ياسر منجي*
بات الحديثُ عن (الهُويّة الفنية) هاجساً مَركزيّاً في سياقات الحديث عن فنِّنا العربي المعاصر، يتجدَّدُ على تَواتُرٍ ملحوظ، في كثرةٍ مرصودةٍ من الكتابات النقدية، والتاريخية، فضلاً عن حلولِه ضيفاً رئيساً في الندوات، وحلقات النقاش، والمؤتمرات ذات الصلة بالحراك البصري العربي.
وعلى كثرة ما قيل في (الهُويّة الفنية)، وكُتِبَ عنها، فإن تلك المَسكوكة، شِبه الاصطلاحيّة، الشرقية بالدرجة الأولى – والعربية بامتياز – تظلُّ مفهوماً غائماً إلى حدٍ بعيد، يخضعُ في تفسيره لمؤثراتٍ شتى، ويتأرجحُ ما بين ضفاف الحنين التَوّاقِ إلى الماضي (النوستالجيا) Nostalgia، وبين درجةٍ من درجات المبالغة في الاعتداد الزائد بالجذور القومية (الشوفينية) Chauvinism.
وقد أفضى ما سبق إيجازُه إلى ظهور فريقين رئيسَين، يحتَدِمُ الجدلُ بينهما، فكراً وممارسةً، حول مفهوم (الهُويّة الفنية) في مضمار الفن العربي الراهن. ففريقٌ يراه مفهوماً يستوجبُ الإمعانَ في التَمَسُّحِ بكل ما هو تراثيّ – ولو شكلياً – باستدعاءِ مفرداتٍ بصريةٍ تنتمي إلى مُرَكَّباتنا الثقافية والحضارية، الشرقية والعربية، وتَضفيرِها في نسيج موضوعاتٍ تقليدية، تخاطِبُ القاعدة العريضة من المُتَلَقّينَ والمتذوقينَ بأسلوبٍ مباشر. وفي المقابل، يرفعُ الفريقُ الآخرُ لواء الارتماء في أحضان المُستَجَدّات الوافدة من مراكز الحراك البصري الغربي، دون قيدٍ أو شرط؛ على اعتبار أن ذلك هو السبيل الوحيد للخَطوِ على درب المُعاصَرة Contemporaneity الفنية، ولانتزاع الاعتراف بالجدارة على المستوى الدولي.
غير أن الراصدَ المُدّقِّقَ للمشهدِ الفنيّ العربي على اتّساعِه، لا يَعدَمُ نماذجَ لفنانين، نأَوا بتجاربهم عن هذا الاستقطاب المُحتَقِن، مُمارِسين ما تُمليه عليهم فقط قَناعاتُهم الذاتية، ومُنخَرِطين فقط فيما يحقق لهم الإشباع الجمالي والرضى بالدرجة الأولى، بِغَضّ النظر عما يكون من أمر تَصنيفِه أو تقعيدِه لاحقاً، وفق الاتجاهات والأساليب التي قد يَرتَئيها المُنَظِّرون والنقاد والمؤرخون.
ومِن بين صفوف هؤلاء المُخلصين لرؤاهم الذاتية، يَشخَصُ الفنانُ “سلمان بن عامر الحجري”، الأستاذ المساعد بقسم التربية الفنية بجامعة السلطان قابوس، لِيُدَشِّنَ نموذجاً قياسياً للأكاديمي المتخصص، الذي يُجيد استثمار أدواته المنهجية، وخبرته التدريسية، بِوَصفِها آلِيّاتٍ دافعةٍ لتأسيس أسلوبٍ فنيٍّ ذي خصوصية، يتَّكئُ على أُسُسٍ وطيدةٍ من التَمَرُّس والتجريب، ويَمتَحُ – في الآنِ ذاتِه – من مَعين التكوين الذاتي وسَلسَال الثقافةِ المَحَلِّيَّة الذي لا ينضَبُ دَفقُه.
فالمُتَتَبِّعُ لتجربة “سلمان الحجري”، منذ بداياتها الأولى، لا يلبَثُ أن يقفَ على معالم واضحةٍ مِن مُقَوِّمات هُويّةٍ فنيٍّة، تغرسُ جذورها عميقاً في تُربة ثقافةٍ محليّةٍ ذات خصوصية؛ إذ استطاع ابن ولاية “بدية” أن يستخلص من مسقط رأسِه عناصر بصريةً، تَستَقطِرُ رحيق الريف العُماني، دون مُزايدةٍ على الثيمات Themes المعتاد تواتُرُها لدى نُظَرائِه من الفنانين العرب، المُنتَمينَ إلى بيئاتٍ مَثيلة.
وبرغم أننا نجدُ لدى “الحجري” مرحلةً كان قد قطع فيها شوطاً بعيداً، على درب استكشاف نَهج “الحُروفيّة”، بالتجريب والبحث العميق في أعماق الإمكانات البصرية للحرف العربي، بِوَصفِه مادةً مِطواعةً لتخليق ما لا حصر له من التراكيب – فقط فيما لو أُتيح ليدٍ متمكنةٍ من أصول بناء الصورة الفنية أن ترتادَ مجاهِلَه – فإن الفنان سرعان ما أثبتَ بالدليل أن رؤيَتَه أرحَب من أن تُكَبِّلَها اشتراطاتُ القَولَبَة الأسلوبية، فإذا به وقد تَوَجَّه كَرَّةً أخرى تلقاء جذورِه الريفية، مُستَحلِباً نَسغَها الرقراق، ومُستَثمِراً خبراتِه في مَجالَي التصميم الجرافيكي، والتصوير Painting، لتأسيس جُملةٍ بصريةٍ مُغايِرةٍ لِسوابِقِها.
وقد نجح “سلمان الحجري” – من خلال تجربته تلك – في الدمج بين مَسارَين من مسارات المعالجة التقنية، عادةً ما يَصعُبُ الجمع بينهما، إلا مِن قِبَل الفنانين ذوي الدُربة والدراية. وأول هذين المَسارَين يتمثل فيما يمكن أن نستعير له من حقل التحليل النفسي اصطلاح “التداعي الحُرّ” Free association، تلك التقنية التي قَعَّدها “فرويد” وروّج لها على نطاقٍ واسع، والمتمثلة في استرسال الذهن خلف تداعيات أفكار “ما دون الوعي” Subconscious، وترك العنان لها للانثيال والتدفُّق دون وصايةٍ من كوابح الوعي.
أما المسار الثاني، فيمكن أن نصفه بكونِه مَساراً غنائياً Lyrical؛ وذلك إذ يتولى الفنان، وفق هذا المسار، بناء عمله بِرَوِيَّةٍ وأناة، مستمتعاً خلال ذلك – قبل إمتاع المتلقي ذاتِه – بالإمعان في الاسترسال خلف أدقّ التفاصيل، وغَزلِها بصبرٍ لا يعرف الكَلَل، على نحوٍ يكادُ يستعيدُ مهارات قدامَى مُصَوّري المنمنمات الإسلامية، وأساطين المُزَخرِفين الشرقيين.
وتتجلّى سِمات المَسارَين المذكورَين إلى حدها الأقصى، من خلال العمل الذي تمكن من خلاله “الحجري” من حصد الجائزة الأولى في مجال الرسم والتصوير على مستوى السلطنة، في المعرض السنوي للفنون التشكيلية (الدورة 27) بالجمعية العُمانية للفنون التشكيلية. فالمتأمل لذلك العمل، سرعان ما يكتشف أن الصورة الكُلّيّة إنما هي في حقيقتها بناءٌ مَشيدٌ من لَبِناتٍ لا حصر لها، من التفاصيل، والوحدات، والأنماط الشكلية، والعناصر البصرية، التي تراصَفَت وتشابَكَت وتلاصَقَت وتداخَلَت، على نحوٍ أنتَجَ في نهاية الأمر بناءً بصرياً مُحكَماً، يُنبئُ بجلاءٍ تامٍ عن مدى تمكُّن الفنان من أصول التكوين وإحاطته بقواعد التصميم.
وفي ثنايا هذا الحشد الغنائي الزاخر بزخم التَوشِيَة البصرية والتَوشيح اللوني، تلتقي عينا المُتَلَقّي بالعنصر تلو العنصر، من الوحدات الشكلية، الطافرة من أعماق ذاكرة القرية، المُتَجَذّرة بعُمقٍ في أغوار وعي الفنان. وإذا بهذه الوحدات والعناصر وقد التأمَت شذراتُها، لِتَنسِجَ صورةً فنيّةٍ تَستَوفي مُقَوّمات العمل الفني الأصيل، وتُلَبّي، في الآنِ ذاتِه، شروط الفرادة الذاتية، التي باتت ضمانة المرور الحاسمة على درب المُعاصَرة الفنية.