عشية موت ألبير كامو، صاحب جائزة نوبل للآداب سنة 1953، كتب له سارتر هذه الكلمات:
مضت ستة أشهر، كما مضى الأمس، كان فيها كامو ممزقا وسط تناقضاته -التي علينا أن نحترمها-واتخاذه للصمت خيارا. في العادة وقبل أن يتحدث لم نكن نجرؤ على المخاطرة بتوقع ما سوف يقوله. كنت أعتقد أنه مثل عالمنا سوف يتغير، لكن هذا الاعتقاد كان كافيا ربما كي يظل وجود كامو حيّا وذكره قائما.
لطالما كنت أنا وهو مختلفين وعلى خلاف أحيانا. رغم أننا لم نلتق كثيرا، إلا أن هذا الخلاف لم يكن غير طريقة أخرى للعيش مع بعض، دون أن نحجم -إذا ما التقينا-عن النّظر إلى بعضنا وسط هذا العالم الصغير الممنوح لنا. هذا لم يكن ليمنعني من التفكير فيه، عبر استشعار نظراته من خلال صفحات الكتب أو الجرائد التي يطالعها، كأني به يقول: “ماذا تقول عن كل هذا؟ ماذا تقول عنه في هذه اللحظة؟”
أحيانا ومن خلال الأحداث التي مرّت اعتبرت صمته متعقلا، وأحيانا أخرى من خلال مزاجي الخاص بدا لي ذلك الصمت مؤلما. ربما هذا ما يمتاز به كامو، وككل يوم، يمثل شيئا من النور والطاقة، ويظهر كل ذلك بشكل “إنساني بحت”.
سواء كنّا ضد أفكاره أو معها، خصوصا تلك التي اكتشفناها في روايته “السقوط” -التي اعتبرها الأجمل والأقل استيعابا في رأيي من طرف القرّاء-لكنها تعتبر دائما مغامرة مختلفة عمّا عهدته ثقافتنا عبر أفكاره. هي حركةٌ نحاول التخمين في مراحلها لغاية مداها النهائي.
يمثل كامو في هذا القرن، باعتباره أحد المواجهين للتاريخ، الوريث الأبرز لطابور طويل من الواقعيين، ممن شكّلت كتاباتهم -على الأرجح-أصالة الكتب والرسائل الفرنسية.
ساهم تياره الإنساني (العنيد والواثق والصافي والمتزمت وكذا المحسوس) في نقل معركة ضارية ضد أعظم أحداث الحقبة التي نعيشها، رغم غرابتها وتشوّهها أحيانا. وعلى العكس، فمن خلال عنّاده عندما يرفض أي شيء، أعاد كامو التأكيد أنه ضد الميكيافيلية، وضد “العجل الذهبي” للواقعية، وضد الاعتقاد بما يعرف بـ “الحقيقة الاخلاقية”، وبتعبير آخر كان كامو المعنى الحقيقي لكلمة الإصرار الذي لا “يتزعزع”.
بالنسبة للقلة ممن قرأوا له، أو تمعّنوا فيما كتب، قد يصطدمون بالقيم الإنسانية التي كان يحملها، بل ويدافع عنها بيد من حديد لا لشيء إلا لاختلافها.
كان يضع العمل السياسي موضع المساءلة، ولطالما قال إما أن تطويه (أي هذا العمل السياسي) أو تجابهه.
كان لصمته في السنوات الأخيرة، مظهرا إيجابيا، كأن بهذا الارسطي غير المعقول يرفض أن يغادر الميدان الحقيقي للأخلاق، ليقتحم الطرق المبهمة لما يعرف بـ “الممارسة”. هذه الممارسة التي توقعناها، كما توقعنا أيضا الصراعات التي ساهم في وضع حد لها. لأن الاخلاق في حدّ ذاتها تستدعي “ثورة” و”إدانة” في الآن نفسه.
كان علينا أن ننتظره، كما انتظرناه طويلا…كان علينا متابعة ما قدّمه أو انتظار ما سوف يقدّمه.
لم يتوقف كامو أبدا عن مواصلة تقديم تاريخ فرنسا والعصر الذي نعيش فيه بأسلوبه الخاص. وغاب عن وعينا أنه صاحب تيار ليس من السهل أن نفهمه. كان ولا يزال إحدى القوى الفاعلة والأساسية في مشهدنا الثقافي بأكمله.
بعد أن قدّم أعماله الأدبية، سجّل كل شيء تقريبا لكن الكثير أيضا لا يزال ينتظر. لطالما ردّد: “أعمالي الأدبية هي بالقرب منّي على الدوام”، كأن بالأمر انتهى مع هذا الاعتراف.
إن رحيله يعتبر بالنسبة لي فضيحة “خزي”، إنه نوع من الإلغاء الإنساني والاستعاضة بآخر غير إنساني!
الأمر بالنسبة لكامو أشبه بما يلي: من النادر ما تكون مميزات أي عمل أدبي (كعمل كامو) طريقا لإقناعنا بأن كاتبه سيظل حيا (في الواقع).
الحادثة التي تسبّبت في موت كامو، لا يمكنني نعتها إلا بـ “الفضيحة”، لأنها أظهرت عبث مطالبنا ورغباتنا العميقة.
قبل الحادثة، تعرض كامو وهو في سن العشرين بشكل مفاجئ إلى ألم غيّر مجرى حياته. اكتشف من خلاله عبثية الوجود، اكتشف خدعة الإنكار الإنساني. جعله الأمر يفكر في هذه العبثية وشروطها القاسية، كي يفرّ بعيدا عن الألم برمته.
كتاباته الباكرة كانت وحدها الكفيلة بإخبارنا عن حقيقة حياته، لأن المرض الذي شفي منه عبر الكتابة جاء الموت غير المتوقع لينهيه وينهي حياته بأكملها.
الفضيحة الحقيقية هي بقاء ذلك السؤال، الذي لم يسأله أحد لكامو! هو ذلك الصمت الذي أمسى في نهاية المطاف لا شيء.
لم أكن أصدّقه حينما يظهر في العلن. لكن الشيء الإنساني في كامو يمسي جزءا من “الإنسانية” بمعناها العام. عندما تنتهي حياة رجل -وشاب مثله- فكأن الأمر أشبه بأسطوانة قد تعرّضت فجأة للكسر.
على من أحبوه أن يدركوا أن في أعماق كامو عبثية لا تحتمل. وعليهم كذلك معرفة أن أعماله التي تشوهت بالموت، هي في الحقيقة أعماله المكتملة.
المصدر:
https://bibliobs.nouvelobs.com/essais/20120111.OBS8521/camus-par-sartre.html
Jean-Paul Sartre (Texte publié le 7 janvier 1960 dans « France Observateur ».)
ترجمة: محمد فتيلينه*