لغاية في نفس التاريخ الجانح، يحدث أن يبرز إلى الوجود والابتكارات، اسم مذكر، في مختلف العلوم الإنسانية وآدابها، وبالمقابل، ومع كل حرب أو دمار أو فساد، يعتمد هذا الفاعل المذكر على الدفاع بطريقة الهجوم، فيركز على اسم مؤنث، ليجعله سبباً للكوارث، سواء الطبيعي منها، كالبراكين، الزلازل، ذوبان الجليد القادم، إلخ..، أو البشري، كالحروب والتدمير والاحتلال والفساد..
ولم تبتعد عن هذا الاحتمال، حرب طروادة، أو ملحمة الإلياذة والأوذيسا، التي ألقى فيها «هوميروس، لومه ولوم مجتمعه على «هيلين»!
ولو انتقلنا إلى المعركة الدائرة بين «ثور السماء» في عصر الأمومة، إلى الخلود العنيف مع «جلجامش» وعشبة الخلود والأفعى، لرأينا النتيجة..
وفي عالم الأدب والفن التشكيلي، نجد صدى المتوالية، يكرر الصوت الأول، ولا يخرج منه رغم ازدحام الأصوات الأخرى، وتراكمها الزمني والبياني، ولا نعرف على وجه الدقة، هل السياب هو أول من كتب قصيدة التفعيلة، أم نازك الملائكة، أم أنهما كتباها، في ذات اللحظة، من خلال التخاطر الروحي «التلباثي الروحي»، ورجحت، كالعادة، فاعلية المذكر على المؤنث..
أيضاً، من يضمن لنا بأن «نيوتن» هو أول من لاحظ علاقة الجاذبية الأرضية بالموجودات، ولماذا لم تكن «نيوتنـ….ـة» مثلاً..؟
وهناك، في أوروبا، لاسيما مع بروز الدادائية والسوريالية، اعتادت الذاكرة الموروثة على تذكير العقل الفاعل، وتأنيث العقل المنفعل، تماماً، كما تناست الذاكرة الجمعيةُ الفيلسوفةَ «اسبازيا»، التي علـّـمت «أرسطو» فنَّ الخطابة والفصاحة، لتنتصر ذكورة البشرية إلى «أرسطو»!
ورغم ذلك، لا بد من أن يزرع المختلف بصمته، ويمضي، إلى أن يلمح الضوءَ أحدٌ ما، فيفكّ آثار شيفرته، وهذا ما اكتشفه المكسيكي»أوكتافيو باث/ نوبل للآداب 1990»، في قلق التشكيلية والنحاتة، المكسيكية من أصل إنكليزي «ليونورا كارينغتون»:»إنها قصيدة تمشي على قدمين»، لتميزها في تكويناتها، وتركيب أشكالها الفنية بطريقة لا مألوفة.
فمن هي هذه السوريالية التي وصفتْ بالمتمردة؟
ولدت كارينغتون عام 1917، في كورلي بإنجلترا، وتوفيت عام 2011 في المشفى الإنكجليزي في المكسيك عن عمر ناهز 94 عاماً، وبالطبع، هي، كما غالبية البشر، لم تكن تعلم بأن المستقبل، سيكون محبوكاً بالأشواك، لولا كائنات اللون، وخامات المنحوتات، التي منحتها من قلقها ما يكفي لأن تؤلـّـف عالماً سوريالياً، خرافياً، يجمع ما لا يُـجمع، يوافق بين التضادات والمتناقضات، عازفاً أسلوب «كارينغتون» المتميز حتى عن بقية زملائها، رواد المرحلة، مثل: سيلفادور دالي، مارسيل دوشامب، أندريه بريتون، بابلو بيكاسو، وصديقتها الإسبانية ريميدوس فارو.
وربما لو لم تكن حياتها درامية حتى المأساة، ولو لم تكن تشعر بأنها مخلوقة من أجل هذا التشكيل، لما انتسبت في لندن، إلى مدرسة «جيلسي للفن»، ثم تابعت في أكاديمية أوزنغانت»، ولـَما عاندت والدها، رجل الأعمال الثري، وأكملت طريقها الإبداعي، الذي اختارته، بمساعدة أمها الإيرلندية، في البدء، من خلال وقفتها إلى جانبها، مشجعة، لكنها، وعندما شعرت بأن روحها لن ترتاح، إلا في الترحال، فإنها غادرت مع صديقها الفنان البريطاني «ماكس إرنست»، إلى باريس، لتتعرف على رواد السوريالية، وتشترك معهم في معرض ضخم أقيم بين باريس والمكسيك عام 1938، ولكن النازيين لم يتركوا فرنسا وشأنها، فدخلوها، واعتقلوا فيمن اعتقلوا، «ماكس إرنست»، فلم تجد «ليونورا» بُدّاً من الفرار إلى إسبانيا/1940، محتشدة بالآلام، والهرب من مكان إلى مكان، ولذلك، أصيبت بانهيار عصبي، لم يدفع أهلها للاهتمام بها ورعايتها، بل دفعهم إلى مزيد من القسوة، لأنهم زجوا بها في مصحة للأمراض العقلية في مدينة سانتاندير الشمالية، لتزداد معاناتها، وتزداد تشبثاً بالانهيار الكوني، الذي انعكس في أعمالها، المتمحورة حول صراع لا ينتهي، بين الكائنات وأشكالها، بين الصورة وحركتها، بين اللون الذي لا يتصالح مع ندائه إلا حين يقترب من حواف الطبيعة، أو حين يغادر إلى فضاء أقرب إلى الخيال العلمي، والموروث الأسطوري، الخرافي، لحالات من العوالم، المشرقة من اللاوعي، بصفتيه: الفردية والجمعية، وتراكماته في إيقاعات لا تستسلم، بل تهرب، مثل أنا الفنانة، التي هربت من المصحة، ووصلت إلى «لشبونة»، لتبدأ حلقة أخرى من حياتها، مع الشاعر الدبلوماسي المكسيكي ريناتو لودويك، الذي أصبح زوجها، فمنحها نوعاً من التناغم مع الحياة كوسيط خارجي، اتخذ منحنى آخر، في نيويورك، صدمها..عندما التقت بصديقها السابق «إرنست»، فانتقلت إلى المكسيك عام 1942، لكنها، عام 1943، انفصلت عن زوجها، والتقت لبعض الوقت، مع الفنان دييغو ريفيرا، والفنانة فريدا كاهلو، وفوجئت بصديقتها القديمة ريميدوس فارو، واشتركتا في إنجاز العديد من من المشاريع، والتقيتا بنخبة من الفنانين، منهم: «أليس راهون»، و«ولفغانغ بالين»، والسينمائي الإسباني «لويس بونويل»، وربما، لأنها أحبت الاطلاع على مجمل الفنون، ومنها الفن السينمائي، نلاحظ ذاك الأثر، ذا البعد التصويري، المسرحي، السينمائي، في أعمالها، تماماً، كما نجد الأثر السحري، الناتج عن اشتباك ثقافة حلمها، مع ذاكرة لاوعيها، التي تختزل العديد من حضارة بلدها المكسيك، وهذا ما نلمسه في لوحات عدة، مثل «المشعوذ»، «العملاقة»، الصحوة»، «أردت أن أكون طائراً»، «المتاهة»، ولوحتها الأقرب إلى هذه الشبكة الدلائلية:»عالم شعب مايا الساحر/ المتحف الأنثروبولوجي في العاصمة المكسيكية»، تلك اللوحة التي يتحول من خلالها الواقع إلى مفردات خرافية، فانتازية، تتمرأى بألوان موغلة في غموضٍ شفيف، يُـخيـّـل للمتلقي، بأنه يعود إلى مرحلة ما قبل التاريخ، لا ليستقر، بل ليقطع مسافة أخرى إلى عصر آخر، وكأن اللوحة، تخطفه إلى لحظة خارجة عن الزمان، لتقدم إليه بذرةً أسطورية، يقشـّـر طبقاتها الرقيقة، ليكتشف بأنها التاريخ وقد تسرب من الوهم إلى اللون، ثم..إلى الحواس، وحين ينتبه، يجد ذاته، أمام الكلمات التي يقرأها الآن، وهي تنقله إلى نبضات «ليونورا»، وقد تجاذبت مع نبضات مصورٍ هنغاري، يدعى «إيميريك جيكي ويسز»، ليتزوجا، وينجبا ولدين:»غابرييل»، و»بابلو».
وإضافة إلى لوحاتها المزدحمة بثقافتها الأسطورية، نحتت «ليونورا»، ما خالجها، على خامات متنوعة، اختارتها تبعاً للطاقة التي ستتركها فيها، معتمدة في تكوينها المادي، على رموز عالمية، مثل «الميدوزا»، و»القيثارة»، من ملحمة «هوميروس»، و رموز طوطمية:»القطة/ الحصان/ السمكة/ الأفعى/ النسر/ طائر النار»، والتي نلمسها بوضوح، في لوحاتها، التي تظهر فيها رموز أخرى:»الديناصور/ الخنزير البري أو أدونيس، الأشباح، السادن، أوالكاهن، ثور السماء المجنح، الجرة الأم،.. زهرة اللوتس، إلخ..»، مضفية على هذه التكوينات ما يدلّ على طقوس، مثل الاعتراف، والتعميد، والانفلات نحو الباطن، التبتـّـل إلى الخالق، الاتحاد مع الطبيعة، والانفصال الارتدادي نحو الوجود..
ويبدو أن خطوط النحت، والرسم، لم تأت عبثية، لأنها مشحونة بطاقة ترى الأشياء في غير مواقعها: الشجرة مقلوبة، أو نابتة من جسد الكائن الذي ربما هو غزال، أو حصان/الزوايا الحادة، الملتصقة في نقطة المركز، والمنتشرة على مسافات صفراء وخضراء وزرقاء وحمراء، مشيرة إلى عناصر لا يحدها أفقُ توقعاتٍ بعينه، بل تترك المسافة التأويلية، منفتحة على احتمالات مختلفة، وأحداث ممهورة بالفضاء العميق لقراءة الذات والعالم.
ولأن «كارينغتون»، لم تتوقف عن فلسفة رموزها في رسومها، فإنها تركت المفردات الفنية، مواربة على العديد من تحركات الضوء والظل، حيث لا يمكن أن يتحرك ضوء أو ظل، بل تتحرك الأرواح، من فجوتها المعتمة، لتخرج، وتتكشـّـف، ببطء، لا تحكمه إلا متوالية الهروب، وهي ترصد سيرة فنانة، ظلمتها خطوط الطول والعرض، لكنها، ستظل في «خط الحلم الاستوائي للفن»، قريباً من هذيان إبداعي، مجروح بحياة لا تتوانى عن الابتعاد إلى موسيقا الاكتشاف، التي تراءتها الكاتبة المكسيكية «إيلينا بونياتوسكي» فكتبتها في رواية، عنونتها «ليونورا»، لعلها تلقي الأثر الحياتي على الآثار الإبداعية، معلنة أن الفن لا يأتي من لحظة عادية أبداً، وعلى الأغلب، هذا ما عاشته كارينغتون من أجل أن تترك كائنات لوحاتها في متاهة، لا تجيد القراءة الأحادية، بل تمنح «اللوحةَـ النصَّ»، تعددية تأويلية، لا تعكس اضطراباً، كما قد يظن البعض للوهلة الأولى، بل عزفاً منفرداً أوركسترالياً.
غالية خوجة*