سمير اليوسف
أحيانًا يُصاب المركز العالمي، وهو مصدر الأفكار والأذواق ومصدر السلطة والمرجعيات التابعة جميعًا، بالتخمة، فيركن إلى الاجترار الفكري، وهذا هو اجترار المُطمئِن بأن لا شيء جديد هناك يمكن إضافته إلى ما هو متوافر. ولكن فجأة يظهر القادم من الهامش، الجغرافي أو الثقافي، لكي يبيّن بأن ثمة الكثير مما لم يتم معالجته معالجةً نقديّة وافيّة، الكثير مما لم يُصَر إلى معرفته بعد، الكثير مما يمكن إضافته.
في حدود المدار الفكري للقرن العشرين فقط، ظهر جورج لوكاش، ثيودور أدورنو، والتر بنيامين، إميل سيوران، الكسندر كوجيف، ريموند وليامز، فرانتز فانون، كيت ملُت، جرمين غرير، إدوارد سعيد وأخيرًا -وإن وليس آخرًا- سلافوي جِجك. هؤلاء جميعًا ينتمون إلى القادمين من الهامش، بأفكار وتصورات ومناهج جديدة، إلى المركز.
الأخير بينهم هو الأشدُ إثارة للفضول.. سلافوي جِجِك القادم من سلوفينيا، أصغر بلدان المنظومة الاشتراكية السابقة، عهد انهيار المنظومة المذكورة، فيلسوف غير معهود أو مسبوق. فخلافًا للمعهود، على أكثر من مستوى واحد، جِجك، أولًا، لم يأتِ إلى الغرب كمنشق عن النظام الاشتراكي ولم يكتسب مكانته وشهرته في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية لكونه عاشقًا لليبرالية الغربية.
ثانيًا، جِجِك قدم نفسه، يا للمفارقة! كمفكر ماركسي، بل وكشيوعي، ماركسي-لينيني، ولكن ليس على ما هو شائع من أمر المفكرين الشيوعيين، ماركس ولاحقًا لينين أيضًا، ليس مرجعه الفكري الوحيد. في الحقيقة ماركس بالنسبة لجِجِك هو الأخف وزنًا بين مراجعه الفكرية الثلاثة: هيغل، ماركس وجاك لاكان. هيغل هو الفيلسوف ولاكان المفكر في التحليل النفسي الفرويدي أما ماركس فكاتب سياسي ثوري وإن من طراز رفيع.
ثالثًا، ورغم أنه فيلسوف بالدرجة الأساس، فإن جِجك لم يترفع عن الكتابة في أمور متنوعة ومختلفة من دون تمييز ما بين موضوع أعلى أو أدنى مرتبة فكرية. فهو كتب عن الأفلام السينمائية، الهوليودية الترفيهية الطابع، عن الروايات البوليسية، السياسة الراهنة، القضايا الكبرى أو الفضائح، مختلف ظواهر الإعلام والدعاية التجارية بل وحتى عن مقاعد المراحيض، بما يدل عليه الفارق ما بين مقعد مرحاض في بلد أوروبي وآخر.
المستوى الرابع، جِجك فيلسوف كوميدي ونجم إعلامي إلى حد الظهور بمظهر البهلوان أحيانًا.
في هذه المقالة سأتناول سلافوي جِجِك من خلال ثلاث وقفات:
الأولى، الفيلسوف الذي أحيا الأيديولوجيا بعد أن كان قد أُعلن عن وفاتها.
الثانية، الفيلسوف الذي أضاف الدين (المسيحية) كمرجع رابع من مراجعه الفكرية الرئيسة.
والثالثة، جِجك الكوميدي ودور الكوميديا في الفلسفة الثورية.
في كلٍ من هذه الوقفات الثلاث سيكون دليلنا، مُعلنًا أو مُضمرًا، الثالوث المقدس (هيغل-ماركس-لاكان). فلا مجال لأن نفي فكر جِجِك الصاخب، الخصب، المتنوع والمتعدد المستويات، الأفقية والعمودية، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار أن ما يقوله لاكان عنده هو بمثابة استجابة لهيغل وماركس، ولن نتبيّن قوة الديالكتيك الهيغلي أو الفكر الثوري الماركسي، تبيّنًا تامًا إلا بعد جلب لاكان إلى المعادلة..
أن الأيديولوجيا حيّة تُرزق
وتقرر سلوك البشر:
يروي جِجِك نكتة شهيرة، من عهد ألمانيا الشرقية الاشتراكية، مفادها أن عاملًا ألمانيًا ذهب للعمل في سيبيريا، وحيث أنه كان يعلم بأن كل الرسائل كانت تُقرأ من قِبل الرقابة السوفياتية، اتفق مع أصدقائه أنه سيكتب رسائله بالحبر الأحمر والحبر الأزرق، وكل ما هو مكتوب بالأحمر كذب، بينما كل ما هو مكتوب بالأزرق صحيح. وهكذا وصلت أول رسالة منه إلى أصدقائه مكتوبة كلها باللون الأزرق بما يعني أن كل ما يرد فيها صحيح:
«كل شيء رائع هنا، المتاجر مليئة، الطعام فائض عن الحاجة، الشقق السكنية واسعة ودافئة، دور السينما دائمًا تعرض أفلامًا أميركية.. الشيء الوحيد غير المتوافر هو الحبر الأحمر.»
«أليس هذا وضعنا الراهن؟» يسأل جِجِك مُعلقًا: «لدينا كل الحريات التي نريدها- الشيء الوحيد المفقود هو الحبر الأحمر. نحسّ بأننا أحرار لأننا نفتقر إلى اللغة نفسها التي نفصح فيها عن حريتنا. هذا الافتقار إلى الحبر الأحمر يعني بأن كل المصطلحات التي نستخدمها اليوم لتعريف الصراع الجاري- «الحرب على الإرهاب» و«الديمقراطية والحرية» و«حقوق الإنسان ..إلخ- مصطلحات باطلة تشوش وعينا للوضع القائم بدلًا من أن تسمح لنا أن نفكّر. المهمة اليوم هي أن نزوّد المحتجّين والمعارضين بالحبر الأحمر.»
والحبر الأحمر هو الذي ما انفك سلافوي جِجك يزوّد جمهوره به سواء بواسطة التحليل الفلسفي النقديّ العميق أم النكتة والعبارة الفكاهية عامة. فحينما ظهر جِجِك على المسرح الفكري الغربي، كان المثقف الغربي، الماركسي واليساري عمومًا، قد اتخذ من البرج العاجي خندقًا يناضل من خلاله.
بعد العنف الشامل والرهيب الذي شهده العالم، واقترفه وكابده، في الحرب العالمية الثانية. بعد حرب فيتنام، وبعد ظهور الحركات الثورية وهزيمتها في الخمسينيات والستينيات وبعد تشرد وموت تشي غيفارا. بعد الاستعراض «الثوري» الهزلي لجان بول سارتر وأترابه في شوارع باريس، بعد هزيمة جيل الستينيات.. بعد كل ذلك قرر المثقف الغربي اليساري، في محاولة تأويل جديدة لوصية ماركس، أن من واجب الفلاسفة ليس تفسير العالم وإنما تغييره، قرر أن تغيير العالم يكون من خلال النضال بواسطة الأفكار والتعليم والمؤسسات التعليمية والمنابر الإعلامية.
ومن هنا كان الاكتفاء بـ«المابعديات»، «ما بعد ماركس» و«ما بعد فرويد» و«ما بعد البنيوية» و«ما بعد الحداثة» و«ما بعد الكولونيالية» و«ما بعد الأيديولوجية».. إلخ. وكان هذا زمن الاحتفاء الغربي الليبرالي بهزيمة الشيوعية، ونهاية عهد الأيديولوجيات الكبرى. ثم ظهر جِجك في الغرب لكي يبشّر بأن الإيديولوجيا ما انفكت حيّة تُرزق وتركل خصومها في الخصيتين أيضًا. عنوان كتابه الأول، والأهم الذي صدر في الغرب بعنوان «الموضوع المتسامي للأيديولوجيا».
الأيديولوجيا تعريف ماركسيّ الأصل للفكرة الباطلة، أو التصور الشائع والسائد، ولكن الزائف، للواقع. هذا التصوّر ينتمي الى «البنية الفوقية»، أي كل ما ينتمي إلى اللغة من أفكار وتصورات وآراء ومزاعم وبحوث وإحصائيات، بحسب البلاغة الماركسية. و«البنية الفوقية» ما هي إلا نتاج وانعكاس لـ«البنية التحتية» أي الواقع الاقتصادي المحكوم بطبيعة وقوانين علاقات الإنتاج ونمطه السائد.
هذا التعريف الكلاسيكي للأيديولوجيا يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، ومن ثم فإنه من الطبيعي، مع نهاية القرن العشرين، خاصة في ضوء شيوع «ما بعد الحداثة»، أن يفقد أي رصيد أو أثر له. فنحن الآن في عصر «نهاية الأفكار الفخمة» على ما فشى الزعم منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
وهناك من تساهل في الأمر وزعم بأن الأيديولوجيا لم تمتّ تمامًا وإنما صير إلى تبنّيها صراحة باعتبارها تصورًا زائفًا للواقع، إما من منطلق براجماتي، شأن «الرفيقة الشيوعية» التي ترتدي الحجاب الإسلامي، أو من منطلق عدمي، ممارسة المرء لحقه في التصويت رغم يقينه بأن الزعم أن الحكم السياسي في النُظم الديمقراطية، هو حكم الأكثرية، مجرد زعم أيديولوجي، أي باطل. ولكنه يصوّت في الانتخابات كضرب من العادة أو اللهو.
سلافوي جِجك رفض هذا الكلام أو ما سبقه، الأيديولوجيا لم تمت ولا صير إلى تقبّلها على حقيقتها باعتبارها تصوّرًا زائفًا. الأيديولوجيا ما زالت حيّة ترزق ولكن ليس كفكرة، أو تصوّر، وإنما كفعل.
غالبًا ما يتندر الشيوعيون بأن ماركس قلب هيغل عقبًا على رأس، جعله يمشي على قدميه بعد أن كان يمشي على رأسه. جِجك في مسألة الأيديولوجيا صنع شيئًا مماثلًا مع ماركس. فبدلًا من الدفاع عن الأيديولوجيا، وعن استمرارية وجودها كـ»بنية فوقية»، فكرة أو عقيدة أو رأيًا أو تصوّرًا، فإنه أعاد تعريفها كفعل وليس كقول، كتطبيق وليس كنظرية، كأداء فعليّ وليس كمجرد عقيدة وإيمان. الفعل الزائف أو غير الصادق، سواء كان براجماتي التبرير أو عدميّا، وليس الفكرة الباطلة والتصور الزائف.
أن ترتدي المرأة الشيوعية الحجاب بذريعة خدمة الحزب، هو سلوك أيديولوجي. أن يصوّت العدمي في انتخابات ديمقراطية سلوك أيديولوجي أيضًا. كذلك أن يُقبل المرء على شراء ما لا حاجة له به ولا رغبة، هو أيضًا سلوك أيديولوجي.
جاك لاكان هو المرجع الذي يستند إليه جِجك في تأويل السلوك الاستهلاكي الإيديولوجي. السلوك، الفعل، هو تبرير للرغبة اللاوعيية وليس استجابة للحاجة الواعية. تشتري ما لا تحتاج إليه، مثلًا، لكي تبرر الرغبة الأوديبية المكبوتة، وليس لأنك تستجيب لما تحتاجه أو ترغب في امتلاكه. والرغبة عند لاكان تعود إلى التحليل النفسي وفرويد ولكنها أيضًا الحافز الذي تخرج بواسطته الذات الواعية من مدارها الذاتي المُغلق نحو العالم الموضوعي لكي تسيطر عليه ومن ثم تحقق الوعي الذاتي والمعرفة المطلقة، وفقًا للنظام الذي أرساه هيغل.
أنَّ الدينَ أهمُّ قيمة
من أن يُترك لرجال الدين:
منذ هجوم منظمة «القاعدة» على مدينة نيويورك في 11 سبتمبر 2001، انشغل بعض الكتّاب المشاهير، أمثال ريتشارد دوكن وكريستوفر هيتشنز وسام هاريس وغيرهم، في البرهان على انعدام وجود الله، متوسلين أسلوب النقاش التقليدي الذي يُستخدم عادة في قاعة الحوار التابعة للاتحاد الطلابي في الجامعات، توهموا بأنهم إذا برهنوا على انعدام وجود الله، فإنهم بذلك ينسفون كل أساس ومبرر للدين في سائر تمثلاته، سواء من خلال الاعتقاد الشعبي الشائع، أو أماكن العبادة أو الدولة والأحزاب السياسية، المعتدلة منها والمتطرفة التي تستخدم العنف وسيلة.
هنا أيضًا نجد أن جِجك سار في الاتجاه المعاكس لما شاع أمره من إحياء الفكر الإلحادي. ففي حين كان الساعون لإحياء الفكر الإلحادي يعيشون في الخيال كان جِجك يجادل أن الدين في العالم الواقعي أهم بكثير من أن يُترك شأنه لرجال الدين والمتدينين. ذلك أنه منذ مستهل القرن الجديد، شهدت عواصم ومدن غربية كبرى حركات احتجاج سياسية انتهجت سياسة «احتلال» الأماكن العامة بغرض استعادة مساحات ومؤسسات الفضاء العام. هذه الحركات كانت ثورية علمانية ويسارية عمومًا ومع ذلك رفعت الشعار الديني التالي: «لو كان يسوع المسيح معنا الآن، فما الذي كان سيفعله؟»
جِجِك كان مؤيدًا لهذه الحركات. وبعض مثقفيها وقادتها استلهموا كتاباته في التعبير عن أفكارهم. وعلى غرار المفكر العسكري كلاوزفيتس الذي قال بأن الحرب أهم بكثير من أن يترك شأنها لرجال العسكر، جِجك رأى بأن الدين، (المسيح والمسيحية خاصة) أهم من أن يترك أمره لرجال الدين فقط. المسيحية بما هي تعاليم ووصايا المسيح هي فكر ثوري تحرري يهدف الى إقامة العدل الاجتماعي المُنعتق من معايير وقيود الرأسمالية والسوق الاقتصادية الحرة، حسب ما ينظر إليها الفيلسوف السلوفيني، ففي قصة يسوع المسيح، خاصة الجزء الذي يبدأ من خيانة يهوذا الإسخريوطي وحتى ظهور بولس الرسول، هناك مشروع سياسي يطمح إلى الانتشار الكوني. كيف؟
بحسب السيرة التقليدية، يسوع كان يعلم بأن يهوذا سيخونه ومع ذلك فإنه لم يغضب أو حتى يحسّ بخيبة الرجاء. يسوع كان يعرف مصيره جيدًا وكان مُسلّمًا به ولم يحاول أن يحرفه عن مساره خاصة وأن خلاص البشرية يعتمد على نهاية يسوع المعروفة.
سلافوي جِجك يروي الحكاية بطريقة مختلفة. يسوع لم يكن يعلم فقط بأن يهوذا سوف يخونه وإنما أراد من يهوذا أن يخونه وتقريبًا شجّعه أو حرّضه على خيانته. يسوع كان يعلم بأن يهوذا يحبه إلى درجة أن يفعل ما يريده أن يفعل بما فيه خيانته له. فإرادة يسوع أن يخونه يهوذا، وخيانة يهوذا له، هي مجرد خيانة على مستوى فردي، أو أخلاقي، ولكنها ضرورة موضوعية من ضرورات العمل السياسي لمشروع يطمح أن يكون كونيًا. ومن دون خيانة يهوذا ما كان ليسوع أن يحظى بشهرة أوسع من شهرة أي «نبي» أو «مُبشّر» محليّ من الأنبياء والمبشرين الذين كانوا يظهرون في القدس بشكل يومي تقريبًا.
وحيث تنتهي مهمة يهوذا، بالضرورة مهمة يسوع، بعدما يُصلب، بعد الموت والقيامة، تبدأ مهمة بولس الرسول الذي سيعيد غرس المسيحية خارج التربة التي ولدت فيها بما يضمن لها الانتشار الكوني. وبولس يحتل المكانة الشاغرة التي كان يهوذا يحتلها، إنه التلميذ الثاني عشر، ولكن ليس من داخل دائرة تلاميذ يسوع الاثني عشر. فبولس لا تهمه السيرة «الشخصية» ليسوع مع تلامذته وإنما التركة اليسوعية. كيف يمكن الاستفادة منها، توظيفها، في خدمة المشروع السياسي؟
في ما يبدو أقرب إلى واحدة من نكات الفيلسوف السلوفيني الكثيرة، جِجك يُشبّه علاقة بولس بيسوع بعلاقة القائد الشيوعي الروسي لينين بماركس. لينين أيضًا لم يكن معنيًا بالسيرة الذاتية لماركس ولا بكتابه الكبير والشهير «رأس المال» وإنما بما يمكن أن يؤسس عقيدة «ماركسية» يمكن استخدامها في المشروع السياسي للثورة والدولة فيما بعد.
أسوة بالقديس بولس، لينين أيضًا أراد أن يغرس «الماركسية» في تربة غير تلك التي نبتت فيها أو لأجلها. كما نعلم، ماركس توقع وقوع الثورة الاشتراكية في انكلترا، أي في بلد متقدم صناعيًا وحيث البروليتاريا جاهزة لكي تلعب دورها التاريخي تبعًا لنظام «المادية التاريخية». الثورة المتوقعة حدثت، بفضل لينين وحزبه، في روسيا، في بلد زراعي عمومًا، وليس في إنكلترا.
من دون القديس بولس لما كان المسيح والمسيحية أكثر من فصل في التاريخ اليهودي. ولكن بولس اعتبر في قيامة المسيح حقيقة كونية ومشروع عقيدة كونية يمكن بموجب أُسسها ووصاياها أن تُدار شؤون العالم العامة منها والخاصة. وكذلك الأمر بالنسبة للينين والماركسية. من دون لينين لكان ماركس مجرد فيلسوف محدود القيمة والأثر على المستوى الكوني. لافتقرت أعماله، مع انقضاء الزمن، إلى أية قيمة ما عدا القيمة التاريخية الوثائقية. من دون لينين والبلاشفة والثورة الروسية والحزب الشيوعي لما كانت هناك عقيدة كونية اسمها «الماركسية» التي كادت أن تنجح في تكون شريعة الكوكب الأرضي.
الدين (المسيحية) بالنسبة لجِجِك هي أشبه بالماركسية الشيوعية الجديدة من حيث إمكانية مواجهة العبث الرأسمالي وفلسفة النيوليبرالية التي تبرر شرعية الاستسلام للرأسمالية باعتبارها النظام الوحيد الصالح للعمل، إنها الفكر الثوري أو أحد أركان الفكر الثوري الجديد.
أنَّ الفلسفة كوميديا بالأصل
النكتة السياسية كما أوردنا سابقا هي وسيلة من وسائل التعبير عن المعارضة السياسية ضد النظام الحاكم. هي وسيلة لمواجهة المزاعم السائدة والشائعة. ومن هذا المنطلق يوظف جِجِك النكتة في أعماله.
ولكن ججك لا يوظفها كمعارض سياسي فقط وانما أيضا كفيلسوف يرى في فن النكتة، والسخرية عمومًا، ضربًا من الأداء الفلسفي الذي يعمل على تثوير الوعي. وثورة الوعي هنا لا تقتصر على إظهار زيف الأفكار والمزاعم الرائجة والسائدة وإنما أيضًا نقد بنية هذه الأفكار وبنية السلطات التي تنتجها وتكرسها على كافة المستويات.
وتبعًا لذلك فإن هناك أولًا المفارقة التي تقوم عليها النكتة، وثانيًا، حركة العقل الذي يقود إليها التفكير الفلسفي منتقلًا به -أي العقل- من سامق السماء نزولًا إلى مقاعد المراحيض وأفلام البورنوغرافي وكل ما هو مُستبعد من مدار الوعي المقبول واللغة المتداولة.
إحدى النكات التي يحب جِجِك أن يرويها دائمًا هي حكاية قائد الفضاء الروسي الشهير يوري غاغرِن مع الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي خروتشوف ومع البابا.
بعد عودته من أول زيارة إلى الفضاء، التقى غاغرِن بخروتشوف وأسرّ له قائلًا: «أيها القائد أتعلم أنني وأنا في الفضاء رأيت الله والجنة. هذا يعني أن الدين على حقّ!»
«أعلم ذلك» ردّ خروتشوف هامسًا «ولكن لا تُخبر أحدًا بذلك!»
بعد أسبوع زار غاغرِن الفاتيكان والتقى بالبابا وقال له ما كان قد قاله لخروتشوف. البابا ردّ عليه هامسًا أيضًا: «أعلم ذلك ولكن لا تُخبر أحدًا به!»
إن القائد الشيوعي يريد أن يُخفي حقيقة أن الدينَ على الصواب أمرٌ مفهوم، ولكن لماذا يريد البابا، كبير رجال الدين، أن يفعل ذلك؟
أصل النكتة ليس الاستعراض الهزلي أو البهلواني المثير للضحك وإنما المفارقة. فهي التي تكشف عن حقيقة تثير السخرية والضحك. مثلًا في هذه النكتة، الحقيقة أن المُلحد يعرف أن الله موجود وأن الدين على حق، ومع ذلك يُصرُّ على إلحاده بل وإخفاء الحقيقة عن الناس خشية أن ينهار صرحه الفكري الذي يرسو على الإلحاد. أيضًا البابا، وعلى رغم أنه مؤمن ويعرف، أو على الأقل يؤمن بوجود الله والآخرة، إلا أنه أيضًا يخشى أن يعرف الناس فتصير مؤمنة أيضًا. أي أن الناس المتدينين الذين يتبعونه لا يؤمنون، أو لا يعرفون أصلًا بوجود الله، شأن الناس في ظل النظام الشيوعي، ومعرفتهم المُفاجئة قد تهزّ أركان نظام الفاتيكان الديني. الخلاصة، أن النفاق هو سيد الموقف في النظامين المتحاربين.
الإحساس بالمفارقة في الفلسفة أمر أساسي. من سقراط إلى كريكجارد فنيتشه وماركس، الفيلسوف قد يقول عكس ما يعنيه تمامًا. حينما كان سقراط يسأل محاوره: «ما العدل؟» أو «ما الخير» أو «ما الجمال؟» كان يتظاهر بالجهل التام، بأنه بالفعل يسأل كمن يطلب العلم ممن يمتلكه. لكنه في حقيقة الأمر كان ينصب لمحاوره شركًا، يدفعه إلى الإجابة بحيث يكشف، ويكتشف (أي المحاور)، جهله. فمن خلال استخدامه للجدل المنطقي سيعمد سقراط إلى استنطاق كل تعريف وحكم ينطق به محاوره مبينًا له استواءه على أسس هشة وباطلة. وهكذا فإن الجاهل الحقيقي هو الشخص الذي ادعى المعرفة في البداية بينما العارف الحقيقي هو الفيلسوف سقراط الذي انطلق من الزعم بالجهل.
هذا في ما يتعلق بالمفارقة. ولكن الفلسفة حركة. حركة بالمعنى المعرفي النفسي وبالمعنى الوجودي التاريخي. عند أفلاطون، سقراط كان بمثابة قابلة تُساعد حامل المعرفة الحقيقيّة على إنجاب هذه المعرفة. الجدل المنطقي الذي استخدمه سقراط كان يهدف إلى خروج العقل من ظلمة الرحم (الكهف الأفلاطوني) إلى نور الحقيقة الذي هو»عالم المُثل».
ولكن «عالم المُثل» في الأعلى، في السماء، والإنسان -كما جادل تلميذ أفلاطون، أرسطو- إنما يعيش على الأرض. ومن ثم عمل على أن ينتقل (حركة جديدة) بالفلسفة من سماء «المُثل» إلى عالم الواقع إلى أرض «ماهيات» الأجسام. والفلسفة، ومنذ عهد أرسطو، ما انفكت في حالة هبوط متواصل وعلى غير وجه واحد.
هناك مثلًا، القائلون بأولوية المعرفة الحسيّة والنسبية، سواء للبرهان على وجود الله أو إنكاره. هناك نيتشه الذي ردّ الأفكار والنظريات والمعايير والمناهج إلى أصولها النفسية والاجتماعية الدنيوية الوضيعة. وهناك الوجوديون الذين اتخذوا من الأنا، من الوعي الذاتي لأي فرد، معيارًا لتقرير السلوك والهوية الذاتية.
نيتشه اعتبر سقراط مجرد بهلولٍ حاقد على الطبقة الأرستقراطية ويسعى لهزيمتها من خلال استخدام المنطق. ماركس رأى بأن من واجب الفلاسفة تغيير العالم وليس الاكتفاء بتفسيره. سارتر صرف صفحات من كتابه الضخم «الوجود والعدم» لكي يفلسف سلوك النادل في المقهى أو المرأة التي تلعب لعبة الغزل. وفي سياق هامشيّ، نعوم تشومسكي نعت نظريات جاك لاكان بأنها «خراء بقر» وميشيل فوكو نعت كتابات جاك دريدا بأنها «تُسيء الى سمعة خراء البقر».
سلافوي جِجِك لم يكتف باستخدام مفردات غير مُشرّفة في الهامش فحسب وإنما أدخلها إلى المتن الفلسفي أيضًا. غير أن جِجِك استخدمها بطريقة فكاهية وكنكتة. ومن سمع وشاهد جِجك في حوارات ومحاضرات، وبرامج تلفزيونية شعبية الطابع أيضًا، يُدرك على الفور أن الرجل يتمتع بحس فكاهة هائل ويحب إلقاء وسماع النكات والمفارقات الساخرة. ولا مجال للفكاهة والنكتة من دون استخدام العبارة البذيئة أو على الأقل الإحالة على ما هو بذيء ومثير للإحراج. في النهاية الحقيقة، أو الحبر الأحمر الذي يقودنا الى معرفة الحقيقة، قد يكون في أي تصريح سياسي أو دعاية تجارية أو نكتة تكشف القرابة الخفية ما بين القائد الشيوعي والمُرشد الديني.
موقف الإحساس بالمفارقة يؤدي الى تغيير فكر الآخر المكتفي بالمعرفة السائدة أو الشائعة. وهذا هو هدف الحركة في الفلسفة أيضًا، التغيير، من الجهل إلى العلم، من الشك إلى اليقين، من الرغبة إلى الوعي الذاتي والمعرفة المطلقة بالمعنى الذي عناه هيغل، أو إلى الاستجابة للرغبات المكبوتة في اللاوعي بحسب جاك لاكان. والكلام عن اللاوعي يعني الكلام عن فرويد وهو المرجع الأساسي بالنسبة للاكان. ومن ثم عما هو مكبوت ومستبعد خارج اللغة المتداولة والوعي المقبول، ذلك الجانب الخفي من الوجود الذي لا نعرف عنه شيئًا، أو على الأقل لا نقرّ بما نعرف عنه، إلا لحظة فقدان الوعي لسلطانه وظهور ما في داخل اللاوعي.
إلى ذلك فإن لاكان ابن الثقافة الفرنسية في النصف الأول من القرن العشرين وما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد تأثر بالسوريالية والسيميائية، ومن ثم فإن الكلام عن اللاوعي ودور اللغة في التعبير عن ذلك كان من الأمور الشائعة. ما كان مجرد إقرار باللاوعي صار احتفاءً به على يد السورياليين وتبرئة له من الإدانة الفرويدية المبكرة.
أما السيميائية فقد نسفت فكرة الحد الفاصل ما بين الفن «الرفيع» والفن «الشعبي» معتبرة أن أية علامة سواء أكانت في سياق بنية نص ينتمي إلى ما هو «رفيع» أو «شعبي» ترفيهي يمكن أن تزودنا بالمعرفة المطلوبة. من هنا صار الإقبال على قراءة كافة المظاهر الحياتية، من الرياضة إلى أفلام السينما التجارية الترفيهية إلى الإعلانات التجارية وحتى الأفلام الإباحية ومقاعد المراحيض الحديثة.
خلاصة القول إن الانتقال من الرغبة الواعية إلى الرغبة المكبوتة، بمختلف تمثلاته، لم يكن بالنسبة لسلافوي جِجِك أقل من ثورة في الوعي. هذه الثورة التي أغفلها الماركسيون التقليديون حينما حصروا اهتمامهم بالدور الأساس للاقتصاد وربطوا كل أمر آخر به متناسين استقلالية الثقافة ودور اللاوعي المكبوت في إطلاق سراح الثقافة الشعبية من الحدود المفروضة عليها. والنكتة هي شكل من أشكال الثقافة الشعبية الأوسع رواجًا، ومن ثم من الطبيعي أن تحظى لدى جِجِك بقيمة معرفية كبيرة شأن كافة أشكال الثقافة الشعبية خاصة السينما الترفيهية واسعة الانتشار. إلى ذلك فإن النكتة يمكن أن تتناول أية ظاهرة أو مسألة أو موضوع بريئًا كان أم لم يكن، مستبعدًا ومهمشًا ومحرمًا أيضًا. لهذا فإن قدرتها على التأثير سواء من حيث سهولة تداولها وانتشارها، أو من حيث كونها قصيرة وقادرة على إيصال الرسالة بعبارات قليلة جدًا، تجعلها أداة تغيير وعي ثورية لا يمكن الاستغناء عنها.