في أكثر من ثلاثمائة صفحة سرت مع رشاد أبو شاور بمتعة فريدة لأتابع حياة ثلاث أسر في تحولها من الريف البدوي إلى المدنية التي لم تكن مدنية كما يفترض أن تكون عليه حياة المدينة.
مدينة يختلط فيها الحابل بالنابل ، التخلف بالتقدم والتحرر بالتحفظ والتنوير بالعتم ! والانفتاح على العصر بالإنغلاق على الماضي، وأي ماض ؟ ماض لم يوجد إلا في عقول من اتبعوه. ماض ابتدعته قوى ظلامية تفهم الدين على هواها ، وتفسره حسب منطقها الذي يتناقض مع الدين . لتغدو المدينة بلا مدنية ، وبلا هوية تنتمي إلى العصر الذي نعيش فيه ، في غياب منهج حضاري أو مشروع ثقافي ينهض بالمجتمع ولو بالحدود الدنيا من التطور الإجتماعي في كافة مناحي الحياة .
المدينة تزحف بأبنيتها إلى الريف والريف يزحف إلى المدينة لتختلط المدينة بالريف والريف بالمدينة ، لتغدو المدينة بلا مدنية والريف بلا ريفية لتتشكل هوية ضائعة ، لا يربطها بالمدنية إلا البناء الحديث والشوارع والجسور ومقتنيات الحضارة الحديثة . بينما تظل العقول في الغالب على حالها رغم التعامل مع كل ما هو حديث.
أهم شخصيات الرواية :
1- نجمة
نجمة ، فتاة تخطب إلى ابن عمها صخر منذ ولادتها حسب العادات البالية المتبعة ، ورغم عدم موافقة الأم على الخطوبة إلا أن الأب الطيب ( أبو حسن ) يرضخ لطلب أخيه (أبو صخر ) .
وهكذا ترغم نجمة على ترك المدرسة من الصف الثالث الإعدادي رغم تفوقها في المدرسة، لتتزوج من الخطيب الموعود الذي لم تكن تطيقه لجلافته وانغلاقه .والذي يتحول إلى التدين السلفي بعد أن اكتشف أنه عنين وغير قادر على الإنجاب ،في محاولة بائسة للتغلب على حالته، وليلصق تهمة العقم بزوجته لتنهال عليها تقولات الحماة والناس . ولتحيا نجمة في كابوس فظيع وهي مصدقة أنها عاقر.
يوغل صخر في ظلاميته ليتزيا بزي السلفيين ويطيل ذقنه ويغير سلوكه اليومي حتى علاقته بزوجته تغدو أقرب إلى الحيوانية حين يمارس معها الجنس. حتى سماع الأغاني وأصوات الرجال يغدوان كفرا ، ويشرع في الغياب الطويل عن البيت إلى أن يغدو أمير جماعة لاحقا، فيما نجمة تتألم وهي تستمع إلى كلمات الحماة الجارحة :
( معمول له عمل حتى لا يتركها ويتزوج غيرها .. أتريد أن تغشمني عنها وعن أمها رباب وألاعيبهما ) (ص106)
الدموع الغزيرة تسيل من عيني نجمة فتدخل إلى غرفتها وتنطرح على السرير وهي (تضرب بطنها وتنهشه بأظافرها كأنما ترغب في تمزيقة ، وهي تكتم صوتها مرددة : بطن مجدب ، بطن عاقر، بطن يذلني ويكسرني ) ص106)
تترك نجمة بيت الزوجية بعد غياب لصخر دام ثلاثة أعوام.
في بيت أهلها تنعم نجمة بحريتها فتشاهد التلفاز وتستمع إلى الراديو وتتحدث إلى أخيها عصام الذي كان يتعاطف معها باستمرارإلى حد أنها بكت بين ذراعية حين استقبل عودتها.
بدافع من صديقتها سلمى تلجأ نجمة إلى فحص نفسها ليتبين لها أنها امرأة سليمة وطبيعية وليست عاقرا على الإطلاق .
بعد عناء طويل ورفع قضية في المحكمة تتمكن نجمة من تطليق نفسها من صخر لتتابع دراستها وتدخل الجامعة.ولتوافق لاحقا على الزواج من سامي شقيق صديقتها سلمى العائد من ألمانيا بعد أن ترك طليقته الألمانية مع ابنه وابنته .
2- وطفاء
وطفاء ، شقيقة صخر فتاة طموحة . شجعتها نجمة على متابعة الدراسة . تابعت دراستها إلى أن دخلت الجامعة ، وهجرت بيت أهلها لتسكن في سكن الجامعة . وأصبحت
صديقة لسلمى أيضا .تعرضت لأول هجوم من صخر ، أنقذها منه الناس بعد أن نالها بضربات وجراح بالغة .. الهجوم الثاني كان بحامض الكبريتيك (ماء النار ) وهي تعد لتقديم اطروحة الدكتوراة في علم الإجتماع ، كان المعتدي أحد أتباع صخر الذي غدا أمير جماعة سلفية . أصيبت بحروق في وجهها وعنقها وسلمت عيناها .
في مشهد مؤثر يصف رشاد دخولها إلى الجامعة بعد خروجها من المستشفى ،مع الدكتور يونس الذي ستتزوج منه . سأورد مقتطفات منه :
( حشد من طلاب وطفاء وزملاء نجمة وطلاب يونس تجمع قريبا من البوابة وفي الممرات تحت اشجار السرو ، وأخذوا في التصفيق والتفوا حولهم ، ومضوا كأنما يزفون يونس ووطفاء ..
أطلقت احدى الفتيات زغرودة بينما ارتفع صوت أحد الطلاب هاتفا بمرح : يحيا الحب .. يحيا الحب).( ص 299)
تشعر وطفاء أنها أمام زفاف لم تحلم به :
(مضى الحشد مصفقا باتجاه قاعة نقاش اطروحة الدكتوراة ، بينما راحت طالبات يرشقن وطفاء ويونس ونجمة بما أحضرن من باقات الورد) (ص301)
يعبر الدكتور يونس لوطفاء عما كان يتخوف منه أن تفقد بصرها جراء الإعتداء ، فتضغط على يده وهي تقول :
( كنت سأرى بعينيك يا حبيبي ، كنت سأرى بعينيك ، أما كنت ستعوضني عن فقدان نظري فأرى بعينيك)؟!
وقد اتخذ رشاد من هذه العبارة عنوانا لروايته .
( تشابكت راحتا يديهما وهما يمضيان بخطى متناسقة معا بين الحشد باتجاه قاعة نقاش الأطروحة .) (ص301)
(إلى القاعة تتقدم وطفاء بخطى ثابتة وحولها الحشد بعد أن رفعت النظارة السوداء عن عينيها وردت شعرها إلى الخلف وهي تضغط أطروحتها على صدرها .. وترفع رأسها وقد أظهرت صفحة عنقها التي تشوهها الحروق ، غير آبهة بنظرات الشفقة ، ولا باحثة عن التعاطف ،بثقة بأن المستقبل ينفتح أمامها ، هي التي قطعت مشوارها بعناد وجد ) (ص 302)
بهذه الكلمات المعبرة تختتم رواية رشاد . ستسير الحياة إلى الأمام بإصرار وعناد رغم أنف الظلاميين وخناجرهم المشرعة في وجه التحرر ومياه نارهم الحارقة .
3- سلمى
سلمى الصيدلانية صديقة الجميع : نجمة ووطفاء وعصام وغيرهم .تعيش حالة قلقة بعد أن عادت بابنها (محسن) وابنتها (زينب) من ألمانيا للتعرف على وطنهما وإجادة لغته التي شرعا في تعلمها في ألمانيا . لكنهما لم يعودا قادرين على احتمال الحياة بعد أن شاهدا مشهدا أثار فيهما الهلع اثر قيام أحدهم بذبح اخته بخنجر حين كانت تجالس صديقا لها في مطعم . مما أدى إلى هرب محسن إلى القنصلية الألمانية ليعود إلى وطنه الذي ولد فيه ( ألمانيا ) . ولترغم سلمى على تسفير ( زينب ) لتلحق بأخيها وأبيها في ألمانيا ، بعد أن ساءت نفسيتها في موطن أمها وأبيها .
تعبر عن قلقها لنجمة قائلة :
( كثيرا يا نجمة – تقصد متعبة – أنا تقريبا لا أنام . استيقظ وأنام وأنا أقلب الأفكار في رأسي . كل ما خططنا له ينهار ، ويضيع . أردنا إنقاذ محسن وزينب ، وها نحن نفقدهما ) ( ص286)
4- صخر
صخر الذي غدا أميرا لجماعة من السلفيين كان فاشلا في دراسته . جلفا ، غليظا ، متخلفا إلى حد غير معقول . إضافة إلى أنه غبي ومنافق وكذاب ! كذب على زوجته (نجمة ) وألصق تهمة العقم بها . وراح يظهر أمام الناس بزي ديني أبيض ولحية طويلة جدا ليخفي زيفه وتخلفه ، غير أن معظم من عرفوه ابتعدوا عنه بعد أن اكتشفوا أمره .
تزوج صخر سرا من امرأة أنجبت سفاحا من رجل غيره بالتأكيد ، وحين غاب عنها كما غاب عن نجمة رفعت عليه دعوى نفقة لها وللطفل ابن الزنى ، وكسبتها !! جن جنون صخر حين علم ولم يكن أمامه إلا الاختفاء ليتذرع بالجهاد في سبيل الله ، وربما في أفغانستان !!
ضمت الرواية أكثر من عشرين شخصية، يأتي معظمها لضرورات الروي واستكمال رسم المناخ الذي تدور فيه الوقائع .كالآباء والأمهات والاخوة والمعلمين والمعلمات وغيرهم .
ومعظم هؤلاء الأشخاص طيبون . قد نستثني بعض الشخصيات النمطية كأبي صخر الرجل التقليدي النمطي ، وأم صخر النمامة القاسية والحاقدة إلى حد ما .
يأتي في مقدمة هذه الشخصيات عصام الذي كان يتعاطف مع شقيقته نجمة ،وقد تابع دراساته العليا حتى غدا محاميا ناجحا ، وتولى مكتبه دعوى طلاق نجمة من صخر .
إن معظم الشخصيات الشابة في الرواية تسعى إلى التحرر وفهم الدين بعقول منفتحة
وهي تسعى لحمل ثقافة تنويرية بعيدا عن التكفير والظلامية والتعصب الأعمى التي يمثلها في الرواية صخر وجماعته التي لا تظهر إلا للقتل أو للنصح بارتداء الحجاب وعدم سماع الموسيقى والذهاب إلى السينما وحتى عدم سماع صوت الرجال ! إن عالما يحكمه هؤلاء القوم ستكون جهنم أفضل منه !
إن رواية رشاد هي صفعة للتخلف الثقافي الذي نعيشه في غياب مشروع نهضوي ثقافي ينتقل بالمجتمع إلى العصر الذي نعيش فيه . وهي بالتأكيد نصرة وانتصار للمرأة وحقوقها المستلبة في مجتمع ذكوري متخلف يضطهدها ويتنكر لحقوقها .وآمل من اتحاد المرأة الأردنية والفلسطينية بل والعربية أن يتبنى الرواية ويطبعها بطبعة رخيصة ويعممها على النساء بسعر بسيط .
* البناءالفني في الرواية .
آن الأوان لأن أتحدث عن الشكل الفني في الرواية بعد أن أتيت بما تيسر عن المضمون .
كما هي عادته في معظم كتاباته التي قرأتها لا يلجأ رشاد إلى أساليب معقدة ، فهو يكتب بأسلوب مبسط تمكن منه عبر تجربته الطويلة مع الكلمة . فالوقائع تسير بشكل تصاعدي والشخصيات تتكشف لنا عوالمها عبر تتابع الأحداث وتقليب الصفحات . غير أن رشاد زاد من التبسيط هذه المرة بأن اعتمد التقطيع المشهدي . فكلما تغير المكان والزمان انتقل رشاد إلى مشهد جديد . ويندر أن نجد تغيرا في الزمان والمكان والحدث بتغير المشهد ، ربما في فصول لا تتجاوز أصابع اليد .
هذا التقطيع المشهدي شبه السينمائي وإن لم يكتب بلغة السيناريو السينمائية سهل القراءة أمام القارئ بحيث جعله يتنقل بسهولة من مشهد إلى آخر دون أن يشعر بأية أعباء جراء القراءة . فبعض المشاهد لا يتجاوز الصفحة ونصف وأطولها لا يزيد عن سبع صفحات .
هذا التقطيع المشهدي أدى إلى أن تكون الرواية في سبعة وسبعين مشهدا ، بسبعة وسبعين عنوانا إذا استثنينا بعض المشاهد التي يمكن أن تعتبر فصولا لاحتوائها أكثر من مشهد ، وهو في الغالب يتعلق بشخصية واحدة تنتقل من مكان إلى مكان لتتابع شأنا من شؤونها .
لم يلجأ رشاد إلى ترقيم المشاهد ، فهذا التعداد الرقمي تم من قبلي . هناك مشهد واحد حمل رقما وهو المشهد الأول حيث حمل الرقم واحد ولم تتكرر الأرقام بعد ذلك . وإذا كان هذا الرقم يشير إلى فصل ‘ ففي الإمكان القول أن الرواية كلها كتبت بفصل واحد !! وربما
كان رشاد ينوي ترقيم المشاهد أو الفصول ثم تخلى عن ذلك في ما بعد وظل الرقم دون حذف .
عنونة المشاهد سهلت على القارىء تتبع أحداث الرواية ، فهي معظمها تشيء أو تفصح عما يتضمنه المشهد من حدث ، كما في المشهد الأول (ولادة نجمة ) والثاني (دفن حبل السرة والمشيمة) . وثمة بعض المشاهد لا تشي عناوينها بشكل مباشر عما يتطرق إليه المشهد ك (غبار ) و(على ظهور العيس ) و( تقريبا ) وإن كان المشهد يتضمن شيئا مما يوحي به العنوان .
لغة رشاد مبسطة ، سهلة ، مكثفة ، ليس فيها أي تكلف على الإطلاق ، يقول ما يريده بأبسط الكلمات وأقلها ، مما يجعل القارئ يتابعها بسهولة ودون أي عناء ، متتبعا الأحداث المشوقة والمؤثرة . من لحظات انسانية تحمل دفء الحب ولحظات غير انسانية
( عدوانية ) تقشعر لها الأبدان وتشمئز منها النفوس . ونظرا لأنني انسان عاطفي جدا
فقد كانت الدموع تترقرق في عيني وأحيانا تنزلق على وجنتي في بعض المشاهد الإنسانية المؤثرة كدخول وطفاء إلى الجامعة بعد حرق وجهها وعنقها بمياه النار .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* رواية . رشاد ابو شاور . دار الآداب . بيروت 2013