عبد السلام الطويل*
التقديمُ أنواعٌ..، ربما كان أغربه هو الذي يتوصل، برفعه ليافطة الإقليمية، أن يجعلك تتصور أنه هامشيٌّ، في حين أنه يخفي مركزية مركبة (مركزية تتخفى خلف الهامش/ تسعى أن تبدو لك مهمشة لكي تنال المزيد من الاهتمام)، وقد يكون المثير فيه هو هذه الازدواجية، فهو بادعائه أن المقصود منه هو النهوض بتلك الصيغة، فإنه لا يخلو من مخاتلة تتجلى في كونه لا يرى في نفسه مجرد تقديمٍ – تقتضيه فقط تلك الضَّرورةُ – بل هو يعلي كثيرا من شأن ما يقدمه ويرى في كل قول آخر قصورا أخلاقيا وتدهورا جماليا واختلالا في المعنى وفي المبنى .. غير أن كلاما من غير تقديم -، إنما هو كلام يدخل فقط في باب الزعم ، فلا يعقل أن يشهد كلام على نفسه بالصحة، فيصدقه الناس على كونه صحيحا -: ذلك أن كلاما من غير تقديم لنصوص لا تندرج في جنس أدبي واضح يبقى كلاما مُرسلا أو غير مقنع قصاراه أن يكون مجرد حذلقة تبقى في حاجة إلى شفاعة المعنى والمبنى (بمعايير التقديم الصادر عن نزعة أكاديمية هي انعكاس للمركزة، المولعة بالقوالب، والتي ترى أن كل قول يدعي انتسابه للأدب إما أن يكون قصة أو رواية أو شعرا .. وأن الشعر الحقيقي، مثلا -، لا يكون في منتصف المسافة بين الشعر وبين النثر أو بين التنظير والسرد أو بين الإحساس والفكرة …). فلولاها (لولا تلك الأشكال)، لما أمكنَ لأيّ كتابٍ أو كتابة أن يتبوآ شرف الوصول ولا كرم القبول بحيث يظل محتواهما تأخرا كاملا وترددا بين الصوت والمعنى ودرجة الحسم هنا تتوقف على جدارة صاحب التقديم وإحرازه على حظوة تجعله بالفعل شفيعا -.
غير أن الكتاب يبقى في حاجة إلى تسويق ولو على مجرد إخبار بالصدور حتى إن كان على العموم منتوجا ثقافيا ينشد الإنصاف، في الأخير ، والتواصلَ ، إن شئت.. فالتواصلُ ، حتى لو كان مختلفا قليلا ، ومهما كان مختلفا ، فإنه لا يختلف عن أي تواصل : الكتاب رسالة والرسالة لكي تكون كذلك فيجب أولا أن تصل، لكنها لن تصل ولن تفهم من غير تقديم لأنها من غيره لن تستجيب لعمليّة التواصل حتى وإن هي اعتمدت على اللغة (الفصحى لا على الدارجة/ أو أنها اعتمدت عليهما معا ) – لكن، قد لا يهدف الأدب ، إلى التواصل فقط وقد لا تكون لديه رسالة واضحة يريد توصيلها ، ولكن أقصى طموحه أن يقدم رؤية، رؤيته الخاصة للواقع وللعالم ، تاركا للقارئ أن يستخلص ما يشاء، في حين أن هدف الرسالة يبقى واضحا. وأما اللغة فهي معطى قسري لا قدرة للكائن البشري على تبديلها وهي لا تخلو من قيود، فهي تشبه الأجناس الأدبية إذ إنها تفرض نسقها حتى على “السرد الوراثي” (الجينوم) وعلى “الأبجدية الوراثية ” وعلى “الجملة الجينية “.. الرسالة ضرب من الأسلوب، والأسلوب هو المجال الوحيد الذي يتيح للفرد هامشا ويمنحه حرية الاختيار ، شرط أن يكون اختيارا حرا يصدر عن إرادة لا إكراه فيها . وعودة إلى اللغة، فإن الوجود لا يدرك إلا بها ومن خلالها ، فهي ليست وسيطا شفافا يلزمك بالتخلي عنه والتمسك أو الاقتصار فقط على ما ينقله ، لا إدراك للوجود إذن إلا بها.. ويتجلى الوجود في التوحيد بين اللفظ والمعنى أو بين الدال والمدلول ثم في اعتباطية العلاقة بينهما. واللغة، من جهة أخرى، شبيهة بالورقة وجهها الفكر وظهرها الصوت، ومن ثم يلزم التفريق بين استخدامين لها، هناك من يريد فقط سوى أن يستعملها ( وواضع التقديم يشترط، لكي يكون التواصل ممكنا ، أن تكون اللغة كذلك ، أي لغة قابلة للاستعمال، لغة تشهد وتعظ وتشرح ، ونصير مع كلام يريد أن يبقى مجرد وسيلة للتعبير ونقلا لمضمون. وفيما يتعلق بعلاقتها بالواقع فممّا يَجدر الانتباه إليه أيضا، أن اللغة ، من الضروري أن تحيل على مرجع – يحيل، بدوره ، على مجال واضح من قبل المرسل والمتلقي ، حتى يتحقق التواصل .. لكن كل هذا يظل ينسحب على التواصل العادي، أما التواصل المختلف فهو لا يحيل بالضرورة على مرجع واحد ومحدد، ويجدر به أن يتضمن كائنات معروفة ( كما أنه ، بالمقابل ، لا يجب أن يتضمن كائنات مزعومة أو مجردَ تُرَّهاتٍ، يتعذر على الشخص التحقق من وجودها ، ذلك أنه حتى وإن كان مجرد مرجع نصي، فهو لا يعني أنه من السخافة بحيث أنه لا يحيل سوى على نفسه . ومهما اتّخذ طابعا وثائقيا في الظاهر، فإنه يبقى نصا متخيلا، منشغلا بالصورة والاستعارة …)، غير أنه ، كيفما كان ، فإنه يحيل بالضرورة على واقع حتى وإن بقي هذا الواقع في حاجة إلى تحديد، ” لا شيء خارج الواقع وخارج المتخيل . إنها وحدة ملتبسة الطرفين ” (..). ثم إن التواصل المختلف لا يطالب أن ينهض الواقع على نقيضه أو أن يصبح لا واقعا، مهما بدت المسافة بينهما ملتبسة. ففيما تنطلق الوثيقة (رسالة، تغطية صحافية …) من واقع خام و”متعارف عليه”، أي مما لا يفعل غير العبور، وهو ، لامحالة ، يفقد كل قيمته في عبوره ، تعتمد الكتابة الأدبية في أحد نماذجها على الإيهام بهذا الواقع “المتعارف عليه “، فهي، ولكي تتمخض عن مغزى ، فلابد أن تصل َأولا (وأن تقرأ بالتالي ، ما دامت تتضمن بالضرورة ردا، ضروريا وملحا وأساسيا ، ثم كل ما يجاور الردَّ من تعليق وتعقيب وطرح أسئلة أو الإجابة عليها أو مجرد إبداء لرأي ، أي أن الكتابة في جوهرها ومهما اختلفت هي تعبير عن رأي يكشف عن قيام صراع . ولا يهم لمن تصل في الأخير، أو فيما إن كان سيعبأ بها أصلا هذا الذي أرسلت ووصلت إليه .. لكن قراءتها “مشروطة” بإشاراتها السياسية بحيث أنه يمكن الذهاب أن كل أدب “من غير أسباب سياسية ، يبقى أدبا عقيما “، لكن أيضا كلما نأى بنفسه عن المباشرة وعدم التوجيه السياسوي بإبراز خطابات والتهليل لأصحابها وتحريف الصراع “وتزوير الوجدان “، تماما مثلما تُزوَّرُ الإرادة الشعبية (كلما كان ذلك أفضل ).
والآن دعك ممن يقول بأنه يكتب إلى نفسه، ما دام بحاجة إلى معرفة رأي الناس فيما يكتب، ذلك أن الآخرين هم مقياس لوجود الذات التي ستستنكر أن تكون هي مقياس كل شيء . ذلك أن ما نسميهم آخرين إنما هم أجزاء مكملة لنا. ثم إن وعي الفرد بنفسه إنما يتحدّدُ بمدى وعيه بذوات الآخرين.
وعلى هذا النحو فالجميع يكتب إلى نفسه مهما بدا أنه يكتب للآخرين، أو على الأقل ، هنا تكمن هذه الجدلية وهذا التأثير المتبادل .
وبناء عليه فإن كان يجدر بالكاتب “النهوض” بواقعه فلا ينكرنّ أحدٌ أن الواقع يتجلى أيضا في المُقصى والمبتور والناقص والمختصر وغير المفصح تماما عن فحواه ..
أما بصدد المقصى والمبتور والناقص وكلها “أشكال” مختصرة،
ترى ما هو الاختصار التامُّ وغير المخل ِّ، جماليا ؟ ليس هو الابتسار ، حتما ، كما أنه لا يعني أن النصوص الطويلة (الروائية ) لا اختصار فيها . والاختصار لا يعني المواربة وعدم الإفصاح و”التقليص ” أو عدم الاستواء والاكتمال ..
كانت الحقائق (الرهيبة) دائما مختصرة . نجد الكثير من الكتب تعبر عن أعمق ما فيها في إحالة في الهامش.
وبالعودة إلى الواقع، فنجد اختلافات في تحديده، ففريق يراه مجسدا في الواقع الاجتماعي وفي طبقاته وفي الصراع الاجتماعي والتاريخي الذي يحكم هذه الطبقات. وفريق يراه في الوعي الفكري للفرد. وفريق آخر يراه في اللغة …
وعودة للرسالة، مع سداد الرأي ، رأي التقديم ، في اتخاذه للقارئ معيارا على صلاحية وصدق الرسالة (مهما كانت “فجاجة ” التبسيط فلنسلم بأن النص ، ومهما كانت شدة كثافته، هومجرد رسالة )، ومن ثم فإنه من باب الإيمان بصلاحيتها أو بصحتها ، وبصحة ما تعبر عنه ، وصولها ، قبل كل شيء ، ثم قراءتها .. لكن قد يكون ذلك غير ممكن لأنها لا تستثيرك إما لأنها لا تفصح عن الأحوال الاجتماعية والسياسية من ثم ،أو أنها تفعل ذلك، وتشكل للقارئ مصدرا لتغيير أفكاره (ذات بعد فكري) وتسكين انفعالاته( ذات بعد نفسي أيضا ) ، فإن لم ينتبه لأبعادها ستكون القراءة متسرعة . أما القراءة المتأنية فهي تعني تحليلها وتركيبها وتشريحها ( وتمزيق أوصالها ) –ليس على سبيل التدليل على نجاعتها هي ، بل باعتباها تشكل برهانا على نجاعة الجريمة وأدواتها (المناهج والمفاهيم ) ..فإلى أي حد تبقى الرسالة بعد كل هذا القتل و مصدرا للذة أو للمتعة ؟ مهلا، هل تهدف الرسالة للمتعة؟ أي للإلهاء والتسلية والمسايرة، إن لم يكن للسلطة ، فهي مسايرة للجمهور – تتملقه وتستجيب للذوق العام؟ أم أن الأدب الحقيقي، يبقى “مقلقا ” ؟ فيما أن الجمهور يقبل على المتعة السهلة والسطحية وعلى تزجية الوقت والترفيه؟ أما القراء “المتخصصون”، فهم يتعاملون مع ماهو أكاديمي ومُصنّف من قبل الأعراف ومن قبل رئيس الأكاديمية ومن قبل النقاد؟
ماهو الأدب (سعى سارتر إلى الإجابة عن هذا السؤال، فربط قيمة الأدب بمدى انعكاسه الاجتماعي وتساءل ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ ولمن؟ تلقف بعض النقاد الإيديولوجيين هذه الأسئلة الهامة، وأرادوا للأدب أن يعبر عن مواقف حزبية).
لا اعتراض،بالمرة، عن تعبير الكتابة عن أسئلة اجتماعية ، حتى وإن بقي الأدب في تغيير مستمر ، فكل تصور له غالبا ما تتم إعادة النظر فيه وفي مكوناته و أنواعه التي خضعت في مجرى التاريخ لتغيرات كثيرة ، فالتمييز بين الشعر – الذي يعلو على مستوى الرواية (مثلما تعلو الدراما على الكوميديا) إنما هو تمييز قضى في عصر الأنوار الأوروبي ، أي أنه ظل تصنيفا ممتدا من العصر اليوناني إلى القرن 19، ثم دخل العالم في عصر جديد يطبعه الوعي بالخِفّةِ والهشاشة وعدم الاستقرار، الذي صار يسمُ جزءا من الحداثة (باعتبارها، اختصارا، وبحسب بودلير، هي العابر والهارب والمحتمل). وتحول التعارض بين أدب “رفيع ” وبين أدب “وَضيع ٍ”إلى صدام بين أنواع ” رفيعة”(أو مرتفعة) في جوهرها وبين أنواع منحدرة وهابطة بالطبيعة. تجدر الإشارة أيضا أن وجود أدبٍ راق ٍقد يكون ممكنا في أوضاع متخلفة سياسيا واقتصاديا (كما كان الحال في أدب أمريكا اللاتينية )، لكن هذا لا يدعو أن تكون الأوضاع المتخلفة ضرورية الوجود لكي يكون هناك أدبٌ راقٍ ، لأن الأوضاع حينما تكون راقية اقتصاديا وسياسيا تزدهر فيها الحياة بالضرورة وتزدهر فيها الكتابة ، بالتالي، لأن الأنواع تنتقل أو تتحول، فقد صار، وهو الأمر المفاجئ، في مقدور النص العلمي أن يتحول إلى نص أدبي لا يقتصر على تقديم قوائم الأشياء والحقائق الأخلاقية أو القوانين الطبيعية والمعادن والطب ..، أو القواعد النحوية مثلما نظمت شعرا في التراث العربي، أو في اختزال الشعر إلى مرآة تشهد على “سمو” العصر ، فهو ليس مرآة ، بقدر ما هو نمط من المعرفة (الوجدانية ) التي تعمل على تعريفنا بالعالم وتمدنا بمغزاه استعاريا وتجعله مفتوحا على قراءات شتى (انظر قراءات قصائد أبي نواس والمعري …) إنها متعددة الدلالة فضلا عن كونها تشفُّ عن معرفة، فنحن إن تجاهلنا الجانب المعرفي في قراءتنا للنصوص الأدبية تجاهلنا شيئا أساسيا فيها (ت. تودوروف . وب. ماشري . وج . كريستيفا ) وانظر أيضا دراسة محمد برادة المنشورة في مجلة “الثقافة المغربية ” . ع. 18. يوليوز 2001، وهي تحمل عنوان : “تلك الجدوى …” وانظر أيضا قراءات سارتر لكتابات فلوبير وقارنها بالكتابات النقدية المعاصرة لها كما يمكنك النظر في تناول بورديو/ لم يكن ناقدا ولكن عالما اجتماعيا / ( يمكن العودة إلى تناوله ل”التجربة العاطفية “)…وبناء عليه ، فقد شكل الأدب – على مدى تاريخ الإنسانية – مصدرا أساسيا للمعرفة وذلك ما عمل على صموده منذ هوميروس . كما شهدت بلدان من العالم قيام كتابات جرى تصنيفها في خانة الأدب، فيما كان لأصحابها غايات مختلفة تماما. وفي المقابل فقد ازدهرت كتابات تعلن منذ البداية عن انتماءها إلى الرواية مثلا، غير أنك ما أن تنتقل من الغلاف إلى الداخل حتى تجدها تقدم معلومات حقيقية عن واقع خاص، وعن إنسان يتلقى وينقل تجربة خاصة، تؤكد لمن يقرأها أنها نصوص أوتوبيوغرافية تقدم شهادة حية ومعاشة عن واقع فعلي وتعلن تنديدها بسلوك وفضحها لممارسات وتأريخها لأحداث وقعت بالفعل ويسارع أصحابها لتدوينها قبل أن تدركها وتدوسها جَرّافاتُ التاريخ الرسمي، غير أنها تنضوي، لغايات أخرى تراعي سوق النشر ، تحت اسم “روايات ” (حتى وإن كانت الروايات تأخذ مسافة من الواقع). ها هنا لا يمكن إغفال البعد السياسي للرواية حتى في جانبها السير ذاتي التخيلي.
فيما يتعلق بالتصنيفات نذكر كيف تساءل م. فوكو في كتابه “أركيولوجيا المعرفة “1969، منطلقا من فكرة أملتها عليه التصنيفات المعرفية التي وجدها لا تواكب كتابة تلك النصوص، وتساءل فيما إذا كان يصحُّ أن يستمر الأخذ بتصنيفٍ للخطابات يضعُ العلمَ إزاء الأدب والفلسفة والدين والتاريخ … كل واحد إزاء الآخر ومنفصلا عنه ، أم أنها تصنيفات خاضعة للتغيير ويجب إعادة النظر فيها ؟
كما لا اعتراض أيضا على كتابات تهدف إلى التنوير والتوعية (كالكتابة الصحافية الملتزمة بموقف معارض) شرط أن لا تقع في مسايرة السلطة أو في تزيين خطابها والترحيب به وتجميله للناس أو أن تتملق الجماهير، وتناصر قضايا هي أدعى للمناهضة لولا أنها صارت مثار إيمان وإجماع وتلهية وتعلّقٍ عاطفي تستعملها السلطة لتنمية الإجماع وللاستحواذ على الساحة، فلا تعترض عليها ،بل تدعمها ، …
أصدر كونديرا سنة 1986 كتاب: “فن الرواية “، ثم أعقبه سنة 1993 بـ”الوصايا المغدورة “، ثم سنة 2003 بـ”الستار”، ومفاده أن العالم صار مستورا عنا بآلاف التأويلات الملتبسة والصور المضللة ..، ووظيفة الرواية تكمن في اختراق هذه التأويلات وفي تفكيك هذه الصور وفي تمزيق هذا الستار وكشف ما يختبئ وراءه (إن نحن بحثنا عن جذور الرواية فنحن لن نجدها في أشكال السرد الشفوية السابقة على الكتابة، بل هي فن مستجد تم تأسيسه مع رابلي وثيرباطيس وهي تتخذ طبيعتها من وصفها لأشكال الوجود الخاص بالإنسان وتعبر عن تجربته وعن مصيره الذي تهمله الأنظمة التأويلية الأخرى الأسطورية والدينية والعلمية ..). اعتبار الرواية فنا يختلف عن باقي الفنون السابقة عليها كالملحمة والمسرح والشعر كما يتشابه معها تقريبا، فهي تتشابه مع الملحمة في كونها تتضمن هي الأخرى “أبطالا”، غير أنها تختلف عنها في كونهم يتصارعون مع أبطال آخرين وليس مع آلهة. كما أنها تشترك مع المسرح في ابتكارها لشخصيات واقعية وليست أسطورية، كما أنها تشترك مع الملحمة في الشعر، غير أنها ليست مصاغة شعرا كما أنها ليست ملاحقة للشعر بوسائل الملحمة أو المسرح بل بوسائلها أو بأسلوبها. كما أنها ليست، وهو الأسوأ، إضفاء للمسحة الشاعرية، لكن هذا لن يحول دون أن تخلق شعرها الخاص والذي ليس نقيضا لشعر الشعراء. وهي تختلف بالضرورة عن الفلسفة حتى وإن كانت تتضمن حالات فلسفية أو تأملية، غير أنها ليست تعليما . ومع ذلك فلا يمكن الحديث بالمرة عن نص روائي من غير بعد فلسفي. إن نصا كهذا يبقى عديم العمق، والعمق هنا تلقائي وليس مفتعلا بمعنى “التعميق “الذي يلجأ إلى استخدام المفاهيم وإلى إضفاء المسحة الذهنية والأكاديمية وإلى تمجيد ما وقع الإجماع على تمجيده، كالحياة ، وامتداح للجسد، سعيا للإبهار وإضفاء الروح الحداثية والتعبير عن سعة الاطلاع . كما تشترك مع الملحمة والمسرح في استخدامها للأحداث، فيما عدا أن الأحداث الموصوفة في النص الروائي هي أحداث تشبه الأحداث التي جرت في الواقع، لكن فقط للإيهام بها، بحيث تبقى قابلة للتصديق ، لولا أنها أحداث محكية ومتخيلة (ليست مختلفة وليست شفاهية).
كما أنها تشترك مع الملحمة في التعاقب الزمني. كما أنها تشترك مع الكتابة التاريخية، غير أنها تسمح برفع الستار عن الجوانب التي ظلت غامضة أو مغيبة وبقي التاريخ المؤسسي متكتما إزاءها فتتساءل لماذا تم تقديم هذه الأحداث وتأخير تلك ولماذا تم تغييب أخرى ؟ إلخ. وهي أحيانا تقلد أساليب المؤرخين والحديث من خلالهم أومن خلال شخصياتهم التي تعيش في العصر الراهن . وباختصار فهنالك مناطق ظل وحالات ومواقف لا يمكن قراءتها بأدوات المؤرخ أو بمناهجه وتستعصي على مقارباته “النمطية “أو المحايدة والموضوعية والتوثيقية …
لماذا صار التجديد مطلبا مؤسسيا وتوفيره مجرد استجابة لهذا المطلب؟
هناك أيضا تقليد الهامش والتعبير عن ذات الكاتب المهمشة قسرا والتمرد على الأجناس وعلى الحدود وعلى الأشكال، هنالك هذا التداخل بين الشعر والرواية والاستعاضة عن الأشخاص لصالح أصوات وتجنب السارد التقليدي العارف بكل شيء والمتدخل في ثنايا السرد بالوعظ والإرشاد هنالك هذه الشخوص المجلوبة و المنمقة أو الناقلة لأفكار الكاتب هنالك هذا “التصرف” في الزمن الذي لم يعد مستقيما كما هو عند المؤرخ أو كما هو في الواقع ؟.. لماذا هذا التجديد المطلوب المستجيب فقط لرغبة المؤسسة والساعي لإرضائها؟ بدل أن يكون نابعا من الداخل، وأن يكون صاحبه سئم هذا الواقع المتكلس والمستقر ويتطلع إلى واقع يكون فيه معنياثم لماذا هو حقا يكتب؟ وفيما إن كانت هناك ضرورة تحتم عليه ذلك؟ أم أن ما يكتبه هو استمالة للمؤسسة وإرضاء لها وسعي لاحتلال موقع في هرم السلطة ؟ مضى زمن البيانات والإشارة إلى الحل للمشكل وللأزمة التي يتخبط فيها الواقع بأدوات الفن. غير أن الفنان مثل الفصامي لا يقبل بالعالم مثلما أنزل وهو يعرف أن ما تطلبه المؤسسة هو تخليصه من تفككه وارتباطاته بالتفسيرات الفوقية وإضفاء التماسك عليه. كانت الرواية التقليدية تعتمد على الحبكة وعلى التسلسل الزمني وعلى البداية الواضحة والعقدة والحل… وأصبح التجديد يكمن فقط في التمرد على هذه المحددات : ترى ما الداعي إلى تكسير التسلسل واستبدال أشخاص بأصوات والانتقال بين الأزمنة سوى أن يكون ذلك مجرد سباق و”انحراف” ويخلو من جمال ؟ ثم ما هي ضرورة الرواية –التي تم استسهالها ؟ وهل نحن ملزمون بتخطيها؟ وهل هي تعبير عن تاريخ آخر لما يحدث. وما دام يقال بأن أحداثها “مبتدعة ” فما هو نصيب المايحدث فيما تدعيه؟ وهل يصح أن نحاكمها من هذه الزاوية، أي من زاوية الصدق والكذب؟ وما هو الجمال الذي يمكن أن يحدث في ‘تحريفها ” للأحداث أو على الأقل في خلقها لعالمها الخاص وهو عالم مواز شبيه ومنفصل عن الواقع؟ أم أن الجمال يكمن في التصوير الموضوعي للأحداث؟ هل تعطي صورة مخالفة لما يتداوله الواقع والتاريخ؟ ماذا يعني تحديث الأدوات؟ هل العالمية هي اشتغال مكثف على ما هو محلي أم هو على العكس: اشتغال على ماهو عالمي؟
ونحن نقرأ لكتاب كثيرين، مشرقا ومغربا، لا نعود فيما إن كانوا يتسترون حول ما يودون البوح به ، أم هم يريدون الكشف عنه ؟ (لقد منحنا اللغة، بحسب جيمسون، لكي نخفي بها أفكارنا). .
نجد في التراث العربي عدة كتب لا تحمل أسماء مؤلفيها، بل تمت فيها نسبة قصائد لغير مؤلفيها، ولقد سادت هذه الظاهرة في المرحلة الشفوية مثلما سادت في المرحلة الكتابية وبعد “عصر التدوين ” تمت نسبة عدة كتب إلى الجاحظ مع أنه ألفها فيما أنه لم يؤلفها. كما نجد كتبا أساسية لا تحمل أسماء مؤلفيها كألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة …. فضلا عن النصوص المنشورة بأسماء مستعارة والنصوص المعلومة الأسماء والتي يتشكك القارئ في انتمائها لمن وقع عليها (أو حتى إن هو تشكك فإنه يجد نفسه أمام الأمر الواقع و”المجمع عليه ” حيث (لا) “تجتمع الأمة على ضلال”)… هذا إلى جانب النصوص التي وقع عليها أكثر من مؤلف ، وكتبا يذهب الظن إلى كونها لمؤلف غير مؤلفها .كما أننا نجد (في العصر الراهن ولكن ولا شك أنها سادت في العصور القديمة أيضا ، فقط يلزم هنا أن نسأل أهل الاختصاص ) من يتخلون عن أجزاء من نتاجهم (قد لا يصح ، ربما، تصحيح أو تعديل صورة الماضي التي لا تلائم الحاضر ، وهذا ما يحصل للجميع إذ أن النصوص تلك تعبر – هناك من يرى أنها لا تعبر – عمن كتبها بأمانة الآن ) فهل يعود السبب إلى مجرد توق إلى مجاوزة الذات ؟ (في العصر الراهن نذَكّرُ بسؤال “جورج شتاينر “: ” الكتب التي لم أكتبها ” لقد نَحَّتِ البنيوية الذات تماما عن مجالها القديم وتحدثت عن “موت المؤلف ” واعتبرت النتاج الأدبي متعدد الأطراف، يشترك فيه المؤلف والناشر والقارئ … )
كما نجد، ودائما في التراث العربي، نماذج من الكتابات “المضنون بها على غير أهلها “، فهي تتوجه إلى قارئ خاص وليس إلى قارئ مبرمج لا يقبل إلا لونا خاصا سمح به النقاد والأكاديمية . القراءة الوحيدة المشروعة راهنا هي القراءة الجامعية (الاتباعية): فقد أحرق أبو حيان التوحيدي كتبه في آخر عمره “ضنا بها على من لا يعرف قدرها “، وهو يذكر نماذج أخرى شبيهة به كعمرو بن العلاء الذي “دفن كتبه ” وداوود .. الذي “طرحها في البحر” ويوسف بن إسباط الذي حملها إلى غار وألقى بها فيه، وسليمان الدادائي الذي وضعها في تنور ثم أحرقها، وأبو سعيد السيرافي ( وطبعا اللائحة ..، ممن كان يخشى من القراءة غير المنصفة فيكتب لنفسه … ).
ثمة مفارقات في الساحة الثقافية العربية الراهنة ، هناك كتابات (اللهم لا حسد) حظيت بعناية كبيرة لمجرد أن أصحابها تم الإجماع عليهم وصاروا يشكلون زبناء تمتدحهم المؤسسة ، ويشكلون قوة استهلاكية أو هو ينضوون، بلا نقاش، تحت أصناف مركزية ومعترف بها من قبل دور النشر وعلى نحو غير مستحق ومشمولة بهواجس أمنية، قد تكون مجرد هواجس، لولا أنها أمنية وكونها مفرطة ، وتدعي التجسيد الملموس لـ”عُرْفٍ” صار مرعيا (أي أنه صار مرعبا) وتحميه شرطة تخضع الكتابة ، التي يفترض أنها ضد المحددات ، لمحددات لا يجرؤ أحد على اختراقها، هذا مع أن الإبداع في جوهره هو خرق للمحددات.
لكن أيضا، وكما بات معروفا، فقد أدت المناهج الشكلية إلى تهميش النصوص التي لا تخضع لتصور صاحب القراءة كما لا تخضع لتصور الأكاديمية ودار النشر، كما أدت إلى نفور القراء غير المرتبطين بنيل الشهادة وغير المعتنقين لتوجُّهٍ حتى في البلاد المعروفة بكثرة قرائها، (لقد أدت غالبية نماذج تلك القراءات إلى جفول القراء من نصوص موجهة من قبل تلك القراءات ، نصوص مغرقة في “التطبيق” أو في التمسك بالاختلاف المتصلب والعنيد وغير الأصيل وفي الحذلقة الشكلية وابتعدت عن الإنسان المتعين في التاريخ وأدت قراءات بعض النصوص المرحبة بها والمصفقة لها إلى التدليل فقط على فعالية الأدوات والمفاهيم.
(وأما الشعر فلا يمكن، بحسب أفلاطون، أن ينقل مضمونا، ولذلك فهو قاصر عن المعرفة. وكان سقراط في الكتاب العاشر من الجمهورية قد وصف نشاط الشاعر، مثله مثل المصور والنحات، بالتقليد، وبرهن لمحاوريه أن “الفنان” إنما يعيد إنتاج ما أنتجه الحرفيون فقط، وبذلك يكون مقلدا من الدرجة الثالثة: إن العامل يصنع الشيء وفقا لقواعد دقيقة تربط الشيء باستعماله ومنفعته … فنحن لا نجد عند هوميروس لا تأملا في السياسة ولا اكتشافا علميا ولا فلسفة أخلاقية … ولهذا لا مكان للشاعر في المدينة الفاضلة لأنه يعمل فقط على اختلاق أوهام) …
عودة للحديث عن “المعرفة “: لا نأخذ بما قيل سابقا، نسوقه لحديثه عن المعرفة لكن ليست المعرفة المقصودة هنا هي المعرفة المدرسية المسخرة للمفاهيم والاستدلال والتفكير النظري التجريدي، أي المعرفة المباشرة، غير المحسوسة، بل يمكن أن تكون محسوسة وغير مباشرة أدواتها الاستعارات والرموز والأخيلة وتنشغل بالذات المهددة بالإبادة … واختصارا فإن الأدب ليس تفكيرا في المعرفة، وفق خطاب إبستمولوجي، أي أن هناك فلسفة للأدب أو فلسفة أدبية بحسب ب. ماشري، تختلف عن الفلسفة التعليمية. إن النص الأدبي يمكن أن يعتمد على أفكار، هو أيضا .. يمكن أن نعتبر أن الفلسفة التعليمية إما أنها منظومة معرفية أعلى من الأدب في هذه الحالة أو أن الأدب هو ممارسة فلسفية في طور المخاض (م. برادة : “تلك الجدوى المفجرة لما هو مستقر ” . الثقافة المغربية . ع.18.ص. 12) ربما ليس هذا هو المقصود بالضبط، مادام “هدفه” أن يصل الكتاب (ج. كريستيفا تقول بأن مهمة الأدب تكمن في أن يستثير المتخيل الجماعي وتخليه عن الدور التقليدي المتمثل في تجويد اللغة وتأمل الجمال وتقديم أجوبة مطمئنة عن الكون على غرار الدين والفلسفة والعلم، وليس هو مجابهة الواقع الاجتماعي وتعقيداته، غير أن هذه المجابهة لم تقده إلى السعي إلى تغيير العالم).
***
وختاما، فلعل الولع بالإحساس، أو بالفكرة ، بدل النظرية التي لا تصير شكلا من أشكال الدرس أو أن تكون “شكلانية مضادة ” … كما أن الاعتماد على الترتيب والقطع والربط والانتقال أن يجعل الفقرة مرتبطة بما قبلها وما بعدها وتقترب كثيرا من الذهنية أو العلمية … (عمل النقد الحديث، على إقامة تعارض صارم بين النص العلمي والنص الأدبي . وأكد أن الفرق فيما بينهما قائم في أن الأول يتجنب التعدد في المعاني، فيما أن الثاني يتعمد العكس، أي التعاطي معها ومع ظلالها، مثلما يتعامل مع الخطأ والتلميح والتناقض وعدم الحسم والصمت وتحويل لمجرى التنظير لكي يصير انقلابا أدبيا وخلط للنظرية أو تحريف لها ).
لكن مع ذلك، يمكن القول إن الكتابة الأدبية المستلهمة للفكرة انطوت في نماذجها الناجحة على عُمْقٍ، ليس مفتعلا وممعنا في اللامعنى والتجريد . كما أنها كتابة تشهد على أصالة أصحابها وعلى ثراء تجاربهم.
وعلى أي، تبقى الكتابة المستلهمة للفكرة والمشتغلة على المفهوم، كتابة “مشروعة “، في كثير من الأحيان مادامت لا تستخدمها سلاحا تسدد فوهاته إلى وجوه كائنات هذا العالم، الفاغرة، كأن أصحابها من قوات مسلحة مبهمة.. (ثم ليس العيب في الصدور عن نظرية، بل العيب هو التمركز حولها والنظر للعالم من خلالها واعتبارها، ضمنا، هي الأحق والأجدر بالواجهة والصدارة والقمة، وأصحابها هم أصحاب الامتياز والواجهة).