شكل آخر من الشرود
حين عدت للوقوف أمام المرآة .. لا مسافة لي قبل او بعد تلك المسافة .. شعور غريب كأنني لم أعرف من يقف أمامي بخجل محارب منكسر مهزوم …
إذن زمن حرب متأججة ، كان الساحل محتجا على أشرعة ممزقة، صوت أخافني قادم من بعيد يشبه صوت فرامل قطار عتيق عائد من هناك من خلف جبل الموت هكذا يطلقون على تسميته ..
العويل اسم بديل ولأني لا املك طريقا أخر للنجاة إلا صوب البحر .. ولم اره الا في مرآتي هذه ، مرآة زارها الندى كحلم قصير يغرق الصور والرغبات .. يرعبني ذلك العويل القادم والمشدود بقوة على مسمعي كنشيد متواصل من الموج الهائج ..
رأيته في مرآتي متعب …
حيرتي تحفر جبيني سواقيا للتعرق وأنا أرقبه وحوله الطيور المجتمعة اسرابها والمتهيئة للرحيل .. كانت ريح على ظهر البحر تدفع الأبواب كلها .. فيلملم صيادون الساحل شباكهم الخائبة وحكايات السفن العاشقة للرصيف والمثقلة بالذكريات .. بقيت أبحث عن السلالم المؤدية إلى فنارات عالية لأرقب ما يخبئ الأفق البعيد من زوارق تائهة. كانت نظراتي تزحف من فوق نحو الغرباء الذين يقلبون المصاطب الباردة ويرتدون دفء الوصول الى أمكنتنا العتيقة .
احدث نفسي كعائد من شرود قديم كاد يفقد عقلي ، فمنذ بدء العصور وانا أُشرع ببناء نظاراتي واقتادها نحو زروقي الصغير متلثما بصمتي وأنا أشم رائحة البحر . وأقتل الوقت بالانتظار …
وفي ساعة ليست للنسيان كان الموج الهاجم يغسل جنازات بعض من ذات الطيور التي فرت من سماء الحرب فتوارثت شيخوختها .. جنب زورق محطم ، أغرق تأملاتي من أن الساحل جواز للرحيل وللذكريات وأن الرصيف الهادئ جعبة لأوراق قصائد حب قديم . وحنين للابحار يجرني بخطوات عنيدة عناد الشراع الممزق لرغبة الريح . حينها مجرد فكرة ساذجة حضرت على عجل أخذت تطاردني ان احمل تمردا على اكتافي في ساعة ما وانا ارقب السفن القادمة من موانئ بعيدة .. وسؤال شاحب يهتز في راسي ..
ايهما أكبر تحديا للبقاء ؟
الساحل أم عويل البحر ..
أفتح مظلة شرود أخرى ، ألملم ( قوانات ) رصاصات فارغة كان قد أطلقها المارون من هنا بمزحتهم ،
فترقد اجابتي جمرة زارها المطر والموج معا ، لأتلثم مجدداً بعزلتي المكتظة بالضجيج في عراء صمتي لا لشيء فقط لمجرد أن الحيرة تسبقني وهي تودع سنين ضائعة تسربت الى عمق البحر …
كأنني أضع نقطة لأخر الكلام والتأمل على سطري الأخير وفي محاولة أخرى يائسة وكعادتي أبدأ بصفحة بيضاء جديدة لم يبللها حبر أمنياتي بعد …
من ذات الصمت تتثعلب أفكاري وتجنح هرباً من ذات المرآة التي تحنطت قامتي أمامها فيما مضى ، أنبش ذاكرتي المهدمة مراراً يسبقني الظن ان البحر تتسع جدرانه فأرقب الوقت بعينٍ يقظة ، ابحث عن مخفى لأتلصص على تلك الوجوه المقنعة الغريبة الجالسة على مصاطب الساحل وهي تحاول افزاع الطيور التي نجت من الموت .. برصاصات باردة .
ادفع مجدافي في موج ذاكرتي وأعلق بحلم جديد في شباك الصبر لأحمل حسرتي بسنارة صياد جرحه الانتظار لم يفلح بصيد وفير، هرباً أدفع خطواتي إلى ثلة الاصدقاء وحكايات صيدهم عبر طريق مقهى شعبي كنا نترك فيه أحلامنا وكتب الدرس الى يوم أخر، اخترق شباكهم ووجوههم المعلقة على جدران تحسراتهم وهم ينتزعون ضحكاتهم الحلوة كنواة من تمرة يابسة ..
تراودني الرغبة ان احدثهم عن فكرة الهروب من عويل البحر الذي أنهكني منذ امد بعيد اسقط في زحمة شجونهم ثم تتبارك الخيبة في نفسي من أنهم لا يدركون أو لا يهتمون بلعبتي أغادرهم بخجل وأعود لخلوتي والموج وانا نرقب بعضنا البعض ، أكشف تحركاتي المخبأة في صمتي له وأرقب موته وهو يصطدم بزورقي العنيد، لا يهمني ان يفك قبضته للحبل متخاذلا ..
لم يعد الحال يجدي نفعاً ، دوما كنت مدفوعا إلى حنين الاصدقاء الذين تنقعوا برذاذ آخر موجة .. لكن سرعان ما أتراجع الى عزلتي أتذكر أول يوم عرفنا فيه كيف نرسم البحر في دفاترنا .. ونحن نجلس زمرة في أحضان ظل حائط عتيق في زقاق مهشم الذكريات وتجنباً من ضربة شمس حارقة حين كان زورقي الورقي العنيد يغادرني عبر سواق مزدحمة ببقايا الأشياء محملا بالعناوين البريئة للموانئ البعيدة والتي نستل مسمياتها من كتاب الجغرافيا في المدرسة رغم ان ثمة امر هام آنذاك وانا استقبل انتفاضة أمي وانا ارفع طلبي بملء كفي بالرغبات والحجج لها وهي تصرخ وتبكي وتتوسل بي أن لا أذهب للبحر فيلتهمني بلقمة لا تشبع …
كانت تتمرجح في رأسي افكار واهواء بريئة لكنها صاخبة يعاقبني ابي لأجلها ثم اعود لأفر إلى مساء البحر واسلب تداعياتي منه تراودني فكرة تلك التداعيات تسبقني للصعود لسلالم السفن النافخة ابواقها ظانا ان افاعي البحر تتسلل إلى الساحل ولا تستطيع أن تصل الأشرعة العالية فتبقى تبحث عن اندساس لها بين اشياء عتيقة متروكة عند الساحل .. وهي تنتهز فرصة ليلة يلطخ فيها وجه القمر بغيمة سوداء .
كانت السماء تنزل مطراً اسود والعويل في تلك الساعة الليلية الباردة زئير اسد جائع والموج المتضارب بقوة يثير شيئا من خوفي شعرت ان تأملاتي أمست جثة هامدة ، انتابني شعور أن أبقى بالانزواء وحيدا كنت بحاجة لمحادثة البحر من جديد واحساس ملح يجرني إلى اعماقه اخذني الظن ان العويل يؤثث لي مكيدة خطرة بدأت أصرخ على غير عادتي بوجهه بكلمات كالانصال الحادة الممزقة لروحي …. أصرخ وأصرخ حتى يبست عظامي صراخا ….
ايها البحر كفى عويلاً ..
إفتح لزورقي الصغير طريقاً للرحيل ..
أيها البحر أسكت عويلك المجنون هذا ..
لقد أفزع صراخي طيور البحر النائمة ولم اعد اراهم عائدين في تلك الليلة لقد التهمهم صخب الموج العالي لكني بقيت انتظر .. كان الموج الهائج يضرب اجناب السفن بوقاحة ويركل زورقي العنيد الذي يحاول فك ربط حبله . تولدت لدي رغبة ان اروي الظمأ الراعف في نفسي وأعتلي سرج رحلة متواضعة على متن ذلك الزورق وأتوج توقي سيدا للبحر، امسكت بلجام التحدي رغم أنني لم أجربها من قبل ، كانت افكار عديدة تلاحقني كقروش ذكور…والموج يزيد عناده ويزحف نحو الساحل بوحشية رهيبة يتدافع الموج ذاته يدلق المحن وباصرار مهول أمسك بفانوس عتيق على أمل أن أشق كبد الظلمة في ليلة ارملة كهذه . اشعر بتعرق يجتاحني ودفء في اعماقي كنت اتراءى لآشباح الساحل عنوة وانا اضرب بالمجاديف فكي مارد العويل ونظرة اخيرة سرقتها عيناي .. الى هناك بعيداً ….
يافطة عتيقة تمرجحها الريح تكاد أن تسقط في البحر كتب عليها الرصيف الاول يودعكم كنت أرقب الوقت ساعة الفجر كي ارى تلك الطيور التي تركت اعشاشها بحثا عن امكنة بديلة وانا في زورقي مترنح يأخذني ذلك الموج الذي بدات اشعر به وهو يهادنني على ان يكون وديعا ارقب تحركاته بدقة متناهية حتى انبرى هادئا على سطح البحر لم اشهد بحاله ذلك من قبل ..
حين تواردت في ذاكرتي العودة بعد امد طويل من غياب مرّ عن الساحل ودروب وازقة اغاني الطفولة، ليسوق الحلم الى ما تبقى من عمري الذي بدأت أشك من انه لم يبق منه الا القليل …
عدت من البحر كالمعتاد رغم حاجتي اليه كثيرا، الا ان تكتكات ساعات المدينة عساكر متقدمة نحو الفجر قلقة مثل اشرعة السفن الصغيرة عند الضفة … ومع خطوتي الاولى استذكرت سنارة ذلك العجوز نصف قرن من الزمن وهي تغمز في القعر قصيدة الصيد والحياة …
في تلك اللحظة تسللت الجميلات عاشقات البحر والليل غاسلات ضجر الرجال وعلى رؤوسهن سلال من الحكايات واكوام من الهم ليوم مضى …
تنفس الفجر وطلت اقطاب الابراج ثلاثة ثلاثة تحكي تاريخها البعيد ومازال الرجل العجوز تعتلي نظراته موجة نحو الامل … بقيت أرقبه لم تعد يده قادرة على الامساك بالقوة والمرونة السابقتين اللتين حاكى بهما مارد البحر …
اوشكت الخامسة على التمام وضياء شمس الشتاء يغمز مثل سنارة لتحركات العجوز كان وجهه يعكس بصيصا ضئيلا من السهر زاد من حركة يديه بفعل التعب والسنين التي مرت ، جلس يراقب موجة وليدة كأنه يرغب في الرحيل معها الا ان دلع العاشقات يفيق فيه روح المراهق البليد .. من خلال عشقهن للبحر .. وعلى ضعف بصره استطاع ان يميز خطوات تلك العجوز لتصبح لنظراته جوازا وليمتطي حلمه فرسا اصيلة متعثرة الخطى …
امتلك الفجر نابا ينغرز في ثوبه العتيق لتنتصب ثعابين البحر من تحت زورق أكله الوقت فعجز عن العمل ، لم يبق من وقت ذلك العجوز شيء ، لملم اطراف ثوبه والتقط عصاه وذاكرته المخملية ناسيا سنارته العالقة في سيل مشاعره الخاملة …
عسكر الوقت … محنة البحر تبحث عن عويل جديد ،نفض الرجل لطخة القلق والحيرة عن رأسه وهم بالرحيل لكنه تمهل عسى ان يقترب الزورق المتخفي وراء الافق البعيد، يحمل اسفارا من عمره حين كان في عامه العشرين .. اراد ان يكدس ذكرياته لكي يمرر صور الماضي من … /مقهى الحي/ وحمام /الحاج وبيت الشرطي/ ودكان بيع التبغ المحلي/ ومعمل الغزل اليدوي/ وحديقة البيكوات واشياء اخرى هوست في ماضيه البعيد فتولدت في نفسه انطلاقة اشرعة جديدة .. حاول لأجل ذلك ان يفرز ضربا آخر من الفهم والتساؤلات، بعدما انفجر بركان الحيرة في نفسه، وافكار عديدة تؤرقه كلما اراد ان يتحاشى واحدة تطارده اخرى .. تشمخ الحيرة حول الهرب صوب اكبر الاشرعة، ينهض مسرعا، كانت عاشقات البحر والليل قد سبقنه نحو جناح كوخ للسمر فرحات يلهيهن احتفال تراشقهن بالماء .. صراخهن ومداعباتهن العفوية تجعل طيور النهر تلتقط قش اعشاشها بتأن كبير …ودون ان يدري يقترب اليهن محاولا ان يسألهن عن زورق من عاج عتيق كان قد تركه على الساحل في يوم بارد دون وثاق …
الا ان سؤالا سبق طابور الاسئلة مسرعا …
– ماجئتن تبغين هنا ….؟
قالها باصرار … ضحكن وخرجن من الكوخ راكضات ليتركنه وحيدا يقطر من ثيابهن مطر العذارى …
ازدحمت حركة اجنحة الطيور فوق البحر ، بينما تمسح نظراته الساحل كله، لم يكن زورقه العاجي بين عشرات الزوارق المتراصفة على خطوط الانتظار .. وبين لحظات التأمل جاءت نواقيس الابراج بنبأ الرحيل في ذلك الفجر المشرق بأحزانه … تنبه لنفسه التي تـئـنّ في عزلتها …
* ذهبت اشباح العشرينات، وأطفأ عامل الليل اخر القناديل، ومازال الرحيل في جعبة ملكة النحل …
وفي لحظة ازدحمت الحسرات في صدره ، تسللت المعشوقة العجوز ورمقته بنظره ممتلئة التعابير تحمل خيط بصيص في قبو مظلم، اخترقت زحمته واثارت فيه الارتباك كله، سرح بنظراته نحو فضاء شاسع وخفق قلبه العتيق كعاشق ضال … احس انها تريد محادثته فجند اصغاءه اليها …
– لماذا تضع هموم الدنيا على راسك …؟
* لانني لم اجد قبعة اضعها بدلا عن ذلك …
ثم اخذ في الضحك … اراد ان يهرب من سؤالها مثل لص طريد …
– مازال قلبك رطبا مثل قلب ثعلب، وشفتاك شفتي صوفي متعبد …
ثم رحلت صوب الساحل … لم يعلق على رحيلها، لكنه احس بالخوف تردد في مناداتها … وحوار ساخن يرتطم بين ضلوعه يلح ان ينفجر .
– بدا الجو يزداد بردا شد معطفه الطويل على جسده بقوة ، دفع كفيه في جيوبه المعبأة بقصاصات ورق الذكريات أخرجها ليطلقها لفتها نسمة هواء بعد ان سقطت وتناثرت ارضا …. فجأة ..
اراد ان يتعرى مثل غطاس قبل الانتحار في ذلك الفجر وهو راعش اليدين، يرافق قوافل الزوارق الذائبة على طريق الموت في الافق … اقترب من ساحل البحر مترنحا، لوث الفجر المياه واخذت الريح تراقص الاشجار القريبة المتراصفة ، واذيال ثياب عاشقات البحر القادمات مسرعات اصبحت اشرعة مزدحمة …
كان يدرك الاشياء كلها حتى جوع الساحل الذي احتضنه دون موعد مسبق كي يندب الماضي ويدفن شتى الذكريات …
اجتمع الجميع عند الساحل مسرعين، ارادوا ان ينقذوا ما يمكن انقاذه بعد ان احسوا بصلابة قلبه .. وعيونهم بانتظار عودة الزورق العاجي …
بينما العاشقة العجوز تركض وراء الريح تجمع قصاصات متناثرة هنا وهناك عسى ان تجد عنوانا للمقبرة
ليس للموج بداية او نهاية، تعبت العجوز وسقطت ارضا ، بدأت تهيل الرمل على راسها وعيناها صوب البحر وما ان اشبعت ضالتها حتى بادرت بالصراخ والنحيب، التفّ الجميع حولها … ارادت ان تقص الحكاية رغم ان عينيها لم تفارقا أفق البحر …
– ياحسرتي … ثم سكت طويلا …
كان البحر يصرخ ويعلن جوعه رغم التهامه للحلم والطيور الميته، كأنه ينتفض بوجه الجميع لينبش الذكريات كلها، او يخرج الاف السنارات المنغرسة من جسده طوال تلك السنين …
جلس الفجر على عرشه ،وغادر الجميع تاركين بصمات اقدامهم المتعبة ترسمها رمال الساحل … يمر الوقت دون استئذان، والرجل القابع في كبد البحر لم يكشف عن نفسه بعد. منذ ان تردد في ان يقول لمعشوقته العجوز انه يحبها … او ان يحكي لها قصة الرحيل، ويدير للخارج وجهه الحائر، برحلة مضت مسرعة كالريح، جاعلا الحلم جامحا لا يبارح ذاكرة البحر ، ثم يعود كالنصل الدفين في قلب الزمن …والعاشقة العجوز تتذكر من اشلاء الكلام شيئا قليلا …
– لم لا نبقى معا …؟
ثم ماتت مواصلة الحكاية، جاء صوت من موجة وليدة، يفترش سيرة البحر والرجل الذي لم يعد بعد …
* اقرئي ورق الريح المتناثرة، يا من كنت اجمل عاشقات هذا البحر الملعون ثم اعيدي الكرة مرات عدة في حجرة موصدة كي لايعرف الصيادون قصة الرحيل …
تعيد البحث لتجد متنفسا للحيرة او لتزيح الوشم الحزين، املا ان لا تغيب مرة اخرى .. كانت تنظر في اتجاهات مختلفة علها تجد ما تستطيع جمعه من اسرار الخطوط المبعثرة .. /الشجر/ تحت ظلال الجدران/ قرب بوابة الحاكم المنخلع / تحت طاولة الصحف/ في متجر الملابس المستعملة /.. ولم تنته من بحثها حتى نظرت نحو الشمس الغاربة عندها لم يسكن في الاماكن كلها غير السكون .. كانت الشمس قد اختفت تماما عندما عادت العاشقة العجوز الى ساحل البحر مسرعة تحمل حقيقة دامغة لصوت البحر ، حينها كانت الريح شديدة تمر في كل زاوية .. وقلب البحر يصرخ بصوت غريب هي وحدها التي تسمعه صوت ذو موسيقى صاخبة كطبول الحرب، فترك وقعا خاصا من الحزن في اذنيها … كان يقترب من بعيد نحوها شيئا فشيئا … تخثر الدم في وجهها، لكن نداء البحر يجرها الى العمق البعيد مثل اسيرة
– لم تدرك ان جسدها يناحر موج بحر مجنون .. حلم اللقاء بالزورق العاجي بدا يرتسم في مخيلتها …
والبحر يصرخ (( جوعان … جوعان… جوعان ))
لم يعد للعاشقة العجوز وجود حين التحقت بالبحر دون عودة .. وعشرات القصاصات الورقية عند الساحل تأخذها الريح عاليا .. وبعيدا ومازالت سنارة الرحيل عالقة في قعر مبهم، واسراب الطيور المتبقية تحلق راقصة على صوت الموج . كل شيء مر بسرعة وأنا وحيدا انظر في مدى المسافات البعيدة ، لا تعرف المجاديف أي الجهات تضرب وانا أجر نحو اللاشيء بينما العويل يتمركز في اتجاهات عدة وذاكرتي تومض لي صورا من الساحل
الصخر البحري والاشجار المعمرة المتراصفة هناك
ظلال جدران الصيادين وبرودة بؤسهم
عبث الغرباء
فوضى الشوارع الساحلية ..
حكاية العجوز التي لحقت به عشيقته
احسست ان واحدة من نوافذ الحزن فتحت لتذكرني بمساء وديع تلاش حين كنت اتسلل إلى المقهى البحري لاقف عند باب ثرثرات الاصدقاء هناك المضخمين برائحة عطور سكائرهم ومواقد انتظارهم اليومي وسط مواقفهم الظريفة والمصنوعة باتقان والتي تلاحقني منذ عهد طفولتنا كنا نظن في البحر سوءًا من انه
عديم الهوية ، نحن ابناء صيادين نتباهى امام الاطفال الغرباء ونعوم بعناد لموج البحر الثائر ونخيف عويل البحر بكلاب الساحل السائبة والتي تروضت مع براءتنا، وأنا أردد في نفسي كلمات مبعثرة ، الموج هو ذاك الموج الآن وبعد زمن طويل من المفاوضات / كسل المجاديف / العويل من جديد يجثو بمكر على هدوء البحر…
نهضت بطولي الممشوق كعمود وسط ترنحات الزورق لأحمل يأساً مفاجئا صرخت وانتفضت نفسي الى تمرد عجيب أعتقت المجاديف في لحظة مجنونة وأنا أصرخ ، الموج اه ايها الموج يا قبراً بارد …
كنت محتاج للبكاء … بقيت هكذا طويلا …
لم اذكر ان أحدا من الصيادين ترك وصية يخبر فيها ان العويل هو قبر الطيور .. لا ذنب للبحر. وان صوت ابواق السفن العملاقة ستشارك الغرباء في تشييع عدد آخر من الطيور ومازال البحر يهادن .. لكن زورقي إستطاع أن يفك الحبل ولا وجه له … على أمل الوصول الى آخر الموانئ ….
يحمل آخر جثث البحر ذلك العجوز وعشيقته وربما جثتي أنا ….
في ساعة ليست للنسيان .
بيات مرعي*