مع نهاية عصر النهضة، اكتشف الأوروبيون جاذبيتين جديدتين، لم ينتبه أحد الى وجودهما من قبل. الأولى كانت اكتشافا فرديا قام بها اسحاق نيوتن عندما توصل الى جاذبية الأرض. والثانية كانت جماعية، وهي جاذبية الشرق. فقد اكتشف العالم العربي أن الشرق يتمتع بسحر غريب، وأن المرء عليه أن يذهب اليه مرة واحدة في حياته، حتى إذا حدث ذلك وقع في سحره، وراحت نداهته تناديه، لأن يعود المرة تلو الأخرى. وتظل هذه الندامة تناديه حتى يستجيب لها. ولذا.. فالحديث عن رحلات الأوروبيين الى الشرق قد رصد بعضها في عشرات الألوف من الصفحات، وما تزال هناك مشات الرحلات التي ترصد بها، ولم يسجلها أصحابها.. وعلى سبيل المثال، فإن الكتاب الذي أعده جان كلود بريخت عن "الرحيل الى الشرق" قد ضم فقط مختارات من هذه الرحلات الفرنسية وحدها في القرن التاسع عشر. وقد وقع هذا الكتاب وحده في طبعته الشعبية في 1110 صفحات. تضم كل صفحة تقريبا 520 كلمة. مما يعكس مدى أهمية هذا الحدث. وأهمية ثقافة الرحيل الى الشرق بالنسبة للغرب في تلك الحقبة من الزمن.
ولسنا هنا فقط بصدد عرض هذا الكتاب، وتقديمه الى القاريء العربي، ولكن من المهم أن نشير الى أن هذه الرحلات قد اقتصرت فقط على الدول الاسلامية ومنها فلسطين، وسوريا، ومصر وتركيا والجزيرة العربية، اذن فكما رأينا، فليس كل ما ضمه هذا الكتاب الضخم عن رحلات الى كل دول الشرق العربي. بل الى بعضها. فقد خلا تماما من رحلات الى دول المغرب العربي على سبيل المثال.
السؤال الملح.. لماذا هذه الجاذبية، ولماذا الرحيل الى الشرق بالذات..؟
بدأت الأسباب الدينية من خلال رحلات التبشير، لكنها ما لبثت أن أصبحت سياسية تبعا للعلاقات التي ربطت بين العالمين. وقد تولد عن هذا الاحتكاك وتلك العلاقات حالة من التمازج الثقافي، فأبدى الغرب اعجابه بحكايات الشرق، خاصة الموجود منها في "الف ليلة وليلة" فحاول أن يزور الأرض التي حدثت فيها تلك الحكايات الجذابة.
وعندما نطالع ما كتبه الرحالة الغربيون عن الشرق، سوف نلاحظ أن أغلب هؤلاء الرحالة الذين كتبوا من الأدباء، خاصة في القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، مثل شاتو بريان، وجوستاف فلوبير ولامارتين.
هؤلاء الرحالة كانوا ينظرون الى رحلاتهم بمثابة اكتشاف، أو تخيل، بمعنى أنهم كانوا طلائع المسافرين المحدثين الى الشرق. ولذا فسوف نرى أن كلمة الشرق قد تغيرت مفاهيمها في الموسوعات الأوروبية على مدى السنين، ففي بداية الأمر كانت أقرب الى معنى "الفضاء" الذي نقصده الآن. وفي بداية القرن التاسع عشر، ذكرت كلمة الشرق مرات قليلة في كتب الرحلات. ولعل الذي أرساها بالمعنى الأدبي هو الشاعر لامارتين في قصيدته "ذكريات، ومشاعر، وأفكار ومشاهد أثناء رحلة الى الشرق" عام 1835.
ومع بداية القرن التاسع عشر، كانت الرحلات الاستكشافية للشرق بمثابة حالات واجتهادات فردية، يقوم بها أشخاص فوق أحصنة، متجهين الى شرق أوروبا، فتركيا، ثم سوريا وفلسطين، ومصر. واذا كانت الحملة الفرنسية قد جاءت بحرا الى مصر. فان شاتوبريان قد وصل فوق حصانه الى أثينا، ثم الى مدينة القدس. ثم جاء الى القاهرة، وآثر أن يعود الى بلاده بحرا عن طريق الإسكندرية في شهر نوفمبر 1806. وليته ما فعل، فقد فاجأت السفينة التي يستقلها عاصفة بحرية شديدة جعلت السفينة تجنح الى تونس.
ولم يكن السفر الى الشرق سهلا في تلك الآونة، فهو يتطلب تفرغا، ومشقة، وأهوالا كثيرة. ومساندة دبلوماسية. وقد تكلف الكثير في رحلة الشاعر لامارتين الى الشرق عامي 1832، 1833. ولم يطق أن يبتعد طويلا عن الشرق، فعاد مرة أخرى الى أسطنبول عام 1850 أي بعد الثورة التي شهدتها فرنسا عام 1848. فراح يبحث عن السلام في الشرق.
وقد ساعد زيادة الرحيل الى الشرق التقدم التقني، واختراع القطارات البخارية، وتطور الملاحة البخارية، وجعل هناك حركة بريدية متميزة، وجاء محمد علي بالفرنسيين من أجل صناعة نهضة في الشرق على المستوى التقني. وبظهور الخطوط الملاحية المتطورة زاد عدد الرحلات، وكثر الرحالة، هؤلاء الذين لم يسعوا الى التعرف على المواني، والمدن الكبرى. ففي مصر على سبيل المثال، ربطت السكك الحديدية بين القاهرة والإسكندرية في خمسينات القرن التاسع عشر ثم امتدت هذه الخطوط الى صعيد البلاد. وما لبثت أن انتشرت في سوريا. فربطت بين دمشق وبيروت ويافا والقدس. ثم بين بغداد وتركيا وجبال الألب عابرة سلسلة جبال طوروس.
وهكذا أصبح الرحيل الى الشرق عملية سهلة وسريعة في أقل من نصف قرن، فقد تمكن نرفال من الوصول الى الإسكندرية في اسبوعين لا أكثر في عام 1843. أما رحلة فلوبير، بعد أقل من ستة أعوام فد استغرقت ثمانية أيام. وهكذا بدأت السياحة الحديثة بصورتها التي تطورت الى ما نواه اليوم. هذه السياحة التي بدأها وبرع فيها الانجليز، وازدهرت بعد حفر قناة السويس. حيث بدأت سياحة "المجموعات". ورغم أن هذه السياحة بدأت دينية، الا أنها كانت من أجل التعرف على حضارات الاقدمين، في المقام الأول، وقد تتبع ذلك ظهور أدب الرحلات الى الشرق. وعندما بدأت الصراعات العسكرية بين دول أوروبا، خاصة بريطانيا، وفرنسا، فإن السائحين كانوا يلتقون لأول مرة في شوارع مدن الشرق، وفي فنادقها. وأيضا في دروب الصحراء. وقد بدا هؤلاء الغربيون مشدوهين بشكل الحياة في الشرق، في تلك الآونة، خاصة الجمال التي ترمز الى الصبر، وأشجار النخيل، والكثبان الرملية الغريبة الألوان.
وقد تطلب وجود هذه الأفواج المتدفقة من السائحين، والعلماء، توفير الكثير من الخدمات الفندقية، والسياحية. وظهرت وظائف جديدة مثل الارشاد السياحي. وموظفي الفنادق الراقية.
وعاد هؤلاء السائحون الى بلادهم ليعبروا عن سعادتهم بما شاهدوه، وعن دهشتهم لما عاشوا فيه ولا يمكن لشخص أن يؤلف كتابا عن رحلته الى الشرق في 1100 صفحة مثل الدكتور رافيل ايزامبير الا اذا كان قد شاهد في هذا الشرق ما يستحق الكتابة عنه في كل هذه الصفحات. ولم يكن كتابه "الشرق" هو الوحيد من نوعه، وحجمه، فقد ظهرت كتب عديدة لاشخاص شهدوا الرحيل الى الشرق. وشجع هذا الكثيرين للسفر نحو بلاد أخرى ليس من بينها دول البحر الأبيض المتوسط. بل اتجه الرحيل الى الجزيرة العربية.. ووجد أدب الرحلات الى الشرق مجالات جديدة، وموضوعات متنوعة. وأصبح الرحيل الى الشرق مرتبطا في الكثير من أشكاله بالكتابة عنه، وازدهر علم الاستشراق وأدب الكتابة عن السفر الى الشرق مثلما كتب الكونت فوريان: "قضينا الليل نائمين فوق الرمال. نشعر بدفء هذه الرمال التي امتصت أشعة الشمس طيلة النهار. ولم نحمى بأي برودة منتظرة. هكذا كانت الصحراء".
ويقول الكاتب الروائي اندريه جيد الذي فاز بجائزة نوبل عام 1947 في كتابه عن "رحلاته": "أنا الآن عرفت أن حضارتنا الغربية ليست فقط أجمل الحضارات، كنت أعتقد أنها الوحيدة.الآن اكتشفنا أننا ميراث هذه الحضارات الشرقية. أما الشاعر لامارتين فيقول عن رحلاته الى الشرق: "أحسست أن جسدي وروحي هما أبناء ضوء الشمس.وأنهما في حاجة الى شعاع الحياة الذي يأتي من هناك".
وقد أعلن لامارتين سخطه الشديد على حضارات الغرب التي ملأت الجو بالأدخنة، والغارات السامة. والعرق، والأوحال. وعلل كثرة السفر الى الشرق بأنه حالة فروبية الى أماكن أكثر نقاء وبراءة. وأطلق على هذه البلاد "أرض المعجزات". ويعترف لامارتين أن كلمة الشرق لا تعني أبدا التخلف، عند كل الأوروبيين بل هي تعني نهضة الروح، أنها قفزة نحو الامام، فنحن أمام طبيعة تقوم على أمس ثلاثة من مخلوقات الله عز وجل وهي الجبال والبحار والصحراء. ففيها تتوحد الكائنات بخالقها. "لم نكن نشعر بالملل قط من هذه الصباحات المنعشة، ولا من النوم في أحضان الشمس". ويعترف لامارتين، وهو من أهم الشعراء قاطبة في القرن التاسع عشر، أن وجود المرء في الشرق يحرره من خطيئته المرتبطة بالمتع المادية: "هكذا قضينا أغلب أوقاتنا. الرموش نصف مفتوحة. والأفكار شاردة. وترنيمات الصلاة على الشفاه. لم أعرف أي عطر يفوح من هذا العالم الشرقي الذي كان يغزونا، لا أعرف أي شيء كان يلمع ويشع فينا". هذه الرحلات ساعدت في تدبير منظور الغرب نحو الشرق، فهو لم يعد ذلك المكان الساحر الذي تدور فيه أحداث ألف ليلة وليلة، كما يقول جان كلود بريخت، والذي يعترف أن بعض الكتابات عن الشرق لم تكن صادقة مثلما فعل مونتسكيو. ولذا فليس من الكافي أبدا أن نقرأ الكتب كي نتعرف على الشرق. ولكن من المهم الاتصال به. لقد اكتشفنا أن هناك أخوة لنا يعيشون هناك. وعرفنا أنه ليس مجتمعا قائما على المتع الحسية. فقد أخطأ مونتسكيو عندما تصور أن حكام الشرق أشبه بنيرون. أما فولتير فقد أخطأ بدوره في كتابه "مقال في العادات" عندما نظر الى حكومات الشرق على أنها عبثية.
ويهمنا هنا أن نقتبس الكثير مما كتبه أدباه مشهورون، ومقروءون، ورحالة موثوق بهم. فبعد لامارتين ونرفال جاء فلوبير مؤلف رواية "مدام بوفاري" واندريه جيد. فقد تغيرت نظرة فلوبير قليلا، لكنها لم تكن سيئة، فهو يرى أن الشرق يعيش في سبات، وسكون، وذلك تبعا لدرجة حرارة الجو التي قد تبعث على الكسل.
ولم يخف الكاتب الرحالة نوشيه أن اكتشاف الشرق قد فتح عيون رجال الغرب على خصوبة الأرض، والكنوز المحفورة هنا في الشرق، فقال: "لدينا قوم أذكياء، وشجعان يطلبون هذه الأرض من أجل زراعتها، يجب أن ندوس على هذه الكنوز كي نستكشفها".
مثل هذه المفاهيم عكست رؤية الغرب للشرق، وفسرت الأسباب التي دفعت الجيوش للتأهب من أجل القدوم الى الشرق، عند أي بادرة، وربما بلا سبب، مثلما حدث في مصر عام 1881. وذلك للبقاء فيه فترة طويلة. وقد بدا هذا المنظور في الدليل السياحي الذي أعدته الباحثة جوان عام 1878 حيث قالت: "ان هذا الشرق قد تجاوز السكون. وهو يتغير بسرعة".
الجدير بالذكر أن عدد الرحالة الذين جاءوا الى الشرق كما ورد بيانهم في كتاب الرحيل الى الشرق، كبير ومتنوع. ويهمنا هنا أن نذكر الأدباء منهم، باعتبار أنهم الأكثر انتشارا بين الناس. منهم على سبيل المثال فرا نسوا دوشاتوبريان 1768 – 1848. والذي قام برحلة طويلة من باريس، مارا بأثينا واسطنبول. ووصل الى يافا في أول اكتوبر عام 1806 ثم وصل الى القاهرة ورحل منها الى تونس. وحول هذه الرحلة التي استغرقت قرابة عشرة أشهر ألف كتابا يحمل عنوان "رحلة من باريس الى القدس".
أما جوستاف فلوبير ( 1821 – 1880) فقد رافق زميله ماكسيم عام 1849 الى الشرق وجاء ذكر رحلته الى الشرق في الجزء الثاني من "رحلاته" التي نشرت عقب وفاته. وقد عرف الفونس دولامارتين المجد في صباه وشبابه كشاعر متميز. ولا ينسى له العالم قصيدته التي يقول فيها: من العار أن يغني المرء بينما روما تحترق.
ولامارتين عاش بين عامي 1790و1869. وقد رحل الى الشرق في وفد من المغامرين هم خمسة عشر رجلا في يوليو 1832. فزار دمشق وبيروت. والقدس. وقد اضطر للعودة الى باريس بسبب وفاة ابنته. ثم عاد في العام التالي الى الشرق ونشر كتابه عن "رحلة الى الشرق" في أربعة أجزه عام 1835.
أما الأديب بيبر لوتي، فانه لا تأتى سيرته، الا وتذكر الناس الشرق. فهو لم يرحل فقط الى مدنه، بل عاش فيها وارتبط بها. واعتنق الاسلام. عاش بين عامي 1850 و1932. وتنقل بين مدن الشرق مثل دمشق، وبعلبك، والإسكندرية، والقاهرة، والجزيرة العربية. وله العديد من الكتب منها: "الزيادة".1879. و "اسطنبول" 1892. و "الصحراء" و "القدس" و "الجليل" عام 1895. ثم "الموت في فيله" عام 1908.
كما جاءت شهرة جيرار دونرفال (1808-1995) أيضا من رحيله الى الشرق. حيث سافر من باريس في ديسمبر 1842. وركب سفينة رست به في الأسكندرية. وظل يتجول على ضفاف النيل وظل هناك لمدة عام بأكمله. وقد ذاق نرفال طعم السفر الى الشرق، فلم ينقطع عنه، ولا عن الكتابة حول "مشاهد من الحياة الشرقية".
أما المؤرخ والفيلسوف ارنست رفيان (1823-1892) فقد سافر الى الشرق مع أخته هنرييت بناء على اقتراح من نابليون الثالث في مايو عام 1860. وأرخ لهذه الرحلة في كتابه الضخم "ذكريات الطفولة والشباب".
الكتابة عن الشرق أشبه بالفرص في محيط جميل، واسع، مزدهر والتوغل في هذا البحر، الخضم، يجعل المرء يكتشف بسهولة أن الذين أعجبوا بالشرق وأحبوه، أكثر بكثير من الذين حاولوا انتقاده. ولعل هذا يفسر سبب تلك الزحمات المتدفقة من الزائرين لبلادنا، مهما كانت الأجواء، ومهما بدت الأزمات.. فالحياة تتدفق،ولا تتوقف عن الدوران،والسريان.
محمود قاسم (كاتب من مصر)