كانت الدنيا ساعتها تمطر شدني من ذراعي بقوة لنبتعد عن المكان وعن المطر حتى لا يرانا أحد ونحن نحملق في هذا المكان. والمطر يزداد غزارة. كان ممسكا بذراعي بشدة لم أكن أشعر به فقد شلت حركتي. وتفكيري منصب على المنظر الذي رأيته أمامي. كيف يقولون إنها غادرت وهي هنا ومعها طفلها؟.. كل ما قيل كذب. لماذا يقولون أن الطفل مات. وهو بين ذراعيها، أخبرني كيف ذلك؟ أنا متأكد أنها هي أني لا أخطئها حتى لو كانت بين ملايين الناس. سرنا مسافة طويلة أو هكذا أظن. فلم أشعر بجسدي وهو يرتمي على أحد مقاعد المقهى. ولكن ما جعلني أصحو، كأس الماء الذي دلقه صديقي على وجهي مسحت وجهي وأنا أستعيد المشهد الذي مر بي منذ لحظه أو لحظات. أنا متأكد أنها هي. أجابني صديقي وهو يتناول وجهي: أجل أنها هي والطفل الذي بين ذراعيها هو ابنك عمر. ردت في ذهول عمر! أجبني: أجل اسمه عمر، وعلا لم تسافر أبدا إلى أي مكان. تمتمتُ في ذهول وعيناي تذرفان الدمع:إذا كيف قيل لي انه مات وهو على قيد الحياة؟. رد علي وهو يجلس بالقرب مني:فعلوا ذلك لكي يبعدوك عن علا. أطبقت على يده متوسلا:أرجوك خذني إليهما. حاول تهدئتي ، لكني أصررت عليه. أمسك ذراعي من جديد، وقادني إلى ذلك المكان. وقتها قد توقف المطر. كنت قد رأيتها منذ لحظات تدلف إلى ذلك المبنى الكبير ،لكني لم أكن أعرف. نفضت راسي. نظر إلي قائلا هل متأكد أنك تريد أن تدخل إلى هذا المبنى والصعود إلى هناك؟. أجبته: أجل يكفي أنني تعذبت كل تلك المدة. حاول نصحي ومنعي من المجازفة.. ولكني أصررت على الذهاب. صاح بي وأنا أصعد الدرج: لن أدلف معك إلى الداخل ولن ألحق بك ،حتى ولو حدث لك شيء تذكر ذلك. كانت كلماته تختفي وأنا أصعد الدرج. كان المصعد لا يزال مغلقا انتظرت طويلا ، مما اضطرني لصعود الدرج. متأكد أنها رأتني وأنا أقف مذهولا. كنت قد توقفت عند صفين من الشقق كلها متشابهة لم يكن عليها أي أسماء عدا أرقام كانت مكتوبة. حاولت أن أعرف رقم الشقة التي تسكنها. لا تزال كلمات صديقي ترن في أذني عندما خرجتُ من السجن أخبرني أن زوجتك تم تطليقها من قبل المحكمة، لأنها لا تعرف عنك شيئا، فقد كنت غائباً سنة ونصف. والآن مر على خروجي شهر كامل دون أن تدري. لكن كان عليها أن تنتظرني قليلا لتعرف سبب غيابي كل تلك المدة. رغم أنها كانت تعرف أنني كنت مسافرا للخارج لإكمال بعض الأبحاث العلمية. وهناك حدثت لي مشكلة لم يكن لي يد فيها وتم حبسي على أثرها عاما ونصف. تجرعت تلك الأيام بمرارتها ليكتشف بعد ذلك أنني بريء من التهم المنسوبة لي… فجأة قطعت حبل أفكاري وكتمت أنفاسي وأنا أسمع بكاء طفل ينبعث من إحدى الغرف المقابلة، تتبعت الصوت وقلبي يخفق بشدة وتمنيت أن يكون هو صاحب هذا البكاء العذب. عمر شمعتي الأولى التي لن تنطفئ. اقتربت من الباب وطرقته بحذر وقلبي يخفق بشدة لكن دون جدوى لم يفتح أحد كدت أيأس لولا صوت صرير الباب ينفتح بخفة. أجل أنه أخوها عمار أنني أعرفه من خلال عينيه الثاقبتين وجثته الضخمة. حاولت أن أدفع الباب وأنا أصيح فيه أن يفتح لي لأرى علا وعمر. تعبت و خرجت من ذاك المكان غاضبا استقبلني صديقي عند بداية المصعد:ماذا حدث هل وجدتها؟ أطرقت رأسي لقد عرفت أين تسكن. رد علي إذا رأيتها وتحدثت معها أليس كذلك. صرخت في وجهه: لا أنها لا تزال تسكن هنا ولم أرها لكنني رأيت أخاها وهو يوصد الباب بجثته الضخمة وسمعت بكاء عمر الذي قد شطرني إلى نصفين. وهنا بدأت عيناي تضيقان وبدأت دموعي من جديد تغسل مرارة الأيام. من جديد جذبني صديقي من ذراعي قائلا: هوّن عليك لابد وأن هناك طريقه لإقناع علا بالتحدث معك.
أجبت وقد تحمست للفكرة: أتعتقد أن هناك أملاً في رجوع علا وعمر إلي؟. هز رأسه بالإيجاب قلت له وأنا أنظر إلى المبنى: إذا لنحاول ثانية وتكون برفقتي هذه المرة ابتسم بخبث وتأبط ذراعي قائلا: اسمح لي هذه المرة أن أتدخل إذا لزم الأمر. ابتسمتُ وتأبط ذراعه وصعدنا معا إلى حيث الشقة طرقت الباب وكلي رجاء أن يفتح الباب لم يطل بنا الانتظار فقد خرج عمار بجثته الضخمة صارخا في وجهنا: ماذا تريدان؟. أمسكت أعصابي ورددت عليه ألا تعرفني.. أنا عدنان زوج… قاطعني في صرامة أنت.. ألا تفهم علا ليست زوجتك الآن. رددت في ارتباك لكنني لم أطلقها برغبتي… قاطعني مرة أخرى في صرامة:ماذا تريد الآن؟. قلت وقد وجدت الفرصة مناسبة:أريد ابني الذي ادعيتم أنه مات وهو لا يزال على قيد الحياة. أراد أن يقول شيئا لكن سمع صوت علا من الداخل تقول: دعه يدخل يا عمار ليرى ابنه. هنا لم أتمالك نفسي من الفرح. نظر إلينا عميقا ثم أشار إلي بالدخول ارتبك صديقي لكنني أمسكت يده ودلفنا إلى الداخل هناك كانت تقف وفي يدها تحمل الصغير كما لو أنني أراها لأول مرة وقفت مشدوها لفترة قبل أن تقول لي في برود: هذا ابنك عمر. اقتربت وأنا أراه لأول مره جثوت وأنا أفتح ذراعي إليه يأتيني لأحتضنه وأحتويه لحرماني إياه مدة تلك الفترة ،أحمله لأول مره نظر إلي باستغراب لكنه لم يبك كبقية الأطفال بل أخذ ينظر إلى عيني اللتين اغرورقتا بالدموع احتضنتهُ في قوه وقبلته في حرارة ، وهنا أخذ بالبكاء فبكينا معا وغفلتُ لبرهة مع الصغير أعوض الحرمان الذي افتقدناه معا. ما هي إلا لحظات ووجدت علا تنظر إلي وقد جثت بالقرب مني: هل ما يقوله صديقك صحيح أنك كنت بالسجن طيلة تلك الفترة نظرت إليه في ابتسامة ثم التفت إليها قائلا أجل.. إن كنت تريدين معرفة الحقيقة. هزت رأسها بالإيجاب هنا شعرت أن كل شيء سيعود كما كان وأن الأمور تسير لصالحي. وبدأت أسرد قصتي منذ البداية ووجدتهم ينصتون إلي في اهتمام عندها وجدت عمار يصافحني في حرارة ووجدت صديقي يربت على كتفي مهنئا، بينما أخذت علا تلاعب الصغير ودموع الفرحة تغسل وجهها الجميل. نظرت إليهما في فرح وحمدت الله انهما قد عادا إلي وشعرت بالفرح كدولة أعيدت إليها أمجادها.
نادية العبد السعدية
كاتبة من عُمان