طاطة بن قرماز
باحثة وأكاديمية جزائرية
لا شك في أن القارئ المتمحّص لفكر الجاحظ البلاغي بنزوعه الفلسفي الجمالي يلحظ تجلّيه في مسائل فلسفة الفنّ المعاصرة بما تضمنه فكره من زخم معرفي متشعب الرؤى والتنظير، فقد ألفينا فكره بارز المعالم في كلّ من النظريّة الأسلوبية ونظريّة التلقي ونظريّة علم الجمال وفلسفة الجمال، إذ حاولنا في هذا المقال تقديم تنويرات جاحظية وردت في إرهاصات تنظيريّة بادر إليها مبكرا، أبانت آراءه البلاغية عن حرصه الشديد على توصيف السبل والآليات التي من شأنها تهذيب لغة الأدب وتطريفها وشرح آليات تدبيج الكلام، والوصول إلى جمالية تلقيها ضمن سلسلة من المقولات النقديّة الجمالية.
ملامح فكر الجاحظ
في فلسفة الجمال:
للعاطفة حظّ وافر من تفكير الجاحظ الفلسفي الجمالي، فقد نافح عنها ودعا إلى توخي الكلام من مرجع انفعالي حسّي بقوله: «الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان… وقال الحسن رحمه الله، وسمع رجلا يعظ، فلم تقع موعظته بموضع من قلبه، ولم يرق عندها، يا هّذا إن بقلبك لشرًا أو بقلبي»1، يتلقف المتلقي الكلام بقلبه عندما ينبعث الكلام قلبيا، عفويا بديهيا، لذلك قال الجاحظ بعامل الشهوة والمحبة وهي نزعة فلسفية آثارها جان ماري جويو، نورد ما قاله الجاحظ في الشهوة وهو يسرد مقومات البلاغة عند بشر بن المعتمر: «… فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفها عليك، فإنك لم تشته ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسب، والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات، لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع الشهوة والمحبة، فهذا هذا»2،، ينبني الكلام على ما ينزع إليه المتكلم من عواطف تشاكل مكنوناته الداخلية تتجلى للعيان لغة وأسلوبا، إخبارا وإمتاعا وتأثيرا، فكان البلاغيون قد دعوا الشاعر إلى الاعتداد بها بقولهم: «واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين».3
ربط الجاحظ الخصوصية الأسلوبية بلغة الشّعر من حيث إمكان توافر لغة هذا الفنّ على الإمكانات النّظمية التي تمنح السياقات الأسلوبية خاصية الضّبط أو الإحكام حين قال: «… والشّعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النّقل، ومتى حُوّل تقطّع نظمه، وبطُل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجّب منه، وصار كالكلام المنثور، والكلام المنثور المبتدأ على ذلك أحسن وأوقع من المنثور الذي حُوّل عن موزون الشّعر…»4، نفهم من الرؤية الأسلوبية هذه أنّ لغة الشّعر المتجذّرة التجربة والمستحوذة على جماع الحواس لا يمكن تغييرها أو تزويرها تبعا لما تتمتّع به من مصداقية أدبية، لذلك شهد الجاحظ لهذا المذهب الإبداعي بالسيرورة والدّوام والثبات .
ولعلّ أبرز ما دلّ على حرمة لغة الشّعر الشّاعر هو الدّلالة المركوزة في هذه دلالة: لا يُستطاع أي لا يتحمّل ولا هو مسوّغ، وأما اعتماد الجاحظ قوة فورة الانطباع المبدئي المعبّر عنها: الكلام المنثور المبتدأ على ذلك.. فدليل على تقدير فطرة الانطباع الأوّلي، فالنّظرة الأولى أبدا حمقاء لا تقبل المعاودة والتنقيح، بالتركيز على مبدأ صفاء الانفعال وانخراطه في الوجهة الإبداعية المصروف إليها، فالانخراط المبدئي هو الذي يرسم الوجهة التلفيظية.
حين جزم الجاحظ باستحالة ترجمة الشعر فإنه يؤكد على وجود صراع قارّ بين الحسّ والعقل وبين البديهة والرّوية، أو بين الغريزة والعقل أو بين العاطفة والعلم، وهي قضايا فلسفية تجلت في تفكيره البلاغي، وقد طرحها الفيلسوف الشاعر الفرنسي Jean-Marie Guillot في كتاب مسائل فلسفة الفن المعاصرة، مثبتا تبدّد الجمالية بحلول دعامات العقل محلّ دعامات الفطرة، يقول جويو: «إن الغريزة العفوية التي تؤلف وحدها العبقرية الحقيقية، ستفسد بنسبة ازدياد الوعي عند الإنسان شيئا بعد شيء بتأثير العلم، فما أكثر ما فقد الإنسان من غرائز على هذا النحو… ومازالت الوقائع اليومية تبرهن لنا على أن العقل يخرّب الغريزة5»، فالفنّ يتولّد من منظور Guillot من العبقرية المنبعثة من الغريزة الفطرية، ويرى أن التفكير الاستدلالي إذا سبق تصور الأثر الفنّي كان دليل ضعف وهو بذلك يغتدي نقيضا للعبقرية .
كما أنّ الإرادة في الأخلاق في نظره الفلسفي هي كل شيء لكنها في الشعر هي لا شيء، بموجب خضوع الإرادة لصرامة العقل، وخضوع الشعر لفضاء الحسّ وحرية الانفعال، وقد استدل برسالة كتبها شلير لغوته «إن عاطفتي تستيقظ قبل أن يكون لها موضوع، محدّد واضح، وأنا أشعر في أول الأمر بنوع من التهيؤ الموسيقي يملأ نفسي، ثم تأتي الفكرة الشعرية بعد ذلك6»، تتشكل العاطفة عن مبدأ عفوي تهيمن على الذات المبدعة باستعداد تنغيمي موسيقي نفسي، وعلى أثر هذا الاستعداد الفطري تتشكل فكرة الموضوع الشعري وللغريزة دور فعال في إنتاج العبقرية، تتعارض الغريزة إذن مع العقل وتتعارض العاطفة مع العلم، لأنّ ثمّة وازعا غريزيا هو الذي يسهر على تخيّر المواضع وبثّ التعديل بينها والاستواء .
لذلك وقف الجاحظ موقف المستنكر من عملية ترجمة الشعر وهو متيقن كلّ التيقّن من أن العقل الذي يُحتاج إليه في ترجمة المعاني الفطرية والملفوظات المنتخبة نفسيا وغريزيا وتحويل الوزن الذي اهتدى إليه الشاعر حسّيا، إنّما مآل الشعر المترجم التبدّد والهذر والهذيان لأن العقل يخرجه من شرنقة الغريزة، فالغريزة الشعرية كي تخصب تحتاج إلى العاطفة والبديهة وليس إلى العقل والرّوية .
أثار الجاحظ مسألة التنقيح التي تعدّ عملية عقلية تلحق ضررا بعملية التواصل وزوال الإمتاع إذا ما تجاوزت حدّها فيقول: «…وكذلك إذا سمعت نادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الطعام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب أو تتخير لفظا حسنا، فإن ذلك يفسد الامتاع بها، ويخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، ويذهب استطابتَهم إياها واستملاحهم لها7»، يفضي طرح الجاحظ ببعده الفلسفي الجمالي إلى تبيين فائدة الفطرة أو الغريزة فالنوادر والملح تصدر عن سجية النفوس وفطرتها وتنبعث من عمق الغريزة رغبة لا اغتصابا، فلا يجوز نقلها أو تعديلها لأن التعديل والتنقيح يخرّب صورتها الأولية الغريزية والبديهية التي بُدِئت عليها أول مرة، ففي عملية تصويب الكلام الأصلي نحويا وإعرابيا وتعديل اللفظ تخيّرا عقليا تفسد المتعة وتتلاشى، وتخرج النادرة أو الملحة عن صورتها الغريزية الفطرية، فالعقلنة والعلمنة يخربان الإمتاع ويذهبان الاستطابة والاستملاح المرهونة نشوتهما بالصيغة الفطرية الأولى، فالشاعر أو المتكلم عموما لا يفرز اللغة فرزا عشوائيا عاريا من حرارة العاطفة، إلاّ إذا كان بين المتكلم وما يتلفظه منزعا يشتهيه فيغدو بينهما نسب.
فالشهوة والمحبة والعاطفة عناصر غريزية يتصرّف فيها اللافظ فيخرج كلامه مخرج التشهي والرغبة والمحبة من منظور الجاحظ الجمالي، وعليه تغتدي العاطفة أولا وتسبق الفكرة وهذا ما عالجه جويو حين قال: «كي ينتج الخيال، وكي تبدع العبقرية، لا بد أن تستحثها العاطفة، وأن يخصبهما الحب: يجب أن يعشق المرء فكرته حتى يشعر بالحاجة إلى إخراجها… إن التحليل يقتل العاطفة..8»، وقد لخّص الجاحظ فكرة العاطفة أولا قبل استحضار الفكرة فيما قال به بالتنازع والتشهي والرغبة والمحبة، وهي دعامات غريزية جمالية فلسفية تثير العواطف وتستحثها، وهي قمينة بإخصاب الخيال وفتق الإبداع.
وكان جان ماري جويو قد فعّل عنصر الشهوة في إبراز الجمال وحدوثه حين رأى بأن الشهوة تشكّل متعة انتشائية، وقد ميّزها عن اللذة قائلا: «وإن فكرة الشهوة لتظلّ في الأذهان أعذب من لحظة اللذة، وهذا هو مصدر المتع الكبرى التي ينعم بها الشاعر فهو يصبو إلى أن يحيا حياة جميع الناس إلى حدّ ما…9»، ينبني الجمال على ما تسوقه الانفعالات وعلى اللحظات الشعورية المشتركة بين الناس، إذ تسجل لحظات انفعال خارج دائرة فنّ الشعر بقول جويو: «وإن العشيقين اللذين يقرآن معا قصيدة غزلية، و يعيشان ما يقرآن كما يفعل أبطال دانتي، تكون متعتهما بالقصيدة في أوج قوتها، حتى من الناحية الفنّية10»، إنّ الفنّ إذًا يوحّد الأحاسيس ويجعلها منصهرة متواشجة مشتركة تأثيرا وتفاعلا دون وازع شعري .
قال الجاحظ بجيشان العاطفة وتحكمها في بثّ الّلغة حين استخلص مدلول البلاغة العاطفي من محاورة جرت بين معاوية وصحار: «قال معاوية لصحار: ما هذه البلاغة التي فيكم؟ قال شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا11»، أرهص الجاحظ لما يرّوجه رواد التنظير الأسلوبي ورواد التلقي بتأثيرية القول في المتلقي، فيرسّخ العاطفة ويعتمدها سبيلا لإنهاء المعنى إلى قلب السامع أو المتلقي، والخاصية النفسية التي تؤثر على الخاصية اللغوية والتي قال بها مارزو.
نحا الجاحظ منحى مخالفا لما رُوِج له عن حرارة القول ودرجة تأثيره في المتلقي، فرأى أن التأثير قد يحصل من غير ذلك، بل قد يحصل فيما تمّ توصيفه بالكلام السخيف «وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع بأكثر من امتاع الجزل الفخم من الألفاظ والشريف الكريم من المعاني، كما أن النادرة الباردة جدا قد تكون أطيب من النادرة الحارة جدا، وإنما الكرب الذي يختم على القلوب ويأخذ بالأنفاس، النادرة الفاترة، التي لا هي حارة ولا باردة…»12، يرى الجاحظ في سياق تفكيره البلاغي أنّ الامتياز اللّغوي الأسلوبي قائم على آلية التشاكل الانفعالي الحاصل بين الانفعال النفسي والفعل اللّساني.
ولا يشترط في وقوع التأثير بالنسبة للجاحظ فخامة اللفظ وجزالته بل قد يأتي الامتاع من حيث لا يحتسب المتلقي أو السامع، فالكلام الساذج مثلا قد يكون مصدر توتير وإمتاع للقارئ، وربما تأثيراته تنبعث من كيفية إخراجه أو من كيفية تشكيله، فلا يحتاج السخيف إلى تكلّف لابتعاده عن حدود العقل، وقد يتضمن الكلام البارد جدا درجة الصفر في قيمته الأسلوبية، لأن الرائي ينظر إليها من منظور غياب قيمتها التعبيرية، لذلك قال pierre Guiraud «فإن البنى التي ليس لها قيمة تعبيرية مثل: بول يضرب بيير لها قيمة أسلوبية فسماتها المميزة إنّما تكون في لا تعبيريتها على وجه الدقة أو في قيمتها التي تبلغ درجة الصفر13»،ينبعث الكلام الممتع من درجة ضعف قوته، فما يكون بعيدا عن التوتير يكون سببا في إيقاد التوتير نفسه لأنه يكون محلّ تثبّت وتأمّل عند مسوّغ تأثيره.
إنّ تفكير الجاحظ الأسلوبي راسخ حاضر في منهج رواد علم الأسلوب، وإن استعمل بيير قيرو مفهوم درجة الصفر فإن مقابلها عند الجاحظ الكلام البارد جدا أو الكلام السخيف، لأن مفهوم القيمة الأسلوبية14يفترض وجود عدد من طرائق التعبير عن الفكرة ذاتها وهذا ما أسماه pierre Guiraud بالمتغيرات الأسلوبية، فالتعبير عن الفكرة نفسها بحرارة عالية أو ببرودة باردة تكون فيها القيمة الأسلوبية ثابتة من منظور الجاحظ البلاغي، فلكليهما غائية الإمتاع والإطراف معا.
الغريزة أقوى من العقل
في عرف الجاحظ البلاغي:
عالج الجاحظ الفائدة الجمالية المجتناة من حثّ العاطفة والغريزة والشهوة على إنتاج جمالية القول، وكان جان ماري جويو يرى بأن الفنّ يتولد من العبقرية المنبعثة من الغريزة الفطرية، ويرى أن التفكير الاستدلالي إذا سبق تصور الأثر الفني كان دليل ضعف وهو بذلك يغتدي نقيضا للعبقرية، «إن الغريزة العفوية التي تؤلف وحدها العبقرية الحقيقية، ستفسد بنسبة ازدياد الوعي عند الإنسان شيئا بعد شيء بتأثير العلم، فما أكثر ما فقد الإنسان من غرائز على هذا النحو… ومازالت الوقائع اليومية تبرهن لنا على أن العقل يخرّب الغريزة15»، تتعارض الغريزة مع العقل وتتعارض العاطفة مع العلم، لأنّ ثمّة وازعا غريزيا هو الذي يسهر على تخيّر المواضع وبثّ التعديل بينها والاستواء، ويكون ذلك من خلال بثّ التلاؤمات فيما بين مختلف الموادّ الصوتية .
يستقي الكلام إمتاعه في عرف الجاحظ الفلسفي من بلاغة الإغراب يقوله: «… لأنّ الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم، وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف، وكلما كان أطرف كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع، وإنما ذلك كنوادر كلام الصبيان وملح المجانين… والناس موكولون بتعظيم الغريب واستطراف البعيد…»16، ومعنى هذا أن حصول الإبداع الأدبي من رؤية الجاحظ الأسلوبية مرهون ببلاغة التعجيب والإغراب والإطراف، إذ يسفر الإغراب في القول عن قطع السياقات الأسلوبية التي نافح عنها ميكائيل ريفاتر معتبرا إياها نماذج لسانية تعبيرية قٌطعت بعناصر لسانية غير متوقعة، بقوله: «… هو نموذج لساني مقطوع بواسطة عنصر غير متوقّع والتضاد الناتج عن هذه المخالفة هم المنبه الأسلوبي17»، إذ يسبب القطع في المتوالية التعبيرية مخالفة سياقية تحقق كسرا في النموذج اللساني المستعمل، يفضي إلى حصول منبه أسلوبي يعتبر مفاجأة غير منتظرة، أما بالنسبة للجاحظ فالتعجيب والإغراب والإطراف والإبداع هي كسر لسياقات أسلوبية تسفر عن استجابات تفاعلية تصدر عن المتلقي، الذي أبهر بغير المنتظر من خلال المنتظر، إذ ينمّ الإطراف والإمتاع والتعجيب عن بلاغة الإغراب لجنوح الإغراب إلى الخيال أحيانا، فالخيال حدّ من حدود الجمال وليس هو الحدّ بذاته.
استدل الجاحظ بنموذجين باعثين على حدوث الإطراف والإمتاع، يشيان بتمدللات إبداعية وهما: وقوع الغرابة في كلام المجانين والصبيان لخروجهما عن إطار العقل ومعيارية المعقول، فكلامهما لا تستلذّ إلاّ لتجنبها معايير العقل، لأن الوعي يقف منها موقف المتعجّب، بسبب تنافر قواها المعرفية، حتّى أن المعاجم العربية لم تهمل الإحاطة بدلالات الإدهاش والتعجيب، فقد ورد في لسان العرب لابن منظور أن الغريب هو الغامض من الكلام، والغربة والغرب: النوى والبعد، وغريب: بعيد عن وطنه، أي أن الغريب هو البعيد عن التصور والخاطر لذلك يفجئنا ويطرفنا ويؤنسنا .
استرشد الجاحظ بالكلام الطريف العجيب الذي يصدر عن المجانين لأنه لا يحتكم إلى سلطة العقل، إذ ينبعث الكلام في خطابات المجانين في أول مبادئه من عفو البديهة، وذلك لأنهم أناس مفتقدون إلى قياس العقل وصرامته.
نستوضح هذا الموقف بالرواية التي يسردها الجاحظ عن جلوس علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ مع بعض متعاقلي فتيان العسكر، وقد جاءهم النخاس بجوار فكان من علي بن إسحاق أن تفنّن وأبدع في نقد الجمال والحسن في تلك الجواري حين قال: «…ثمن أنف هذه خمسة وعشرون ألف دينار، وثمن أذنيها ثمانية عشر، وثمن عينيها ستة وسبعون، وثمن رأسها بلا شيء من حواسها مائة دينار، فسمّي مقوّم الأعضاء…18»، إن من يقرأ مزاد المجنون هذا ينتابه إطراف واستئناس وإمتاع واستظراف، لأن قوله جاء منبثقا من حسّه والحس كما أثبته أبو حيان التوحيدي يكون «شديد الّلهج بالحادث والمحدث، والحديث، لأنه قريب العهد بالكون، وله نصيب من الطرافة»19 .فقد لا يهتدي العاقل إلى مثل هذا التوصيف لأن المجنون ينزع فيه منزع الهزل الذي لا يتطلب فيه حضور العقل، خاصة حين فصل حواس الجارية عن رأسها وهذا لا يصدر إلاّ عن مجنون أخرق وهو ما وسمه الجاحظ بالكلام السخيف أو البارد جدا، وكان حازم القرطاجني قد قسّم الأسلوب إلى شطرين: جدّ وهزل، وقدّم توصيفا لكلّ منهما قائلا: « فأما طريقة الجدّ فهي مذهب في الكلام تصدر الأقاويل فيه عن مروءة وعقل بنزاع الهمة والهوى إلى ذلك… وأما طريقة الهزل فإنها مذهب في الكلام تصدر الأقاويل فيه عن مجنون مما هو خاص أو كالخاص بالأخرى.»20،تحدث غرابة القول وتلقيها في تقييم المجنون للعاقلة وإدراكه الغريزي لجمالها الفتان، فقد قوّم المجنون أعضاء العاقلة تقويما دقيقا متفاوتا في الثمن، ولا شك في أن انبعاث كلام المجنون من الفطرة ونزوعه مذهب الهزل أسفر عن إطراف الآخرين وإمتاعهم .
تُشكّل دلالة الشهوة هاجسا فلسفيا من حيث تصبح لذة يصبو إلى تحقيقها الشاعر «وإن في الشهوة وحدها لمتعة، وإن فكرة الشهوة لتظل في الأذهان أعذب من لحظة اللذة، وهذا هو مصدر المتع الكبرى التي ينعم بها الشاعر، فهو يصبو إلى أن يحيا حياة جميع الناس إلى حدّ ما .21»، يمثل عامل الشهوة طرفا آليا في صياغة الشعر وهو منزع ذاتي تغدو ترجمة الشعر ضربا من المحال لأن عملية الشعر تخضع لقوانين نفسية خاصة .
الاستحسان الأسلوبي في فلسفة الجاحظ :
يقوم الاستحسان الأسلوبي لدى الجاحظ على ما تتركب منه العملية الشعرية باعتبارها ظاهرة لغوية تتطابق مع ظاهرة نفسية تكمن في حسن توظيف محوري الاستبدال والتركيب، إذ «يعتبر اللسانيون أن النظام الاستبدالي أو النظم الركني، لا يمكن أن يكون عفويا ولا اعتباطيا في الظاهرة اللغوية وإنما كل لغة بنواميس تحدد التصنيفات الممكنة غير ممكنة، وتسعى اللسانيات إلى تحسيس هذه النواميس في كل لغة ولهذا السعي أبعاده خاصة في قضايا الترجمة من الناحية المبدئية ومن الناحية العملية22. ينتقي المتكلم من زخم الرصيد المعجمي ما ينسجم طواعية مع المعنى وما يقتضيه التعبير وفق محور واحد من محور الاختيار، وإذا اختير أحدها انعزلت باقي الملفوظات، ولذلك قيل في هذه العلاقات: إنها روابط غيابية أي يتحدّد الحاضر منها بالغائب ويتحدّد الغائب23، انطلاقا من الحاضر، بعد عملية الانتقاء الأسلوبي التي يختبر المنشئ مفعول تأثيره ومدى استحسانه من لدى القارئ، فالعمل الأدبي لا ينفكّ أن يخضع لعمليتي الاستبدال والتوزيع، الأسلوبيتين وفق رأي ساندرس، «وإذا كان العمل الأسلوبي الحقيقي هو الانتقاء من عدّة إمكانات لغوية متطابقة فبالإمكان أن يشار هنا إلى ما ذكره وينتر winter أنّ كلّ نوع من أنواع الأسلوب يتميز بنموذج خاصّ من الانتقاءات المتواترة التي تنضوي تحت الأجزاء غير الإجبارية في اللّغة24». يقوم الشعر على ضرب خاصّ من النسوج الّلغوية التركيبية التحبيرية، إذ يستفيد النقد الأدبي الحديث من نتائج تداول الظاهرتين: التركيبية والاختيارية لأن«الظاهرة اللّغوية تتركب أساسا من عمليتين متواليتين في الزّمن ومتطابقتين في الوظيفة وهما اختيار المتكلّم لأدواته التعبيرية من الرصيد المعجمي للغة ثمّ تركيبه لها تركيبا تقتضي بعضه قوانين النّحو وتسمح ببعضه الآخر سبل التصرّف عند الاستعمال…»25، إنّ في وحدة الانفعال وظيفة بنائية لّلغة الشعر تعني تواصل نفس الارتجال للّغة، فلا يتخلّلها الانقطاع الذي يشبه الترقيع .
وقد زاد علماء البلاغة العربية فوق التوصيفات السلوكية التي سردناها معتمدين التفكير البلاغي لدى الجاحظ، حيث قالوا بمفهوم اجتماع الكلام في الصدر الواحد، حيث يتّضح لنا أنّ تفهّم هذا التفكير اللّغوي قائد إلى القول بأنه لا يمكن تقبّل لغة الشعر إلى اشتراك أكثر من حسّ في إنجاز إبداعها، فالتناجز أو الاشتراك في لغة الشعر لا يمكن أن يتحقّق بالقدر الذي يمكن أن يحصل في لغة النّثر.
يعدّ الأسلوب انطلاقا من هذا المنظور ذاهبا في الاختصاص المركّز الذي ترافق تحقيقه مجموعة من السلوكات النفسية والانفعالية والجسمانية، وهي الشروط الإبداعية التي إن توافرت طبيعية حرّة ستكون معينة على إبداع الأساليب وارتجال خصوصياتها الإيقاعية .
يتّسق التفكير الأسلوبي البنائي في تفكير الجاحظ حسب ما استنبطناه من خلال الالتزام بالشروط البلاغية التالية: وحدة الانفعال بارتجال الكلام، تركيز الكم اللّغوي إذ كلّما قصر الكلام كلّما سهل ضبطه والتحكّم في بنائيتة، وكلّما طال واستفاض كلما أصابه التفكّك وافتقد إلى خاصيتي التّأليف والتجاور، وقد كان الجاحظ دقيق المنهج حين ميّز بين سياقين تأليفين هما: اقتران الألفاظ، واقتران الحروف، ففي اقتران الحروف قال: «فأما اقتران الحروف فإن الجيم لا تقارن الظاء ولا القاف ولا الطاء ولا الغين، بتقديم ولا تأخير، والزاي لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال، بتقديم ولا تأخير، وهذا باب كبير..»26، فلكلّ منهما قواعد جسمانية لسانية سماعية هي بمثابة الشروط الحاسمة في بناء أيّ كلام ..
لقد تنبّه البلاغيون العرب إلى اعتماد دقّة المنهج في تفكيرهم اللّغوي، من ذلك ابتكار الجاحظ الكلام على الألفاظ قبل كلامه على اقتران الحروف لأنّهم يعتقدون أن الإحاطة بالكلّ تنبني على الانتقال من الكلّ إلى الجزء «… واعلم أنّك لا تشفي الغلّة ولا تنتهي إلى ثلج اليقين حتى تتجاوز حدّ العلم بالشّيء مجملا إلى العلم به مفصلا، وحتى لا يقنعك إلّا النظر في زواياه والتغلغل في مكامنه، وحتى تكون كمن تتبع الماء حتى عرف منبعه وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف منبته ومجرى عروق الشجر الذي هو منه»27، معنى هذا أنّ الحسّ يتعامل مع الجزئيات اللّغوية مما يدغدغ اللّسان والسمع التي تعني أصوات الحروف والبنيات اللّغوية الأقلّ تطاولا أي تلك الموادّ اللّغوية التي يستطيع الحسّ التعامل معها حيث يبدو أنّ انفعال الحسّ بالبنيات اللّغوية المتقاصرة أسهل من تعامله مع النصوص والمقالات المطولة وليس ههنا صحيحا إلّا بالنظر لكون الحسّ يتعامل مع المادة اللّغوية وفق مبدأي الانقضاض والهجوم دفعة واحدة غير مفصلة ولا مجزّأة مقطعة لأن نحسب أنّ ذلك من عمل العقل، لذلك يقوم الحسّ باستدرار اللغة وذلك بالقيام مبدئيا بصرف الوهم جهة القول لتنثال الأفكار والمعاني والصور انثيالا، فتستجيب اللّغة على اعتبار أنّ «.. الجملة أبدا أسبق إلى النفوس من التفصيل»28، وهي النظرية الغشطالتية الألمانية التي تعتمد الانتقال من الكلّ إلى الجزء وهي التي قال علماء الغرب بها لاحقا.
كما قارب الجاحظ مفهوم وحدة الانفعال بارتجال الكلام الفنّي قائما على النفس الواحد، والنسق التلفيظي المتجاذب الأنحاء والأطراف، والمرقّق في الفصول والمقاطع والأطراف بمقولة اجتماع الكلام في الصدر الواحد مع ضرورة تمتّع سياق الكلام بالوقوع ملتئما مفرغا إفراغا واحدا فقال: «وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغا واحدا، وسبك سبكا واحدا، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان»29، فبوقوع الكلام غير مقطّع ولا مجزّأ تكون هذه الميزة الفنّية الإيقاعية المتّصلة بالأسلبة اللّغوية في حيّز التعاطي الشعري هو الذي أوحى إلى النقاد تسمية القصيدة: كلمة.
تداعي جمال الأسلوب في تفكير الجاحظ:
يستفاد من تفكير الجاحظ اللّغوي البلاغي أنّ تمييز الشروط الجمالية للغة المنطق وبالتحديد لغة الشّعر يشترك فيها طرفا الخطاب، فالاستملاح والاستشيان يصيبان لسان وسماع كلّ من المنشئ والسامع، فهما إذن يتّفقان على المعايير اللّغوية الجمالية التي تجعل من الخطاب قيمة إبداعية لا يختلف على معاييرها جملة المتلقّين.
لقد ركّز الجاحظ على مبدأ وحدة السبك في ارتجال لغة الشّعر، فالانفعال المتّزن ينتج لغة متّزنة، وإنّ في تشتّت لحظة الإبداع، وتقطّع أوان الانفعال إلحاق لأثر يشين الخصائص التعبيرية للغة الشّعر، إذا فإنّ للتوافق البنائي بين المقام والمقال الأثر الإيجابي في إجادة تقانة الأسلوب واستحسانه من لدن مستقبله.
إنّ ما أورده الجاحظ من آراء حول الكلام وطريقة نظمه وأثر الانتظامات اللّغوية في لسان اللاّهج بالخطاب أو في صفحات سمع المتلقّي، توضّح الأسبقية الزمنية بورود مفهوم الأسلوب في كتاب: البيان والتبيين في خلاصة نظريّة تركّز الاهتمام فيها بطبيعة إخراج الكلام، أي الهيئة التي تتشكّل عليها فصول الخطاب، ولا تحصل هذه المزية في بنائية لغة الخطاب إلاّ إذا قام تفريغ اللّغة على جملة من المبادئ هي: الإعراب، وتخيّر الألفاظ30.
نحسب أنه لا يمكن للمنشئ سواء أكان خاطبا أو كاتبا أن يتقن بلاغة البيان إلّا عن طريق تحكّمه في إدارة التوافق بين الألفاظ والمعاني وهو أن «.. يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات ..»31.
قد يبدو نظر الجاحظ مشيرا إلى الأسلوب من بعيد لا يكاد يقارب صميم الموضوع، إلّا من خلال الإشارات المتعلّقة بحرارة الخطاب أو برودته،غير أنّ المتأمّل لجوهر هذا النّظر النقدي يستطيع أن يتبيّن ذهاب الجاحظ مذهب الاختصاص في اشتراط الفاعلية اللّغوية من حيث القيم الإيقاعية أو الانفعالية التي يتضمّنها الخطاب، فالهزّة التي ينطوي عليها بلاغة الخطاب تتحدّد من خلال القيم التعبيرية التي يختارها الحسّ المنشئ لصياغة الأفكار والمعاني، لذلك ركّز الجاحظ على مبدأي: الإعراب، ومخارج الألفاظ من حيث ارتأى أن من خلال هذين العنصرين تأتي حرارة الخطاب أو برودته.
تجلّي تفكير الجاحظ في نظريّة جمالية التلقي:
إنّ عبقرية الجاحظ حاضرة في نظرية التواصل والتلقي انطلاقا من بتّه في مسألتي الفهم والإفهام، ومن ثم ربطه الأسلوب بالوضوح والإبانة، بقوله :«لأن مدار الأمر على البيان والتبيين والإفهام والتفهم، وكلما كان اللسان أبين كان أحمد، كما أنه كلما كان القلب أشد استبانة كان أحمد، والمفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل إلا أن المفهم أفضل من المتفهم والمعلم أفضل من المتعلم»32، للتلقي تجذّر راسخ في عرف الجاحظ البلاغي، فقد منح طرحه النقدي ترسيخا لمفاهيم التلاقي المنبنية على طرفي التراسل ولا سيما عنصر التكافؤ الذي ينجرّ عنه الفهم والتفهم .
يُحتاج في عملية الإبلاغ إلى بيان اللسان واستبانة القلب، وهما عنصران متلازمان متنازعان لا يخلو توطيد التواصل منهما، وقد اهتم الجاحظ بطرفي التواصل: مخاطِبا وهو ما اصطلح عليه بالمفهم لك، ومخاطَبا بما يقابله بالمتفهم عنك، وجعل مناط ذلك كلّه مرهونا بفاعليتي البيان والتبيين، أي الوضوح، وهو مقوّم أساسي لإثبات ماهية الأسلوب، فقد أشاد دارسو الأسلوب بكونه يرتكز على الإيضاح والوضوح، وقد دعّم Georges mouline تعريفا للأسلوب جمع فيه جلّ مقوماته قائلا: «… الطريقة التي يتكلم بها كل شخص لذلك هناك من الأساليب بقدر ما هنالك من أشخاص يكتبون… على الأسلوب أن يكون واضحا، ونقيا وحيا وسلسا وممتعا، وصحيحا وملائما لموضوعه»33، احتل الوضوح موقع الصدارة في ترتيب مقومات ماهية الأسلوب في هذا النصّ النقدي، لذلك وسمه جورج مولينيه بالنضج والشمول الأسلوبي .
يتسم الجاحظ بتفطّن منهجي حين استبق التعريف الأسلوب الذي يقترن بالوضوح، فالبيان الذي جاء على لسان الجاحظ إنّما قصد به وضوح الأسلوب، تجلّت مقوماته وأركانه في كتاب البيان والتبيين، فكلما كان الأسلوب واضحا ومفهوما خاليا من التعقيد والتعمية تحقق التكافؤ بين طرفي التراسل وتمت عملية الاستيعاب والفهم، ومن ثمة يحصل التفاعل والانخراط في سياق الخطاب فيؤثر المتكلم بأسلوبه الممتع والمشوق في نفوس المتلقين، لأن حسن الموقع من النفس يعدّ شرطا ضروريا من شروط الفصاحة والبلاغة في عرف البلاغيين العرب34، لما لهذا الشرط من سحر يغمر النفس ويجعلها تتجاوب وتتفاعل نفسيا مع مضمون الخطاب.
لم يكتف الجاحظ بدعوة المخاطب بتوخي الوضوح في اللسان الذي قد يعني به عامل الفصاحة وسلامة اللسان من التعثر والتجعّد وإنّما ألحق سلامة اللسان وبيانه باستبانة القلب، والاستبانة القلبية تؤدي إلى خصوبة عملية الإبلاغ وتلقّي الكلام من وجهة تأثيرية، فالتلقي إن لم يكن مقرونا بالتأثير قد ينتهي به إلى الإجهاض l›avortement وهو مصطلح استُخدم في الدرس اللساني استعمالا مجازيا، يراد به فشل التبليغ أو الإيصال يتعلق بخطاب أو رسالة كلامية غير مؤثرة فتتعرض عملية التواصل إلى الإجهاض، يستخدم هذا المصطلح ويوظّف في تلقي الخطاب، لذلك نرى الجاحظ يلمّ بما يتعلق بالتلقي ضمنيا وظاهريا وبأسباب نجاعة عملية التلقي .
تجذّر منهج الجاحظ اللغوي في آليات التحليل الأسلوبي:
لم يفت الجاحظ الوقوف عند مسألة الاختيار أو التخيّر وهي مسألة لسانية وأداة أسلوبية تفضي إلى تحليل الخطاب تبعا لمجريات سياق التأليف الذي يقوم على سياق الاستبدال اللفظي، يقول الجاحظ في سياق انتقاء الملفوظات وتوزيعها من حيث تسهر الذات المنشئة على ترتيب آليات الخطاب المتمثلة «.. في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك…»35، لإنتاج خطاب متسم بالفنّية المتفردة ذي سمة تركيبية لغوية خاصة، تتكاشف جهود الجاحظ الأسلوبية والجمالية في طرقه لقاضيي الجمال، والأسلوب والتلقي، فقد زاحمت أفكاره الحداثية عقول رواد الحداثة النقدية والجمالية، وصار تفكيره منبعا ينهل من معينه المنشغلون بترسيخ التراث في الحداثة تجلّيا وإرهاصا.
يسهم كلّ من الاختيار والتركيب في تأثيث فصول الخطاب، وقد أشاد الجاحظ بفائدتهما الجمالية في صناعة الخطاب وتدبيجه، حين جعل تخيّر اللفظ وجودة السبك شرطين حاسمين في انتظام الوحدات اللسانية وتوزيعها على مستوى العلاقات الركنية، وقد استفاد النقد الحديث كثيرا من أثر هذين المحورين اللسانيين الأسلوبيين من تحديد الظاهرة اللغوية وإبراز مستوييها: النسيج اللغوي الطبيعي، المألوف، والنسيج اللغوي العارض أو المخدوم36، وهو وضع اللغة المتعالي إذ تنجم جمالية اللغة والأسلوب عن عملية الإسقاط والتعادل المتناغمين بين الاختيار والتركيب.
لقد كان للجاحظ القسط الأوفى بين مجايليه في استنهاض الإرهاصات التنظيرية المسعفة لتصور مبادئ الأسلوب والتلقي وفلسفة الجمال دون أن تتبلور كمفاهيم واضحة ببعدها الممنهج العلمي تمام التبلور لديه، بالنظر إلى معارفه اللغوية والنقدية المستغزرة المطروقة في كتبه، فكان سبّاقا متفطّنا إلى مناوشة قضايا الأسلوب وجمالية التلقي وعلم الجمال من خلال آرائه النقدية التي تناثرت في كتاب البيان والتبيين على وجه الخصوص بطرائق مخصوصة تجعل فكره يحضر في تلك النظريات ويتجلى باعتبارها مسائل فنّ ترسخت في ذهنه قبل أن تترسخ في فلسلفة الفنّ المعاصرة.
الهوامش
مراجع البحث:
– الجاحظ، الحيوان،ج:1، تحقيق: يحيى السامي، ط:3، دار مكتبة الهلال،بيروت، لبنان، 1990.
– جان ماري جويو، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، ترجمة: سامي الدروبي، ط:2 ،1965 ، بيروت.
-جورج موليينيه، الأسلوبية، ترجمة بسام بركة، ط:1 المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2006. والنشر والتوزيع بيروت لبنان 1999.
– الجاحظ، البيان والتبيين، ج:1، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان، 1968.
-بيير قيرو، الأسلوبية- ترجمة: منذر عياشي، ط:2، مركز الإنماء الحضاري ، 1994.
-ميكائيل ريفاتر معايير تحليل الأسلوب، ترجمة: حميد لحميداني، ط:1، دار النجاح الجديدة، البيضاء، 1993.
– أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة ج:2 منشورات دار مكتبة الحياة.
-حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن خوجة، ط :2 دار الغرب الإسلامي- بيروت 1981.
– جان ماري جويو، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، ترجمة: سامي الدروبي، ط:2، دار اليقظة العربية بيروت، 1965.
– عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، ط:5، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت لبنان، 2006.
– فيلي ساندرس، نحو نظرية أسلوبية لسانية، ط: 1، ترجمة : خالد محمود جمعة، دار الفكر بدمشق سورية، 2003.
– عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت لبنان، 1981.
-عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة في علم البيان تحقيق: السيد محمد رشيد رضا، دار المعرفة بيروت لبنان.
-الجاحظ، الحيوان، تحقيق: عبد السلام هارون مطبعة مصطفى البابلي الحلبي القاهرة مصر، 1988 .
الهوامش
الجاحظ البيان والتبيين، ج:1، ص: 61.
الجاحظ، البيان والتبيين، ج: 1، ص: 188.
السابق، ص: 203.
الجاحظ، الحيوان،ج:1، تحقيق : يحيى السامي، ط:3، دار مكتبة الهلال،بيروت، لبنان،1990،ص:51
جان ماري جويو، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، ترجمة : سامي الدروبي، ط:2،1965، بيروت، ص: 134.
السابق ص: 133.
نفسه، ص: 103
جان ماري جويو، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، ترجمة : سامي الدروبي، ط:2،1965، بيروت ص:7
نفسه،ص: 31.
نفسه، ص: 47.
الجاحظ، البيان والتبيين، ج:1، ص: 69.
نفسه، ص: 101.
بيير قيرو، الأسلوبية، ترجمة : منذر عياشي، ص: 53.
السابق، ص: 52.
جان ماري جويو، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، ص: 81.
الجاحظ، البيان والتبيين، ج:1، ص: 65.
ميكائيل ريفاتر، معايير تحليل الأسلوب، ص: 56.
الجاحظ، البيان والتبيين، ج: 4،ص: 85.
أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة ج: 2 منشورات دار مكتبة الحياة، ص:23
حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص:327.
جان ماري جويو، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، ترجمة : سامي الدروبي، ط:2، دار اليقظة العربية بيروت،1965، ص: 45.
عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، ط:5، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت لبنان ص: 109.
: ينظر نفسه، ص: 108
فيلي ساندرس نحو نظرية أسلوبية لسانية، ط: 1، ترجمة : خالد محمود جمعة، دار الفكر بدمشق سورية، 2003،ص: 124.
نفسه، ص:76
الجاحظ، البيان والتبيين، ج:1، ص: 51..
عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت لبنان، 1981، ص:200-201
عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة في علم البيان، ص:137
: الجاحظ البيان والتبيين، ج: 1، ص: 50.
ينظر، الجاحظ، البيان والتبيين،ج:1،ص:118
: نفسه، ج:1،ص: 97.
الجاحظ، البيان والتبيين،ج1، ص:14.
جورج مولينيه، الأسلوبية، ص:106/107 .
ينظر حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء،. ص: 25
الجاحظ، الحيوان، تحقيق: عبد السلام هارون مطبعة مصطفى البابلي الحلبي القاهرة مصر،1988،
ينظر : عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، ص: 83.