اتسعت دائرة الظهيرة, وغادر سرب من طلاب الجامعة العبارة القادمة من الشاطئ البعيد لـ(شط العرب) مغمورين, بوهج الشمس المتقدة.
احتشدوا في الممر الضيق لمرسى العبارة, ثم خرجوا الى الشارع الأسفلتي, بملابسهم الموحدة, وتفرقوا باتجاه الرصيفين إثر مرور سيارة عابرة, ثم عادوا فانتظموا في كتلة رمادية متراصة متجهة إلى فم الشارع.
كانت تنطلق من الكتلة السائرة كلمات متناثرة عالية تصحبها ضحكات ساخنة عابثة.. تفرقت الكتلة الرمادية عند نهاية الشارع الأسفلتي المؤدي الى معبر الجامعة, بعد حين, كانت العبارة تقل حشدا قادما من جانب النهر الآخر, توزع في أركانها فتيان وفتيات يتحدثون ويضحكون ويهتزون باهتزاز الهيكل الحديدي العريض بأمواج النهر, كانت العبارة تتجه الى ساحل النهر الصخري, وتقترب من الجسر الخشبي للمرسى, جرفت العبارة أمواجا لامعة, جعلتها كرة الشمس النارية أكثر توهجا واندفاعا نحو الصخور الخضر في الحافة التي يغمرها ظل الجسر, حيث تنطفئ ألسنتها ويخمد أوارها.
اقتربت العبارة العائمة من الجسر, وانطبقت حافتها على حافته, وأفرغت حشدها باتجاه الساحل, في حين هرع رجلان ليربطا هيكل العبارة بأوتاد حديدية على جانبي الجسر.
بدأ صخب الموجة الطلابية يرتفع وتتلاحق أصواتها وتتداخل, نازلة الى رصيف الشارع المظلل بالأشجار, واقتربت من تمثال الشاعر (السياب), انفصل عن الكتلة الرمادية اثنان, فتى وفتاة, عبرا الطريق الأسفلتي اللاهب الى الرصيف المقابل, مبتعدين عن الظل البرونزي للشاعر المنتصب إزاء النهر, وعن الظلال الشجرية التي تختلس من قرص الشمس الناري فسحة تطرحها تحت قدمي التمثال الثقيلتين بالانتظار والصمت, قالت الفتاة:
– (أنتأخر حتى المساء هذا اليوم أيضا?)
– (لدينا أشياء كثيرة نقولها)
همست الفتاة:
– (ظهيرة أخرى, ومساء آخر, يوم يمضي وغد يأتي.. اليوم خميس وغدا الجمعة, لا بأس.. أحبيني.. أحبيني.. كل من أحببت قبلك ما أحبوني..)
أكمل الفتى:
* (ولا عطفوا علي.. ترف شعورهن علي.. تحملني إلى الصين.. آه.. السياب أيضا).
* (ما زلنا في مدار التمثال)
* (دعينا نبتعد).
كانا يمشيان بتؤدة على البلاطات العريضة للرصيف الذي لم يكن يكسوه سوى اللهب المتسلل من وريقات الأشجار المتشابكة حتى مسافة بعيدة تحت أقدامهما, توغلا في الممر الشجري للكورنيش المهجور في هذه الساعة من الظهيرة.
قالت الفتاة:
* (ابتعدنا كثيرا.. أين الآخرون?)
* (تفرقوا وذابوا.. لا شيء يصمد في وجه هذا الأتون).
* (أبينهم من توغل بعيدا مثلنا?)
* بعضهم يهوى مثلنا هذه المغامرة)
* (أين الشجرة يا آدم? قد يسبقوننا إليها)
* (أي حواء.. إن الخوف يشل أيديهم, ألديك شجاعة كافية لأن نمضي?)
* (لا أدري.. دعنا نهبط إلى الساحل الصخري..)
* عبرا الشارع الى الرصيف المحاذي للنهر, وهبطا بخفة سلما حجريا متآكلا, ولامست أقدامهما شظايا صخور الشاطئ المكسوة بطلاء صمغي داكن الخضرة, أقعيا على حجر مستو, صقلته الأمواج وحشائشها العائمة, وحفرته الكائنات النهرية بدأب الليالي المتوالية, همست الفتاة:
* (الظلال هنا أكثر برودة)
* (ظلال كثيفة حتى ليكاد يتلاشى الخوف هنا)
مررت الفتاة أصابعها على ثنايا الحجر وزواياه التي انحسرت عنها المياه:
(أشعر بهذه الصخور المرمية تنزف دما أخضر. إنها وحيدة هجرتها قبضة النهر, يا له من عري أخضر صقيل.. ألمسها.. ألمسها.. ألمس الصخر العاري)
* (أو تعرفين كم لها من السنين?)
* (أتعرف أنت حقا عمرها? أن أباها النهر لم يفكر بتسجيل ولادتها, تركها عارية منذ فجر ولادتها).
كان حفيف النهر ينتهي عند مسافة من الشاطئ, وموجاته تتراجع كسيرة حافية, سوى من بريقها الماسي, وكان الاثنان يحميان عيونهما من هجمات انعكاسه الشديد عليها, قالت الفتاة:
* (سترتفع المياه بعد ساعات وتغمر هذه الصخور)
* (ستغمر الساحل كله).
* (يا لها من حركة مستمرة. إني أشعر بسفينة تمخر بعيدا, هناك, في خليج عميق هناك, حيث المياه هادئة, والشمس أخف سطوعا, ألا تشعر أحيانا بأنك تغرق في خليج صغير بارد, ولا أحد ينقذك?)
* (نتعرض جميعا لهذا الحلم)
* حلم? أهو مجرد حلم? انه أعمق من حلم يا صديقي, أتستطيع أن تتخيل شيئا هناك? في الضفة الأخرى من النهر?)
* (كوخ صغير, يختفي بين سعف النخيل).
* (وهناك في أعماق النهر?)
حدق طويلا في تجعدات شعرها الناعم الغزير, بينما استمرت في كلامها:
* (آلة, آلة ما.. إني أحاول أن أتخيل شكلها, كمان أثرية, سقطت من باخرة, مرساة صدئة, سيف قديم, ماذا تتصور?)
* (لا شيء محددا, هناك أشياء كثيرة غارقة).
* (آه.. غارقة, كجسدي الذي أتخيله ملتحما بالأفواه الدقيقة للأسماك اللزجة اللحوحة).
ثم نهضت وقالت:
* (سأرمي بحجر إلى الماء, إنها لعبة قديمة من ألعاب الضفاف البعيدة للطفولة).
* (سأرمي أنا أيضا, أحب هذه اللعبة حقا).
رميا بحجرين صغيرين مسطحين إلى الماء, وأعقباهما بآخرين, واستمرا يرميان بالتناوب, وكانت قطع الحجر تغور على مسافات متقاربة, تاركة آثارا بشكل زنابق مائية, تبقى طافية ثم تنفرط وتتلاشى إثر ارتطامها بحافات الأمواج المترادفة, الراعشة بالضوء الشديد الذي يصوب نحو عيونهما سهاما طائشة. كانا يبدوان لشدة التحامهما ككتلة متحجرة, كتمثالين مؤبدين.
قالت الفتاة بصوت خفيض, وخصلات شعرها تنفرط بين أصابع الانعكاس الضوئي المتقلب:
* (لعبة مسلية تنسيك انفعالاتك وتساعد على السيطرة على يديك).
* (أعتقد انك على صواب. هل زال انفعالك?)
* (لا .. لست منفعلة, اني هادئة).
* عادا الى الجلوس على الحجر المنبسط, واستقرا هادئين يحدقان في انسراح الماء وانبساطه, ككف مبسوطة أمام عراف, كانا يلمحان الزنابق الماسية يرسمها ضوء الموج على الكف الخضراء المبسوطة, فيلمحان فيها الأثر الذي خلفته الأحجار الصغيرة التي رمياها. قالت الفتاة بهدوء:
* (إني أقرأ بوضوح.. هل أقول لك ما قرأت?)
* (حسنا.. ماذا قرأت?)
* (رموز متفرقة, ثمة قارب.. وفراش, دماء وصرخة مخنوقة..)
* (يا لها من فراسة مخيفة)
* (اعتقد ان اليد تعدني بالسفر)
* (إلى أين?)
* (لست أعلم, ربما كفك تعلم).
* (كفي خادعة, إنها تنطق بمفاجأة قد تفجر قلبك الصغير)
* (تفرس بها جيدا, لعلك تكون أقرب وصولا الى السر)
* (لا شيء.. لا شيء)
* (إنك ترتعش أمام رؤياك, الخوف في أعماقنا يا صديقي, إنني أراه كهذه الصخور).
* (لا أجرؤ على إيذائك, إنك رقيقة وجميلة, شعرك جميل, يداك, شفتاك, أود أن ألمسك).
* (في ظهيرة أخرى, في مساء آخر).
* (أراك أفضل من قبل).
* (سنغادر الآن, لننه هذه اللعبة).
* (أتأخر الوقت).
* (لنغادر..)
* (حسنا, إذا شئت).
كان لسان الماء يرتفع نحو الساحل الهرم, يمضغ الصمغ الأخضر العالق بالصخور, بدا لسانا غاضبا ساطعا, قافزا هنا وهناك, مس الصخور المرصوفة جميعها بلحسة واحدة, احتضنا كتبهما, وخرجا إلى الرصيف, ومشيا فوق البلاطات التي اتسعت الظلال فوقها, اجتازا الشارع الى الرصيف المقابل, وهناك توقفا قليلا:
* (إني أشعر بانتعاش).
لم تجب الفتاة فورا, لكنها قالت بعد قليل:
* (آه, حقا, كانت نزهة ممتعة)
سارا على الرصيف والشمس تميل حيث جهة النخيل في الضفة البعيدة للنهر. توقفا أثناء سيرهما, كانت اليد المبسوطة للنهر تتقلص رويدا, وتنطبق على الزنابق المرتعشة, قالت:
* (بعد ساعات سيهبط الظلام الرحيم على النهر). عبرت نظراتهما الشط العريض, تبحثان عن شيء ما, عن الزنابق التي إلتهمتها أفاعي الماء.
عبدالصمد حسن قاص من العراق