ولد ليم – Stanislaw Lem عام 1921فى بولندا، وأنهى تعليمه فتخصصا في السبيرناتيكا أي علم الضبط ، وقد احترف الكتابة وتخصص في كتابة الدراسات المقالات والقصص العلمية ، وله تجارب مسرحية فانتاوية هامة.
يعل ليم أحد المجربين الأوائل وأهم الرواد في مجال الرواية والمسرحية العلميتين البولندية ومجددهما . وتشمل – عنده – موضوعات وقضايا إنسانية وبيولوجية تساير التقدم العلمي والحضاري . من أهم أعماله الروائية، غيمة ماجيلان – 1955 وعدن1959 وسولار – 01968 وكذلك مجموعاته القصصية القصيرة : يوميات فلكية – 1957والوهم الكبير – 1973 . وأهم مسرحياته التجريبية في مجال أدب مسرح الخيال العلمي : أأنت موجود يا مستر جونز ؟!- وساعة استقبال البروفيسور تاوانتوجا – وليلة قمرية . وهي المسرحيات التي نقوم بترجمتها في هذا الكتاب .
قام ليم كذلك بكتابة العديد من الأبحاث العلمية الأدبية حول شتى الموضوعات والقضايا الثقافية .
حيث تتداخل فيها النظرية الأدبية وعلوم الفلسفة والجمال .
ومن بين هذه الدراسات كتاباه الهامان :- فلسفة الأحداث العارضة – 1968، الفانتازيا المستقبلية – 1973.
كتب عنه النقاد والبحاثة الأوروبيون عددا من الكتب النقدية والعلميلة ، آخرها "ليم والأخرون " للباحث البولندي انجر ستوف – Andrzej Stoff.
انشغل ليم في المرحلة الأولى من إبداعاته بقضايا هي مزيح من المناظرات الأدبية والفلسفية الأنسانية العامة والمستقبلية ، التي اتخذت طابعا تجريبيا خالصا . ويريد ليم في كتاباته تصوير لقاء الإنسان بظواهر متغيرة اختلافا بينا عن الظواهر الطبيعية المتسمة بمعايير وقياسات أساسية تتوافق وطبيعة الأرض التي نحيا فوقها .
تبقى هذه الظواهر حتى النهاية غير مفسرة ، حيث الفضاء الحقيقي هو فضاء لا نهائي؛ وحيث البشر ذوو المعايير والقياسات الأرضية ليس بمقدورهم تحليلها والقيام بتفسيرها.
ويقوم ليم بالاستعانة لإيضاح مفهومه داخل كتاباته الروائية والمسرحية بالنظرية الأنثروبولوجية ، ليطرح تساؤلات هامة :
– ما الذي سيحدث للانسان إن التقى بشيء أو ظاهرة تتفوق على قدرات علمه واستبصاره ؟! ..
– أسيكون بمقدور الإنسان أن يقنع بها ، ويوافق على وجود المتفوق عليه؟!..
وتبقى الأسئلة مطروحة ، وهى أسئلة قلقة مستفزة ، باحثة لها عن إجابات من وراء سطور أعمال ليم المتضمنة أطروحات عملية وفلسفية ، تشير إلى معنى الوجود الإنساني فيما وراء الطبيعة ، وتثير تساؤلات "هاملتية " أخرى حول عجز البشر عن فعم عالم المحيط : أي الرغبة في الوصول إلى الحقيقة المطلقة .
لا يؤلف ليم كتبه بطريقة فوقية ، أو بأسلوب يعتمد على الإثارة ، لأنه الا يهدف إلى سرد مغامرات بوليسية . إن قصصه ورواياته ومسرحياته تتضمن أفكارا عامة ، هي جزء لا يتجزأ من الأفكار الإنسانية والعلمية / الفانتازية التي تشغله وتثيره ، ويتغير أسلوب ليم بتغير المراحل الزمنية المتعاقبة . فهو يرى أن الأدب المسمى (SF) – Science Fiction- أي الأدب العلمي – يقترب عاما بعد عام من هاوية الخطر، ومنشأ هذا الخطر مفاده أننا نفقد تعرف الأخطار التي تهددنا ويزداد حجمها في العالم ، لدرجة أنه ليس بوسعنا التحقق من وضعيتها الحقيقية وحجمها الطبيعي، وأننا لا نتبين تماما الاختلاف بين وزنها الفعلي وقيمتها الموضوعية ، فيما يتعلق بقدرنا الأنى ومستقبلنا الأتى. يقول ستانيسواف ليم :
"أحاول أن أتخيل خصوبة ثقافة المستقبل . ليس هذا حاسا جديا عميقا ، وليس هذا كذلك ، إرهاصة روائيا. إنه شيء أقرب ما يكون إلى التوسع الميكروسكوبي لأفق فكرنا. ولأن الأمر يخص الفكر، وخصوبة الثقافة ، وعطاء العمل الفني، وتلك الافتراضات الخيالية ، لذلك نكتشف ثراء فى حجم الخيال والتصور في ميدان الأدب . إنه خيال له خصوصيته وسيطرته ، وربما يكون هذا الخيال غير مريح ، لكن له سلطانا عظيما . إنه خيال من الدرجة الثانية : حيث أبطاله ليسوا بشخصيات إنسانية ، مثلما يوجد في القصص العادية ، بينما ألفت هذه الأعمال خصيصا لتعرض أبطالا أخوين . فهل هذه روايات ومسرحيات فانتازية خالصة ؟
(يطرح ليم سؤالا حول كينونة الرواية والمسرح العلميين ) لا أعرف إلى أي مدى كانت صحيحة هذه التسمية . لا أعرف ! وأعترف أن هذا الأمر لا يعنيني كثيرا. إنه – على أي حال – أدب يظهر فيه عالم خاص بساكنيه لا أقوم بوصفه . إنه أدب خالص وعن الأدب في الوقت ذاته . وليس مفهوما يقف بالمرصاد ضد الرواية والمسرح . ولذلك فإن أدب ليم لا ينغلق على نفسه في اثنا. ممارسة كتابته ، وإنما هو أدب يتخطى حدوده المرسومة ، حتى يبدو عليه أنه فن تشكيل المستقبل ، أشبه بتقرير عن اللقاء المستقبلي المرتقب بين الإنسان والآلة الحادة الذكاء والحكمة ، إنه صنيعة يده ، أطلق عليها اسم جوليم Golem فهو أدب أقرب ما يكون إلى المنهج العلمي النظرة لنصوص مؤلفة من قبل مؤلفين غير أنانيين . إنهم مجرد آلات حاسبة (كمبيوتر)، ترهص بمستقبل القرن الواحد والعشرين ، حيث قضية التواجد المشترك لحوار ثنائي: إنساني وغير إنساني للذكاءين البيولوجي والألي. ويمثل هذا الحوار بدوره مفتاحا من مفاتيح المستقبل لفهمه والوعي به .
" … في الرحلة التي قطعتها في كتاباتي، لم أكتب عن الشخصيات المتداولة نفسها – يستطرد ليم قائلا – ولو فعلت ذلك لأصبح الأمر مستحيلا من حيث التنفيذ التقني، فضلا عن الشعور بالملل الذي يمكن أن يصاب به قارتي. لكنني أكتب كذلك مداخل ومقدمات لهذه الأعمال ، لأسهل استيعاب قارني لها . وتسعي هذه المهمة برمتها إلى الوصول لما أراه : من أننا لا نعرف في حقيقة الأمر ما الذي سيكون عليه العالم بالضبط ؟!" يؤكد ليم بأنه ينبغي أن نكون معاين لكل شيء: أي لكل هو ممهد للتفكير: على شريطة أن يكون هذا التفكير منطقيا متسما بحساسيته المرهفة . فالأدب لا يعتمد على تلك القواعد القاسية التي يتقيد بها العلم ، بل يتعايش داخل العالم المشترك Licentia Poetica . ، وهو الانحراف عن الأشكال أو اللوائح والأطر التقليدية المتعارف عليها : ليمكن للأدب أن يكون أكثر اقترابا من الحدود التي يسمح بها العلم وتوقعات المستقبل العلمي (اختراق الفلك ، ص 30 – 33).
ويصف ليم – Lem العلمية بأنها قد خلقت عالما متخيلا متميزا بانسجامه .
فهذا النبت المنتج عبر حساسية المؤلفين والكتاب – من أضعفهم حتى أشهرهم – ينشأ في أنهم يبدعون تيارا مغايرا لما يسمى بالأدب الشائع ومخالفا له . بل يسعون لتبني ظاهرة أكثر اتساعا تثير اهتماما أكبر للمتلقي، وهى كتابة أعمال فريدة بأقلام أسر الكتاب في هذا الميدان الجديد . لقد تجاهل نقاد الأدب لفترة طويلة سيطرة أدب الخيال العلمي Science على هذا الميدان ، وكان يعتبر النقاد آن القسم الأكبر من هذه المؤلفات مجرد أعمال ادبية فاقدة القيمة ، وهى لديهم تتساوى في الأسلوب والتناول – سواء كانت اعمال منتمية إلى أدب الجريمة أو مستفيدة من طابع "الوسترن " – من الأعمال التي تقوم على الإثارة . إن وجهة نظر النقد الأدبي – بهذا المفهوم – غير صائبة .
واستنادا إلى قصص الجريمة التي يرى النقاد فيها أنها تسير على قدم المساواة مه الروايات والمسرحيات العلمية والطابع الفانتازي لهما، نجد اختلافا جوهريا ، فأحداث قصص الجريمة تقه في مواقع محددة بعينها . وأعمال كهذه لا تريد آن تكون أكثر من كونها قصصا شبيهة بتلك التي تبحث عن حلول لآلغاز تتطلب من قارئيها ذكاء معينا . وعلو الرغم من أنه أحيانا يتفوق أساسها الادبي الذي يتكون داخله نسيج قصة من هذه القصص ، فتزداد كذلك قيمتيا الآدبية بقدر أكثر اتساعا من مختلف القصص والروايات والمسرحيات العلمية ، الا أن القيمة الفنية فيها ليست بمسألة ذات أهمية .
يعنى هذا أن جميع القصص وتلك الروايات التي تدور حول الجرائم لا تشكل في النهاية بناء أدبيا متكاملا ، بل تبحث بشكل منفرد عن مختلف الأساليب التي لا تصيب القاريء بالمثل ، كما نشاهد في مختلف الحلول التي لا تنتهي للموا قف الدائمة المطروحة ، كالبحث عن مرتكبي الجريمة ، في الوقت الذي تمثل فيه الروايات والمسرحيات العلمية أساسا لبناء أدبي واضح الملامح ، نرى فيه خليطا من الاتجاهات والموتيفات والأفكار، يلعب فيها الشر والخير دورا هاما لإبداع بنيتها ونسيجها اللذين يعرضان هن داخلهما قضايا المجتمع المعاصر. ويسيطر على مؤلفي أدب الخيال العلمي (S.F.) صمت مشترك ، ليس فقط تجاه التيار التقني لتطور حضارتنا ، بل التوفيق أمام ظاهرة الإيمان بالأخريات (Eschatology) كالبعث والحساب وغيرهما في عصر كعصر الماكينات والألات المركبة . ورغم ذلك فان أسلوب الرواية والمسرحية العلميتين ثم يصل بعد الى مستوى أهمية تلك الظواهر الخطيرة التي تهددنا كظاهرة العالم الآلي الجديد ، حيث يتصف الموقف الآدبي برمته بالتناقض ، فنرى هذا النوع الروائي والمسرحي الجديد يمتص قدرات مؤلفيه ، فترتفع قيمة هذه الأعمال وآسيتها على مستوى الأعمال الأدبية الكبرى التي يؤلفها كتاب لا يدركون أنهم يمثلون – كما يصفهم ليم – جماعة كاسندوا القرن العشرين .
وبجوار أدب الخيال العلمي S.F.) ) ينبثق الفن الروائي الفانتازي. وكم من الكتاب استخدموا كمية ضخمة من المحابر ليتمكنوا من أن يرسموا بدقة الحدود العلمية والآدبية الفاصلة ما بين هذين المصطلحين الحديثين في أدبنا المعاصر: الرواية والفانتازية . إن ليم يتخوف من الصعوبات الناشئة عن أن معرفة الاختلاف بين المصطلحين غير مثمر على الإطلاق ، وليس لصالح الأدب الروائي الجديد، بل إن Ray Bradbury واحد من أشهر كتاب الرواية الفانتازية المعاصرين – يعرف هذين النوعين قائلا:
(…) إن الرواية العلمية تعتبر الابن الشرعي والطيع لقانون المواطن الذي يدعى (بالأدب الخالص ) فهو يصفى إلى اللوائح والأطر للعلوم الطبيعية والاجتماعية والنفسية . انه مواطن منضبط دقيق ، أسلوبه وطريقة سلوكه يمكن توقعهما. أما الفانتازيا فهي عمل أدبي أقرب ما يكون إلى الجريمة الأدبية . فكل فانتازيا تهاجم قانونا ما وتقحطاه ، أما فن الجريمة الروائي فيغطي الهامات المؤلف وأسلوبه حيث يسترد الجسد أولا قبل أن يفجر دعاءه (سكتشات ص 15).
أما ليم فيرى أن الرواية العلمية (S.F.) تمد يدها لتصافح يد الفضاء وتتعامل معه في رحابة واحتواء، بينما تفتت الفانتازيا هذا الفضاء وتديره لصالحها نحو الناحية اليسرى: وتقلبه رأسا على عقب في جزئيات يصعب التعرف عليها ، فتوجه البشر لينفذوا عبر جدران المستحيل .
فالرواية العلمية بمعنى آخر – كما يرى ليم – تضه الإنسان بشكل متوازن – فوق قمم الصخور المرتفعة شامخا، أما الفانتازيا فتلفظه منها. فالسمة الغالبة التي تتصف بها أعمال كتاب الرواية والمسرحية هي أن كل مؤلف يعد نفسه مسؤولا عن تحديد – بدقة – كل من النوعين في كتاباته ، ويعرف بالضبط متى يستخدم – على حدة – كلا منهما، وفق الوظيفة والطرح اللذين تستلزمهما طرق الكتابة . ورغم ذلك ، فإن جميع هذه المحاولات تلفظ التمسك الشديد بتعلم الأساليب التقليدية في التناول والتفسير. وهذا ما يجعلنا – على سبيل المثال – نفرق بين بو- Poe وويلز – wells ، فأعمالهما القصصية تقع بين الهلوسة والهذيان عند النوم ، وليس من الضروري أن تكون منطقية من قبل الخيال من جانب ، وبين الإفلاس المادي المتسم بالجفاف للعالم الذي عن دقته المتنامية تنبثق جميع الاستنتاجات النابهة من الافتراضات المقترحة من الجانب الأخر. إن كلا العالمين – العقلي والخيالي – يختلط بعضهما بالبعض ، ويتشكلان وفق نسب متباينة تعتمد على حرارة أقلام الكتاب ، وجرأتهم في التعبير ومزاجهم اللحظي عند ممارسة الكتابة . فإذا حاولنا فصل مزين العالمين عن بعضهما البعض ، فستتحول أعمال هؤلاء الكتاب إلى أعمال عاقرة غير مثمرة ، يشبا ذلك تلك المحاولة العقيمة ألقى تقوم على الحدس التحليلي لبحث مسألة كم تصل نسبة الهرمونات "المذكر" المنفصلة عن "المؤنثة " و المكونة لمقومات شخصية الإنسان المحددة وتفرده ؟! ويعقد ليم مقارنة بين مؤلف أدب الخيال العلمي والمؤرخ قائلا:
" … وباعتباري كاتبا غير مؤرخ – يؤكد ليم – حيث لا أملك طموحه ، أو الرؤية الكافية التي تجعلني إياه ؟ لذا فإني لا أعرف في كتاباتي معلومات كافية عز الظواهر التاريخية داخل الرواية والمسرحية العلميين . ولكن بمقدوري تحديد ما أعرف عنها في نطاق البراهين والدلائل التي تثبت أن الفانتازيا العلمية الحديثة نشأت وفق المعطيات التالية : الحواديت الشعبية ، والحكايات الفلسفية الشعبية ، وعالم المدينة الفاضلة اليوتوبي ذو السمة الاجتماعية الفلسفية ، وكذلك الهوية المعاصرة للتكنولويا الحديثة التي خرجت من مجرد كونها ظاهرة تفاؤلية تنظر لحضارة (الملائكة الألية ) لتشكلها في النهاية ، إنسانا خائفا ملتاعا تابعا لعصر العقل الإلكتروني المحكم ، وإنجاز القنبلة الهيدروجينية المسيطرة !" (سكتشات ص 25).
إن اقتراب الفانتازيا العلمية من صيغة الحكاية ، يعد ظاهرة حقيقية يصعب تجاهلها. ويرى بعض النقاد أن الفانتازيا العلمية هجرا حكايات تمثل عصر الذرة حوله ، ولكن وراء هذا التعريف قد تناسى هؤلاء النقاد مسألة هامة ، هي أن أدب الخيال العلمي (S.F.) ) هي قصص ومسرحية تود أن تطرح أفكارها وقضاياها وفق ما يطرحه العلم ، وبفضل هذا المفهوم نستطيع التعرف على عالمنا أو على الأقل يمكننا أن نتفهما. إن سرد الحكايات العادية يتطلب من القاريء أن يكون على استمداد أثناء قراءتها لنتخلص من حالة الإدراك اليومي الدائمة ، بل التخلص كذلك من الوعي بما هو ممكن ، وبما هو مستحيل . فالحكاية بتقاليدها وقواعدها المقررة لا تطالب القاريء بالإيمان الحقيقي بعالم واقعي غير طبيعي، وإنما تمنحا تبعية لحظية وقتية لقواعدها. لذلك فهذه الحكايات عبارة عن . لهو متوج بموعظة أو رسالة أخلاقية .
فسيناريو الحكاية لا يطالب الحاكى أو القاص بأي عمليات تستلزم شروحا مطولة . والقاص ليس ملزما بالإجابة عن أسئلة كهذه : لماذا يتحول المشط الذي قذفت به الساحرة إلى غابة ؟! ، ولم لا تندفع مياه الحياة من منابعها؟! أو ما الأسباب التي تجعل بإمكان الساحرات الطيران ؟!! … إن قواعد حكايات ومسرحيات S.F. وتقاليدها تجعل المؤلف يقدم وصفات مناسبة واستيضاحات ملائمة ، ليمكن له -بدوره – أن يضع نظريته العلمية المحددة ، وأن يتمكن من تفسير أسباب الأحداث التي تقع من خلالها هذه الحكايات وتلك المسرحيات .
نادرا ما تقترب الروايات والمسرحيات العلمية S.F. من تلك الصورة التي تقوم على مجرد انتحال قائم على نسخ الموتيفات القصصية (موتيفات الحكايات ). ورغم ذلك فليس ثمة صعوبة من اكتشافنا داخل هذه الأعمال الأدبيةS.F.) ) ما هي إلا تناسخ لتجسيد قصصي لعدد غير ضئيل من المهمات وقطه الديكور والإكسسوارات ، بل تتجسد فيها مواقف كاملة وشخصيات مستخرجة من تلك الحكايات مثلما نرى في مختلف أنواء الأ بالسة وأشكالهم والمذؤوبين (أشخاص مسخوا ذئابا) والجن والأرواح ، ليظهر كل ذلك على شكل زائرين حضروا من الكواكب السيارة في زيارات لكوكب الأرض . فالصيغ العلمية والاكتشافات الجديدة أو الاختراعات المبتكرة ما هي إلا بدائل جديدة لمصباح علاء الدين والبساط السحري وطاقية الإخفاء وغيرها مما نلتقي به في الحكايات الشعبية . فظاهرة تغير الإنسان – وهى سمة غالبة في الحكايات والقص الشعبي" تظهر فيها باعتبارها منتجا لتحويل علمي وراثي، أو تأثير ناتج عن القوى العضوية الكيمياوية ، أو ناتج عن عملية غسيل المخ الإنساني أوغيرها هن العلميات المشابهة من قبيل العمليات الجراحية للروح البشرية ، وصولا إلى عمليات نقل المخ لأجساد أخرى. فطاقية الإخفاء المعروفة في الرواية العلمية “Emitor “ما يطق عليه بالصديرى الواقي ضد الضغط ، نجد بديلا عن قارئة البخت المعروفة التي تجلب الحظ ، مخيخا ميكروسكوبيا كهربائيا، يحمله بطل الرواية في أذنه ، أو يوضع تحت جلده ، ونيابة عن العصى المتحركة ألقى تعاقب الأشرار، نجد مختلف الألات الحربية الحديثة ، التي ترهص بميكنة المستقبل ، وتقنياته العسكريا المعاصرة ، وعلى رأس قائمة هذه الألية الحربية المخيفة القنابل الهيدروجينية . أما ثيمة الساحرة التي تقوم بملء . المائدة بكل ما يشتهيا المرء، ويتعطش اليه ، فتأتي إثر حركة سريعة من اليد ، فنجد في أدب الخيال العلمي ما يناسبه ويتلا.م معه داخل ميادين علوم حديثة مستحدثة كالسبرناتيكا والرضع النسبي للذرات في جزيئات تتوالف وتتركب مع الذرات الأخرى ، فتتخلق مختلف المواد والكائنات سواء كانت حيوانات آو بشرا. ان هذه المجموعة من العوامل المتناظرة في الوضع أو التكوين أو الوظيفة ، يمكن الاستمرار في رفع معدلاتها ، لكن هذا لن يزيدنا جديدا سوى الإثبات بأن تقنيات هذا الأدب الجديد ومفرداته قد تتفوق على أكثر الحكايات جرأة وخيالا، حتى أننا نعثر فيها على نوع من الأساطير ربما تكون أبعد زمنا وتأصيلا في عالم الميثولوجيا ، حيث تستكشف الرغبة المتأصلة في نفس الإنسان : وهي شوقه إلى الخلود وتعطشه إلى المعرفة .
ورغم ذلك فليس الاختلاف الفني التقني، يمثل تغيرا كاملا ، وجدارا سميكا ما بين هذا الأدب والحكاية والمسرحية الكلاسيكية ، لذلك ففي معظم الأحوال نعثر فيها على موضوعات مشابهة كتقنيات العجائب والمعجزات ، حيث يصعب منذ الوهلة الأولى توصيف مختلف الظواهر الطبيعية واكتشافها، كما يصعب – في الوقت ذاته – التخلص من الخيالات والتصورات والأحكام البشرية المتعارف عليها منذ أمد بعيد، باعتبارها غير قابلة لأن تمس ، فالمعانى المستخلصة من هذا الطراز من القصص يعد تقريرا فنيا حول الأعمال المقصلة بالاكتشافات الإنسانية المتصلة بالاختراعات غير العادية ، وفى جملة واحدة يمكن لنا حصر موضوعات أدب الخيال العلمي على الوجه التالى:
اختلاف المكائن وتوصيف الألات ، والإرهاص بالظواهر المادية ، باعتبار أن الإنسان محورها ، وهو الذي شكلتها يداه ، ومي حتى اليوم غير متواجدة ، ويحتمل أنو ستتواجد يوما ما. ويقينا أن هذه الظواهر من الناحية الأدبية أقل طموحا ولكن من ناحية التعرف عليها، فإن طريقها يشبه الطريق . التقليدي المتميزة به الحكايات الشعبية ، كما ينطبق الحال – على سبيل المثال – في ورايات فيرن (veme) الفانتازية ، التي تظهر فيها الصعوبات والعقبات التي ينبغي على الإنسان التغلب عليها، فيقمكن من السيطرة على منطقة جديدة مكتشفة تالية من المناطق المحيطة به ، عدا سيطرته على طبيعته الإنسانية غير المثالية .
وبالأسلوب التعليمي البنائي نفسه ، يبدو لنا أدب S.F.)) من وجهه النظر التي تقوم على أساس بواجماتيكي ذرائعي لتحقيق الأحلام ، أنها تمثل تقنية تحقيق الأماني، وتغمي وجهها المبتهج السحب المنقشعة من الأحلام الثرية بالإمكانات والقدرات ، حيث تصل حدود رؤى هذا الأدب نحو بلاد مجهولة غير واقعية ، وفوق أراض غير مكتشفة بعد ، باعتبارها رؤى نبوئية للتكنولوجيا العصرية .
ففي تواجد المذؤوبين (1) والجن والأبالسة والعفاريت الشريرة ، يصبح الإيمان بتواجدهم بدرجة معينه ، هو بمثابة أساس نختلقه بأنفسنا ، ليستمر اللعب فيما بيننا ، بالقدر الذي نتمكن فيه من إيقافه عندما نريد ذلك . ينطبق هذا على تصوراتنا لمركبات الفضاء السيارة – بصرف النظر عن اعتقادنا بتواجدها من عدمه – فليس هذا شيئا مخترعا ، أو مجرد مصطلح علمي تقليدي متفق عليه ، بل حقيقة متصورة لعالمنا المادي لا يمكن تجاهل وجودا. وهذا يغير بالطبع من أسلوب تقريرية علاقة الصانع (الكاتب الخالق ) بالقاريء في مواجهة حقائق أدب (S.F.) والاستغناء عن إضافات عناصر ما فوق الطبيعة ، والاهتمام بشكل أقرب بتفاصيل ترجمة كل ظاهرة من الظواهر وتفسيرها ، مما يتسبب عنه إنضاج الوعي بالنوع ، وتهدف إلى التغيير، وإلى جعل القاريء أكثر شبابا وتفهما في تلقي معارف الخبرات الجديدة لما يدور في عالمه المحيط به من قريب ومن بعيد. فعند الالتزام بالقاعدة العلمية ، التي تكتسب من خلالها هذا الأدب هو الاقتراب من حقائق العلم وميزاتها ، ولذلك يصبح – بهذا المفهوم – رفيقا للمنهج العمي، وأسلوبا للامت قراء. مما يضع أقدامه فوق الأرض ، ليضع – بطريقة تتسم بالتبصر – مؤشرات تفسر بها الظواهر الخارجية الملتصقة بمحيط الأرض .
قليل من مؤلفي أدب الخيال العلمي (S.F.) يصل إلى هذه الدرجة من الحذر والتبصر في رؤية المستقبل بمنظور الحاضر، وتحديد أطر تصوره والتحكم فيه ، على أمل الوصول إلى نتائج باهرة ، سد خميرة لخيال الإنسان وبصيرته . هذه النتائج تصبح مقدمة لتتشكل منها المادة الأدبية فنا بفضل الطريقة العلمية ومنهجها ، فتتعدى إمكانات الأدب المحكمة ليصل الإنسان إلى الخيال العمي وإلى قواه الخالصة غير المقيدة ، فيحررها لتعينه في الوصول إلى مناطق غير مأمونة العواقب ، حيث يبتعد الكاتب فيها من جديد عن الواقع الفوتوغرافي، ويفقد التواصل معه ، ليبدو أمامنا واقعا فانتازيا صافيا ، حكاية جديدة ، دون ملحق فني إيضاحي شاحب : يتخفى ورا، ضباب التفاصيل اليومية المقيتة . فإن حدث هذا فلن يكون بمقدور الكاتب الارتفاع إلى مستوى القضية الحقيقية للوجود الإنساني، فيصبح القاريء وحيدا في انطباعه المريح ، الممتن- باهتزازات نفسية داخلية
مضرة له ، تنتج عن التخوف : أو اللعبة البدائية الناشئة عن معايشتنا للأحداث غير العادية التي تزخر بها التجربة العلمية . ولكن أكثر ما يهم القاريء في الوقت نفسه هي لحظات الهدوء والنسيان . إن أدب (S.F.) لا يحقق لنا الهدف الأول ولا يمنحنا الهدف الثاني، بل إن أكثر ما يصل اليه أو ينشد الوصول اليه يتلخص في التعبير التالي: to you it could happened أن هذا يمكن حدوثه لك كذلك . فالتطور العلمي والتقني في السنوات الأخيرة وما قبلها من قرننا العشرين – بداية من القفزة الهائلة لتكنولوجيا الدمار التي تسببت عنها الحروب ، مرورا بهدير الاختراعات وعلى رأسها القنابل الذرية والهيدروجينية وتطوراتها، ونمو علوم السبيرناتيكا، وصولا إلى التركيب الداخلي لعقلية العلماء ، حيث العلاقة الثنائية من الشعور بالانبهار لهذه المكتشفات والإنجازات العلمية الهائلة ؟ وعدم الرغبة والكراهية والشعور بالرضا في أن واحد، لما أتت به تباعا سنوات الحروب ، وبارجة واضحة الترسانة العسكرية المتطورة من اكتشافات أكثر جرأة وضراوة للآلة الحربية المدمرة ، أدى كل هذا إلى أن يصبح أدب الخيال العلمي وثيقة تسجيلية وممثلا للعصر؟ بل إرهاصة مخيفا، لكل ما تجيء به هذه الاكتشافات والاختراعات التي تنبئ بما ستكون عليه حضارة القرن الواحد والعشرين !!
إن الروايات والمسرحيات العلمية – عند ليم ~من خلال موضوعاتها وعبر أفكارها، لا ترى أملا كبيرا في المستقبل ، وتتشكك في إمكانية إصلاحه . وكي يمكن لنا أن نفلق أطر مقارنة الحواديت والحكايات الشعبية بأدب , (S.F.) ينبغي لنا أن نتذكر فن الفانتازيا الذي لعب ، وما يزال يلعب ، دورا رئيسيا في تشكيل نسيج الأدب الحديث للرواية والمسرح . لقد اعتبرت الفانتازيا نوعا من الأدب الأقل تعقيدا في الشكل والمحتوى من الرواية العلمية الجافة القائمة على الحقائق الرياضية . ففي مواجها الفانتازيا العلمية نجد مكانا خاصا للرواية والمسرحية S.F.) ) الاثنين نجد أن
الفانتازيا العلمية هي نوع من الأدب التهربي الذي يخاصم الواقع باستغراقه في اللهو والخيال ، على النقيض من أدب ( S.F ) فالفانتازيا تتنبأ بما يأتي به المستقبل ، وبما وراء الغيب كما يحدث الشيء نفسا في الرواية والمسرحية العلميتين ، وتعود الفانتازيا ثانية إلى الوضع التقليدي للحكايات المرعبة المتحدثة من الأرواح والعفاريت والأبالسة ، لكنها في الوقت ذاته لا يمكن لها أن تمثل أساسا لبناء أعمال أدبية أخرى لا تحتوي على مثل هذا النوع من الحكايات ، وجملة من الشخوص والموتيفات والتصورات الفانتازية . وهذا بالطبع يفتح إمكانية للتنافس لأشهر الأقلام التي فرج من بين أيديهم عدد من الأعمال الفانتازية الهامة نؤلفين من أمثال Brandenbur Brown وغيره . ورغم ذلك فإن هذا النوع من القصص من حيث النوعية الفنية والقيمة – يعد أقل أهمية من الرواية والمسرحية العلميتين .
سثانيسواف ليم
في الخامسة والسبعين من عمره
تحيا اليوم إبداعات ستانيسواف ليم – tanisiaw Lem الكاتب الروائي والمسرحي البولندي نجاحا لتتوج أدب الخيال العلمي وقد بلغ من العمر الخامسة والسبعين . تحيا كتاباته عصرها الذهبي، ونسميه كذلك بعصر النهضة لإبداعاته . ففي المكتبات البولندية الأن تظهر ثلاثه أعمال تعد من أهم كتب هذا الكاتب العالمي: "الأزمان المحبوبة " و" حروب الجنس " و" أسرار السلام الصيني".ومسرحيات ليم : – أأنت موجود يا مستوونز – ساعة استقبال البروفيسور تارانتوجا – ليلة قمرية . إنها كتب يجمع فيها ليم مقالاته ودراساته التي يحاول فيها الكاتب المتخصص في علوم "السبيرناتيكا" أن يشارك قارئه قلقه حول المستقبل ، ليس من منظور حضاري فقط ، بل عبر منظور الجنس الإنساني برمته وخطورة ما يهدد حاضره ومستقبله بشكل عام .
إن ليم كان دائما كاتبا يتميز بشعبيته الكبيرة ليس فقط في بولندا: بل في العالم كله حيث ترجمت أعماله الى خمس وعشرين لغة عالمية ، وفى مكتبات ألمانيا وإنجلترا نجد عددا لا بأس به من رواياته وكتبه . لقد وجد القراء في ليم كاتب مدينة كراكوف (2) البولندية كاتبا قاصا سريه البديهة يسطر قلمه القصص الروائية العلمية ؟ كما اعتبره النقاد لسنوات عديدة كاتبا من كتاب الفانتازيا. إنه كاتب ساخر فيلسوف . والشيء المدهش حقا أنه بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما من صدور روايته "ثمن التكنولوجيا" وقد صدرت الطبعة الأولى منها عام 1964، وكانت تعد هذه الرواية أنذاك حدثا ثقافيا هاما لمؤلفها ليم ، ما يزال عملا معاصرا يشد أنظار القاريء له . سد النقاد ليم اليوم كاتبا فلسفيا معتبرين إياه على نفس قدر فلاسفة بولنديين مهمين مثل ليشيع كواكوفسكى Leszek Kolakowski ورومان إنجاردن Rornan lngarden.
مشروع رجل مستقبلي
لم تعامل أعمال ليم في بدايتها تعاملا جديا، وقد كان هذا مرتبطا جرئيا بأن أفكار وموضوعات مؤلف "ثمن التكنولوجيا" و"فلسفة الأحداث الطارئة " كانت أفكارا وموضوعات تسبق ما حدث من تغيرات في سنوات الستينات . وشارك في هذا أقدر المفكرين الذين كانت لديهم الجرأة والشجاعة للكتابة عن المخاطر التي تهدد مجتمعنا من جراء عالم التقدم المطرد للتكنولوجيا، خاصة في مجالات مثل أجهزة الوسائط الجماهيرية المتصلة بمختلف أجهزه الإعلام ، والكمبيوتر والية الحياة المعاصرة . إن ظهور وجهات نظر كهذه في مرحلة التطور الصناعي المفاجيء بعد الحرب العالمية الثانية ، جعلت المسؤولين عن التطور الصناعي يعاملون وجهات النظر هذه بمنظور نقدي خالص ؟ ونجد هذا واضحا في التقييمات الثورية لدانييل بيل Daniel Bell- وهربرت مار كوز – Herbert Markus التي خدمت هذه الأفكار بدرجة كبيرة باعتبارها شعارا تأسيسيا لثورة الشباب : التي وقفت بالمرصاد ضمن ما وقفت ضد مخاطر التقدم العلمي/ التكنولوجي السريع المدمر لحضارتنا. ولم يختلف الوضع عما كان عليه فيما بعد في سنوات السبعينات . (على الرغم من وجود المؤشرات الأولى للأزمة الأقتصادية التي اجتاحت العالم وكانت تتصل اتصالا وثيقا بشكل رنيسى بارتفاع سعر النفط ). عندئذ أثار التقرير الكثيومن النقاش : وقد كتبه دينيس ميدوز – Dennis Meadows عنوان "حدود الارتفاع المتزايد"، فقد قوبل باعتباره تصورا فانتازيا لرجل من الرجال المتخصصين في علوم "المستقبل ". إن ما حدث لا يعد الأول من نوعه في عالمنا: عندما لا يؤخذ في الاعتبار تحذير المثقفين لمخاطر ما سيحدث لمستقبل الحياة البشرية فوق الكرة الأرضية ولم يلتفت إلى تحذيرهم أو يعامل معاملة جادة . فلنذكر في هذا المقام ما كتبه الاقتصادي الكبيوتوماس مالثوس Malthus Thorras في بدايات القرن التاسع عشر عن مخاطر معدل تزايد الكثافة السكانية : والذي سخر منه ماركس سخرية لاذعة . اليوم عندما ازداد عدد سكان الكرة الأرضية إلى الضعف منذ حوالي عشرون عاما، نكتشف أن تربة الأرض تتسحر وتصبح أرضا جرداء أكثر فأكثر؟ لا يكون بمقدورها تغذية سكان العالم الثالث . إن نظريات مالثوس أصبحت معاصرة رغم أنه قد مضى على إعلانها اكثر من قرنين من الزمان . ونحن الأن لا نشعر بالاطمئنان لما سيحدث فر عام 2200 حيث سيزداد معدل كثافة السكان في الكرة الأرضية من وجهة نظر ليم في كتابه "حروب الجنس " – إلى خمسمائة مليار نسمة . والواقع يقول لنا بأن العالم لن يسمح بحدوث مثل هذه الكارثة ، فالحضارة مبكرا ستعاني انكسارا- وقد نبه إلى ذلك ميدوز في مقالاته ودراساته – وإذا نظرنا إلى مستقبل حياتنا على مستوى ما ينبيء به ، فسنجد أنفسنا غير متفائلين . خاصة – كما يؤكد ليم – أن هذا الجوهر يولد شرا وعدوانية .
وحول الفساد الأخلاقي الذي تحمله الحضارة ، وحول المتغيرات الثقافية والاجتماعية بشكل عام ؟ فيمكن لنا – يقينا – أن نكتب رواية ناجحة . حيث يمنح شكل الأدب الخفيف قوى نفوذ التحذير. كان لهذه الأدب بلا شك معيار أخر، ورغم ذلك فإن للقيمة الاجتماعية تأثيرا قويا. فالرواية الفانتازية / العلمية سواء كانت يوتوبية أو مستقبلية قد أثرت تأثيرها الكبير في تشكيل الإطار الثقافي المعاصر. فلنأخذ – على سبيل المثال – السينما أوما يطلق عليه حاليا الأداء المالتي ميديا – multi media حيث يدور الحدث الجديد كثيرا في عالم يوتوبي مستقبلي مركب مستقل . ففي عالم "الفانتوم " والكمبيوتر والروبوت والسبيرناتيكا، قد خصص لها ليم مكانة خاصة ليس فقط في قصصه : وكذلك أيضا في القضايا الفلسفية وعلى وجه الخصوص روايته الهامة "ثمن التكنولوجيا".
الخير والشر
يفخر ستانيسواف ليم اليوم – (خاصة في نصه المعروف الذي نشره عام 1991 "ثلاثون عاما مؤخرا") – بأنه في بدايات الستينات ، قد اكتشف فكرة قد تحققت أمام أعيننا ، وسميت بالواقع الافتراضي أو الفعلي، وهي عند ليم عالم الفانتوميين . إنه الواقع المصطنع يتحرك فيه بشر من لحم ودم من مجموعة (الفانتوميين ) – مصممي الكمبيوتر – جذبت هذه الفكرة اليوم من ورائها متخصصين في الدعاية والتليفزيون ، حيث تستغل الوسائط الكبرى لتسوغ سيناريو متكررا يذكرنا بالواقع ؛ وقد حدث هذا منذ سنوات مضت : عندما لم يفكر أحد في هذا الواقع الافتراضي أو الفعلي؟ بينما نبه ليم وقتها أنه يوجد في هذا العالم إنسان يفقد الوعي بما هو حقيقي، ما هو بخير وما هو بشر (سيئ) إن مشكلة الشر تلعب دورا كبيرا في أعمال ستانيسواف ليم سواء كانت أدبا خفيفا أو استطراديا. ويرى كاتبنا وجود الشر – اليوم – أكثر من أي وقت مضى. من هنا يسجل ليم – وهو يشعر بالقلق – ملاحظاته حول السياسة المعاصرة . فالديمقراطية ليست بالنسبة لكاتبنا ليم بحل أو إنقاذ ، مادامت المواثيق الديمقراطية ليست بقادرة على أن توقف الشر. فالإنسان المعاصر يحيا في "حضارة الموت ". ويرى ليم أن : "كل شيء قد خلق من أجل خدمة البشر، لينقلب ويصبح قيدا عليهم ؛ بل وحتى تسلطا واستحواذا ليقوى ويشتد عوده ويصبى لخدمة الموت " كتب هذه المقولة في أحدى مقالاته في عام 1994. وبعد سنوات – ومع ترايد ظاهرة المعلوماتية اليائسة – نجد ان. ايمانه بالبشرية يقل أكثر فأكثر. ويكتب عن هذا الأمر ككاتب معلق على الواقع ورسالته : "لقد آمنت يوما ما ، أنه يمكن إصلاح ولو القليل من عالمنا، حتى بالكتابة عنه ، لكنى فقدت هذا الأيمان ". يكتب ليم في هذا النص عن الكثير من هذه القضايا تحت عنوان "اللاجدوى". ان ليم عندما يكتب عن عدم ايمانه بالاصلاح الذي يحدث في عالمنا؟ انما يريد أن نتوقف عن التقدم العلمي السريع اللاهث الذي يدمر عالمنا. ان يدفعنا الى الايمان بثقافتنا الروحية وتراثنا الانساني وعقائدنا.
ان ليم منتم الى عالم داروين ، متعاطف مع نظرية النشوء والارتقاء. فهذه النظرية ، والتي كانت منذ ملايين السنين تؤثر على تقدم الأرض (فضلا عن عدد الهزات العنيفة التي تعرضت لها الارض )، مع إيقاعها الذاتي، ففي الفترة الأخيرة بدأت تنمو وتتطور تحت إملاء الإنسان وقيادته . وهذا بدوره له علاقة كذلك ، بثورة العلم والتكنولوجيا، وميادين الاكتشافات العلمية خاصة "علم الجينات " الذي يهم ليم اهتماما كبيرا (كان ليم طالب طب ومؤلفا لعدد من الابحاث الطبية العلمية ) يثبت الكاتب اليوم في اعماله الادبية المختلفة أن لهذه الميادين، علاقة بتطور علم السبيراناتيكا. ويؤمن ليم بكثير من التفاؤل بهذا العلم الاخير الذي ربما سيكون أملا في علاج المشاكل المرتبطة بوراثة الأمراض وغيرها، كنتيجة طبيعية للتقدم العلمي لعلم الجينات . لكن التخوف الكبير من أن العلماء المجربين في علم الجينات ، مثلهم مثل المحالات التي أقيمت لابداع واقع افتراضي او اصطناعي للحواس يمكن ان يؤدي بهم الامر إلى الوصول إلى "لا انسانية " النوع البشري هومو/سابينز Homo Sapiens. يقومون كذلك بتغيير كبير في المنطقة الاخلاقية والحياتية . هذه التغيرات يرافقها مع ذلك تطور حضاري عام . ويبدو لنا اليوم أنه لا يوجد شيء ثابت – ثابت بالطبع بمفهوم الحياة الإنسانية – وليس بمفهوم العصر. فالعالم يتغير في معدل ايقاع لاهث ، فضلا عن أن كل شئ يتجه نحو النهاية . من الصعوبة بمكان إيقاف المعدل السريع للتقدم ، عن جوهر المتغيرات التي تقوم في عالمنا، يرى ليم – وقد ذكرنا هذا سالفا – انه لم يعد يؤمن بها.
اما في مسرحيته "ليلة قمرية " فهي مسرحية اقرب ما تكون إلى محاولة الانكشاف النفسي لكامنين من البشر معلقين في الفضاء حيث يدرسان أرض إحدى كواكبه ويحللان ما يحتويه . لكن هذا العمل المسرحي بقدر ما هو مشيد على الحقائق العلمية إلا أنه يحاول في "ليلة قمرية " – بشكل خاص – أن يغوص داخل الذات البشرية ويتوغل فيها عندما تتعرض للخطر، بعاف انكشافها وتعرية ما بداخلها ليظهر معدنها الحقيقي في مواجهة الحظات إنسانية حقيقية تكتشف أمام الحياة والموت والأمل واليأس وغيرها من المشاعر الإنسانية المتنوعة .
وكما كان ليم متنبئا ومرهما في رواياته وأدبه القصصي وكما كان ليم متنبئا ومرهما في رواياته وأدبه القصصي والمسرحي العلمي ببعض الاكتشافات واختراعات التي ستغير بلا ريب – من بعض مسارات حضارتنا المعاصرة . كالنتائج التي انبثق عنها "علم الجينات " واستفادة الإنسان منه ، وغيرها من الاكتشافات ، نجد ليم يلب دورا أخر بعد تحقيق معظم ما تنبأ به ، وهو دور المنذر، وتتلبسه حالة من الذعر في رؤيته لمستقبل البشرية : وكأنه الراعي الحكيم "ترزياس " الذي يتنبأ – وهو أعمى – بما ينتظر مملكة أوديب من خراب ولعنة أصابت المملكة إثر سير أوديب باندفاع نحو تحقيق طموحاته دون تريث وحكمة ، فيضرب بكل التقاليد والقيم الأخلاقية عرض الحائط ، رغبة في الاستحواذ على معرفة المستقبل ؟ واختراق الحدود والمواثيق وأسرارها دون تريث أو تفكر. وهذا ما يفعله بنا التقدم العلمي فينبهنا ليم في معظم أعماله الإبداعية بددا من رواياته العلمية وصولا إلى مساحياته ذات الخيال العلمي، ينبهنا إلى أنه علينا أن ننظر إلى الحاضر دون فصله عن الماضي للوصول إلى المستقبل وإنقاذه مما يهدده . ورغم أن كتابات ليم تجمع ما بين دفتيها التحذير والخوف والإنذار. الا أننا نكتشف فيها روح الأمل الظاهر في ،من سطوره الحاملة من بين ما تحمل روح الفكاهة والسخرية والمفارقة ، وسعيه الدؤوب لإنقاذ مستقبل أجيالنا الأتية من بعدنا. لذلك فإن ليم ليس بكاتب تشاؤمي خالص ، ولا هو بالمتفائل تفاؤلا ساذجا . إنه يتعامل مع التجارب المعملية والمكتشفات العلمية تعامله مع قضايا الحياة اليومية ، فيخدش حياء ، أسرار العلم ومكتشفاته ، ليقدمه لنا كخبزنا اليومي ، وهو في فضحه لهذه الأسرار، وعرضه إياها فوق عاندة النقاش لتحليلها واتخاذ موقف تجاهها ، إنما يسعى لأن يثير فينا استشعار الخطر الذي يهدد عالمنا بهدف الدفاعا عن مستقبل الأنسان ودفاعا عن مصيره قبل أن يفوت الأوان .
ــــــــــ
(1) المذؤوبون- من الذئب ، أي أولئك البشر الذين تحمل طبيعتهم سمات الذئاب.
(2) كراكوف – المدينة الثقافية الثانية في بولندا بعد العاصمة وارسو. وكانت وما تزال مركزا ثقافيا للمسرح والفنون التشكيلية وغيرها من الفنون. وكانت عاصمة لبولندا في القرن الثامن عشر.
هناء عبدالفتاح (أكاديمي ومسرحي من مصر)