سعد البازعي ناقد سعودي بدأ من خلال الوعي باشكالية الاستشراق الأدبي في وضع يده على واحد من هموم المثاقفة والمقارنة الادبية التي لم تتوقف عند حدود الادب كنصوص ابداعية, وانما تعدت ذلك الى النقد الادبي. لقد عالج النصوص الادبية الغربية في تمثلها للآخر الشرقي فأدى به ذلك الى دراسة التحيز لا في الادب فحسب وانما في النقد، كما تتضح تحيزأته في السياقات الثقافية والفكرية التي تحكم انتاج النقد.
سعد البارعي الذي درس الاستشراق اكتشف بعد عودته الى الواقع الثقافي العربي ان مشكلة المثاقفة النقدية مشكلة كبرى من مشاكل الواقع, لقد لعب "فوكو" دورا اساسيا في تشكيل رؤيته للمثاقفة الادبية والنقدية, انه يسعى للوصول الى حوار محتميا بإرثه الخاص وبمعطيات الثقافة الاخري لتحقيق فهم افضل لواقع الذات وواقع الآخر معا.
تلك كانت بعض جمل من شهادة للناقد والتي اختار لها عنوان: "الحوار بين امتلاء الآخر وعوز الذات "، ولعل حوارنا معه يكشف جوانب أخرى من هذه العلاقة بين الأنا والآخر، ومحاولة لتوصيف حالتنا.
النقد العربي يمر بأزمة فهل يمكن ان نحدد أسبابا معينة وراء غياب نظرية نقد عربية على غرار ما كان لدى الآمدى والقرطاجني والجرجاني رغم انفتاحهم على الآداب العالمية آنذاك؟
أحب ان اسمي ما يحدث الآن في الساحة النقدية العربية هو غياب الممارسة والتنطير النقدي الخلاق النابع من الخصوصيات الثقافية العربية, بمعنى انني لا اتطلع الى ما يسمى بنظرية نقد عربية لان النظريات في الاساس جهد انساني عام, لكن في كل ثقافة يفترض ان ينشط تنظير وممارسة نقدية نابعة من الخصوصية الثقافية. بمعنى ان التوجه الشكلاني موجود في كل الاتجاهات النقدية في كل انحاء العالم, هناك نقاد يهتمون بالشكل وهناك نقاد يهتمون بالمعنى، ولا يمكن أن نخرج بشيء خارج تماما عن كل هذه الامس, ولكن كيفية صياغة التوجه الشكلاني نفسه قد تأخذ صيغه نقدية عربية او امريكية… الخ استجابة الى ظروف تختلف من ثقافة الى أخرى فالجرجاني مثلا عنده نقد شكلاني، والجاحظ عنده بعض الأسس, لكن المطوب من الناقد العربي ان يبني على هذه الأسس وعلى الراهن الآ بداعي العربي المعاصر والقديم ايضا جهودا نقدية تتسم بسماتنا الخاصة, وبالتالي هذا هو الذي يمكن ان نسميه نقدا عربيا او نقدا له خصوصية عربية.
اذا جاز لنا ان نقول ان النقد يعتبر بمثابة "الخطاب الآخر" الذي يتحمل علانية مسؤولية وجودنية لاعطاء معنى خاص فأين هذا من الحديث عن موت المؤلف عند البعض وموت القارىء عند البعض الآخر؟
اعتقد ان النقد هو خطاب ثقافي وفكري وابداعي مواز للنص الابداعي الذي بني عليه هذا الخطاب, بمعنى انه ليس هناك قطيعة اساسية وانما هناك جسور متصلة بين الخطابين بل ان هناك سمات مشتركة, ويجب ان نستفيد في هذا السياق من بعض الكشوفات النقدية الحديثة التي أبرزت ما في الخطاب النقدي من ابداع بحيث انه يصعب ان نتحدث عن نقد علمي بالمعنى المطلق للكلمة, فالنقد بوصفه احد العلوم الانسانية متأثر بمتغيرات الثقافة الانسانية والشعور والفكر لكنه ألصق من بعض ما يسمى بالعلوم الانسانية الى هذا الجانب الابداعي لانه يتصل مباشرة بنتاج الخيال والاحساس والتفكير. من هذه الناحية اعتقد ان هناك خطابا نقديا ابداعيا، واما مسألة "موت المؤلف » و" موت القارىء» فهناك من يقول "عصر القارىء"، هذه مقولات يجب ان تفهم في سياقها الخاص, بمعنى انه ليس الحديث عن الغاء دور المؤلف تماما، المؤلف يظل حاضرا حتى بعد موته بالمعنى الفيزيقي، لان معلوماتنا عنه وعن حياته اذا توافرت ستؤثر في فهمنا للنص, انا لا استطيع ان افصل بين فهمي لقصائد المتنبي عن معرفتي للمتنبي كإنسان ولا استطيع ان افعل ذلك بخصوص ما كتبه غيره, من هذا المنظور فان حياة المؤلف تمارس دورها بشكل أو بآخر في قراءة النص طبعا، هناك حالات لا يعرف فيها المؤلف, من البديهي هنا ان حياة المؤلف لا تؤثر ولكن الذي يؤثر هو السياق التاريخي، وربما نعزله ونقدم النص كما لو اننا نعرف من كتبه, في هذه الحالة سنقرأ النص قراءة محدودة, والافضل منها هي تلك القراءة التي تغتني بالمعلومات المتوافرة عن حياة المؤلف والعصر والسياق الذي عاش فيه.
هل يمكن ان يدور الحديث عن «الحداثة " او" ما بعد الحداثة " في الادب دون الالتفات الى تحديث المجتمع؟ اذ اننا نلاحظ على المستوى الفكري ان هناك اسئلة قديمة يعاد طرحها من جديد وكأن هذه الاسئلة لم تجد لها اجابات لدى رواد النهضة, كيف يتسق هذا الخطاب النقدي مع بروز هذه الردة الحضارية؟
على مستوى من يعرفون بأهل الحداثة هناك نوع من الانفصام الثقافي الذي تأتي اسبابه من عدة مصادر، منها الواقع العربي الذي نعيشه، والذي يختلف فيه الابداع عن الواقع المعاش, ومنها ما يأتي من المؤثرات الفكرية التي تغير من فهمنا للاشياه تغييرا احيانا لا يكون منسجما مع هذا الواقع الذي نعيشه بمعنى اننا نستورد الكثير من المعطيات الفكرية الغربية لنقرأ واقعنا من خلالها فهذا يحدث نوعا من الاغتراب عن الواقع حتى لدى الحداثيين انفسهم, فما بالك برجل الشارع العادي الذي لا يعرف شيئا من المتغيرات الفكرية. بمعنى ان هناك مستويات كثيرة متجاورة واحيانا متناقضة في حياتنا الثقافية لذلك اتمني ان ينتشر الوعي، لان ما نسميه تنمية وتطويرا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية جزء من عملية تحديث هذا الواقع, والذين يحاربون الحداثة الادبية والفكرية لا يعرفون انهم يعيشونها دون وعي، وهذا ينتبى بالتأكيد فجوات كبيرة في الوعي والمارسة الثقافية.
بعد الكلام الكثير عن "الحداثة " العربية الآن نتحدث عن "ما بعد الحداثة " هل ترى ان الحداثة ادت دورها وانتهت؟
هذا الكلام يأتي في سياق غربي بالدرجة الأولى, هناك من يقول اننا لم ندخل في أفق الحداثة بعد، فكيف نتحدث عن "ما بعد الحداثة "، كأنك تأتي بجهاز كمبيوتر الى قرية سكانها أميون, وتتحدث عن دخول هذه القرية عصر الكمبيوتر، القضية ان الكمبيوتر تناج سياق ثقافي وحضاري معين, فأنت تأتي به وتزجه في عالم لم يعرف القراءة بعد، من سوء الفهم ان نتحدث عن "ما بعد الحداثة " لدينا، بمعنى انها انتاج ثقاذ محلي, ليس هناك «ما بعد حداثة " هنا، ولكننا نتأثر بشكل حتمي بالتطورات التي يمكن ان توصف بأنها ما بعد حداثية في الغرب, خذ مثلا تأثير التليفزيون والثقافة الشعبية والعمارة, كل هذه امور ينعكس فيها ما يسمى بـ"ما بعد الحداثة "، يأتي معماري ويستورد شكلا من هذه الاشكال المعمارية من الغرب ويطبقها في القاهرة آو الرياض او في مدينة أخرى فيأتي هذا الشكل وكأنه ما بعد حداثي، لانه في اساسه كان كذلك, اما هنا عندما دخل في سياقنا لا يمكن أن نصفه بذلك, وهذا ما حدث في قصيدة النثر وفي بعض الاشكال الروائية الحديثة التي أتت نتيجة مثاقفة فردية, "فلان " الروائي يقرأ آخر رواية صدرت في امريكا او المانيا فيوظف هذه التقنيات ما بعد الحداثية, لكنه يختلف عن مقابله الالماني او الامريكي في أن ذلك الالماني ينتج في سياق كله يسير في هذا الاتجاه او معظمه, بينما هو هنا فرد او فردان او ثلاثة, بينوا الاتجاه السائد هو غير ذلك فلا يمكن ان آخذ هذا الفرد على انه مؤشر لتغير ثقافي كامل, نحن لسنا في عصر «ما بعد الحداثة " حتى في الغرب هناك من يناقش ذلك, ومن اشهر هؤلاء الفيلسوف الالماني "هابرماس " الذي يقول ان الحداثة نفسها مشروع لم يكتمل, ما يحدث الآن هو تتمة واستكمال لما بعد الحداثة, هناك اختلاف في وجهات النظر حول هذه المسألة لكننا مازلنا بعيدين, وهذا لا يحزنني فكوننا نجري بهذه السرعة: ان نكون حداثيين ثم ما بعد حداثيين هو نوع من التبعية الثقافية المزعجة, لا يزيدنا غني او رفعة ان نكون ما بعد حداثيين, اذ طالما اننا لم ندخل في الافق الحضاري الذي دخلته «ما بعد الحداثة "، وفيها كثير من المشاكل, فالتطورات الثقافية التي تحدث بالغرب ليست كلها ايجابية, نتمنى ان نأخذ بعض الاشكال القيمة, لكن ليس من مصلحتنا دائما ان نتأبع أحدث الموضات دون ان نستوعبها او تكون لها حاجة عندنا.
"نفي الآخر» سمة تكاد تكون اشكالية ملازمة لحركة الابداع والفكر طوال تراثنا الثقافي قديمه وحديثا، كيف ترى هذه الظاهرة؟
في قلب العصر العباسي نحن نعرف التفاعل الثقافي الذي تم بين المفكرين المسلمين والثقافة اليونانية, فهذا نوع من الانفتاح على الآخر، وتقبل الآخر والتحاور معه, ولو نظرنا الى هذا النموذج لوجدنا انه نموذج انشائي، بمعنى ان العرب لم يأخذوا كل ما لدى اليونانيين لم يأخذوا الشعر ولا المسرح, و"فن الشعر» لارسطو لم يكن له تأثير كبير بقدر ما كان للفلسفة اليونانية, هناك من يحاول ان يحدث قطيعة مع الآخر، او يحاول ان يكون انتقائيا بشكل مثالي مع الغرب بحيث ينفتح ويأخذ الجيد ويترك الرديء، لكنه حلم قد لا يحققه احد، وهناك من ينفتح انفتاحا تاما ويدعونا الى ان نأخذ كل ما هنالك باسم العالمية والانسانية.
"نفي الآخر» موجود لدى قسم من اقسام المجتمع ولكن هناك فئة أخرى منذ الطهطاوي وطه حسين بعد ذلك كانت تدعو الى انفتاح اكبر واشمل مع الآخر، فنفي الآخر اذن مسألة جزئية ولو تم نفي الآخر تماما لما بني هذا الفندق, كل هذه انجازات حضارية غربية استفدنا منها، وبعضها طعمناه بما لدينا من ارث حضاري فجاءت العمارة ممزوجة بعناصر من هنا وهناك, وجاء الفكر النقدي هكذا، بعض الناس يعبرون عن مواقف حادة تجاه الغرب, وهذه مواقف غير ناضجة, ومتسرعة اكثر من اللازم, لا يمكن نفي الغرب تماما كما لا يمكن امتصاصه تماما.
على الجانب الآخر من ظاهرة النفي تلك هناك من يردد مقولات كالقطيعة مع التراث وقتل الاب, كيف ترى ذلك أيضا؟
كلها مواقف ايديولوجية تتبنى رؤية فئة معينة للعالم وللمجتمع, وتحاول ان تفرضها، السياق العام لا يمكن ان يسير حسب احد هذين الاتجاهين بدليل اننا نعيش نوعا من الحداثة التي أتت رغما عن رفض الرافضين, وكذلك نعيش تواصلا مع التراث رغم المنادين بالقطيعة معه، ان هذه الفئات شبه هامشية, والمؤثر الحقيقي يظل هو ذلك التيار العام الذي يتفاعل فيبقي اشياء ويرفض اشياء، في نظري اننا في حاجة الى مثقفين ومفكرين يعملون على هذا التيار الوسط لكي يرشدوا ويثروا عملية المثقف عامة والتي بموجبها تأتينا الحضارات الاخرى وفي الوقت نفسا نتواصل مع التراث, معروف اننا لا نتواصل مع كل التراث هناك تراث ننقطع معا وهناك تراث يعيشن ويستمر، وليس كل ما في التراث بيدا، كما انه ليس كل ما لدى الغرب جيدا، فالقضية اننا نستصفي اشياء، وبعض ما نستصفيه ليس هو الافضل دائما، العملية معقدة, وهذه المواقف الحادة لا تؤثر تأثيرا كبيرا بدليل ان الدعوة للقطيعة مع التراث قديمة فمنذ خمسين او ستين سنة نسمع دعوات من هذا النوع خاصة على موجات الحداثة في الاربعينات والخمسينات, لكن هذا لم يحدث, الذين يدعون للقطيعة مع التراث يدعون الى القطيعة مع نوع معين منه, ولنأخذ "ادونيس » مثلا فهو في «الثابت والمتحول » يفرق بين نوعين من التراث ويرى انه ينبغي ان نتبنى التراث المتحول بدل الثابت, فهو يتبنى التراث الصوفي, وهو يود ان يشل الاب ولكن اي اب انه الآخر غير المرغوب فيه. لكل تراثه ولكل حاضره وهذا لا يؤثر تأثيرا حاسما في مسيرة الثقافة العامة, اعتقد ان التراث الصوفي يعيش، والتراث السني- بالنسبة لادونيس- ما زال يهمنا، رغمم محاولات تقليب كل العناصر الاخري عليه, الغلبة في النهاية ليست لهذه الدعوات الحادة.
يقول الفيلسوف الايطالي «كروتشة » ان المبدع حينما يتحول الى ناقد فهذا يعني انه افلس في الابداع، هل تتفق مع هذا الرأي؟
هناك حالات كثيرة تشير الى ان النقاد لهم اعمال ابداعية بعضهم يستمر وبعضهم يتوقف, لكن في المقابل ينبغي ان نتذكر ان عملية النقد هي نفسها تحولت الى عملية ابداعية, وفي حالة كثير من النقاد ما يختارونه وما يدرسونه من اعمال هو تعبير غير مباشر عن ابداعهم, بعض النقد يعيد صياغة العمل بحيث يبدو أجمل بكثير، وافضل من يفعل ذلك في النقد العربي هو عبدالفتاح كليطو، ذلك الرجل لديه مقدرة مذهلة على قراءة النص واستكناهه واستنباط جماليات على نحو قد لا يكون فعلا خطر ببال المبدع او القراء، هذه مقولة شعارية ربما تصدق احيانا، لكنها ليست دقيقة, في حالة كانت لي تجربة لكنها ضعيفة لم تتواصل وهناك من يكتبون النقد والابداع مثل عبدالعزيز المقالح وفي الغرب ايليوت وماثيو ارنولد في القرن التاسع عشر كانوا نقادا وعبدين أيضا، وقيمتهما تتوازى، بل في حالة ايليوت لا يمكن ان نغلب احدهما على الآخر.
الا ترى ان هناك أزمة واضحة في علاقة النخب العربية بمجتمعاتها، وفي علاقة الدولة بالمجتمع خاصة بعد ملاحظة انه لم يبق من المشروعات التنويرية سوى أطياف شبحية؟
النخب في كل المجتمعات تعيش عزلة بوصفها الطليعة التي تقود المجتمع, وهذا موجود منذ الفراعنة واليونانيين, وهذه العزلة قد تتفاوت من مجتمع لآخر، في العالم العربي هذه النخب مطالبة بان تعيد النظر في موقفها وعلاقتها بالتيار السائد، كل المشتغلين في المؤسسة الاكاديمية يعتبرون جزءا من هذه النخبة, لكن العزلة عن التيارات الثقافية وعن الشارع والحياة اليومية قاعة, لانه يجعلها كائنات هلامية, في الوقت الذي يحتاج فيه الشارع العربي الى التعامل مع النخبة, لاشك ان الشارع العربي يعيش حالات فصام بين مستويات مختلفة من الحياة الثقافية.
البعض يرى ان الحداثة لم تعد طاقة تحرر بل طاقة تهميش واقصاء للاغلبية الاجتماعية ولم تعد كلمات الحداثة تعني سوى اشارات ورموز لفصل النخبة عن العامة.
هذا ما يحدث فعلا لدى كثير من الكتاب خاصة اولئك الذين يبالغون في تجريد الكتابة, واغراقها بدلالات واحالات بعيدة, ويفرقون في الرمز، ويطالبون الجمهور بالارتقاء لهم, هذه الحالات لا شك تسبب نفورا لدى المتلقي العادي، وفي الوقت الذي نطالب فيه هؤلاء الا يطغوا في محاولاتهم هذه, نطلب من القارىء ان يبذل جهدا للوصول الى العمل الابداعي وهذه مشكلة فهم وافهام, لكني اعتقد ان الابداع الجاد لا يتوجه الى القاريء العادي جدا او حتى المتوسط, لان هذا سينعكس على مستوى الابداع, لكن المطلوب ان يكون في هذه الثقافة الجادة المفاتيح التي تساعد القراء على التواصل مع العمل, ولا شك ان في كل ثقافة انماطا ومستويات مختلفة من الكتابة, هناك كتاب يكتبون للنخبة وهناك من يكتب للقارىء العادي، المسؤولية مسؤولية الفرد نفسه، عليه ان يطور نفسه ولا يقع تحت طاعة «الكيشيهات " مثل مقولة ان الحداثة هي كذا وكذا، مفروض ان يتفحصها بنفسه ويتأكد ان هذه الاعمال بهذا الشكل, لآنه- احيانا- بعض المفاهيم المسبقة تسيء الى القراءة, لانه منذ البداية يأتي القارىء وهو مسلح بمقولات مثل انا لن افهم هذا العمل لانه عمل صعب, وليس لديه الاستعداد لان يقضي خمس دقائق لمحاولة فهم او تفكيك او النفاذ الى النص, هو يريد شيئا جاهزا لانه ليس لديه الوقت الكافي.
على هذا النحو كيف نحدد تلك الازمة: هل هي ازمة قارىء ام مبدع ام ناقد؟
هي ازمة قارىء ومبدء وناقد، نحن في حاجة الى النقد الموصل, انا اقرأ لبعض الاخوة النقاد الذين يعترضون على ان يقوم النقد بتوصيل العمل او تفسيره الى اقارىء ويستنكفون من هذا الدور، وهذه المرحلة التي قد يصل اليها النقد، وهذا هو الدور في مجتمعات او آفاق معينة, نحن في وضع ثقافي يقطب من الناقد ان يكون قارئا موصلا للعمل, ولا شك ان هناك قراء لا يستطيعون ان يتوصلوا الى العمل, ليس بضرورة أن أفهمهم ما الذي يريده الكاتب وانما أن أساعدهم على امتلاك المفاتيح التي توصل للعمل, وهناك سؤال: لماذا يدرس النقد في المدارس والجامعات؟ تدريس النقد الادبي هو محاولة لاعطاء ابناء هذه الثقافة القدرة على التواصل مع النصوص, كيف يفهمون مسرحية يونانية قديمة؟ كيف يفهمون الشعر العباسي او نصا حديثا؟ هذه معرفة لا تولد معنا، هي ثقافة وتحصيل ثقافي لذلك لابد ان يقوم احد بهذا الدور، فالذين لم يدرسوا او لم يكملوا تعليمهم ويريدون قراءة رواية او ديوان شعري ما زالوا بحاجة الى ذلك الذي لديه الخبرة النقدية ليساعدهم على امتلاك النص تماما مثلما يحدث في حالة الطالب في الدرسة او الجامعة, وليس الامر تعاليا من شخص على آخر، وانما هي خبرات, انا لدي خبرآت اعرضها واقدمها للقارىء لعله يستفيد منها، واظل انا بحاجة الى خبرات, وهذا دور قومي ووطني لا ينبغي للناقد ان يتخلى عنه في غمرة الانشغال بالنظريات النقدية او استعراض القدرات الابداعية لدى الناقد، انه يستطيع ان يقرأ النص وان يحلله بطريقة لا تعجب في نهاية الامر زملاءه, اعتقد انه لا ينبغي ان يتخل عن هذا الدور الاساسي وهو توصيل الثقافة الجادة.
النقاد متهمون بندرة النقد التطبيقي وانشغالهم بقضايا التنظير. أليس هذا صحيحا؟
هذه مقولة تتردد كثيرا وانا لدي تحفظ عليها، لاشك ان هناك انشغالا بالتنظير ولكن في الوقت نفسه ليس هنإ تهميش للجانب التطبيقي فعندما تقرأ كتابا لمحمود امين العالم عنوانه "اربعون عاما من النقد التطيبقي" او لرجاء النقاش "ثلاثون عاما من الشعر والشعراء" هؤلاء النقاد قضوا زهرة عمرهم في قراءة النصوص: روايات ودواوين شعرية عولجت ودرست, خذ مع هؤلاء شكري عياد من يستطيع ان يقول انه قضى عمره في التنظير بدلا من الممارسة اعتقد انه قدم قراءة تطبيقية كثيرة ربما تعدل ما قدمه من تنظير، وفي السعودية والخليج هناك انشغال نقدي بالنصوص انا ليس لدي تنظير، كل ما لدي هو تطبيق, فلدي كتاب يطبع عنوانه «إحالات القصيدة " كله دراسات في الشعر اعتز بها.
على الجانب الآخر هناك ظاهرة يمكن ان نسميها نقد النقد تحظي بجزء كبير من اهتمامات النقاد؟
الذي يحدث هو ان النقد نفسه سواء كان تطبيقيا او نظريا به مشاكل كثيرة, وهذه تصل الى القراء، فأحيانا تخلق مشاكل ليست موجودة, سوء فهم او سوء قراءة وخلل منهجي وتناقضات, فهذه« تحتاج الى غربلة واعادة نظر، نقد النقد هذا هو الذي يثبت المشاكل الموجودة في الجانب التنظيري، وما ذكر« سيد البحراوي عن "كمال ابو ديب " حول مسألة القفز بين المناهج كل سنتين كأن المناهج النقدية (موضة)، فهذا التنقل ليس ظاهرة ابداعية كما يردها "كمال ابو ديب " وليست دليل قلق حقيقي، انما هي ركوب موجات سريعة فاليوم هو بنيوي وبعده "هرمنيوطيقي" هذه الامور في حاجة الى مساءلا، انا احترم هذه المحاولات, ولاشك ان هناك سعيا جادا وراءها، ولكن بها مشاكل ينبغي ان فتكاشف حولها، ولا اعفي نفسي من المشاكل, لكن التنظير العربي هو تنظير من الدرجة الثانية او الثالثة بالقياس الى الغرب وهو ترجمة واعادة تقديم غير خلاق, عناصر تجمع معا جمعا لا منطقية فيه، كما ان هناك كما كبيرا من الادعاء، كثيرون يدعون انهم أتوا بنظرية جديدة وهم جمعوا اشياء لا رابط بينها او حتى دون ان يقدموا الاساس الفلسفي لهذا الربط, انا اؤمن بان الابداع النقدي هو اعادة غربلة, وتجميع العناصر من جديد للخروج بشيء آخر مختلف, لكن ينبغي ان يحدث هذا على اساس فلسفي، وبغياب الرؤية الفلسفية الشاملة لمعنى الادب والنقد، سنظل نقدم تنظيرا ثانويا وغير مهم, لهذا فالتجربة النقدية العربية بحاجة الى اعادة نظر، قبل ان اتحدث عن التفكيك والهرمنيوطيقا ينبغي ان ننظر في فهمنا لهما، والسؤال الاهم هو هل نحن بحاجة اليهما، فقد ولدت هذه المناهج في الغرب لتؤدي دورا معينا نتيجة تطور حضاري وثقافي, لكن ان تقلعها من جذورها ثم تطبقها في بيئة مختلفة لا تزال تبحث عن معنى القراءة, وأنت تبحث عن الدلالات الميتافيزيقية في النص, وتناقضات الدلالة… الخ اعتقد ان هناك جهودا نقدية غير ضرورية في المرحلة الواهنة.
في كل مؤتمراتنا العربية نرى دائما وجوها اجنبية.. فما مقدار اسهام النقد العربي في اثراء النظرية النقدية العالمية؟
هنأك نوع من القطيعة بيننا وبين الغرب, فالغرب لا يعرف ماذا نفعل, ما يجري في العالم العربي له اثر ضئيل في حركة النقد، ونحن بحاجة الى اعاده النظر فيما نعمل, وسنكتشف اننا نتبنى فكرا نقديا سرا عن واقعنا، خذ مثلا مفهوم النقد العالمي، وهو هنا النقد الغربي، انت لا تقصد العالم كله, ونحن نعتبر العالم امريكا واوروبا، بهذا المعنى لسنا جزءا من العالم, انا اعتقد انه ينبغي ان نعيد النظر ونتجه الى واقعنا النقدي والثقافي والابداعي وتراثنا دون قطيعة معه دون نفي الآخر، ان ننفتح لكن ان ننشغل اكثر بواقعنا لانه لا يمكن ان يكون لنا اسهام حقيقي طالما اننا نهمش على النص الغربي، دائما هامشيون بالنسبة له, قصاري ما نفعله هو ان نفهم ماذا يفعلون, لكن ان نضيف اليه, سنظل دائما نأتي في آخر الركب لو انشغلنا بواقعنا الثقافي المعاصر والقديم فاننا سنكون اكثر تأهيلا لان نسهم بشيء جديد مختلف, هذه مرحلة لم تأت بعد، طبعا هناك محاولات جادة للسير بها، لا اريد ان أكون تعميميا في أحكامي او انهزاميا، ولكني أرى ان الطاغي لذ الساحة النقدية العربية هو التوجه الذي يبحث عن المناهج الغربية الجديدة, حتى يقرأ تراثنا من خلالها، هذا نوع آخر من الغربة لانه عندما يظهر التفكيك تبحث عندك: هل لديك تفكيك ام لا! عندما تظهر البنيوية تبحث عند الجرجاني: هل لديه بنيوية ام لا؟ فلا تبحث عند الجرجاني عن ذلك الذي لم يأت به الغرب انما تبحث عما يشبه الغرب عندا. هذا غربة, يجب ان ننفتح على الثقافات الاخرى.
حاوره:عزمي عبدالوهاب(شاعر من مصر)