استحلفني برق أن انهض من بين شاراته، فألغيت
مواعيدي، وأتيت. قلت : هذا يومي بستة أيام مما
يعدون. اصعد الى بروج خيلائك وناولني أعنتها،
ثم اطبق جفنيك واقعد كي ترى..
عتمه كأن البدء قال قائل : نخلة واحدة
لا تكفي لأبط سعف كل هشا السواد. اذهب..
يا برق وجمعهم في سقف نخلة. او اذهب.
واستطل في مراثيهم، واخرج الى العراء مبددا
باسم كل قبيلة.
كان يوما بستة أيام مما يعدون. لأخلاء فيه ولا امتلاء.
وأنا بين البياض وبين البياض. طلع لشجرة نحل ؛ تطفح
بقبيلة متراصة من الأهلة والزنابق. في كل هلال سنبلة.
وفي كل زنبقة ترس لنصب خيمة مكسوة بسبعة فرسان
مدججين بأبهة الحنطة.. وبهاء الياسمين.
العتمة كثبان تتلاطم بعضها فوق بعض.
رمل يقبض بتلابيب الرمل فيؤاخي بين
اليباب وبين اليباب في جمجمة نسب واحد.
قلت : افتق حيثما تهوي عصاتي، وتتخلق
أشجار شهبي على مائدة هذا الهباء،
اشرعت بيارقي، ويممت مسراي في حشد وقافية
اذن بدأت فلأطلق العنان. للنرجس كيما يتفتح،
بى يخاطبني بأسمائي. ولأبلغن نهاية ما لا أرى،
وأحتطب في طريقي كل ما أرى. ولأهزجن اذا أتيت :
"لقد آن زفاف قطافي، والله لأقيمن
مآدب الإفك على خشبة كل لسان، ولأتركن
كل عين تلهج بما أرى.. فينعي الأسود الأسود،
ويدخل الصغار في حدقة الشفق، ويتزي بخضاب حنائه ".
قال قائل : لا يكسر الحجر الا الماء. ما زالت العتمة
تتفيأ مداد السواد. ومازال الرماد يطلي أعناق المواقد
بالرماد، حتى انا انقشع عن هدبي كتاب البحر، لم أر
على سطحه حوذيا.. ولا مركبا ورأيت الموج يستف
الماء من السطح الى القاع، ويخرج من بين يدي مزينا
بقبة الصواعق.
كيف تقول اذا شققت جدولا؟ أقول : هذا
المقلاع. واذا حومت في فراشة. النرجس ؟
اقول : أشهد أنني أقيم صلات الرحم. واذا
أتم نعمته عليك ؛ وأجلسك في حافة عين
الينبوع ؟ قلت : أهلل، واقول انتصب
في الساق المعراج، وابدأ بالهبوب.
ثم آخذ المقلاع، واحوم،
وأهوى على رأس الحجر..
متأبط حجرا. ولي سهوي واضرحتي. انا العاج المشرش
في طروس الثلج. والبرق المسطر في الشرارة والندى.
متأبط حجرا، وملء فخاخه حجر. فأي صوامعي الضجرى ستطبق
أولا ؟
أهذي بنرجسة وأصعد في مآذنها أطيل بها السماء الى
الأذان. امشي وأسقف في فمي الغافي، كقبرة، قلاعي
البيض في سهب الصواعق والصدى. الرمل ينبشني فأطمره
بعكازي وأمضي مغمضا في التيه : لي سأمي وأنسكتي.
وبي تعب سأعتقه. وبي تعب سيبزغ من شروخ الطين..
مرتجلا كسوسنة-ومبتلا كعاصفة. كان
الند أخطاني، فناءت في جرار الند اسباخي.. واشرعتي
مكسرة بساريتي قلاع المد، انشرها فتلبث بي.
شراك التيه قرصان. وأبخرتي بضوع التيه دخان
وبي صخب لأمرح في فمي /الطوفان أسئلة..
وصفصافا
دخلت. قال قائل : هذا يوم بستة أيام مما
يعدون.لا قانت ولا قائظ ولا ذلول. كان
ثمة أسماء، مبعثرة ما بين الفم واللسان وسدة
العنق، وكنت انتظر من يقيم أودي، ويؤالفها
في كلمة واحدة.
قلت : كنت أغض الطرف، وانتهر النساء من الفضول،
ولكنني اذا أخبت في طوالع سريرتي، قعدت استملح
ماء أصواتهن، واستحثهن أن يشققن صدورهن
بصنوج الغناء ويرتقبن مطلع بدري.
ها أنا أخبت في مطالعي. اجتاز الصراط الفاصل بين
عنق النرجسة وفضاء قبتها. اطفو في دفق النسغ فلا
أرى من يمني أحدا، ولا أرى في شمالي أحدا، والتفت يمنة
فأرى كومة سواد. والتفت يسرة فاقبض كومة سواد،
وأقشعر إذ أدنو الى عتبة القبة.
المسافة بين عنق "سهيل" وتيجان "الثريا"
سنة نواح بالتمام. كل يوم بمائة سنة عتمة
مما يعدون وكل شهر بما لا أحصيه من
هراواتهم وقبضات نؤى نخلهم المالح المستطير.
قشعريرة تدك مداميكي فيدخل لحمى في أنابيب عظمي،
ويتهطل من دمي انهار من الحمى تشبه في ملاحتها
سحب حشر مروع.. باهظ واليف. وأكاد أهتف:
يا غذاب الفتى زين افتتان الفتى بالعتو وصلافة
الهندوان. وأكاد أهتف : يا مضايق طلح "كهلان "
أقيمي أعوادك على عرق الحمى المتهدلة من كواهلي.
هذه وليمة أقيم زينتها من أعراس دمي
فمي قاسم الطلح أبوته في أنساب العشرة. وأنا
مستظل في أسنتي ومراياي. اخرجن يا عذارى
"كهلان " من أعراق الطلح، ودثرنني من قيظ هذا
العراء المستتب ما بين اقدامي وخطاي.
هذا يوم بمائة الف سنة مما يعدون.
لا كالح ولا مترب ولا لجوج. أرى أسمائي
تفر من أ!سمائي ويطبق عليها الرمل تحت
إليتيه. كل اسم ضريح لخيمة تقطنها أمة
من القطعان وأحجار السائمة. كل ضريح
يدان بساعدين يمسكان مخيط الدم ويغزل
وبر الجفاف المسافر بين قضيب الوتد
ورحم الخيمة. وأنا برق يتلظى بنيازكه،
ويحرق – أسل ما يحرق – في جيفة هذا
الوباء أعناق زهرته ؛ كي يتبخر – ربما –
قبل الوصول، أو بعد الوصول، بتويجة الزهر.
ذاهل والطريق يدخل في خطوتي ولا يتبعني. ذاهل والطريق
أحطاب مرايا، تحدق في أختامي ولا تراني. قال البحر: لو
كنت مدادا لكمات لا تقرأ، لنقدت قبل أن أجتاز بوابة العنق،
وقبل أن أنفذ الى بهو التاج. قلت : استوطنني حلمي
بالغفران. لأبلغن نهاية ما لا أرى، ولحتطبنني في الطريق
اضغاث ما أرى.
ولاهزجن اذا انتهيت الى آخر القمع :
"لقد آن زفاف البحر للحجارة ولتدخلن كل
نفس في حشرجتها، وتنظر، من بعد،
كيف يطمر في اليباس زهر الطوفان ".
كانني على موعد لرعي ببل سائمة. اذن دعوني اطبق على صخرة
هذا الفضاء من الجذع الى العنق ؛ وأنحت في نتوءاته : قنفذا.
وادعوني – ثانية – لأتراجع خطوتين، و؟خذ أنظر قي هيئة
خلقه. فان رأيته يزهو، ساقول : هذه خمركم ردت إليكم.
واسطعوا في أفلاك دمامته كأنكم بعوض او أقمار، واثنوني
في أمري. وان رأيتموني أجلع أشواكه في المنتصف فاسكتوا
عن الذي انتموا فيه، وقولوا: ليس هذا خمرا، وليس هشا أمرا.
وان انتهيت الى القعر، ورأيتموني أخرجه اليكم، أقرع، كانه
بيض الغراب، فغضوا الطرف عن النساء المتبرجات
في اغلال الحداد، وانتهروا ما رسب في أجوافكم من نؤى
الملح وبقل الفضول. ولن تؤاخذ نفس سوى بما في إنائها.
والله لو خلعت حجارة "سد مأرب " طوبة طوبة ومشت
إلي في أسراب "نوق العصافير" تملأ هذا الفضاء المائل
من بين يدي الى نهاية الفضاء الماثل، خلف شهواتي،
ولو عادوا وزينوها لي بالبهار وبالطيب وبروائح العرفج،
لما تراجعت مثقال طلقة.. أو فلس.. ولهتف حتى تسمعني
النوق النائحات في شعاب "الاناضول " بان الحجر حجر،
ولو طلوه بصندل كلس العظام.
قال قائل : استودعت كنانتي بطوفان من حراب
الأسماء. وثقفتها وألنت ملمسها، حتى صارت
غضة وعذبة كالشهاب البارد، وانتقيت من
أفصحها أطيب الكلمات واصفاها فضة، ثم
لوحت ببرقها في الأعالي ثلاثا، وأطلقتها في الصخر
أروع بها البحر الآمن، وها كلمتي تذهب
مفيحة في القرارة.. ترعش قرارة الحجر.
استدل على النبع من لفح الظمأ المتطاير من قرارته. امشي
من عيني بحر يفتق من قوقعة، وفي شمالي بحر يفتق
من قوقعة. اضم البحرين في ميزاب واحد، وأرى البحرين
يكبران ويصبحان لؤلؤة بحجم جذع نخلة. أضيء شمس
اللؤلؤة، فتنقشع سحابة العتمة من حولى، وأراني اجتزت بهوا
لساق تماما، ونفذت الى فضاء لا نهاية له. قالت عصفورة
الساق : انت في في اول الأرض. هنا فضاء قبة النرجس.
ادخل وانقش أزهار التماعك في سقفه، وارني كيف تطل في مداد
السواد شجرة "الثريا".
دخلت. نهض في منتصف الخطوة الأولى، لخطوي،
محراب. صافحني وخررت راكعا. تلت : أقيم في البدء،
صلاة حضوري على اعتابه، ثم اطوف في ثنيات
التويجة، وارى كيف تبدأ من بذرتي شجرة الجهات
الخمس.. عل الأرض. مهدت قبلتي، وضممت
يدى وشرعت أصلي.
* فصل من كتاب – لم ينشر – بعنوان "زفاف الحجارة… للبحر".
عبد الودود سيف ( شاعر وكاتب من اليمن)