا في حرب». ما أسهل توجيه اتهام كاذب بالتعاون لإعادة النظام الملكي، بعد إعدام الملك، إلى أكثر المتعصبين للثورة، مثل رينيه إيبير الصحفي المتشدد في إدانة المتهاونين في تحقيق أهداف الثورة. هاجم دانتون، ولم تستثن اتهاماته روبسبيير نفسه. وتم التصويت على إدانة إيبير، وأعدم في مارس 1794.
أجواء التكفير الوطني تسمم الأجواء، وتمنح القتلة غطاء أخلاقيا. إيفاريست شديد الأمانة والإخلاص للجمهورية، ولا يتردد في إدانة المرأة التي عينته محلفا. ويكتب في قرار اتهامها، مع آخرين من جيرانه، أن جريمتهم «أوضح من النهار، وتقتضي سلامة الأمة عقابهم، ويجب عليهم أن يتمنوا موت أنفسهم، أو عذابهم كوسيلة وحيدة للتكفير عن جرائمهم». وكان يخاطب نفسه: «أيها الهول الشافي! أيها الإرهاب المقدس! أيتها المقصلة المحبوبة!». ويتساءل: «إلى أي شفقة إجرامية كانت تستسلم فرنسا؟ إذن يجب إنقاذها رغما عنها… الوطن يلعن منقذيه، فليعنّا، ولينقذ هو». إيفاريست يتوعد بألا يفلت آثم، ويعتبر روبسبيير أبا الوطن، «هذا الرجل النحيف، شديد النظافة إلى درجة الوسوسة».
من أكثر مشاهد الفيلم قسوة سير العربة الخشبية تحمل الذاهبين إلى المقصلة، مقيدين ومشيعين بلعنات جماهير استأنست الإعدامات. ومن أبلغ المشاهد جولة المقصلة فوق العربة، تبحث عن مستقر، بعد شكوى المواطنين في ميدان الثورة من رائحة الدماء، وانخفاض أسعار العقارات. تلك واحدة من بضع جولات للمقصلة المنبوذة المشتهاة. يراها دانتون تتأرجح فوق العربة، فيقترح في المجلس تشكيل لجنة رأفة للنظر في قوائم المعتقلين، والإفراج عن الأبرياء. ويتهمه إيبير بخيانة الثورة، ويدافع عنه روبسبيير. ويرجع الفيلم قوة الطاغية إلى تقشفه، وأخذ نفسه بالشدة، وزهده وترفعه عن الاستفادة من عطايا الثورة. أفاق دانتون على رائحة الدم، فواجه روبسبيير «لست مثلك ولن أكون».
خطورة روبسبيير، في رأي دانتون، أنه لا يريد شيئا، فقط يريد ما يراه صوابا، ألا يخالفه أحد، لا يطلب إلا الطاعة من الجميع: «أنت لا تريد شيئا، وهذا يجعلك أكثر خطرا». وتنتهي المواجهة بقول دانتون: «أنت تفعل بالبلاد مثلما أفعل مع زوجتي كل ليلة. الفرق أن زوجتي تحب هذا، وليست مضطرة للبقاء تحتي وهي تصرخ خائفة من التهديد بقطع رأسها بالمقصلة». في تلك الليلة تقرر مصير دانتون وحليفه ديمولان. لا صداقة في ثورة تتغذى على الدماء، ولا تتوقف المقصلة عن قطف الرؤوس. سبق لزوجة ديمولان أن حذرته من قيام روبسبيير بالتخلص منه ومن دانتون معا. ولم تتوقع اتهامها بالتآمر وإعدامها.
محاكمة دانتون درس في الإفاقة المتأخرة. ليس بريئا من إرهاب انفلت من عقاله. ولم يعد مجديا أن ينتصر دانتون على القضاة بالحجة، في وقت لا يتسع للحجة، ولا يحتمل المنطق. تأخر اتهامه للمحكمة بالإفلاس الأخلاقي، حتى تسجن من يقول «مرحبا» لكاهن منشق. لا يشفع لدانتون تذكيره للقاضي بأنه الذي أنشأ هذه المحكمة الثورية: «لم تكن الثورة لتقوم، ولم تكن الجمهورية لتنشأ لولا وجودي. أنت لا تقودني إلى الموت، أنا سأحيا إلى الأبد. سيقول العالم إننا أسوأ ممن خلعناهم… أصبحت المحكمة قاتلة للضمير». كان زعيما أعزل يحاكمهم، ولا يردّون. وتأثرا بمرافعته هتفت الجماهير بالنشيد الوطني، تحية له، والحرس يأخذونه إلى النهاية.
الفيلم يصور روبسبيير كائنا أيقونيا صخريا. لا يبتسم، ولا يضعف. لا يمس يد امرأة، ولا يبدي شوقا إلى الحب. دانتون أقرب إلى النفوس، عاد إلى البيت بعد انشغال، وفاجأه موت زوجته، فسارع إلى القبر. فتحوا غطاء التابوت، وتأمل وجهها ومنحها قبلة الوداع، وبكى. ولأنه يحب الحياة فلن يتأخر وقوعه في الحب، ويتزوج. ديمولان أيضا أحب وتزوج وأنجب ولدا كان روبسبيير عرّابه. لم يلمس روبسبيير إلا كلبه، ولم يتعلم منه الوفاء. الاستثناء الوحيد أنه حمل الرضيع ابن ديمولان. ثم استحلفته الزوجة المسكينة، بحق صداقته لديمولان منذ المدرسة الابتدائية في مشهد يبدأ به الفيلم، أن يرحم زوجها، فتجاهلها، وانصرف إلى حفلة الدم.
آمن روبسبيير بأنه: «من دون الإرهاب تكون الفضيلة ضعيفة». ظل يدّعي الفضيلة حتى بعد إعدام صديقيه دانتون وديمولان، وطاردته في الشارع هتافات الجماهير بأنه طاغية، دكتاتور، قاتل. ويفيق المجلس الوطني على كارثة تحوّل فرنسا إلى مقبرة لأبنائها، وفي الجلسة التي ستنتهي بإدانة روبسبيير راهن على التأثير فيهم، واتهم أعداءه بالوقوف بين الفضيلة وقاتليها: «لقد ولدت لأقاتل الجريمة، لا لأشرف على تنفيذها». وتنتهي الجلسة بحصاره، وتعلو هتافات «الموت للطاغية»، ويحمّلونه ذنب أبرياء قتلهم، دانتون وغيره. ويجري التصويت على إدانته. ويسارع مع سان جوست إلى التحصن بالفندق، ويستغيث بالجيش، ويملي قرار «إغلاق كل الجرائد واعتقال كل الصحفيين، واعتقال كل قادة المجلس الوطني».
في اليوم التالي لإعدام روبسبيير، اقتيد إيفاريست من الزنزانة إلى المحكمة، وحملته العربة إلى المقصلة. هتفت نسوة يعرفنه: «أيها القاتل بثمانية عشر فرنكا في اليوم!». وسمع من يصيحون: «ها هم آكلو لحوم البشر». اقترب من الموت، ولم يفقد إيمانه بالجمهورية: «خُنّا الجمهورية، نحن نستحق مصيرنا. روبسبيير نفسه الطاهر القديس أخطأ… ومُحيت أخطاؤه باستشهاده، وبالاقتداء به أنا خُنت الجمهورية، فَـهلَـكَـتْ، ومن الإنصاف أن أموت معها». انتهت سنوات الإرهاب، باختفاء زعماء الثورة، قضى بعضهم على البعض الآخر، وفي صيف 1795 وضع دستور جمهوري جديد ينص على توازن السلطات، وتمكن الجيش من قمع مظاهرات الحالمين بعودة الملكية. كان يقوده جنرال شاب اسمه نابليون.
يقول ويليام دويل: «بشيء من العدل، فإن الثورة الفرنسية لا شبيه ولا مثيل لها في التاريخ، ولا تدين بشيء يذكر لغيرها من ثورات أو حروب تحرير»، أيّا كانت العثرات. ما إن ارتاحت الإدارة الجديدة لابتعاد الجنرال الطموح، قائدا للحملة على مصر، في مايو 1798، حتى عاد سرًا في أكتوبر 1799. وفي 1804 توج نفسه إمبراطورا، وأحيا ما استهدفت الثورة تدميره، ومنح نفسه سلطات تفوق سلطات الملك لويس السادس عشر. فذلكة التاريخ تؤكد أن الدهاة يحصدون ما يفوت الحالمين والحمقى. لولا الثورة لظل نابليون قائدا مجهولا في جيش الملك، دون شهرة «لافاييت». هكذا هي الثورات، هكذا انتهت ثورة 25 يناير 2011.