إلى بيرطا مالدونادو
ولكن المناورات اللاواعية للروح الطاهرة
هي أيضا أكثر تفردا من تدبيرات النقائص.
رايموند راديغي، الحفلة الراقصة للكونت أورجيل
خوان لويس، أفكر فيك لما أتخذ لي مكانا في الحافلة التي ستأخذني من المحطة إلى المطار. قدمت الأمر بشكل متعمد، فأنا لا أريد أن أعرف مسبقا الأشخاص الذين سيسافرون معنا حقا في الطائرة. هذه هي تذكرة سفر رحلة الى ايطاليا نحو ميلانو؛ فقط في غضون ساعة ينبغي أن يركب الحافلة مسافرو الخطوط الجوية الفرنسية إلى باريس ونيويورك والمكسيك، غير أني متخوف من أن أبكي، أن تبدو على ملامحي علامات الخوف أو أن أقوم بشيء سخيف ثم أضطر أن تحمل نظرات وتعليقات لمدة ست عشرة ساعة. لا يجب لأحد أن يعرف شيئا. أنت أيضا تفضل أن يكون الأمر هكذا، أليس كذلك؟ أنا دائما أعتقد أن الأمر كان عملا سريا، لم تقم به أنت لأجل… لا أدري لماذا أفكر في هذه الأمور. ليس لي الحق في أن أفسر أي شيء باسمك. وربما حتى باسمي. كيف لي أن أعرف، خوان لويس؟ كيف يمكنني أن أسيء إلينا جميعا مؤكدا أو نافيا أنه ربما، في تلك اللحظة، أو خلال مدة أطول – لست أعرف كيف ولا متى قررت ذلك، ربما يكون ذلك منذ الطفولة. ولِمَ لا؟ – كانت دوافعك اليأس والألم والحنين أو الأمل؟ الطقس بارد. وتهب هذه الريح الباردة من الجبال وتعبر فوق المدينة والبحيرة مثل أنفاس الموت. أغطي نصف وجهي بطيات صدر المعطف لكي أحتفظ بدفئي الذاتي رغم أن الحافلة كانت دافئة والآن تنطلق بسلاسة، ملفوفة أيضا في بخارها. غادرنا محطة كورنافين عبر نفق وأنا أعرف أنني لن أرى مجددا البحيرة وجسور جنيف، فالحافلة تؤدي إلى الطريق التي توجد خلف المحطة وتستمر مبتعدة عن بحيرة ليمان، باتجاه المطار.
مررنا من الجزء القبيح من المدينة، حيث يعيش العمال الموسميون الذين قدموا من إيطاليا وألمانيا وفرنسا إلى هذه الجنة حيث لم تسقط ولا قنبلة واحدة، وحيث لم يتعرض ولا أحد للتعذيب أو القتل أو الخداع. الحافلة نفسها تعطي ذلك الشعور بالنظافة والنظام والرفاهية التي طالما أثارت انتباهك منذ أن قدمت، والآن إذ أنظف النافذة الصغيرة المكسوة بالبخار بيدي وأرى هذه البيوت الفقيرة جدا أعتقد أنه على الرغم من كل شيء، لا يمكن أن يعيش المرء فيها بشكل سيء.
مع سويسرا ننتهي إلى تعزية أنفسنا كثيرا، كنت تقول في إحدى رسائلك، نفقد الإحساس بالأطراف القصيَّة الجلية للعيان والمهينة في بلادنا. خوان لويس: في رسالتك الأخيرة لم أكن في حاجة لتقول لي – فأنا أفهم ذلك دون أن أعيشه: وذاك كان دوما رباط الوحدة بيننا- أن ذلك النظام لكل ما هو خارجي- دقة مواعيد القطارات، والاستقامة في التعامل والتوقع في العمل والادخار مدى الحياة – كنت أطلب اضطرابا داخليا يمكن أن تعادله. أنا أضحك، يا خوان لويس. وراء تكشيرة وجه يكافح لكبح الدموع، أبدأ في الضحك وجميع الركاب ينظرون إلي ويشرعون في الغمز واللمز فيما بينهم. هذا ما كنت أريدت أن أتجنبه. من حسن الحظ أن هؤلاء هم الذين سيذهبون إلى ميلانو. أضحك وأنا أفكر أنك خرجت من نظام بيتنا في المكسيك إلى فوضى حريتك في سويسرا. هل تفهمني؟ من أمن بلاد الخناجر الدامية إلى الفوضى في بلاد ساعات صوت طائر الوقوق.
قل لي إن لم يكن في ذلك نعمة. أعتذر. لقد حدث ما حدث. وأنا أحاول تهدئة نفسي ومشاهدة القمم المكسوة بالثلوج في جبال جورا، ذلك الجرف الرمادي الكبير الذي يبحث الآن عبثا عن انعكاسه في مياه ولدت من أحشائه. لقد كتبت لي في الصيف أن البحيرة هي عين جبال الألب: تعكسها، ولكنها تحولها إلى كاتدرائية شاسعة مغمورة، وكنت تقول لي أنك وأنت حين تغطس تحت الماء كنتَ تغوصُ بحثا عن الجبال. هل تعرف أن رسائلك توجد معي؟ قرأتها على متن الطائرة التي حملتني من المكسيك، وخلال الأيام لقد كنت خلالها في جنيف أثناء أوقات فراغي. والآن سأقرأها أثناء العودة. وحدك أنت الذي يرافقني في هذه الرحلة. لقد سافرنا معا كثيرا، يا خوان لويس. لما كنا أطفالا كنا نذهب كل عطلة نهاية أسبوع إلى كويرناباكا، حينما كان أبواي بعد ما يزالان يمتكلان ذلك البيت المغطى بنبات الجهنمية. علمتني السباحة وركوب الدراجة. كنا نذهب في أماسي أيام السبت بالدراجة إلى القرية، وهكذا تعرفت على كل شيء من خلال عينيك. “انظري يا كلوديا، إلى الطائرات الورقية. انظري، يا كلوديا، آلاف الطيور في الأشجار. انظري، يا كلوديا، الأساور الفضية، والقبعات المكسيكية العريضة، مثلجات الليمون، والتماثيل الخضراء. تعالي يا كلوديا، سنمضي إلى عجلة الحظ. “وبالنسبة لاحتفالات رأس السنة الجديدة، كانوا يأخذوننا إلى أكابولكو وكنت توقظني في وقت مبكر جدا فنركض على شاطئ هورنس لأنك كنت تعرف أن ذلك كان أفضل وقت للبحر: عندئذ فقط كانت تبدو القواقع والأخابيط، والأخشاب السوداء والمنحوتة والزجاجات القديمة التي يلقيها مد البحر، وأنت وأنا كنا نجمع كل ما نستطيع، وإن كنا نعلم أنهم لن يسمحوا لنا بأخذه معنا إلى مكسيكو، وحقا، فإن هذا الكم من الأشياء اللامجدية لا تتسع لها السيارة.
من الغريب أنه في كل مرة أريد أن أتذكر كيف كنت في سن العاشرة، وفي الثالثة عشرة، والخامسة عشرة، على الفور أفكر في أكابولكو. ربما لأنه خلال ما يتبقى من السنة كان كل واحد يذهب إلى مدرسته وفقط على ساحل البحر، ونحن نحتفل بالانتقال من سنة إلى أخرى، كانت كل ساعات النهار تكون في ملكنا. هنالك كنا نمثل. في القلاع الصخرية حيث كنت أنا أسيرة الأغوال وكنت أنت تصعد بسيف خشبي في يدك، وأنت تصرخ مقتتلا مع وحوش وهمية لكي تحررني. في سفن القراصنة -قارب من خشب -حيث كنت أنتظر في رعب أن تنتهي من اقتتالك في البحر مع أسماك القرش التي كانت تهددني. في الغابات الكثيفة لبيي ديلاكويستا، حيث كنا نتقدم يدا في يد، بحثا عن الكنز السري المشار إليه في الخريطة التي عثر عليها داخل زجاجة. كنت ترافق أفعالك مترنما بموسيقى خلفية كنت تبتدعها في اللحظة ذاتها: دراماتيكية، في ذروة متأبدة. الكابتن سانغري، صاندوكان، إيفانهو: كانت شخصيتك تتغير مع كل مغامرة. وكنت أنا دوما الأميرة المهددة، بلا اسم، مطابقة لنموذجك الغامض.
كان ثمة فراغ فقط: عندما أكملت خمس عشرة سنة، كنت أنا في الثانية عشرة فقط من عمري، وشعرت أنت بالخجل من السير معي. لم أفهم، لأنني كنت أراك مثلما أراك دائما، نحيلا وقويا، محترق الجلد، مع شعر كستنائي مجعد ومحمر بالشمس. ولكن في العام الموالي توافقنا وبدأنا نمشي معا من جديد، ولكن الآن ليس لجمع القواقع أو لخلق المغامرات، بل سعيا لتمديد يوم كان يبدو لنا قصيرا جدا وليلة يحظرونها علينا، كان يتحول إلى إغراء وكانت مطابقة لإمكانيات جديدة لحياة اكتشفت حديثا وتم افتتاحها للتو. كنا نمشي عبر الفارالون بعد العشاء، ممسكين يدا بيد دون ان نتحدث، ودون أن ننظر إلى الجماعات التي كانت تعزف القيثار حوالي شعلات النار أو أزواج الرفقة الحميمة الذين يقبلون بعضهم البعض ما بين الصخور. لم نكن بحاجة إلى أن نقول بأن الآخرين كانوا يثيرون شفقتنا. لأننا لم نكن بحاجة إلى أن نقول أن أفضل ما في العالم عندنا كان هو أن نسير معا في الليل، ممسكين بعضنا يدا بيد دون أن نتلفظ بكلمة، كنا نتواصل في صمت بتلك الشيفرة، ذاك اللغز الذي لم يكن أبدا، بيني وبينك، حافزا للسخرية أو التحذلق. كنا جادين دون أن نكون رسميين، أليس كذلك؟ وربما كنا نتعاون دون أن ندري، بطريقة لم أتمكن قط من تفسيرها جيدا، ولكن كانت لها علاقة بالرمال الساخنة من تحت أقدامنا الحافية مع صمت البحر في الليل، مع احتكاك خاصرتينا بينما كنا نسير، ومع سروالك الجديد الأبيض والطويل على المقاس، ومع تنورتي الحمراء والواسعة: كنا قد غيرنا خزانة لباسنا كاملة وكنا قد هربنا من دعابات وخزي وعنف أصدقائنا، أنت تعرف، يا خوان لويس، أن قلة جدا توقفوا عن أن يكونوا في الرابعة عشرة -تلك الرابعة عشرة التي لم تكن في ملكنا. الازدهاء بالرجولة يعني أن تكون في الرابعة عشرة مدى الحياة؛ هو خوف قاس. أنت تعرف ذلك، لأنك أيضا لم تستطع تجنب ذلك. بدلا من ذلك، كلما بقيت طفولتنا في الخلف، كنت أنت تخوض كل التجارب المشتركة، في سنك كنت ترغب في أن تتجنبني. ولهذا السبب تفهمت لم، بعد سنوات من عدم تحدثك معي تقريبا (ولكني كنت أتجسس عليك من النافذة، كنت أراك تخرج في هيئة قابلة للتحويل وسط جمع من الأصدقاء، تأتي متأخرا وأنت في حالة من الغثيان)، وعندما ولجت أنا تخصص الفلسفة والآداب وولجت أنت تخصص الاقتصاد، بحثت عني، ليس في البيت، مثلما كان من الطبيعي أن يحدث، ولكن في كلية ماسكارونيس، ودعوتني لتناول قهوة في مساء ما في ذلك القبو شديد الحرارة والمليء بالطلاب.
لاطفت يدي وقلت لي: سامحيني، يا كلوديا.
ابتسمتُ وفكرت أنه بغتة، كانت تستعادُ كل لحظات طفولتنا، ولكن ليس لتمديدها بل للعثور على نهاية، اعتراف متفرد يشتتها إلى الأبد.
– عن ماذا؟ -أجبتك-. يروقني جدا أن نعود مجددا للتحدث معا. لا نحتاج إلى أكثر من ذلك. لقد كنا نرى بعضنا كل يوم، ولكن الأمر كان كما لو أن الآخر غير موجود. الآن يروقني جدا أن نصير من جديد أصدقاء كما كنا من قبل.
– نحن أكثر من أصدقاء، يا كلوديا. نحن أخوان.
– أجل، لكن هذا حادث عرضي. كما ترى، ما دمنا أخوين فقد أحببنا بعضنا البعض جدا منذ أن كنا أطفالا، ثم بعد ذلك لم نتجشم حتى عناء التحدث بيننا.
– أنا سوف أذهب، يا كلوديا. لقد قلت ذلك لوالدي. هو ليس موافقا على ذلك. يعتقد أنني يجب أن أنهي الدراسة. لكن أنا في حاجة للذهاب.
– إلى أين؟
– تمكنت من الحصول على منصب عمل في هيئة الأمم المتحدة في جنيف. وهنالك أستطيع أن أواصل دراستي.
– حسنا تفعل، يا خوان لويس.
قلت لي ما كنت أعرفه مسبقا. قلت لي أنك لم تعد تحتمل أكثر بيوت الدعارة، والتدريس اعتمادا على الذاكرة، وواجب أن تكون فتى ذا رجولة، يمتاز بالوطنية، والتظاهر بعمق المشاعر الدينية، وانعدام الأفلام الجيدة، وانعدام وجود نساء حقيقيات، رفيقات ذوي العمر ذاته واللواتي يعشن معك… لقد كان خطابا مكتملا قيل بصوت خفيض على طاولة مقهى ماسكارونيس تلك…
– إن الحياة هنا غير ممكنة. أقول لك ذلك على محمل الجد. أنا لا أريد أن أخدم. وهنا لا تستطيع أن تفعل ذلك، كلوديا. إذا كنت ترغب فقط في العيش، وكنت خائنا بالقوة. هنا يجبرونك على أن تكون في الخدمة، أن تتخذ مواقف، إنها بلاد بلا حرية لأن يكون المرء هو ذاته. أنا لا أريد أن أكون إنسانا مهذبا. لا أريد أن أكون مجاملا، كذابا، جد رجولي، متملقا، رقيقا وذكي. ليس هنالك بلدان اثنان مثل المكسيك … لحسن الحظ. أنا لا أريد أن أمضي من ماخور إلى ماخور. ثم، خلال الحياة برمتها، عليك أن تعامل النساء بعاطفة وحشية ومهيمنة، لأنك لم تصل قط إلى فهمهن. أنا لا أريد ذلك.
– وماذا تقول أمك؟
– سوف تبكي. لا يهم الأمر. هي تبكي لأتفه الأسباب، وليس قليلا؟
-وأنا، يا خوان لويس؟
ابتسم بشكل طفولي: ستأتين لزيارتي، يا كلوديا، أقسمي على أنك ستأتين لرؤيتي!
لم آت فقط لرؤيتك. جئت لأبحث عنك، لآخذك عائدا إلى المكسيك. وقبل أربع سنوات، عند وداعنا، قلت لك فقط،
– تذكرني كثيرا. ابحث لك عن طريقة لتكون دوما معي.
أجل، كتبت لي متوسلا أن أزورك، لدي رسائلك. عثرت على غرفة وحمام ومطبخ في أجمل مكان بجنيف، في ساحة بورغ دوفور. كنت قد كتبت لي أنها كانت في الطابق الرابع، وسط الجزء القديم من المدينة، حيث يمكن أن تشاهد من هناك الأسطح العالية، وأبراج الكنائس، والنوافذ والمناور الضيقة، وفي البعيد البحيرة التي تتيه عن الأنظار، والتي تصل حتى فيفي ومونترو وشيون. كانت رسائلك ممتلئة بلذة الاستقلال. كان عليك أن ترتب سريرك وتكنس وتعد وجبة الإفطار وأن تنزل إلى الملبنة المجاورة. وكنت تشرب كأسك في مقهى الساحة. لكم تحدثت عنه. كان اسمه لا كليمانس، وكانت له ظلة بخطوط خضراء وبيضاء وهناك كان يتم الاتفاق على موعد مع كل شخص يستحق المعاشرة في جنيف. هو ضيق جدا: بالكاد ست طاولات أمام منضدة الحانة حيث تقدم العاملات شراب الكشمش وهن يرتدين زيا أسود ويقلن للجميع: مسيودام. بالأمس جلست لأشرب قهوة وكنت أنظر إلى كل أولئك الطلبة بمَلافِعِهم الطويلة وقبعاتهم الجامعية، إلى الفتيات الهنديات بسارياتهم التي تشوش عليها المعاطف الشتوية، إلى الدبلوماسيين بجواهرهم المزروعة في طيات صدور ستراتهم، إلى الممثلين الهاربين من الضرائب والملتجئين إلى شاليه على ضفة البحيرة، إلى الشابات الألمانيات والشيليات والبلجيكيات والتونسيات اللواتي يشتغلن في المنظمة العالمية للشغل. كتبت أنه يوجد جنيفان. المدينة المألوفة والمنظمة التي اكتشفها ستندال باعتبارها زهرة بدون شذا، التي يسكنها السويسريون وهي الستار الخلفي للأخرى، مدينة العبور والمنفى، المدينة الأجنبية للقاءات الصدفوية، للنظرات والأحاديث المباشرة دون الخضوع للقواعد التي مضى السويسريون يحررون الآخرين منها. كان عمرك ثلاثا وعشرين سنة لما حللت هنا، وأتصور كيف كان حماسك.
لكن كفى من ذلك (كتبت). يجب أن أقول لك أني أدرس في دورة في للأدب الفرنسي وهناك التقيت … كلوديا، لا أستطيع أن أفسر لك ما أشعر به ولا أحاول حتى أن أفعل ذلك لأنك دائما كنت تفهمينني دون حاجة إلى كلمات. اسمها إيريني، وأنت لا تعرفين كم هي جميلة وذكية وظريفة. هي تدرس الأدب هنا وهي فرنسية. يا لغرابة الأمر، تدرس نفس التخصص الذي تدرسينه أنت. وربما لهذا السبب أعجبت بها مباشرة. ها ها ها. “أعتقد أن الأمر استمر لمدة شهر. أنا لا أذكر. كان ذلك قبل أربع سنوات. “ماري جوزي تتحدث كثيرا، لكنها تسليني. ذهبنا لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في دافوس، ووضعتني في موقف سخرية لأنها متزحلقة جيدة على الثلج وأنا لا أعرف شيئا من ذلك. يقولون إن ذلك يُتعلَّمُ عندما يكون المرء طفلا. أعترف أن عانيت ضغطا فعدنا نحن الاثنان إلى جنيف يوم الاثنين بما أننا كنا قد غادرناها يوم الجمعة، لا لشيء آخر سوى أني قد التوى كاحلي. ألا يضحكك الأمر؟ وبعدئذ جاء الربيع. دوريس إنجليزية وهي ترسم. أنا أعتقد أنها تمتلك موهبة حقيقية. نحن نستغل عطلة عيد الفصح للذهاب الى وينجن. تقول إنها تمارس الحب لكي يشتغل لاوعيها الخاص، وتقفز من السرير لكي ترسم لوحاتها الزيتية والقمة البيضاء لليونغفراو أمامها. تفتح النوافذ وتتنفس بعمق وترسم عارية بينما أنا أرتعش من البرد. تضحك كثيرا وتقول إني كائن استوائي وغير متنام وتقدم لي قدحا من شراب الكيرش لتدفئتي. “دوريس منحتني الضحكة خلال السنة التي كانا يلتقيان خلالها. “أفتقد فرحها، لكنها قررت أن سنة في سويسرا كانت كافية، فذهبت مع علبها وحوامل لوحاتها للعيش في جزيرة ميكونوس. ذاك أفضل. استمتعت، ولكن ما يهمني ليس امرأة مثل دوريس. وأحدة ذهبت إلى اليونان وأخرى قدمت من اليونان. “صوفيا هي أجمل امرأة عرفتها، أقسم لك. أنا أعلم أن المكان عادي، ولكنها تبدو واحدة من تماثيل عذراى كارواي. وإن لم يكن بالمعنى المبتذل. إنها تمثال لأنك يمكنك أن تتأملها من جميع الزوايا: أجعلها تدور عارية في الغرفة. ولكن الأهم هو الهواء الذي يحيط بها، والفضاء المحيط بالتمثال، أتفهمين ما أقصد؟ المساحة التي تشغلها والذي يسمح لها بأن تكون فاتنة. هي حالكة، ولديها حاجبان كثيفان جدا، وغدا، كلوديا، ستمضي مع شخص جد غني إلى الريفييرا الفرنسية. كئيب، ولكن راض، أخوك الذي يحبك، خوان لويس “.
وكريستين، وكونسويلو، وسونالي، وماري-فرانس، وإنغريد … النماذج كانت في كل مرة جد قصيرة، وأكثر لامبالاة.
كُنتَ قلقا بشأن العمل وتتحدث كثيرا عن زملائك، وعن عاداتهم الوطنية المستهجنة، علاقاتهم بك، عن مواضيع المحاضرات وعن الرواتب والأسفار وحتى عن معاشات التقاعد. لم تكن راغبا في أن تقول لي أن ذلك المكان، مثل أي مكان آخر، شرع للتو في خلق مواثيقه الهادئة وأنك كنت تمضي في سقوطك نحو ميثاق الموظف الأممي. حتى وصلت البطاقة بمشهد بانورامي لمونترو وحروفك المزدحمة وهي تحكي عن الغذاء في مطعم رائع وتتأسف عن غيابي مع توقيعين اثنين، خربشتك واسم غير مقروء، لكن مكررا بعناية في الأسفل، بحروف طباعة: كلير.
آه، أجل، بدأت تقدم الأشياء بالتدريج. لم تقدمها مثل الأخريات. أولا كان العمل الجديد الذي كان سيتم إسناده لك. وبعد ذلك أنه متعلق بالدورة المقبلة لمجلس ما. ثم مباشرة، كان يحلو لك التعامل مع زملاء جدد، ولكنك تشعر بالحنين إلى القدامى. وبعدئذ أن الأصعب هو التعود على موظفي الوثائق الذين لا يعرفون عاداتك. وأخيرا أنك كنت محظوظا في العمل مع موظف “منسجم”، وفي الرسالة التالية: اسمها كلير. وقبل ثلاثة أشهر كنت قد أرسلت لي البطاقة من مونترو. كلير كلير.
أجبتك: “صديقي بييرو”. ألا يمكنك أن تكون صريحا معي؟ منذ متى كانت كلير؟ أريد أن أعرف كل شيء. كنت أطالب بمعرفة كل شيء. خوان لويس، ألم نكن أفضل صديقين قبل أن نصير أخوين؟ لم تكتب خلال شهرين. ثم جاء مظروف مع صورة في الداخل. أنتلك وهي مع النافورة العالية في الخلف والبحيرة خلال الصيف. أنت وهي تستندان إلى الحظار. ذراعك حول خصرها، وهي جد فاتنة وذراعها على الحوض المليء بالزهور. لكن الصورة لم تكن جيدة. كان من الصعب إبداء حكم على وجه كلير. نحيلة ومبتسمة، أجل، بشكل ما شبيهة بمارينا فلادي أكثر نحولا، ولكن مع نفس الشعر الأملس، الطويل والاشقر. بكعب منخفض. وصدرة صوفية بلا أكمام. مقورة.
قبلت بذلك دون أن يوضح أي شيء. أولا الرسائل تحكي الوقائع. هي كانت تعيش في نزل بشارع إميل جونغ. كان والدها مهندسا، أرمل وهي كانت تعمل في نيوشاتل. أنت وكلير كنتما تذهبان معا للسباحة في الشاطئ. كنتما تشربان الشاي في لا كليمانس. وكنتما تريان الأفلام الفرنسية القديمة في سينما بشارع مولار، تتناولان العشاء أيام السبت في بلادارجون وكل واحد منكما كان يؤدي عن نفسه. وخلال أيام الأسبوع كان كل واحد منكما يخدم الآخر في كافتيريا قصر الأمم. في بعض الأحيان تأخذان معا الترام، تذهبان إلى فرنسا. وقائع وأسماء، أسماء، وأسماء مثلما في دليل: كي دي بيرج، الشارع الأكبر، كاف أبوب، محطة قطار كورنافين، مأوى لامير روايوم، شاميل، بلفار دي باستيون.
ثم بعد ذلك المحادثات. ذوق كلير طعم كلير بصدد بعض الأفلام وبعض القراءات، والحفلات الموسيقية، والمزيد من الأسماء، هذا النهر من أسماء رسائلك (مأساة غريبة وأطفال الجنة، سكوت فيتزجيرالد ورايموند راديجيه، شومان وبرامس ) وفيما بعد قالت كلير، كلير تعتقد، كلير تحدس، الشخصيات التي لها بطاقة هوية تعيش الحرية باعتبارها مؤامرة مخزية. لقد اخترع فيتزجيرالد الموضة، والإيماءات وخيبات الأمل التي ما تزال تغذينا. القداس الألماني يحتفل بكل الميتات المدنسة. نعم، أجبتك. أوروثكو قد توفيت للتو وفي الفنون الجميلة ثمة استعادة ضخمة لدييغو. ولفات أخرى، كل شيء قد تم نقله، كما طلبت منك ذلك.
– في كل مرة أسمع ذلك، أقول إن الأمر كما لو أننا أدركنا أنه من اللازم أن نكرس كل ما تمت إدانته حتى الآن، يا خوان لويس. أن نقلب القفاز. من الذي شوه خلقتنا، يا حبيبتي؟ ليس هناك سوى وقت قليل جدا لاسترداد كل ما قد سُرق منا. لا، لن أقترح على نفسي أي شيء، هل ترى؟ لن نضع خططا. أعتقد نفس ما يعتقده راديغي: إن المناورات اللاواعية لروح طاهرة هي أيضا أكثر تفردا من تدبيرات النقائص.
ماذا يمكن أن أجيبك؟ هنا ما يحدث دائما، يا خوان لويس. أبي وأمي حزينان جدا لأنك لن تنضم إلينا للاحتفال بالذكرى الفضية لزواجهما. لقد تمت ترقية أبي نائب رئيس لشركة التأمين وهو يقول ان ذلك هو أفضل هدية للذكرى. وأمي، مسكينة، كل يوم تختلق مزيدا من الأمراض. ولقد بدأ تشغيل القناة التلفزيونية الأولى. أنا أستعد لامتحانات السنة الثالثة. أحلم قليلا بكل ما تعيشه أنت. وأنا أشيد وهما بالعثور عليه في الكتب. أمس كنت أحكي لفيديريكو كل ما تفعله، وتراه، تقرأه وتسمعه، ونظن أنه ربما يمكن أن نذهب لزيارتك لو كنت مستعدا لاستقبالنا. أ لا يمكنك العودة إلى الوراء في يوم من الأيام؟ ألا يمكنك الاستفادة من العطلة القادمة، أليس كذلك؟
كتبت أن الخريف كان مختلفا بجانب كلير. كنتما تخرجان للمشي كثيرا أيام الآحاد، يدا في يد، دون أن تتكلما. كانت تستمر في الحدائق رائحة أخيرة لزهر ياقوت متعفن، ولكن الآن رائحة الأوراق المحترقة تلاحقكما خلال تلك النزهات الطويلة التي تذكرك بنزهاتنا على الشاطئ قبل سنوات، لأنه لا أنت ولا كلير تتجرآن على كسر حاجز الصمت، رغم الأشياء التي يمكن أن تحدث لكما، ورغم الإشارات التي تسبق لغز الفصول المنكسرة هذا على ضفافه، في اتصاله بالياسمين والأوراق اليابسة. في نهاية المطاف، الصمت. كلير كلير -كتبت لي-، لقد فهمتَ كل شيء. لديَّ ما كان عندي دوما. الآن أستطيع أن أتملكك. الآن قد عدتُ للعودة إليك، كلير.
مرة أخرى قلت في رسالتي التالية أني كنت أنا وفيديريكو نستعد معا للامتحان وأننا سنذهب لقضاء نهاية السنة في أكابولكو. لكنني شطبتُ ذلك قبل أن أبعث لك بالرسالة. في رسالتك لم تسأل من يكون فيديريكو -ولو كنت قد استطعت أن تفعل ذلك اليوم لما كنت قد عرفت كيف أجيبك-. عندما حلت العطلة، قلت ألا يجعلوني أستقبل مكالماته. ما دمت لم أعد أراه في المدرسة؛ كنت وحيدة مع والديَّ، في أكابولكو. لم أحك لك شيئا عن ذلك. توقفت عن الكتابة إليك لأشهر عديدة، ولكن رسائلك تواصل قدومها. ذلك الشتاء، ذهبت كلير للعيش معك في بيت بورغ دي فور. لماذا أتذكر الرسائل التي أعقبت ذلك. هنالك تأتي في الكيس. “كلير، كل شيء جديد. لم نكن قط من قبل معا عند الفجر. قبل الآن تلك الساعات لم تكن تدخل الحساب. كانت جزءا ميتا من اليوم والآن غدت تلك التي لن أبدلها بأي شيء. لقد عشنا جد متوحدين دوما، خلال جولات المشي، في السينما، في المطاعم، في الشاطئ، نتظاهر بالمغامرات، لكننا دوما كنا نعيش في غرف منفصلة. وأنت تعرفين كل ما أفعله، وحيدا، وأنا أفكر فيك؟ الآن لا أضيع تلك الساعات. أقضي الليلة كلها خلفك، ذراعاي حول خصرك، وظهرك ملتصق بصدري، وأنا أنتظر انبلاج الفجر. أنت تعرفين ذلك تتجهين نحوي وتبتسمين لي بعيون مغلقة، يا كلير، بينما أنا أسحب الشرشف، وأنسى الزوايا التي قمت بتدفئتها طوال الليل، وأسألك إن لم يكن هذا ما كنا نتمناه دوما، منذ البداية، عندما نلعب وعندما كنا نمشي في صمت ونحن نمسك بعضنا البعض يدا بيد. كان يجب علينا أن ننام تحت سقف ذاته، في بيتنا الخاص، أليس كذلك؟ لماذا لا تكتبين لي، يا كلوديا؟ يحبك، خوان لويس. ”
لعلك تتذكر دعاباتي. أن نحب بعضنا البعض على الشاطئ أو في فندق تحيط به البحيرات والثلوج ليس مماثلا في شيء للمعاشرة والعيش معا كل يوم. بالإضافة إلى ذلك، فأنتما تعملان معا في المكتب نفسه. سوف تنتهيان إلى الإحساس بالملل. وسيتم فقدان الجدة. الاستيقاظ معا. لم يكن لطيفا جدا، في الواقع. سترى هي كيف تغسل بالفرشاة أسنانك. وسوف تراها أنت وهي تزيل المساحيق، تدهن المراهم، وتضع الخلطات … أعتقد أنك قد ارتكبت خطأ، يا خوان لويس. ألم تكن ذاهبا للبحث عن الاستقلالية؟ لماذا ألقيت هذا العبء على كاهلك؟ في هذه الحالة، كان من الأنسب لك أن تبقى في المكسيك. ولكن على ما يبدو أنه من الصعب الهروب من الأوفاق التي تمت تربيتنا عليها. في العمق، على الرغم من أنك لم تكمل الجوانب الشكلية، فأنت تفعل ما كانت تنتظره دوما منك ماما وبابا والجميع. لقد صرت رجلا منظما. إلى حد أننا نلهو مع دوريس وصوفيا وماري جوزي. مؤسف حقا.
لم نتبادل كتابة الرسائل مدة عام ونصف. حياتي لم تتغير على الإطلاق. وأصبح العمل قليل الأهمية، متكررا. كيف سيعلمونك الأدب؟ مرة جعلوني على اتصال مع بعض الأشياء، عرفت أنني يجب أن أحلق بشكل منفرد، أن أقرأ وأكتب وأدرس لحسابي الخاص، وبقيت مستمرة في الحضور للدروس انضباطا، لأنني كان يجب عليَّ أن أنهي ما كنت قد بدأته.
ويصبح بذلك جد غبي وجد متحذلق حتى إنهم يواصلون شرح ما كان المرء يعرفه النظم على أساس الخطاطات والجداول التركيبية. وهذا أسوأ ما في أمر أن تستبق الأساتذة إلى الأمام، وهم يعرفون ذلك لكنهم يخفون الأمر، حتى لا يبقون بدون عمل. كنا قد بدأنا نلج إلى الرومانسية وكنت أقرأ فيرباك ورولف، وحتى أني اكتشفت ويليام جولدنج. كنت قد جعلتُ الأساتذة في حالة خوف وارتياحي الوحيد في تلك المرحلة كان بسبب الامتداحات في الكلية: كلاوديا طالبة تعد بآمال كبيرة. أغلقت على نفسي غرفتي أكثر من ذي قبل، أعددتها على ذوقي الخاص، نظمت كتبي، وعلقتُ الصور ووضعتُ جهازي لدورة الأسطوانات وكانت أمي قد ملت من تكرار التماساتها لي بأن أتعرف على الفتيان وأن أخرج للرقص. لكن في النهاية تركوني أنعم في سلام. قمت بتغييرات
قليلة في خزانة ملابسي، من الألبسة المطبوعة بالصور التي عرفتها أنتَ إلى القميص الأبيض والتنورة الداكنة اللون، والبدلة المخيطة، إلى ما يجعلني أحس نفسي قليلا أكثر جدية وأكثر صرامة وأكثر بعداً.
يبدو أننا وصلنا إلى المطار. تلتف شاشات الرادار فأتوقف عن التحدث إليك. ستكون اللحظة ثقيلة. يتحرك المسافرون مجددا. أمسك حقيبتي اليدوية وعلبة المكياج ومعطفي. أبقى جالسة في انتظار أن ينزل الآخرون. أخيرا يقول لي السائق:
-ها نحن سيدتي، الطائرة ستقلع بعد نصف ساعة.
لا، تلك طائرة أخرى، تلك التي ستذهب نحو ميلان. أسوي وضع قبعتي الجلدية وأنزل. ثمة برد ندِيٌّ والضبابُ أخفى الجبال. لا يسقط المطرُ لكن الهواء يحتوي ملايين القطراتِ المنكسرة والخفية: أحسُّها في شعري. أداعبُ شعري الأشقر والسبط. أدخلُ البنايةَ وأتوجَّهُ إلى مكتب الشركة. أتلفظ باسمي فيتثبتُ الموظفُ صمتٍ. يلتمسُ مِنِّي أن أتبعه. مضينا سيراً عبْر مَمَرٍّ طويلٍ جدِّ مُضَاءٍ وبعدئذ خرجنا إلى المساءِ القارسِ. قطعنا مسافة طويلة مبلطة حتى وصلنا إلى شكلٍ يشبه حظيرة طائرات. أمشي بقبضتي مشدودتين. الموظف لم يحاول أن يتحدث إلي. كان يسبقني محافظا قليلا على الرسميات. ندخل إلى المخزن. ثمة رائحة خشب مبلل، رائحة قش وقطران. وثمة العديد من الأدراج المرتبة بنظام، وهناك أيضا ما يشبه الأسطوانات وحتى كلب صغير ينبح في قفص. علبتك خفية بعض الشيء. يبرزها لي الموظف منحنيا باحترام. أتلمس حافة التابوت ولا أتكلم لبضع دقائق.
يمكث البكاء في أحشائي، لكنني مثلما لو كنت أبكي. ينتظر الموظف وعندما يعتقد أن الوقت مناسب يبدي لي الأوراق المختلفة التي كنت قد أعددتها خلال الأيام الأخيرة والتراخيص والموافقة المبدئية للبوليس، والمطابقة الصحية، وموافقة القنصلية المكسيكية وشركة الطيران. طلب مني أن أوقع بالموافقة على الوثيقة النهائية للشحن. أفعل ذلك بينما كان هو يلعق الجزء الخلفي الصمغي من بطاقات لصيقة ويضعها على الجانب الفجوة الضيقة من التابوت. ثم يختم عليها. أعود مرة ثانية إلى تلمس الغطاء الرمادي ثم نعود مرة إلى المبنى المركزي. يغمغم الموظف لي بتعازيه ويودعني.
بعد ترتيب الوثائق مع الشركة والسلطات السويسرية، أصعد إلى المطعم وأنا أحمل ورقة المرور بين أصابعي وأجلس وأطلب قهوة. أنا جالسة قرب نافذة كبيرة أشاهد الطائرات تبدو وتختفي فوق المدرج. تضيع في الضباب أو تنبثق منه، لكن يسبقها ضجيج المحركات أو يبقى خلفها مثل أثر صائت. تخيفني. أجل، أنت تعرف أنها تشعرني بخوف رهيب ولا أرغب أن أفكر فيما ستكون عليه رحلة العودة هذه معك، في عز الشتاء، وأنا أقدم في كل مطار الوثائق باسمك والتراخيص لتستطيع العبور. يأتونني بالقهوة وأشربها بلا سكر. تجعلني بحالة جيدة. لم تعد يدي مرتعشة بعد شربي لها.
منذ تسعة أسابيع مزقت غلاف رسالتك الأولى خلال ثمانية عشر شهرا وتركت فنجان القهوة يسقط فوق المائدة. جثوت على عجل لتنظيفه بالتنورة وثم وضعت أسطوانة، ومشيت عبر أنحاء الغرفة أتأمل كِعَاب الكتب، مُشبِكة ذراعي، حتى إني قد قرأت بعض الأبيات الشعرية، بتأن وأنا ألمس غلاف الكتاب، واثقة من نفسي، بعيدا عن رسالتك المجهولة والمخبأة داخل الغلاف الممزق الذي يضطجع على ذراع الكرسي.
أيتها الملابس الحلوة التي أعثر عليها سيئة،
عذابٌ وفرحاتٌ لما كان الإله راغبا في ذلك!
أنتما معا في ذاكرتي
وخلال موتي معها متحالفتين.
“طبعاً تشاجرنا. هي تخرج بعد أن تخبط الباب وأنا أكاد أبكي من الغضب. أحاول أن أشغل نفسي لكني لا أستطيع فأخرج للبحث عنها. أنا أعرف أين هي. قبالتي، في لاكليمنس، تشرب وتدخن بعصبية. أنزل الدرج الذي يحدث صريرا وأخرج إلى الساحة، هي تتطلع إلي من بعيد وتتظاهر أنها تتجاهلني. أعبر الحديقة وأصعد إلى المستوى الأعلى لبورغ دو فور بتأنٍ، وأصابعي تلامس الدرابزين الحديدي. أصل المقهى وأجلس جنبها في أحد الكراسي من خشب الصفصاف. نحن نجلس في الهواء الطلق. في الصيف يجتاح المقهى الأرصفة وتُسمع موسيقى الأجراس سان بيير. تتحدث كلير إلى النادلة. إنهما تقولان حماقات عن الطقس بلهجة الاحتقار السويسرية البغيضة. آمل أن تطفئ كلير السيجارة في المنفضة وأفعل أنا الشيء نفسه لألمس أصابعها. إنها تنظر إلي. أتعرف كيف، يا كلوديا؟ مثلما كنت تنظرين إلي، مرفوعة فوق صخور الشاطئ، منتظرة أن تتخلصي من الغول. كان يجب عليك أن تتظاهري بأنك لا تعرفين ما إذا كنت قادما لإنقاذك أو لقتلك باسم سجانك. لكنك أحيانا لم تكوني تستطيعين كتمان الضحكة وفي لحظة ما يتهاوى الخيال إلى أسفل. المحاكمة بدأت بسبب تهاون مني. اتهمني بكونه مهملا وبأني أخلق له مشكلا أخلاقيا. ماذا كان يمكننا أن نفعل؟ لو كان لدي على الأقل إجابة مباشرة، لكن لا، ببساطة كان قد عزلني، صامتا وفظا، بل حتى إنه لم يهرب من هذه الوضعية لكي يقوم بشيء ذكي. في البيت كان ثمة كتبٌ وأسطوانات، لكني انشغلت بحل الكلمات المتقاطعة في المجلات.
“- يجب عليك أن تقرر، يا خوان لويس. من فضلك.
“- أنا أفكر.
“- لا تكن سخيفا. أنا لا أقصد ذلك. أقصد كل شيء. هل سنكرِّس الحياة بكاملها لتصنيف وثائق هيئة الأمم المتحدة؟ أم أننا فقط نعيش مرحلة انتقالية تسمح لنا أن نكون شيئا آخر، شيئا نحن لا نعرفه حتى الآن؟ أنا على استعداد لفعل أي شيء، يا خوان لويس، لكنني لا أستطيع أن أتخذ القرارات لوحدي. قل لي هل حياتنا معا، وعملنا مجرد مغامرة، سأكون موافقة على ذلك. قل لي إذا كان الأمران كلاهما دائمين. وسوف أكون موافقة أيضا. لكننا لم نعد نستطيع التصرف كما لو كان العمل عابرا والحب دائما، ولا بشكل معكوس، هل تفهمني؟
“كيف كان يمكنني أن أفسر له، يا كلوديا، أنني أجد مشكلته غير مفهومة بالنسبة لي؟ صدقيني، جالسا هناك في لا كليمنس، يشاهد الشباب وهم يعبرون راكبين الدراجات، ومصغيا إلى الضحكات والهمسات التي تحيط بنا، مع أجراس الكاتدرائية التي تدوي موسيقاها، صدقيني، يا أختي، هربت من كل ذاك العالم المُطوِّق، أغمضت عيني وغرقت في ذاتي، وصقلت في ظلمتي الخاصة ذكاء سريا لشخصيتي، دققت كل خيوط حساسيتي لكي ترجها أدنى حركة للروح، ومددت كل إدراكي الحسي، كل تكهناتي، كل اشتباك الحاضر مثل قوس، لكي أرمي الآتي وأكشفه، جارحا له. هذا السهم انطلق مسددا ولم يكن ثمة هدف، يا كلوديا، لم يكن ثمة شيء إلى الأمام، وكل ذلك البناء الداخلي والمؤلم -كنت أشعر بيدي باردتين بسبب الجهد- كان ينهار مثل مدينة من الرمال أمام الزحف الأول من الأمواج. لكن لا لكي تُفْقَدَ بل لكي تعود إلى محيط ما يسمُّونه بالذاكرة. إلى الطفولة، إلى الألعاب، إلى شاطئنا، إلى فرح ودفء كان كل شيء آخر يحاول فقط محاكاته، وتمديده، وخلطه بمشاريع مستقبلية وإنتاجه مع مفاجآت الحاضر. أجل، قلت له أنه على أحسن حال. اننا سنبحث عن شقة أكبر. إن كلير قريبا سيكون لها مولود.”
هي نفسها أرسلت لي رسالة بذلك الخط الذي رأيته فقط على البطاقة البريدية لمونترو. “أنا أعرف مكانتك لدى خوان لويس، وكيف كبرتما معا وكل الأشياء الأخرى. أتوق للتعامل معك وأعلم أننا سنكون صديقتين جيدتين. صدقيني انني أعرفك. خوان لويس يتحدث كثيرا عنك حتى بدأت أشعر أحيانا بالغيرة. أتمنى أن تستطيعي المجيء لزيارتنا يوما ما. فقد حصل خوان لويس على عمل جيد جدا والجميع يحبه. جنيف صغيرة، لكنها رائعة. لقد ألفنا المدينة وأحببناها لأسباب يمكنك تخمينها وهنا سنصنع حياتنا. بعد ما زلت قادرة على العمل لعدة أشهر؛ أنا فقط في الشهر الثاني من الحمل. أختك، كلير.”
ومن الغلاف سقطت الصورة الجديدة. لقد غدوت سمينة وتحذرني على خلفية الصورة “ذائبة جدا، يا أخيتي.” وبقيت أصلع، تماما مثل أبي. وهي جميلة جدا، جد بوتيتشيلية، بشعرها الأشقر الطويل والبيريه الأنيق جدا. هل غذوت مجنونا، يا خوان لويس؟ كنت شابا وسيما عندما غادرت المكسيك. ينظر إليك. هل رأيتَ نفسكَ؟ اعتن بنظامك الغذائي. عمرك فقط سبعة وعشرون عاما وتبدو في الأربعين. وماذا تقرأ، يا خوان لويس، ما الذي يشغلك؟ الكلمات المتقاطعة؟ لا يمكنك أن تخون ذاتك، من فضلك، أنت تعلم أنني أعتمد عليك، وأنك تنمو معي. لا يمكنك أن تبقى في الخلف. كنت قد وعدتني أنك ستواصل الدراسة هناك. قلت ذلك لأبي. العمل الروتيني يتعبك. أنت لا تريد أن تصل إلى شقتك وتقرأ الجريدة وتخلع حذاءك. أليس كذلك؟ أنت لا تقول ذلك، ولكني أعلم أن ذلك صحيح. لا تخرِّب نفسك، من فضلك. لقد ظللت وفية. وسأحفظ طفولتنا حية متوهجة. لا يهمني أن تكون أنت بعيدا. ولكن يجب علينا أن نبقى متحدين حول الأهم. لا نستطيع أن نتنازل عن أي شيء لمن يطلب منا أن نكون شيئا آخر، أتذكر؟ خارج الحب والعبقرية والشباب والصمت. إنهم يريدون أن يشوهوننا، أن يجعلونا مثلهم. هم لا يتسامحون معنا. أنت لا تصلح، يا خوان لويس، أتوسل إليك، لا تنس ما قلته لي في ذلك المساء بمقهى ماسكارونيس. بمجرد أن تخطو الخطوة الأولى في ذلك الاتجاه، كل شيء يغدو ضائعا؛ ليس ثمة عودة. كان يجب علي أن أكشف رسالتك إلى والدينا. أمي صار حالها سيئا للغاية. الضغط. وهي في قسم أمراض القلب. آمل ألا آتيها بأخبار سيئة في المرة المقبلة. أنا أفكر فيك، وأتذكرك، وأعلم أنك لن تخيب رجائي.
وصلت رسالتان. أولا تلك التي بعثتها إلي لتقول لي أن كلير قد أجهضت. وبعد ذلك تلك التي قمت بإرسالها إلى أمي، معلنا أنك ستتزوج كلير في غضون شهر. كنت تأمل أن نحضر جميعا لحفل الزفاف. سألت أمي أن تسمح لي بالحفاظ على رسالتها مع رسائلي. وضعتها جانبا ودرست خطك لمعرفة ما إذا كانت الرسالتان مكتوبتين من قبل الشخص ذاته.
كان قرارا سريعا، يا كلوديا. قلت له أنه كان من السابق لأوانه. نحن شباب، ولنا الحق في أن نعيش بدون مسؤوليات لبعض الوقت، قالت كلير أنها كانت على أحسن حال. لا أعرف ما إذا كانت قد فهمت كل ما قلته لها. ولكن أنت فهمت، أليس كذلك؟ ”
“أحب هذه الفتاة، أعرف ذلك. لقد كانت معي طيبة ومتفهمة وأحيانا جعلتها تكابد. أنتم لن تخجلوا من كوني أرغب في مكافأتها. والدها أرمل. هو مهندس ويعيش في نيوشاتل. إنه موافق وسيأتي إلى العرس. حبذا لو تستطيعون مرافقتنا أنتِ ووالدي وكلوديا. عندما تتعرفين على كلير ستحبينها بنفس القدر الذي أحببتها أنا، يا أمي”.
ثلاثة أسابيع بعد ذلك انتحرت كلير. اتصل بنا هاتفيا أحد زملائك في العمل. وقال إنها في مساء يوم ما طلبت الإذن بمغادرة المكتب. كانت تحسُّ أن رأسها يؤلمها. دخلت إلى قاعة سينما في وقت مبكر وأنت بحثت عنها في تلك الليلة، كما هو الحال دوما، في الشقة، انتظرتها وبعدئذ ألقيت بنفسك في المدينة، لكنك لم تتمكن من العثور عليها. كانت ميتة في قاعة السينما، كانت قد أخذت أقراصا منوِّمة قبل الدخول وجلست وحيدة في الصف الأمامي، حيث لا يمكن لأحد أن يزعجها. هاتفت نيوشاتل، عدت إلى جوب الشوارع، والمطاعم وجلست في لا كليمنس حتى أغلقت. وفي اليوم التالي فقط تم الاتصال بك من مستودع الأموات فذهبت لرؤيتها. قال لنا صديقك أننا يجب أن نذهب إليك، لنجبرك على العودة إلى المكسيك: كنت مصابا بلوثة جنون من الألم. أنا كاشفت والدينا بالحقيقة. وأطلعتهم على رسالتك الأخيرة. بقيا صامتين وبعدها قال أبي أنه لن يقبلك بعد اليوم في البيت. صرخ أنك صرت مجرما.
أنتهي من القهوة ويشير موظف إلى حيث أنا جالسة. الرجل طويل القامة صاحب طيتي المعطف المرفوعتين، يتثبت ويسير نحوي. إنها المرة الأولى التي أرى فيها ذلك الوجه الأسمر، ذا العينين الزرقاوين والشعر الأبيض. يستأذنني للجلوس ويسألني إن كنتُ أنا أختك. أقول له نعم. يقول إنه هو والد كلير. لا يصافحني. أسأله ما إذا كان يرغب في تناول قهوة. يهز رأسه بالنفي ويسحب علبة سجائر من جيب المعطف. يقدم سيجارة. أقول له أني لا أدخن. يحاول أن يبتسم وأرتدي أنا النظارات الداكنة. يضع مرة أخرى يده في الجيب ويسحب ورقة. ويضعها مطوية على الطاولة.
“لقد أحضر لك هذه الرسالة.
أحاول أن استجوبه بحاجبي المرفوعين.
– عليها توقيعه. هي موجهة إلى ابنتي. كانت على وسادة خوان لويس صباح اليوم الذي عثر عليه ميتا في الشقة.
– آه، نعم. كنت أتساءل ما الذي حدث للرسالة. بحثت عنها في كل مكان.
– أجل، لقد فكرت أنك قد ترغبين في الاحتفاظ بها. – الآن يبتسم وكأنه كان يعرفني-. أنت جد متهكمة. لا تقلقي. لأجل ماذا؟ لا شيء الآن يمكن تداركه.
يقف دون أن يودع. تنظر إلي العيون الزرقاء بحزن وشفقة. أحاول أن أبتسم وآخذ الرسالة. مكبر الصوت:
-… المغادرة للرحلة رقم 707 … باريس، غندر، نيويورك ومكسيكو … المطلوب من المسافرين التوجه إلى البوابة رقم 5.
أجمع أمتعتي أسوي البيريه وأنحدر باتجاه بوابة الخروج. أحمل الحقيبة وعلبة الأغراض في يدي وبطاقة المرور بين أصابعي، لكنني تمكنتُ ما بين الباب ودرج الطائرة من تمزيق الرسالة وإلقاء مزقها للريح الباردة وللضباب الذي ربما يحملها إلى البحيرة حيث كنتَ تختفي، يا خوان لويس، بحثا عن سرابٍ ما.
هامش
* كارلوس فوينتس: كاتب مكسيكي ولد في مدينة باناما 1928 وتوفي بمكسيكو في 2012، هو ابن دبلوماسي مكسيكي عاش لفترات طويلة خارج وطنه لكن أعماله الإبداعية كلها تركز على هوية الإنسان المكسيكي، درس في جامعتي مكسيكو وجنيف، وتقلد عدة مناصب دبلوماسية وهو أستاذ كرسي الآداب الهيسبانية-أمريكية في جامعة برينستون. يعتبر كارلوس فوينطس من أهم الروائيين في العالم خلال القرن العشرين. من أهم أعماله الروائية: “المنطقة الأشد شفافية” 1958، “موت أرتيميو كروث” 1962، “أورا” 1962، “تغيير الجلد” 1967، “الحملة” 1990، “كرسي الرئاسة” 2003، “الإرادة والحظ” 2008… وأعمال أخرى
كارلوس فوينتس
خالد الريسوني*