في السبعينات، انبثق اليوناني ثيوانجيلومبولوس كواحد من أكثر الأصوات أصالة وجدة في عالم السينما، انه واحد من المخرجين القلائل في القرن الأول للسينما الذين سيجبروننا على إعادة تحديد ماهية السينما وما يمكن أن تكونه. ليس هذا فحسب، فأفلامه تجعلنا ننفتح على سؤال أكبر أعمق، والذي يغدو شخصيا بالنسبة لكل منا: كيف نرى العالم بداخلنا وحولنا؟
أفلامه تمتلك الجرأة على عبور عدد من التخوم: بين الأمم، بين التاريخ والأسطورة، الماضي والحاضر، السفر والبقاء، والانتماء والخيانة المصادفة والقدر، الواقعية والسوريالية، الصمت والصوت،المرئي واللامرئي (أو المكبوح)، بين ما هو يوناني وما هو غير يوناني. أفلام انجيلوبولوس لا تزعم بأنها تقول الحقيقة المطلقة، أو توجد حلولا للقضايا والمشاكل أو توجه رسائل مباشرة، لكنها تقترح الرغبة في التجاوز. التاريخ والأسطورة، اللحظات الوثائقية والغنائية، تجاور الحقيقي والوهمي، الواقعي والدرامي.. كل هذا يرغم المتفرج على إعادة صياغة كل ما رآه (أو سمعه) في ضوء جديد.
قبل نهاية فيلم "منظر في السديم"، في ميناء ثيسالونيكي، فجرا، الفتاة الصغيرة وشقيقها وممثل سابق يقفون جامدين فيما ترتفع من البحر يد رخامية هائلة بلا سبابة. في البداية ظهور اليد يبدو أشبه بشيء خارق، أشبه بالمعجزة، لكن فيما بعد نراها تنقل بواسطة هيليكوبتر عسكرية الى جهة مجهولة.
ما هي اليد؟ من أين جاءت؟ الى أين ستذهب؟ ما الذي تعنيه؟ بعض النقاد قالوا بأن هذا يمثل الماضي الكلاسيكي الذي لم يعد "يتصل" بالحاضر اليوناني. مع ذلك، فإن تجربة مشاهدة اليد، وهي تنبثق وترتفع، تخلق إحساسا بالرهبة، باللغز والغموض، بالكامن أو المحتمل.
يقول كيروساوا: "انجيلوبولوس يراقب الأشياء بهدوء ورصانة من خلال العدسات. ان ثقل رصانته وحدة نظرته الثابتة هي التي تمنح أفلامه قوتها."
في سينما انجيلوبولوس، التوتر بين شكل (وتكنولوجيا) صنع الفيلم ومحتواه الثقافي هو حاد جدا. بالتالي هناك الالحاح على تخطي الفجوة والبحث عما يسميه انجيلوبولوس "نزوع انساني جديد، طريق جديد".
إنه يقول: "العالم الآن يحتاج الى السينما أكثر من أي وقت مضى. ربما هي الشكل الهام الأخير من أشكال المقاومة ضد العالم المتفسخ الذي نعيش فيه. بالتعامل مع التخوم وتمازج اللغات والثقافات في يومنا، أحاول أن أبحث عن نزوع إنساني جديد، عن طريق جديد".
بطريقة أو بأخرى، يمكن اعتبار أفلام انجيلوبولوس "محاولات" لخلق أفلام، لصياغة نوع من الاتصال، لاعادة بناء الواقع والمخيلة والتاريخ والأسطورة.
الروائي ميلان كونديرا في كتابه "فن الرواية" يشعر بأن غاية الرواية هي "أن تكتشف ما تستطيع الرواية وحدها أن تكتشفه". أفلام انجيلوبولوس تعمل بطريقة مماثلة: انها تكتشف لنا ما تستطيع السينما وحدها أن تكتشفه (مع انها نادرا ما تفعل ذلك). مثل هذه الاكتشافات غالبا ما تكون مربكة، خاصة لجمهور اعتاد على الايقاع السريع والحبكات الهوليوودية الموجهة.
لم يجد انجيلوبولوس في بلده، اليونان، الحفاوة التي تضاهي تلك التي يتمتع بها خارج البلاد، في أوروبا بالتحديد.. إذ غالبا ما يجابه باللامبالاة والمعارضة.. وهو يعلق مبتسما: "أعيش وضعا غريبا في اليونان.. لدي أنصار متعصبون وأعداء متعصبون".
ذلك لأنه يكشف الزوايا الأكثر إعتاما من التجربة اليونانية وأيضا بسبب صعوبة أفلامه، وتحطيمها لكل ما هو مألوف ومعتاد في السينما، وخلوها من عناصر الترفيه والتسلية التي يطلبها الجمهور، أفلامه تستدعي تركيزا مكثفا ومرهقا.
أنجيلوبولوس – حسب تعبير مايكل ويلمنجتون – هو "أحد ألغاز السينما.. المستعصية على الحل".
يتحدث بيتر بروك، في كتابه "النقطة المتحولة"، عن وجود ثلاث "ثقافات" رئيسية في حياة الفرد. الأولى هي "ثقافة الدولة" حيث الثقافة تكون مفروضة علينا. الثانية هي "ثقافة الفرد" التي تتصل بالعالم الذي نخلقه فيما نرتد داخل ذواتنا أو نحاول الوصول الى الآخرين. الثالثة هي "ثقافة الصلات": انها القوة التي تستطيع أن توازن تشظية عالمنا. إنها تتصل باكتشاف العلاقات، حيث مثل هذه العلاقات تصبح محجوبة ومفقودة – بين الانسان والمجتمع، بين عرق ما وآخر، بين العالم والكون، بين البشر والآلات، بين المرئي والخفي – وسط الطبقات واللغات والأنواع.
سينما أنجيلوبولوس هي السينما التي تعبر حدود المجالين الأوليين من الثقافة – الدولة والفرد – لارتياد واستكشاف "ثقافة الصلات". أفلامه تظهر لنا مثل هذه التنويعة من الشظايا:
ثمة يد تنبثق من البحر، أداء درامي متروك دون اكتمال، رحلات غير منجزة أو لا تصل الى أي مكان، خطوات معلقة أو مؤجلة دون أن تتحقق على الاطلاق.
إن فكرة وأسلوب وبنية وتشكيل ونسيج أفلامه هي التي توفر لنا الوسائل لتجاوز التشظي ومن ثم الدخول في ثقافة الصلات. ومع ذلك فإن جزءا مما هو متميز واستثنائي بشأن سينما انجيلوبولوس هو أنه يدع لنا فعل خلق هذه الصلات.
ما الذي يعنيه انبثاق اليد من البحر؟ ما الذي نستنتجه من تصفيق الأهل والأصدقاء، في استحسان، فيما يقفون حول القبر؟ أي ضرب من الزفاف ذلك الذي يتم عبر نهر يمثل التخم بين بلدين يضمران العداء لبعضهما؟ ما الذي نفهمه من لقطة طويلة ممتدة، لمئات من اللاجئين الصامتين الأشبه بالتماثيل والذين يقفون جامدين في أرض ألبانية فيما هم ينوون دخول اليونان مرة أخرى بصورة غير شرعية:
الفيلم يمكن أن ينتهي بالتوكيد على عزلة الشخصية، كما في أفلام شارلي شابلن حيث يمضي في اتجاه الطريق العام هائما وحده، أو يمكن للنهاية أن تقترح، بشكل أو بآخر، اعتناقا، وبالتالي، احساسا بالتجربة المشتركة، ومحاولة لخلق وحدة جماعية.
إن نهايات انجيلوبولوس تنتمي الى الفئة الثانية. ومن الجلي أن أفلامه تعبر الحدود لتؤسس صلات تحقق قبولا بالشظايا التي تفضي الى الاحساس بالجماعة.
حتى في فيلمه "تحديقة يوليسيس"، بالرغم من رعب الحرب البوسنية الدائرة والفقد الشخصي الذي يشعره البطل، فإنه لا يكون وحيدا. نحن نتركه متحدا مع الفيلم الذي كان يبحث عنه، ومن ثم، مع التراث الكلي للتاريخ والثقافة اللذين لا يتصلان بهذا القرن فحسب، بل تمتد جذورهما الى آلاف السنين في الماضي.. الى زمن هوميروس وما قبله.
أنجيلوبولوس صوت فذ ومتميز في السينما. أسفاره "الأوديسية" الداخلية المعروضة على الفيلم تذكرنا، ونحن نشرف على نهاية القرن، بما كتبه شاعره المفضل جورج سيفيريس قبل سنوات:
" لا أريد أكثر من أن أتحدث ببساطة،
أن أكون موهوبا بهذه النعمة الالهية.
لأننا أرهقنا الأغنية بالكثير من الموسيقى
الى حد أنها تغرق تدريجيا
وزخرفنا فننا كثيرا
الى حد أن معالمه تآكلت بفعل الذهب
فقد حان الوقت لنقول كلماتنا القليلة
ففي الغد سوف تقلع الروح.
أفلام ثيو أنجيلوبولوس تندرج ضمن سينما التأمل. إن محاولته المدروسة للتحليق بعيدا عن الشكل والسرد التقليديين، ترغم المتفرج على انتحال دور المشارك في التأليف والمشارك في رحلة الشخصيات على حد سواء، إذ يتعين عليه أن يتأمل الصور او الأحداث التي تتجلى على الشاشة، بالتالي يتوجب عليه أن يتوسط بين مستويات الواقع والعرض وهذه المستويات ليست مغلقة ولا منظمة كليا.
بخلاف أفلام هوليوود السائدة التي تعتمد على الحركة (Action) والزاخرة بالأحداث، فإن في انجيلوبولوس لا نجد القليل من الأحداث. إنه يعتمد على التوتر الاستثنائي المتولد بين ما هو معروض في الصور الممتدة التي نشاهدها وتلك الصور الغائبة عن الشاشة.
كل ما يعتبر دراميا أو حدثا مهما في القصة يحدث خارج الشاشة: في فيلم "اعادة بناء" تقع الجريمة داخل البيت فيما الكاميرا مركزة على خارج البيت، اغتيال السجين السياسي في فيلم "أيام 36" يحدث خارج الشاشة فيما الكاميرا مركزة على نافذة الزنزانة حيث يقع الاغتيال، حادثة الاغتصاب في فيلم "منظر في السديم" غير مرئية وغير مسموعة، إنما نرى النتيجة فحسب حيث تتحرك الكاميرا نحو الفتاة الصغيرة التي تحدق في يدها الملطخة بالدم.
إن مثل هذه الأحداث نراها – نحن المتفرجين – بمخيلتنا فقط، وهذا نابع أيضا من تأثر انجيلوبولوس بالتراجيديا اليونانية التي كانت تخفي الكثير من مشاهد العنف خارج المسرح بحيث يتمكن الجمهور من التركيز على النتائج وليس الأفعال، والشي ء نفسا ينطبق على المسرحين الصيني والياباني.
بترك الأشياء / الأحداث خارج الشاشة فلا نواها ولا نسمعها، فإن انجيلوبولوس يغذي مخيلتنا وينشط أذهاننا ويرغمنا على أن نكون مشاركين بفعالية في عملية "قراءة" الصور التي تفيض أمامنا. إنه يجعل أفلامه مكشوفة ومباحة أمامنا لنكملها في أذهاننا، وبذلك نختبر الموضوعات والقضايا والشخصيات والحكايات من منظور جديد، هذا يعكس الافلام التقليدية التي تقدم لنا كما هائلا من المعلومات عن الشخصيات والأحداث بحيث نشعر، عند انتهاء الفيلم، بأننا نعرف كل شيء. الدراما، حسب المفهوم المسرحي الغربي، بالكاد توجد في أفلامه، وفي بعض المشاهد لا توجد على الاطلاق.. لا كلام، لا حركة (أو القليل من الحركة). مثل هذه المشاهد السكونية، الصامتة، تحرك المخيلة، وتدفعنا الى التأمل والسبر والتأويل.
إن انجيلوبولوس يأمل، من خلال أفلامه، أن يخلق نوعا جديدا من الجمهور "ليس المستهلك الذي يستخدم عواطفه ومشاعره فقط، لكن الذي يستخدم عقله.. المتفرج الذي كان بريخت يتوق الى العثور عليه".
غالبا ما يشير انجيلوبولوس الى بريشت ضرورة أن يفكر الجمهور ويشعر في المسرح والسينما. مع ذلك، فإننا لا نختبر شيئا قريبا مما يمكن تسميته بتأثير "التغريب" بالمعنى البريختي. على العكس تماما، إن دمج الواقعي بالمسرحي في أفلامه غالبا ما يقودنا نحو اتصال عاطفي أعمق وأكمل مع الفيلم.. هذا الاتصال الذي يعانق عقولنا المفكرة أيضا.
في أفلامه نجد ذلك التزامن والتداخل بين الواقعي والتخيلي، بين الواقعي والمسرحي (السينمائي): فيلم "الممثلون الجوالون" يبدأ بستارة مسرح مغلقة وعندما تنفتح ندخل في السرد وفي الحياة "الحقيقية" للممثلين، فيلمه "رحلة الى كيثيرا" يبدأ فيما يحاول مخرج سينمائي أن ينجز فيلما عن رجل عجوز يشبه والده، وسرعان ما يتداخل الواقع والفيلم على نحو غامض، فيلمه "تحديقة يوليسيس" يتعرض لعدد من الأزمات الواهنة في دول البلقان لكنه يتمحور حول البحث عزر فيلم صفق د يقال أنه أول فيلم أنجز في البلقان، وحتى في فيلم "منظر في السديم"، الذي يتسم بالواقعية، ثمة العديد من المشاهد التي تشير الى "المسوحي" أو "اللاواقعي".
انجيلوبولوس مسكون بماضي القرية اليونانية وحاضرها ومستقبلها المحتمل، واذا علمنا بأن نصف سكان اليونان تقريبا يقطنون في مدينة واحدة هي العاصمة أثينا، فإنه يمكن النظر الى اليونان باعتبارها بلدين مختلفين. أثينا في جهة، والمدن والقرى الأخرى في جهة ثانية ومن المهم الادراك بأن الفجوة بينهما كبيرة وتتسع مع كل عام، مع كل اختراق تكنولوجي، مع كل ما يظهر في الأفق من خلل أو مشكلة مدينية معاصرة: التلوث، الجريمة.. وما شابه.
هكذا أدار انجيلوبولوس ظهره، بوعي، الى المدينة (التي ولد فيها) والثقافة (التي تربى عليها). ونظرا لأنه ليس من الشمال ولا من القرية، فإنه بهذا المعنى يكون دائما ذلك اللامنتمي، الغريب الأجنبي داخل بلده، الباحث عما لا يستطيع أن يجده في أثينا أو في الثقافة التي كان يعرفها.
انجيلوبولوس الذي يتباهى بأنه قد زار لحل قرية في اليونان، قال ذات مقابلة: "القرية هي عالم كامل في صورة مصفرة. للقرى اليونانية القديمة روح وحياة، إنها مليئة بالعمل واللعب والأعياد… نحن بحاجة الى العودة الى تلك الأماكن لنجد الكثير مما لا يزال أصيلا وصادقا ومهما لحياتنا".
اليونان المرئية في أفلامه تختلف عن اليونان التي نجدها في أفلام الآخرين حيث المواقع السياحية الجميلة والصور المتألقة والأنماط الرومانسية. إنه يقدم اليونان من منظور وبؤرة وزاوية مختلفة تماما. إنه يصور "اليونان الأخرى" تلك التي كانت مهملة مكبوحة، منبوذة، ومحجوبة. إنها يونان الفضاءات القروية، المساحات الصامتة، الأصداء الميثولوجية، الاتصالات المفقودة، المناظر الطبيعية الشتوية، الجوالين الهائمين، اللاجئين، المسكين بلا خشبة مسرح ولا جمهور، الطرقات الوحيدة في الليل، القرى المأهولة المقاهي الرخيصة، غرف الفندق المتصدع.
إنها ليست يرنان الملصقات السياحية أو المواقع الأثرية. اليونان، لحما تظهر في أفلام انجيلوبولوس، هي "في مكان أخر"، في مكان غير أثينا ومراكز السياحة. فضلا عن ذلك، فإن هذه "اليونان الأخرى" هي الحياة الأخرى التي يفضل كل واحد منا أن يكنسها تحت البساط، أو يحبسها أو يتجاهلها ويستهين بها.
إن انجيلوبولوس لا يلجأ الى الايهام بالواقع. عندما يحقق أفلاما عن "اليونان الأخرى" فإنه يصور في "اليونان الأخرى".. في القرى النائية المعزولة والمهملة والمنسية. الموقع يصبح شريكا مساويا تقريبا للقمة والشخصيات.
منذ أول أفلامه، صمم على أن يواجه هذه اليونان الأخرى.. يقول: "لقد كان ذلك اكتشافا ليونان أخرى لم أكن أعرفها. لقد التقيت مصادفة بالفضاء الداخلي الذي كان مجهولا بالنسبة لي ولأغلب أبناء جيلي.. أعني أولئك الذين ولدوا ونشأوا في المدينة، وتجاهلوا أو حتى استخفوا بهذا الواقع الأخر. لقد كان ذلك اكتشافا حقيقيا بالنسبة لي".
قبل تصوير فيلمه "الممثلون الجوالون" أمضى شهورا وهو يبحث عن المواقع النائية والتي ظلت كما هي دون أي تغيير والتي يمكن أن تتلاءم مع المراحل التاريخية المتعددة التي يقتضيها الفيلم. لقد زار تقريبا كل قرية وبلدة في اليونان، والتقط أكثر من ألفي صورة فوتوغرافية، ثم قام برحلتين حول اليونان مع مصوره السينمائي أرفانيتيس.
إن حس انجيلوبولوس بالتاريخ يتضمن الرغبة العارمة في إعطاء مصداقية للموقع الذي يصور فيه المشهد، لقد أصر على تصوير أغلب مشاهد فيلمه "الاسكندر الأكبر" في الشتاء، وفي قرية نائية، وقد استغرق بحثه عن هذه القرية عاما كاملا.
واذا كانت هوليوود تجترع المعجزات في محاولة إقناعنا بمصداقية المواقع حيث تحول سهول اسبانية الى سهوب روسية مغطاة بالثلوج (كما في فيلم "دكتور زيفاجو")، فإن انجيلوبولوس يرفض مثل هذا التلاعب والتحايل، وينظر الى الموقع بوصفه شخصية وحبكة.
وقيما يتعلق بـ "تحديقة يوليسيس"، فقد كان انجيلوبولوس يرغب في تصوير مشاهد سراييفو في المدينة نفسها، رغم أن الحرب كانت زائرة آنذاك. وقد سعي لمدة عامين كي يحصل على ترخيص بالتصوير هناك لكن دون جدوى، وذلك خوفا على حياته وحياة العاملين معه. وعندما سئل لماذا يجازف بالتصوير في المواقع الحقيقية رغم المخاطر والصعوبات أجاب انجيلوبولوس:
"أعتقد أن شيئا استثنائيا: وغير اعتيادي يحدث في الموقع، في المكان الواقعي. وأنا لا أعني فقط القدرة على تصوير الديكور أو المنظر الطبيعي فعندما أكون في المكان الذي أعين فيه الفيلم تكون كل حواسي الخمس متأهبة وفعالة. أصبح أكثر وعيا. بالتالي أشعر أنني أعيش التجارب التي أريد أن أصورها".
أفلام ثيو انجيلوبولوس تتعامل مع التخوم والحدود والحواجز: الذاتية والقومية، المعاصرة والغابرة.
وهو بشكل خاص، يبدي اهتماما عميقا بماضي وحاضر دول البلقان بوصفها أقاليم جغرافية، ثقافية،روحية. إنه واع، على نحو موجع، بأن الحدود كانت دائما متغيرة ومتحولة في البلقان.
"كم تخم علينا أن نعبر حتى نصل الى البيت ؟.. هكذا تساءل أحدى الشخصيات في فيلم "خطوة اللقلق المؤجلة". والتساؤل نفسه يتكرر في فيلمه "تحديقة يوليسيس".
إن انجيلوبولوس يدرك بوضوح أن جميع البلدان التي تشكل البلقان تتقاسم الكثير من الماضي نفسه، وبالأخص في وقوعها تحت الهيمنة التركية لمئات من السنين.
يقول انجيلوبولوس:
"يستحيل علينا أن نفهم لماذا، في نهاية القرن العشرين، يقتل بعضنا البعض. هل يهتم السياسيون المحترفون في أي مكان ؟ العديد من الأمم، ومن بينها اليونان، تتسلق على أجساد القتلى من الابرياء.. إني أشير الى ذبح الألبان الراغبين في ترك وطنهم، هنا في اليونان، من أجل مصالح سياسية معينة إني أرغب في سياسة جديدة في العالم ذات رؤية، وهذه لن تكون مسألة توازن اقتصادي وعسكري، بل لابد أن تكون شكلا جديدا من أشكال الاتصال بين الشعوب".
يتعرض انجيلوبولوس في أفلامه الى سوء استعمال السلطة، بكافة أشكالها، وما ينجم عن هذا الفعل من عنف ومعاناة. كما يتعرض الى النظرة الأحادية، المتعصبة العدائية، الموجهة نحو الآخر، المختلف والذي يعتبر عدوا لمجرد اختلافه في المعتقد أو الموقف أو السلوك، إنه يظهر حجم المعاناة عند الأخوين التي يسببها اخفاقنا في قبول أو محاولة فهم الآخر المختلف.
وحتى عندما يتناول أشكال الفاشية فإنه لا يلجأ الى الأنماط المعروفة والنماذج المبسطة، ولا يطرح الأحكام المسبقة النابهة من موقف ايديولوجي ما. انه بالأحرى يجعلنا نعي جذور وطبيعة الفاشية، وندرك بأن هؤلاء الذين اعتنقوا الفاشية ليسوا بالضرورة مستبدين وقساة وأشرارا بالفطرة بل هم جوهريا أسرى إغواء لا يقاوم: المال، البزة العسكرية، القوة، النفوذ.. مثل هذه الاغواءات كافية لأن تجتذب الآلاف أو الملايين من الشباب.
من خلال أفلامه يتساءل انجيلوبولوس. كيف يمكننا أن نؤسس مجتمعا يزدهر فيه الفرد بلا خوف ولا قمع ؟ كيف يمكن تأسيس نوع مختلف من التجمع البشري؟ كيف يمكن إذابة التعارض بين الفرد والجماعة ؟
السفر والحاجة الى وطن – شخصي، سياسي، جمالي، تاريخي، جغرافي – محور كل فيلم حققه انجيلوبولوس.
للرحلة امتداد في الميثولوجيا اليونانية: لنأخذ حكاية أجاممنون ويوليسيس، كلاهما يعود من الحرب باحثا عن الوطن، عن البيت. الأول يعود من طروادة ليلقي مصرعه على يد زوجته، والثاني يقوم برحلة تدوم سنوات.
لكن الرحلة في أفلام انجيلوبولوس لا تنتهي نهاية سعيدة. الشخصيات إما أن تظل في حالة تجوال دائم (الممثلون الجوالون) أو لا تصل أبدا الى المكان الذي تريده (رحلة الى كيثيرا) أو أنها تعود لكنها تجد نفسها منبوذة ومرغمة على العودة الى المنفى (رحلة الى كيثيرا) أو تواجه الموت (مربى النحل). كل سفر هو بحث.. بحث شائك محفوف بالرجع: بحث عن الوطن، عن البيت، عن الأب، عن الهوية.
"التاريخ لم يمت، إنه يأخذ غفوة فحسب". يقول انجيلوبولوس. طوال سيرته الفنية كان مفتونا كليا بالتاريخ.. التاريخ اليوناني بالتحديد. وعلى الرغم من أنه يتناول أحداثا حقيقية – الاحتلال الألماني مثلا – إلا أنه في استخدامه أو تمثيله لأحداث كهذه، يتجنب أي تصوير مبسط أو تقليدي للتاريخ.. ذلك لأن أفلامه تقودنا الى استجواب ماهية التاريخ نفسه، وماذا يعني أن تكون يونانيا أو، بالأحرى، فردا داخل أية دولة.
إنه يرغمنا على إعادة النظر في مفهوم التاريخ وذلك حين يستحضر على الشاشة التاريخ المنسي والمسكون عنه (الحرب الأهلية، مثلا). وهو في أعماله يستفيد من الحكايات الشعبية والأساطير والأحداث الواقعية، ويقدمها معا بحيث يدفعنا الى تجاوز الأحداث نفسها لنسأل أنفسنا عن أهميتها ومعناها.
إنه ليس مؤرخا يصنع فيلما بل هو فنان يتعامل مع التاريخ انطلاقا من رؤية خاصة ومنظور مختلف. وبخلاف
المؤرخين هو لا يحاول استنباط أو تقديم نتائج أو أحكام نهائية. إنه معني أكثر بأسر شيء من الفيض المتحرك للصور تاركا تقرير المعاني للمتفرجين. من خلال تقاطع التاريخ مع عناصر ثقافية أخرى، لا يسعى انجيلوبولوس الى تقديم التاريخ المسكوت عنه فحسب، بل يريد أيضا أن يحذر من خطورة السعي الى استنباط استنتاجات بسيطة وساذجة من المدى الضيق للتاريخ.
في أحد مشاهد فيلم "الممثلون الجوالون" نرى مجموعة من الممثلين يسيرون عبر بلدة في شمال اليونان. المشهد يستغرق عشر دقائق على الشاشة، ومصور بلقطة مصاحبة Tracking دون قطع. في بداية المشهد نقرأ التاريخ (1952) وعندما تصل المجموعة الى حانة البلدة، يصبح التاريخ 1939.. كما لو أن كل دقيقة من الزمن السينمائي تعود بهم سنة الى الوراء.
هذا المشهد لا يشير فحسب الى تجريبية انجيلوبولوس مع اللفة السينمائية، بل أيضا الى اهتمامه العميق بالتاريخ بشكل عام، والتاريخ اليوناني بشكل خاص. المرئي من خلال المصائر الفردية. التاريخ نفسه يصبح شخصية رئيسية.
إن أفلام انجيلوبولوس ليست تاريخية، ولكنها تأملات في التاريخ.. هي بالأحرى أفعال تحرر استكشافية تتصل بتواريخ خارج نطاق ما كان مقبولا سابقا بوصفه تاريخ اليونان.
فيلم (المسكون الجوالون) كان أول معالجة سينمائية للحرب الأهلية اليونانية _ التي امتدت من 1944 الى 1950- من منظور يساري، ان طريقته الفريدة في تمثيل التاريخ على الشاشة جعلت مخرجا كبيرا مثل برتولوتشي يعترف بأهميتها وجدتها، ففي أحدى مقابلاته سئل برتولوتشي عن فيلمه التاريخي (1900) وما إذا كان يحاول أسر الكثير من التاريخ الايطالي في القرن العشرين في فيلم واحد كما فعل انجيلوبولوس في فيلمه "الممثلون الجوالون"، أجاب برتولوتشي: "نعم لكنني – كمخرج – لست موهوبا مثله".
إن أفلام انجيلوبولوس تقوم بمحاولة للرؤية بوضوح عبر النافذة الداكنة للتاريخ اليوناني في هذا القرن بكل صراعاته الداخلية وضغوطاته الخارجية وموروثاته، بحيث نختبر مدى تناسج الأفراد ومصائرهم مع بيئة ثقافتهم وأزماتهم.
يقسم انجيلوبولوس أفلامه الى ثلاثيات، هناك "التلاثية التاريخية" التي تضم: أيام 36، الممثلون الجوالون، الاسكندر الأكبر.. (وهي التي تركز بؤرتها على الفترة من بداية القرن الى سنوات السبعينات). وهناك "ثلاثية الصمت" وتضم: رحلة الى كيثيرا، مربى النحل، منظر في السديم (وهي التي تتناول الزمن الحاضر).
بينما في "خطوة اللقلق المؤجلة" وتحديقة يوليسيس" نرى أكثر المراحل التاريخية اضطرابا وقلقا: التشوش المعاصر، الحرب، المعاناة في دول البلقان.
أفلام انجيلوبولوس ليست وثائق تاريخية، إنما هي معالجات "قصصية" غير أنها تعكس وجهة نظره في النسيج المركب للتاريخ اليوناني. وعلى الرغم من أن انجيلوبولوس كان يتبنى الفكر الماركسي إلا أنه يستحيل استنباط أية رسائل سياسية تعليمية منها. إنه يدمج المستويات الميثولوجية والثقافية وحتى الروحية، للتجربة اليونانية مستنطقا التاريخ والزمن خارج التخوم المألوفة للمفاهيم السردية والتقليدية لما هو تاريخي.
وانجيلوبولوس مفتون أيضا بالأسطورة والثقافة اليونانية، وبأصداء الماضي اليوناني: الكلاسيكي، البيزنطي، وسواهما إن اسطورة يوليسيس وسفره تائها من مكان الى مكان وعودة أجامنون التراجيدية الى الوطن. هما من أكثر الموتيفات التي يستخدمها في أفلامه: سواء في تماثل الأحداث، أو اختيار أسماء الشخصيات الميثولوجية، أو في الأجزاء البصرية المستقاة من تلك الأساطير. إن أفلام انجيلوبولوس حافلة بأصداء وشظايا من ماضي اليونان الكلاسيكي.
التاريخ والأسطورة – في هذه الأفلام – متشابكان ومجدولان بطريقة مدهشة وبارعة غير أن انجيلوبولوس لا يقدم معاني تبسيطية أو اختزالية لعلاقتهما بالمصائر الفردية أو تأثيرهما عليها،.
نحن نشعر بأن التاريخ والأسطورة حاضران بقوة بالنسبة للأفراد الذين نتابعهم، لكن هذا الحضور يشير الى "غياب" الصلة والقوة والتواصل التاريخي / الثقافي بين أجيال الحاضر وذلك التاريخ، يقول الناقد فاسيليس رافاليديس:
"اليونان أشبه بدائرة ذات تقاطعات عديدة" لكن بدون مركز".
لا يخفي انجيلوبولوس تأثره العميق، في تكويناته البصرية، بالثقافة البيزنطية وتقاليدها الفنية في تصميم الايقونات. وهو يقول عن فيلما "الاسكندر الأكبر" بأنه عمل بيزنطي أو ارثوذكسي يوناني لأنه مبني على عدة عناصر من الطقوس الدينية الأرثوذكسية، وتضم الموسيقى والشعائر والتطهير من خلال الدم، وبالطبع دور الايقونة في كل هذا.
قد يتوقع المرء أن يقرأ دراسة عن جذور انجيلوبولوس الثقافية بدءا من المرحلة الكلاسيكية. لكن لليونان القديمة تأثيرا بعيدا على الأجيال المعاصرة، بعكس المرحلة البيزنطية ذات التأثير الأقوى، نظرا لأن هذه الامبراطورية التي دامت أطول من أية امبراطورية في التاريخ، كانت شبكة متعددة القوميات ومتعددة الأعراف، تشمل حدودها البلقان وتركيا وأجزاء كثيرة من الشرق الأوسط. وما جعل هذه الامبراطورية متماسكة لزمن طويل هو قوة اللغة الاغريقية، والدين الأرثوذكسي، والعائلة النووية. ولأربعة قرون تقريبا من الحكم العثماني الذي أعقب سقوط القسطنطينية، عاصمة بيزنطة، في 1453، ظلت هذه المقومات الثلاثة – اللغة، العائلة، الدين – تغزي اليونانيين بالمعنى أو الغاية، والمركز والهوية.
ومع أن أفلام انجيلوبولوس ليست أرثوذكسية أو دينية بأي معنى اصطلاحي، إلا أنه تأثر الى حد كبير بالتقاليد الأرثوذكسية في الرسم الأيقوني، وهذا ما نجده، كمثال في اللحظات "السحرية" والظواهر غير المفسرة.
يقول روبرت كابلان: "في حين تؤكد الأديان الغربية على الأفكار والمآثر، تؤكد الأديان الشرقية على الجمال والسحر".
ومن هنا نلاحظ تميز مشاهد انجيلوبولوس بالجمال والسحر انطلاقا من هذا المنظور الشرقي.
إننا نجد تماثلا بين التكوينات البصرية السينمائية في أفلام انجيلوبولوس وتلك التكوينات التشكيلية التي يتميز بها الفن البيزنطي، حيث ينعدم التوكيد على الدرامي والحركي، وعلى الخلفية، لالقاء ضوء أقوى على الأشكال المعروضة، المرئية من الأمام. وهذا ما يفعله انجيلوبولوس عندما يعزل شخصياته في المكان.
إن انعدام التوتر الدرامي في الفن البيزنطي هو محاولة للايحاء بالروحاني كمعارض للدنيوي. كذلك أشكال انجيلوبولوس التي لا تبدي اهتماما بالدرامي، وإن كان غرضا يختلف تماما عن الفرض الديني للتقليد الأرثوذكسي، حيث إنه يعمل على المستوى التأملي وليس الدرامي القائم على الحركة.
إن استخدام انجيلوبولوس للقطات (Takes) الطويلة، التي غالبا ما تستغرق عشر دقائق تقريبا، يوحى بالعلاقة "المتواصلة بين الفن البيزنطي والرائي: بوسع المرء أن يقف ويحدق في الايقونة بقدر ما يرغب. بهذا المعنى، الرائي هو الذي يتحكم في المدة التي تستغرقها تجربة المشاهدة. بينما المتفرج في السينما محتجز في التدفق المتطرف للصور.
إن انعدام المونتاج الكلاسيكي وايقاع السرد التقليدي، في أعمال انجيلوبولوس، يعني أن أفلامه هي فريدة في منح الجمهور وقتا كافيا للتفحص والمراقبة داخل كل مشهد بقدر ما يرغب. إن انعدام الدينامية السردية يفضي الى تأسيس علاقة أكثر شخصية وتأملية بين الفيلم والمتفرج تماما مثل تلك العلاقة بين الرائي والايقونات في الموقع الارثوذكسي.
الدين، عند البيزنطيين، والذي يتضمن انتصار المسيح على الموت، يجد تعبيره أساسا من خلال المظاهر البصرية والسمعية أكثر مما يجده عبر الكلمة المكتوبة المتضمنة في الانجيل والتأويل الانجيلي. التوكيد هو على البصري، العمل الفني والطقس الديني يصبح هو "النص" بالتالي، يصبح الاحتفال بموت المسيح وبعثه أكثر أهمية من كل الطقوس الدينية، ذلك لأنه من خلال هذا "السحر" يكون الخلاص الفردي ممكنا.
سيناريوهات انجيلوبولوس ليست معدة عن أصل أدبي أو مسرحي أو أي شكل آخر، إنها نابهة من الرؤى الذاتية الخالصة. إن تعارض انجيلوبولوس مع السرد الهوليوودي الكلاسيكي لا يكمن في طريقة صنع الفيلم فحسب، بل أيضا في كتابة السيناريو والتي تختلف كليا عن شكل وبنية وأعراف السيناريو التقليدي. إنه بالأحرى، مثل العديد من المخرجين الأوروبيين – ومن ضمنهم إنجمار برجمان – يسرد ببساطة قصته مضيفا اليها الحوار. إنه لا يقدم السيناريو بوصفه تدوينا لما يظهر على الشاشة وإنما كعمل قائم بذاته والذي يمكن تذوقه لتضميناته الثقافية والسياسية والفكرية. يقول انجيلوبولوس:
"السيناريو يعمل كمحفز أو محرض لكي تطفو الأشياء على السطح".
إن معدل صفحات أي سيناريو في هوليوود يقارب 120 صفحة على افتراض أن الصفحة تعادل تقريبا الدقيقة الواحدة من الزمن السينمائي. السيناريو الأصلي الذي كتبه انجيلوبولوس لفيلم "تحديقة يوليسيس" على سبيل المثال، يبلغ 69 صفحة علما بأن مدة الفيلم حوالي ثلاث ساعات، مع ملاحظة أن عددا من المشاهد الواردة في السيناريو لم تصور، وعند انجيلوبولوس الصفحة لا تعادل الدقيقة الواحدة بل أربع أو خمس دقائق تقريبا.
أفلام انجيلوبولوس لا تلتزم بالبنى السردية التقليدية. انها تتعارض مع المفاهيم السائدة والتوجهات الرائجة والأشكال المهيمنة في السينما التجارية التقليدية: انتاجا وكتابة وتقنية.
انجيلوبولوس يساهم في "إعادة ابتكار" السينما مع كل فيلم يحققه، ذلك لأنه يرى في السينما وسطا جماليا وثقافيا معا. أفلامه تثير أسئلة سينمائية جوهرية وفعالة، بدءا من هذا السؤال: ما هي الصورة؟ وما الذي تعنيه الصورة أو تقترحه ؟
أحدى سمات، لنقل فضائل انجيلوبولوس أنه لا يفسر ولا يعظ
الصورة هي ببساطة، موجودة هناك تأسر وتثير الاهتمام بحكم وجودها الشخص. تنفتح على قراءات متعددة، وتثير عددا من الانفعالات. لكن من الجلي أن صانع الفيلم قد زاوج الشكل والمحتوى ليدعونا، أو حتى ليجبرنا، على تجاوز الصورة نفسها وتعيين معنى لها.
إنه يعالج كل صورة بشفافية واستبصار، مثلما يفعل الشاعر، منتقيا صوره بحرص وبعناية، لكنه يدعها تعبر عن نفسها بطريقتها الخاصة. في أفلامه نجد ذلك التوتر بين الصورة وقوتها الموحية بين الأساس الواقعي والتأثير الذي يتخطى الواقعية، إن التوتر بين الواقع المادي للصورة والمظهر الروحاني، أو ذلك الذي يتخطى العالم المادي، هو الذي يساعدنا على وصف تأثير صور انجيلوبولوس على المتفرج سواء في اللقطات المفردة أو في الفيلم ككل.
قبل التحدث عن الشخصيات أو الأفكار أو القصة يرغب المتفرج في التحدث عن جمال وقوة صور انجيلوبولوس. لقد كان محظوظا في تعاونه مع واحد من أعظم المصورين في العالم، هو اليوناني جيورجوس أرفانيتيس، الذي عمل مديرا للتصوير في كل أعمال انجيلوبولوس، منذ فيلمه الأول. وبذلك فإنهما يتقاسمان الفعل الابداعي كثنائي يصكك رؤية فنية مشتركة.
في حين يتألف الفيلم الامريكي عادة من 600 الى ألفين لقطة في فيلم لا تتعدى مدته التسعين دقيقة، فإن انجيلوبولوس يستخدم عددا أقل بكثير من اللقطات في أفلامه التي تتجاوز الساعتين.
إن محاولته المدروسة في تمديد اللقطة وفي تركها دون إعاقة أو مقاطعة تعني أنه لا يدعو المتفرج أن يتابع بانتباه ما يحدث فحسب، بل أن يكون واعيا لعملية تجلي اللحظة أو اللحظات، كما تحدث في الزمان والمكان.
في عصر تزايد سرعة المونتاج في الأفلام والاعلانات التجارية والفيديو كليب، فإن أفلام انجيلوبولوس ترغم المتفرج على العودة الى نقطة الصفر ورؤية الصورة المتحركة بأعين جديدة.
يقول الناقد وولفرام شوته: "إن وسطه الشعري هو الزمن، هذا يتيح للمتفرج أن يخلق صوره الخاصة من الصور المعروضة على الشاشة. نعم، إنها ترغما على فعل ذلك، بينما يظل مدركا للوسائل التقنية المستخدمة: اللقطات الطويلة، اللقطات المتعاقبة، لقطات البان (Pan) المتمهلة واللقطات (Takes) الطويلة. إنها مشاهد من رحلة عبر العالم، بنى هذه المشاهد المركبة تحرض المتفرج على القيام برحلته الداخلية الخاصة".
إن افتتان انجيلوبولوس بالكادر المفرد يعني أنه قد طور شكلا من السرد السينمائي يعتمد على اللقطات الطويلة المتواصلة دون انقطاع، والمستمرة لعدة دقائق،والتي غالبا ما تتضمن لقطات مصاحبة (Tracking) طويلة. إن الصورة المتواصلة تتيح لنا حرية اختبار أو اكتشاف، واقعية الصورة فيما هي تتجلى تدريجيا في زمن حقيقي وبالحد الأدنى من حركة الكاميرا.
لكن ينبغي علينا أن نعاين استغراق انجيلوبولوس بـ"الصورة المتواصلة" على مستوى أخر فبإمكان المرء أن ينظر الى أفلامه على أنها "صامتة".. فهي تحتوي على القليل من الحوار. النتيجة هي أن لدينا لحظات مريرة في حين يتوجب علينا أن نركز على الصورة كليا، أيضا هناك غالبا مقطوعات موسيقية قوية لكي نستجيب اليها في تناغم مع الصورة التي أمامنا.
ونحن أيضا نشعر، على نحو عارم، بمتعة تمنحها لنا اللقطة نفسها، والتي تتيح لنا أن نحدق ليس داخل الصورة فحسب بل "من خلالها" أيضا.
إن انجيلوبولوس في اعتماده على الصورة المتواصلة يمضي في الاتجاه المعاكس لسينما ايزنشتاين وفير توف في توكيدهما على المونتاج وفي الاتجاه المضاد للصور المتشظية والايقاعات السريعة التي تكرسها الاعلانات التليفزيونية والفيديو كليب، وأفلام هوليوود. إن افلام انجيلوبولوس تعمل ضد كل هذا، سواء في الايقاع أو في مقاومة التشظي.
أعمال انجيلوبولوس مضادة للسرد المتمركز على الحوار والذي تعتمده التقاليد الأمريكية وغيرها في القص السينمائي، الأفلام التقليدية، حتى تلك التي تعتمد على الحركة (action)، تعول كثيرا على الحوار، بينما أفلام انجيلوبولوس تعتني بالصورة قبل كل شيء.
وعندما يلجأ الى الحوار، فإن الحوار لا يفسر شيئا، وبدلا منه يحل الصمت في أغلب الأحيان. إن انجيلوبولوس يستخدم الصمت، في كل أفلامه، ليأسر اللحظات ذات الكثافة العالية، الحافلة الغموض أو الفرح أو الحزن أو الرغبة، والتي لا يمكن التعبير عنها باللغة المنطوقة، ويصعب تفسيرها في كلمات. إن جزءا مما يوحيه من خلال مثل هذه المشاهد هو أن الكلام يمكن أن يأخذنا بعيدا، وبالتالي فإننا أمام لغة غير شفهية تتمثل في الأصوات والموسيقى، الايماءات التحديقات إنها اللغة البصرية.
لدى انجيلوبولوس مفهومه وتصوره الخاص للشخصية، إنه يتخطى مفاهيم السيكولوجيا، والتي هي أساس الكثير من التجربة الغربية في هز القرن. إن حاجة هوليوود الى "شخصية" قوية تتصل، هذه الحاجة، بشكل مباشر بدعوة أرسطو الى ضرورة وجود دافع واضح، وتصوير قائم على السبب والنتيجة للصراع الداخلي المتمحور على تعارضات ونزاعات معينة والتي يجب مجابهتها وحلها.
من جهة أخرى، هناك مساهمة فرويد في الحفريات الواعية واللاواعية داخل الشخصية. هكذا، فإن هذه المنظورات الموجهة داخليا هي التي شكلت الثقافات الغربية فيما يتصل بنظرتها ومفهومها للشخصية.
إن تصوير انجيلوبولوس للشخصيات يتعارض مع قرون من رسم الشخصية في الغرب.. ففي أعماله لا نجد حوارات محللة للذات بوعي ممتحنة الدوافع والقيم، ولا بواعث "فرويدية". إنه يعرض الشخصية من "الخارج" ويرغمنا على أن نبحث وندرس ونعاين احتمالات أخرى تشكل الهوية الشخصية الفردية، غير تلك التي عرضت بجاهزية أكثر في الماضي. وكما يلاحظ الناقد اليوناني نيكوس كولوفوس "الشخصيات هي علامات انسانية وليست أشكالا سيكولوجية".
في أفلام انجيلوبولوس يصعب التوصل الى معرفة أية شخصية على المستوى الشخصي. إننا نشعر بأنها ذوات وعلامات بنفس الدرجة. ونحن نبقى خارج مشاعرها الدفينة وأفكارها العميقة ودوافعها السيكولوجية.
بإزاحة الدوافع السيكولوجية، لا يتيح لنا انجيلوبولوس أن نعرف الشخصية بأية وسيلة مألوفة ومعتادة والتي بها عادة نتوصل الى معرفة الشخصيات السينمائية إننا نراقب الشخصية فحسب، نرى أفعالها، لكننا لا نسمعها تعبر عن أفكارها ومشاعرها ومبرراتها ودوافعها، إننا لا نعرف كيف تشعر أو فيم تفكر. مع ذلك فإننا نبدأ في "الاحساس" عبر تراكم التفاصيل واللقطات واللحظات، بمدى الضغوطات والكوابح والأعباء الرازحة على كاهل الشخصية. وانجيلوبولوس يفعل ذلك ليتحاشى النزوع الميلودرامي أو الوجداني.
في عالم انجيلوبولوس، ليس واضحا ما إذا كانت الشخصيات هي في مركز أو محيط "الفعل" النامي كمثال، إليكترا في "الممثلون الجوالون" تنبثق كشخصية رئيسية في الفرقة لكنها غالبا ما تقف في الخلفية فيما الأحداث تتجل في مقدمة الكادر.
إذن، أن تكون الشخصية رئيسية قد يعني في أحوال كثيرة أن تكون ببساطة شاهدة على ما يحدث أكثر مما هي محركة أصلية أو ناشطة رئيسية.
في أفلام انجيلوبولوس نجد أصداء من أعماله السابقة، سواء في الشخصيات والمواقع والأحداث والثيمات والحالات أو الحوارات.. كما في أعمال فولكنر وماركيز، حيث كل عمل يجد مرجعه وإحالاته واشاراته الضمنية في أعمال سابقة.
في أفلامه نلاحظ وجود روابط. كل فيلم يحمل أصداء فيلم سابق. والشخصيات والأسماء تتكرر من فيلم الى آخر:
شخصيات فيلم "الممثلون الجوالون" يظهرون مرة أخرى في فيلم "منظر في السديم"، أكبر سنا لكنهم لا يزالون في حالة تجوال، اسم "الكسندر" يتكرر في أكثر من فيلم، فيلم "تحديقة يوليسيس" يبدأ بلقطات من فيلم "خطوة اللقلق المؤجلة" /الشخصية الرئيسية في فيلم "رحلة الى كيثيرا" مخرج سينمائي يدعى الكسندر وشقيقته "فولا" (الاسمان يتكرران أيضا في فيلم "منظر في السديم").
إن الأشكال والأسماء والثيمات المتكرر حدوثها ضمن أعمال انجيلوبولوس تسعي الى فعل ما يفعله الفن دائما: تجاوز التاريخ نفسه لاقتراح صلات، أصداء، علاقات.
للموسيقى أهمية كبرى في أعمال انجيلوبولوس: الأفراد يعبرون عن أنفسهم ليس من خلال الحوار بل عبر الأغنية والرقص. وكما أن الدراما اليونانية القديمة، في المجالين التراجيدي والكوميدي، كانت تبدأ بالأغنية والرقص، فإن فيلم "إعادة بناء"، مثلا يبدأ وينتهي بلحن شعبي جبلي.
"الممثلون الجوالون" يبدأ وينتهي بعازف أكورديون، في حين تنشب أغلب الصراعات والتعارضات "السياسية"، ضمن الساعات الأربع (مدة الفيلم) من خلال الأغاني المتعارضة.
في "رحلة الى كيثيرا"، حين يعود الشيوعي العجوز من صنفاه في روسيا، بعد ثلاثين عاما، الى قريته في مقدونيا، فإنه يؤدي رقصة شعبية على قبر صديقه المناضل ويردد أغنية شعبية تقليدية (الأغنية تصبح موتينا طوال بقية الفيلم). الموت هنا منظور ليس كمحنة فحسب بل كانعتاق بهيج للروح من الجسد. إنها لحظة احتفال. في نهاية الفيلم، عندما تنفيه السلطات مرة أخرى، ويشعر بأنه مخذول من ثقافته وأصدقائه القدامي، يبدأ في ترديد الأغنية ذاتها مرة أخرى. الأغنية هنا توحي، على نحو تهكمي، بأن النفي هو أيضا نفى عن الثقافة الشعبية وعن الماضي من قبل القرويين المعاصرين الذين يلهثون وراء الثراء السريع ببيع أراضيهم الى المستثمرين.
ايليني كاريندرو ألفت موسيقى كل أفلام انجيلوبولوس بدءا من "رحلة الى كيثيرا". موسيقاها لا تبدو يونانية، وليست متجذرة في أي تقليد موسيقي قومي مع أننا نشعر بأنها أوروبية.
إيليني قد أكدت بأنها – وبتوجيه من انجيلوبولوس – قد تفادت أن تبدو موسيقاها فولكلورية، يونانية، أو حتى شعبية،. والطابع الكلاسيكي لم يكن ملائما، ما يبدو مهما بشأن مقطوعات ايليني، انها توحد الفيلم صورة وصوتا، وتربط صور اليونان. البلقان التي نراها بشيء أكبر، شيء وراء المكان والزمان، إن موسيقى ايليني تساعد على خلق مستوى "روحاني" للصورة. إنها موسيقى المكان الداخلي بالاضافة الى المناظر الطبيعية.
في فيلمه "الاسكندر الأكبر" نجد تضمينا لاحدي قصائد الشاعر اليوناني جورج سيفيريس الحائز على جائزة نوبل، والذي يقول فيها: "صحوت وبين يدي رأس رخامي يرهق مرفقي ولا أعرف أين أضعه".
مع مثل هذا التاريخ الطويل والمتنوع والتراث المتنوع والمتعدد الأشكال من القصة والأغنية والدراما والموسيقى والشعر والعمارة والدين.. كيف يمكن للمرء أن يستفيد من ذلك الموروث ويشعر به.
تقول القصيدة:
صحوت وبين يدي رأس رخامي
يرهق مرفقي ولا أعرف أين أضعه،
كان ينحدر نحو الحلم لحظة خروجي من الحلم
وهكذا تتحد حياتي بحياته حتى يصعب الفصل
بينهما.
انظر الى العينين.. ليسا مفتوحتين ولا مغمضتين
أتحدث الى الفم الذي يحاول جاهدا أن يتكلم
أمسك الخدين اللذين انتقلا وراء البشرة
لم تعد لدي القوة
يداي تختفيان وتعودان إلي مشوهتين.
علينا أن نلاحظ بأن سيفيريس وانجيلوبولوس معا يوحيان بأن هذا السؤال لم ينشأ في واقع اليقظة وإنما في الحلم، وأن نتيجة هذا الواقع الماورائي هو اتصال الوعي الماضي والحاضر على نحو لا يمكن فصمهما.
لقد تأثر انجيلوبولوس بالعديد من السينمائيين في أرجاء العالم. يقول: "إني أستل التقنيات من كل الأفلام التي شاهدتها.. مازلت أحب كثيرا أفلام مورنو، ميزوجوشي، أنتونيوني.. ومؤخرا فيلم تاركوفسكي Stalker وفيلم جودار "كل انسان لنفسه".. لكنني تأثرت بشكل خاص وعميق بأورسون ويلز فيما يتصل بتصميم المشاهد وعمق المجال البؤري، وميزوجوشي فيما يتصل بمهفومه للزمان والمكان خارج الشاشة".
يقول ميشيل سيمنت: "ينتمي انجيلوبولوس الى جيل لم تعد السينما، بالنسبة اليه بريئة".
إن سينماه تنطلق من ذلك الارث الجمالي الذي تركته أجيال سابقة. لقد تأثر بالموجة الجديدة الفرنسية في نظرتها الجادة الى السينما وفي دعوتها الى حرية التجريب مع اللغة السينمائية واستخدام الفيلم كأداة تعبير عن الرؤية الذاتية وصياغة وجهات نظر سياسية – اجتماعية. كذلك تأثر بسينما جان رينوار وروبير بريسون التي كانت تستكشف "واقعية الصورة" وتؤكد على الصورة المتواصلة بدلا من المونتاج السريع (المفاجيء) الذي يشظي العالم. كما تأثر بسينما جون فورد في تركيزه على علاقة الفرد بما يحيط به من مناظر شاسعة غير مأهولة.
الأفلام
إعادة بناء 1970
الفيلم الأول لانجيلوبولوس يقدم نظرة عامة تمهيدية لما سوف يعرضه في أفلامه اللاحقة مع ذلك فإنه يحتفظ بخاصيته المستقلة ليس فقط بسبب التصوير الحيوي – بالأسود والأبيض – لكن أيضا لأنه فيلمه الوحيد الذي تحتل فيه المرأة بؤرة السرد.
في هذا الفيلم، الذي هو عبارة عن معالجة عصرية لأسطورة أجاممنون ومقتله على يد زوجته كليتمنسترا، نرى ايليني وهي تقتل زوجها العائد من الخارج. ومن خلال إعادة البناء التي يقوم بها انجيلوبولوس، يقدم الفيلم رؤية عن "موت" أضخم للقرى اليونانية خلال النصف الأول من القرن العشرين.
الفيلم مستمد من قصة واقعية نشرتها الجرائد عن امرأة قروية قتلت زوجها، بالتعاون مع عشيقها، لدى عودته من ألمانيا حيث كان يعمل ظاهريا، يتحدث الفيلم عن قصة جريمة، لكن من خلال هذه القصة يستحضر انجيلوبولوس عالما كاملا يتصل بحياة القرية اليونانية المنهارة، موظفا عناصر الميثولوجيا وتقاليد الثقافة الشعبية في افتتاحية الفيلم نسمع صوت الراوي (انجيلوبولوس نفسه) وهو يقدم احصائية عن تناقص سكان القرية من 1250 في العام 1939 الى 85 في العام 1965.
إن الفيلم هنا يدمج معا عناصر الدراما والتراجيديا والوثائقية والأسطورة والأغاني الشعبية. لكن الفيلم في بنائه وموضوعه هو، كما يوحي عنوانه، عبارة عن سلسلة من اعادات البناء. قضائيا: مع وصول الشرطة المحلية الى القرية واعادة تمثيل الجريمة كجزء من التحقيق. وصحفيا: مع تهافت رجال الاعلام بحثا عن حدث ساخن للصحف والتليفزيون.
الفيلم يقتضي من المتفرج انتباها وتركيزا مكثفا نظرا لاختلاط وتشابك الانتقالات بين الأحداث "الواقعية" وتلك المعاد بناؤها، كما أن الفيلم لا يتبع نظاما كرونولوجيا (أي عبر التسلسل الزمني).
الفيلم يتخطى الجريمة المحلية الى جرائم أعمق يتخطر الحالات الفردية الى أوضاع قرية يونانية تحتضر ومن ثم الى المجتمع اليوناني نفسه، والى التاريخ الحديث أيضا، والى تلك التي تمضي أمام أو خلف التاريخ: الأسطورة.
منذ فيلما الأول أراد انجيلوبولوس أن يرغم الجمهور غلى التعامل مع "اليونان الأخرى" المهملة والمنسية، والتي لم تشهد أي تطور أو انتعاش سياحي أو ارتفاع في مستوى المعيشة. "ساعدني، أنا ضائعة".. هكذا تصرخ ايليني في أخيها ما إن تعترف بجريمتها قبل نهاية الفيلم. إنها الصرخة التي تخاطب ثقافة محلية بشأن "اليونان الأخرى".
انجيلوبولوس يحافظ على وحدة المكان، واعادة بنانه للأحداث تفضي الى تقويض الزمن، المكان معروف، والحدث بسيط وميثولوجي، لكن ما هو مركب هو التقديم وإعادة التقديم. إن انجيلوبولوس لا يوظف تقاليد السرد السينمائي، وإنما يطالب المتفرج بمشاركة فعالة أكثر في عملية المشاهدة والربط. انه يريد من المتفرج أن يفكر في صحة أو شرعية أي اعادة بناء للواقع.. وللسينما ذاتها. إن انعدام الوحدة في الزمن يعكس ببساطة انهيار القرية ومن ثم الثقافة اليونانية نفسها.
من أين جاءت فكرة الفيلم ؟
يقول انجيلوبولوس بأنه قرأ في جريدة ما عن جريمة قتل وقعت في أحدى القرى الواقعة في جزيرة كورفو. وقد اهتم بالخبر وذهب الى الجزيرة للاحاطة أكثر بجوانب القضية: امرأة قروية خنقت زوجها ودفنته في حديقة المنزل ثم زرعت فوقه البصل.. حادثة زرع البصل هي التي تركت في نفس انجيلوبولوس أثرا قويا جدا وجعلته – على حد قوله – يختار هذه القصة لأول أفلامه
من هذه القصة انطلق ليقوم برحلة اكتشاف لليونان الأخرى التي لم يعرفها ولم يزرها، إرتاد الجزيرة، وتابه محاكمة المرأة، ثم انتقل الى القرى الجبلية في الشمال المحاذية لألبانيا. لقد اختار أن يذهب الى هناك بسبب استحالة تحقيق فيلم عن القصة في المواقع الحقيقية التي شهدت الجريمة، والتي تحاول أن تنسى الحادثة وتكره أي تطفل من الخارج. وبد أن تجول في مختلف أماكن تلك المنطقة على الرغم من وعورة الطرق، استقر أخيرا على قريتين صور فيهما فيلما.
لتمثيل دور المرأة اختار انجيلوبولوس إمرأة يونانية لم تمارس التمثيل من قبل. والملاحظ أنه، في كل أفلامه، يدمج ممثلين محترفين مع أشخاص لم يسبق لهم التمثيل، ويعلل اختياره لغير المحترفين بقوله: "إن أغلب المممثلين اليونانيين تعرضوا، بطريقة أو بأخرى، للافساد. يعتقدون بأنهم لا يمثلون إذا لم يكن أداؤهم ميلودراميا".
في تلك القرى النائية، المعزولة، صور انجيلوبولوس فيلما في 27 يوما مع خمسة فنيين فقط، وهي مجموعة صغيرة جدا لفريق يعمل في فيلم طويل. وباختياره تلك المواقع النائية، أراد انجيلوبولوس أن يصور "اليونان الأخرى" في "اليونان الأخرى" نفسها، دون أي تلاعب أو تحايل وبحيث يصبح الموقع شريكا متساويا مع القصة والشخصيات.
بؤرة الفيلم تتركز على المرأة، الزوجة، الأرملة، الأم، العشيقة، وأخيرا القاتلة. واختيار المرأة كبؤرة راجع الى أن النساء هن اللواتي بقين في تلك القرى المحتضرة. لكن ما نراه يثير لدينا الارتباك والقلق، ففي غياب السرد التقليدي، والدافع السيكولوجي للشخصية، نظل نراقب هذه المرأة الصامتة دون أن نتوصل الى معرفتها بالطريقة التي اعتدنا عليها في معرفة الشخصيات السينمائية
نحن نرى أفعالها لكننا لا نسمعها وهي توضح أو تبرر أو تفسر أفعالها. بالتالي نحن لا نعرف كيف تشعر أو فيم تفكر. مع ذلك 0نحن نبدأ من خلال تراكم اللحظات والتفاصيل واللقطات في ادراك مدي الثقل المستبد، القمعي في هذا المجتمع الذكوري الذي تعيش فيه: إنها تخدم الرجال، تتعرض للتحقيق والاستجواب من قبل رجال الشرطة ورجال الاعلام، وفي رحلتها القصيرة الى المدينة يتعين عليها أن تظل وحيدة في الغرفة بينما عشيقها يتجول في مدينة تعب بالرجال من رواد المقاهي والحانات ومن الجنود ومن المتسكعين في الشوارع.
انجيلوبولوس يتحاشى بحرص وحذر الميلودراما القي يمكن أن تنشأ لو عبرت ايليني عن نفسها كليا أو ألقت مونولوجا "تراجيديا" على طريقة الدراما اليونانية القديمة. إن صمتها هو الذي يعبر عن مشاعرها بشكل قوي.
هذا الفيلم كان اعلانا عن ميلاد مخرج جديد جدير بالاهتمام. وقد حاز على عدد من جوائز مهرجان الفيلم اليوناني في 1970 كأفضل فيلم ومخرج ومصور وسكة.. إضافة الى جائزة جورج سادول كأفضل فيلم عرض في فرنسا في العام 1971.
أيام 36 (1972)
ثاني أفلام انجيلوبولوس، انه دراسة عن التاريخ اليوناني قبل ديكتاتورية الجنرال ميتاكساس بفترة قصيرة. الفيلم يوحي بأن وراء وصول الديكتاتور الى الحكم، وجود قوى فاسدة داخل الحكومة.
القصة تتعلق بسجين سياسي يتخذ من سياسي زائر رهينة مقابل إطلاق سراحه. إدارة السجن وأعضاء الحكومة المحافظة لا يعرفون كيف يتعاملون مع هذه الأزمة إلا بإطلاق رصاصة ترديه قتيلا.
الفيلم يؤكد على الصمت بين الأحداث، ويهجو رجال السياسة بحس بصري ودعابة ساخرة، ويظهر مدى ضعف وفساد الحكومة، إذ توشك افعال شخص واحد أن يطيح بها. وهذه الحكومة عاجزة وغير مؤهلة الى حد أنها لا تستطيع أن تحل المشكلة الا من خلال ارتكاب الجريمة (بارسال قاتل يقضي على السجين داخل زنزانته).
في هذا الفيلم يطرح انجيلوبولوس موضوعا حساسا وشائكا (لا يرغب الكثيرون من اليونانيين في طرحه ومناقشته) يتصل بالهوية اليونانية.. الجماعية والفردية: ماذا يعني أن تكون يونانيا، بالأخص بعد خمسة قرون تقريبا من الاحتلال الأجنبي (العثماني)؟ من نحن ؟ مزيج من السلالات واللفات والعادات المختلطة وتخوم متغيرة باستمرار. هل هناك يوناني قح ؟ لنتذكر أن اليونان القديمة لم تكن أبدا دولة موحدة.
انجيلوبولوس يجرد فيلمه من التوترات العالية واللحظات الدر امية والايقاعات السريعة في تناول الحدث التاريخي، أو في تصوير وضع الرهينة داخل السجن، أو مقتل السجين. إننا حتى لا نشهد كيفية أسر الرهينة، إذ يقع هذا الحدث قبل أن يبدأ الفيلم، إن افتقاد "الحركة" (action) في الفيلم يعكس افتقاد الحركة والاتجاه ضمن الحكومة اليونانية آنذاك.
الممثلون الجوالون (1975)
في أمسية باردة من شهر سبتمبر 1975، وضمن عروض مهرجان الافلام اليونانية في ثيسالونيكي، ثاني أكبر المدن اليونانية، كانت الصالة القاصة بالجمهور تعرض ثالث أفلام انجيلوبولوس "الممثلون الجوالون"، الذي هو عبارة عن رحلة ملحمية، تستغرق ثلاث ساعات وأر بعين دقيقة، في التاريخ اليوناني من 1939 وحتى بداية 1952 مرورا بالحرب العالمية الثانية والحرب الأهلية.. مقتفيا تجوال فرقة مسرحية صغيرة عبر قرى وأرياف اليونان.
لم تكن هناك شخصية رئيسية في هذا الفيلم المصور برمته تقريبا في لقطات (takes) طويلة كل منها تدوم عدة دقائق إضافة الى أن أغلب مشاهد الفيلم مصورة شتاء في شمال اليونان بإضاءة باهتة وألوان هي ألوان الفجر أو الغسق.
وسرعان ما أدرك الحضور بأنهم أمام فيلم لم يسبق لهم أن شاهدوا مثله، لا شكلا ولا مضمونا، فيلم يتعارض تماما مع كل المعايير والتقاليد السينمائية المألوفة والسائدة. وكانت الاستجابة – بعد انتهاء الفيلم – فورية وعفوية، فقد وقف الحضور مصفقين لعشر دقائق تقريبا مختفين بالفيلم في حماس لم يسبق له مثيل. وحاز الفيلم على عدد من جوائز هذا المهرجان المحلي كأفضل فيلم ومخرج وسيناريو وممثل وممثلة. كذلك حاز فيما بعد على جائزة النقاد العالميين في مهرجان كان، وجائزة النقاد الايطاليين كأفضل فيلم في العالم عرض في السبعينات، وجائزة النقاد العالميين كواحد من أفضل الأفلام في تاريخ السينما.. الى جانب عدد من الجوائز الدولية في لندن وبرلين والبرتغال واليابان وغيرها.
هذا الفيلم هو من أكثر الأفلام اليونانية طموحا، وأكثرها تجريبية وأعلاها تكلفة رغم أن ميزانية الفيلم تعادل ما تصرفه هوليوود على إعلانات فيلم متواضع المستوى في السبعينات.
حقق انجيلوبولوس الفيلم في فترة الحكم العسكري الديكتاتوري الذي استمر من 1967 الى 1975.. وفي الواقع يعود الفضل في انجاز الفيلم الى هذه الديكتاتورية بالذات التي لولاها لما اضطر انجيلوبولوس والعديد من المخرجين الشبان في الستينات الى اعادة النظر في التاريخ والثقافة اليونانية.
قال انجيلوبولوس "أنا وغيري من المخرجين بحثنا في جذور الحكم العسكري من خلال التاريخ والمواقف والتحول الاجتماعي والسياسي. بطريقة ما، الديكتاتورية كانت مصدر إلهامي، لولا وجودها كنت ربما أنجزت أفلاما مختلفة تماما. هكذا كان الأمر أيضا مع العديد من الأفلام الجيدة التي انتجت في أمريكا أثناء سنوات المكارثية".
في الحقيقة لم يكن سهلا أن يصور هذا الفيلم السياسي في عهد الديكتاتورية، ويشرح انجيلوبولوس قائلا: تمكنت من اقناع المنتج قائلا له بأن تحقيق هذا الفيلم وسيلة للبقاء في تلك الأوقات الرهيبة. حصلنا على الترخيص وبدأنا التصوير في فبراير 1974. لا أحد كان يعرف بالضبط ما كنا نفعله لا المنتج نفسه ولا الممثلون. لم يطلع أحد على السيناريو، ولم أشأ أن يعرف الآخرون محتوى العمل حتى لا يتم تناقل الكلام عن الفيلم فيفضي هذا الى منعه. كنت أسلم الممثلين النص يوما بعد يوم فيما نصور".
هذا الفيلم لا يلتزم بتسلسل زمني معين، انه ينتقل من ديكتاتورية ميتاكساس الى الغزو الايطالي لليونان ثم الاحتلال النازي وانتصار الحلفاء والقوى الشيوعية، انه يقوم برحلة عبر الزمن في "اليونان الأخرى".. تاريخيا وثقافيا ورغم أن الفيلم يتناول التاريخ اليوناني في السنوات الزاخرة بالعنف والقلق والمعاناة المريرة والاضطرابات الصاخبة، إلا أنه يتجنب المؤثرات الدر امية الصارخة (شحن المشاهد بالدم والصراخ والمواعظ الحماسية والانفعالات الميلودرامية واللقطات القريبة المؤثرة والانتقال المفاجيء من حدث الى آخر).
على العكس من ذلك تماما، يستخدم انجيلوبولوس اللقطات الطويلة ويركز على الصمت والجمال الفاتر ويؤكد على التأمل البصري. المشاهد البصرية والصامتة الطويلة تتقاطع مع مونولوجات يلقيها أفراد الفرقة أمام الكاميرا مباشرة. في هذه اللحظات الوجيزة تنفتح الشخصيات، تعترف بنا تخاطبنا وتصل حياتها بحياتنا. إن انجيلوبولوس يقترب من مفهوم اسخيلوس للشخصية أكثر من مفهوم سوفوكليس أو يوريبيدس اللذين يؤكدان على كشف الصراع الداخلي والدافع السيكولوجي. "أورستيا" اسخيلوس – كمثال – لا تتبع في تناميها السياق المنطقي أو حتى الدرامي، والشخصيات هي رموز عامة أكثر من كونها أفرادا لهم حيواتهم الداخلية الخاصة، عند انجيلوبولوس أيضا نحن لا نعرف شيئا عن "ذاتية" شخصياته، إننا نقف خارج مشاعرها ودوافعها وأفكارها الداخلية.
الفيلم يبدأ وينتهي باللقطة ذاتها: الفرقة تنتظر أمام محطة قطار لكي تؤدي المسرحية في بلدة أخرى. وهذا لا يعني ضمنا بأن التاريخ يعيد نفسه حرفيا، ذلك لأن المشاهد تعرض مراحل زمنية مختلفة، وأفراد الفرقة يختلفون في السن، انهم عاجزون عن اراقة الماضي، وعن تغيير المسرحية أو تغيير طريقتهم ورؤيتهم. إنهم يستمرون في تقديم العرض، حاملين حقائبهم البالية، متنقلين من قرية الى أخرى ومن بلدة الى أخرى.
المسرحية التي تقدمها الفرقة طوال الفيلم، هي "عاشق الراعية" وهي مسرحية ميلودرامية، رومانسية، غنائية كتبها سبيروس بريسيدس في 1894، وأصبحت من أكثر الميلودرامات شعبية، كما أنها تحولت في 1914 الى أول فيلم يوناني، في أحد المشاهد، وأثناء تأدية الممثلين للعرض المسرحي، يدخل الممثل أوريست خشبة المسرح ويطلق الرصاص – من مسدس حقيقي – على أمه كليتمنسترا وعشيقها أوجيستوس ويرديهما قتلى. بدلا من سماع صيحات الرعب من الجمهور القروي نسمع فجأة تصفيقا حادا واستحسانا حماسيا للمشهد، حيث يعتقد الجمهور بأن المشهد تمثيلي. إن زمن الجريمة هو زمن الاحتلال النازي وأوريست كان قد انضم الى مقاتلي الحزب الشيوعي بينما انحاز عمه أوجيستوس الى القوى المضادة للديمقراطية والى النازية.
انجيلوبولوس هنا يضبب العلاقة بين المسرح والواقع وبين التاريخ والأسطورة، أفلامه تتلاعب باستمرار بمفاهيم المسرح، العرض، إعادة البناء حضور الجمهور أو الكورس.
الموسيقى موظفة لتحديد وتوحيد و(احيانا لتقسيم) المجموعات المعروضة. الأغنية حاضرة بكل أنواعها وأشكالها ومصادرها المختلفة. المونولوجات وسيلة تغريب وإبعاد للجمهور عن القصة وفي الوقت ذاته تسمح له بتكوين رؤية أخرى عن هذه الشخصيات.
أفلام انجيلوبولوس تؤكد على اللحظات الواقعة بين الكلام الحركة لتصبح سينما الفضاءات والايماءات والوقائع الدائرة خارج الشاشة.
في أحد المشاهد، يدور الحدث فجرا في بحيرة واقعة في شمال اليونان سنة 1939. الوقت شتاء. السكون والكآبة يخيمان على الموقع. ثمة قارب يحمل رجالا مقيدين. انهم أسرى، في سكون يصل القارب الى الشاطيء، والشرطة تدفع سجناء آخرين نحو القارب، من بينهم صديق أوريست الذي وشى به عمه (والثلاثة أعضاء في الفرقة ذاتها). القارب يبحر فيما يقف أوريست واليكترا والشاعر قبالة البحيرة الرمادية مراقبين في سكون. لا حركة، لا موسيقى، لا صوت فيما عدا الخرخرة الناعمة لمحرك القارب.
ثمة جمال فاتر يتصل بالمشهد. إننا نختبر قتامة المنظر الشتوي والصفاء المترشح معا، هذا المنطو يصبح "مسرحا" لما هو غير مسرحي. قارب مليء برجال صامتين، يلتقط آخرين ويمضي في صمت مع ذلك نشعر بأن لهذه اللحظة تأثيرا عاطفيا كبيرا ودلالة سياسية.
انجيلوبولوس يستخدم الانهار والبحيرات كوسيلة عزل شأو انفصال وأيضا "تعميد"، وتجديد روحاني. الصمت يهيمن هنا كما في أغلب مشاهد الفيلم. لا أحاديث انفعالية ومشبوهة كما في التراجيديا القديمة، ولا وثوق في النزال اللفظي والحوار كما في الأفلام التقليدية. فقط صوت الريح أحيانا ثم الصمت.
الصيادون (1977)
هذا الفيلم – الحائز على جائزة أفضل فيلم في مهرجان شيكاغو، إضافة الى جائزة النقاد اليونانيين – يوفر حالة جديرة بالدراسة عن مدى انعكاس الطقوس الدينية عند البيزنطيين في أعمال انجيلوبولوس. في هذا الفيلم، الذي يدور في السبعينات، يتعين على مجموعة من الصيادين اتخاذ قرار حاسم بشأن جثة أحد رجال المقاومة، الذي يبدو أنه قتل في 1949 (ابان الحرب الأهلية) لكن جثته مصانة على نحو خارق وإعجازي بحيث يبدو كما لو أنه مات منذ فترة قريبة. الفيلم يصبح نقدا للصيادين الذين يمثلون شريحة نموذجية ليونان السبعينات والذين يعجزون عن اتخاذ قرار بشأن ما يمكن أن يفعلوه بالجثة.
إذا أخذنا التقليد البيزنطي بعين الاعتبار، فإننا نستطيع أن نشاهد الفيلم من منظور آخر: الميت الملتحي له مظهر شبيه بالمسيح ووضعه على طاولة في مأوى الصيادين بحيث يصبح محور الاهتمام طوال الفيلم، يمكن أن يكون صدى ومحاكاة لطقس الحداد على المسيح في الفن البيزنطي والتقليد الأرثوذكسي. هؤلاء الصيادون ليسوا في حداد بقدر ما هم في ارتباك حاد: كيف يمكنهم اخفاء ماض كانوا يعتقدون أنه قد انتهى بعد الحرب الأهلية اليونانية ؟
ليس ثمة انبعاث ممكن في هذا الفيلم. الجثة تعاد الى الموضع الذي وجدت فيه.. في الموقع الثلجي.
بدلا من "سحر" الطقس الديني البيزنطي، الذي يحمي المؤمنين من المخاوف المعلومة والمجهولة، نحن نرى سلسلة من المشاهد الجارية أمام الجثة بطريقة هي، كما في الفن البيزنطي، واقعية جزئيا مؤسلبة جزئيا، بالتالي هي رمزية. وكما المسيح في مركز الاهتمام في الكنيسة الأرثوذكسية، كذلك الجثة تمثل الحضور الرئيسي في الفيلم.
إن الجثة – مع دمها الطري (معجزة !) – توجد لتنتابهم جميعا لفترة طويلة، بالتالي فالميت "ينبعث" في ذاكرتهم. الصيادون لا ينظرون الى طراوة الجثة كمظهر إعجازي – كما كان يفعل أسلافهم في الأيام الغابرة – ذلك لأنهم لا يفكرون، إلا في أنفسهم وفي التهديد الذي تشكله جثة الروح الثورية الماضية على مهنهم وأساليب حياتهم وأيديولوجياتهم المحافظة اللاثورية في واقعهم الراهن.
الأسكندر الأكبر (1980)
من أصعب أفلام انجيلوبولوس، ومن أكثر الأفلام اليونانية طموحا. الأحداث تدور في بداية القرن والشخصية الرئيسية تتمثل في قاطع طريق يوناني مماثل لشخصية روبن هود، والذي كان صديقا للفلاحين. يدفعه طموحه الى أن يكون مثل الاسكندر الأكبر، القائد المقدوني، ويبدأ في الاعتقاد بالتناسخ وبأن الأسكندر قد تقمصه.
يهرب من السجن مع عدد من رجاله، يأسر بعض الانجليز من الرجال والنساء ويأخذهم – رهائن – الى أحدى القرى النائية في الشمال حيث يستولي عليها. ولدهشته يكتشف بأن هذه القرية المعزولة قد أصبحت، بتأثير من مدرس القرية، قرية مثالية فاضلة حيث المشاعية وإلغاء الملكية الخاصة والمساواة في الحقوق بين الرجال والنساء.
يحتل الاسكندر القرية بالقوة ويحكمها بالاستبداد. إنه يقتل أعضاء اللجنة والمدرس والرهائن وفي النهاية يلقى مصرعه على أيدي القرويين الذين ناصروه في البداية. وتأتي القوات الحكومية لتجتاح القرية. وعندما يعود الأهالي لتفقد الجثة يجدون بدلا منها تمثالا نصفيا للأسكندر الأكبر ملطخا بالدماء.
الفيلم يتضمن عددا من اهتمامات انجيلوبولوس: التاريخ معروض كإعادة تمثيل لحدث معين وكإعادة خلق لمرحلة هامة – بداية القرن – حيث اليونان على وشك الدخول في الثورة الصناعية ومن ثم تختبر الأحداث التي سوف تفضي الى موت حياة القرية. القصة أيضا تتصل "باليونان الأخرى".. حياة القرية الشمالية، النائية، المعزولة.
حاز الفيلم على جائزة أفضل فيلم في مهرجان فينيسيا اضافة الى جائزة النقاد اليونانيين.
رحلة الى كيثيرا (1983)
بعد فيلم "الأسكندر الأكبر" حقق انجيلوبولوس فيلمين وثائقيين: قرية واحدة، قروي واحد (1981) أثينا العودة الى الأكروبول (1983). فيلم "رحلة الى كيثيرا" يتعرض للصعوبات التي يواجهها مخرج سينمائي، ولحظات السعادة التي يشعر بها، عند تحقيقه فيلما.
إنه عبارة عن فيلم داخل فيلم، المخرج "الكسندر" يلتقي بأبيه العجوز سبايروس الذي عاد الى اليونان بعد 32 عاما من صنفاه في روسيا اثر اعلان العفو عن الشيوعيين في أواخر السبعينات. الكسندر يقوم بتقييم حياته، وضمنا حياة جيله، عندما يلتقي أخيرا بوالده الذي يمثل الماضي – الحرب الأهلية اليونانية – والتي إزاءها يشعر أغلب اليونانيين بالضيق والتوتر حتى لمجرد ذكرها.
كما لاحظنا، فإن كل أفلام انجيلوبولوس هي "اعادات بناء" بدرجة أو بأخرى.الاختلاف هو في الوسيلة والدافع. في هذا الفيلم، استبطان الذات يتصل بالسينما وصنع الفيلم حيث تتشابك مثل هذه الفعالية مع وقائع عودة الشيوعيين وتأثير هذا الفعل على ثقافة الثمانينات. إن تحقيق الفيلم، بالنسبة للبطل، لا يكشف عالم الخيال والسينما فحسب، بل أيضا يصبح تأملا في الجروح التاريخية التي لم تلتئم منذ نهاية الحرب الأهلية اليونانية في 1949.
الفيلم يظهر الى أي حد يمكن أن تصبح التخوم متزعزعة بين الحياة "على الشاشة" والحياة "خارج الشاشة". الفيلم داخل الفيلم يبدو "واقعيا" تماما، وما هو واقعي بشكل جلي يبدو تخيليا تماما. وعلى الرغم من هذا التشوش، فإننا نعلم بأن أحدا لن يصل الى جزيرة كيثيرا. الفيلم، إذن عبارة عن رحلة لا تحدث أبدا. الكسندر هو الشخص الذي يرغب في الذهاب الى الجزيرة، ذات الخلفية الميثولوجية، ليحقق مشروعه السينمائي هناك، لكنه لا يشرع في رحلته على الاطلاق. عوضا عن ذلك هو يرحل، في فيلمه، الى الشمال.. صوب جذوره.
واذا كان الكسندر (الاسكندر) القائد المقدوني،قد قهر العالم كله، فإن الكسندر المعاصر يرغب في استكشاف امكانية قهر السينما لأغراضه الخاصة. إننا لا نستطيع أن نحدد متى يبدأ "الفيلم داخل الفيلم" ومتى ينتهي. إننا لا نسمع الكلمة المعتادة “Cut” ولا نرى الكاميرا وهي تصور.. لذلك يمكننا أن نفترض بأن الفيلم كله مجرد حلم يحلمه صانع الفيلم.. وكما يقول انجيلوبولوس: "الفيلم كله يدور في رأس الكسندر".
في مهرجان "كان" حاز الفيلم على جائزة أفضل سيناريو، وجائزة النقاد العالميين كأفضل فيلم، إضافة الى العديد من الجوائز في مهرجانات أخرى.
منظر في السديم (1988)
بعد فيلم "مربى النحل" The Beekeper حقق انجيلوبولوس فيلمه "منظر في السديم" الذي حاز على الجائزة الكبرى في مهرجانات فينيسيا.
إنه الفيلم الوحيد الذي يتمحور حول الأطفال، بالتالي هو يدع جانبا التاريخ وعالم الكبار. إن الاطار الذر يخلقه ينسب عناصر الأسطورة والحكاية الخرافية معا، لكنه أيضا يتضمن واقعية شبيهة بالوثائقية.. بالتالي نحن نعي باستمرار حضور الكسندر (5 سنوات) وشقيقته فاولا (11 سنة) في بؤرة السرد كطفلين يسكنان عالما خاصا بهما، ويجبرهما المحيط على فقد الكثير من براءتهما في مرحلة مبكرة جدا.
في بداية الفيلم تكون الشاشة مظلمة تماما فيما نسمه الصغيرة (فاولا) وهي تروي لشقيقها قصة روتها مرارا بناء على طلبه.
القصة تحكي عن اسطورة الخلق: "في البدء كان الظلام ثم كان الضوء. الضوء انفصل عن الظلام والأرض عن البحر. وخلقت الأنهار والبحيرات والجبال، ثم الزهور والأشجار والحيوانات والطيور".
حينذاك نسمع صوت انفتاح الباب وانغلاقه ووقع أقدام. لكننا لا نرى شيئا. "انها عاما" تقول الصغيرة ثم تضيف: "هذه القصة سوف لن تنتهي أبدا".
عندئذ ينفتح الباب قليلا فاسحا المجال لدخول الضوء، كما لو أنه يمثل الأسطورة التي قيلت للتو. وفيما الباب ينفتح أكثر يغمر الضوء الصغيرين، الذين يتظاهران بالنوم الباب ينغلق، ووقع أقدام الأم يتراجع وينسحب. الكثير مما يتأسس في هذا المشهد البسيط يتم في الظلام. على المستوى السينمائي انجيلوبولوس يغلف وسط الفيلم نفسه الذي هو جوهريا، تلاعب بالضوء والظلام وما بينهما من ظلال متنوعة.
علاوة على ذلك، فإن عرض المشهد كليا في الظلام يوحي بأنه، كصانع فيلم، قادر أن يخلق القصة من "لا شيء". لكن المشهد أيضا يوحي بشيء آخر:
لقد علمنا، من افتتاحية الفيلم في محطة القطار، بأن الصغيرين يبحثان بتوق شديد عن أبيهما الغائب، الموجود في ألمانيا كما يظنان، والذي لم يرياه أبدا، من جهة أخرى كل ما نعرفه عن أمهما يأتي من هذا المشهد الذي ذكرناه: الخطوات وانفتاح وانغلاق الباب إننا لا نواها أبدا ولا نسمعها تتكلم على الاطلاق. هي بالتالي غائبة تماما كما الأب المفقود أو ربما أكثر: واقع أنهما يعيشان معها لكنها منعزلة عنهما ماديا وعاطفيا هو أكثر إيذاء لنمو الصغيرين من غياب الأب.
الفيلم هو رحلة بحث عن الأب الغائب..عن جذورهما. لكن هل يوجد هذا الأب حقا؟ خالهما يقول لمدير المحطة: "ليس ثمة أب. ليس ثمة ألمانيا. إنها مجرد أكذوبة". لكن الصغيرة التي تسمعه، تصرخ وهي تبتعد راكضة: "أنت تكذب".
والصغيرة تكتب، عبر المخيلة، رسائل الى الأب:
الرسالة الأولى تقول: "أبي العزيز نكتب اليك لأننا قادمان للعثور عليك نحن لم نرك أبدا لكننا نفتقدك كثيرا، إننا نتحدث عنك طوال الوقت. أمنا سوف تتضايق عندما تكتشف غيابنا. نحن نحبها من أعماقنا، لكنها لا تفهم شيئا. إننا لا نريد أن نثقل عليك. فقط نريد أن نعرفك ثم نمضي بعيدا، إذا أردت أن ترسل ردا، فأرسله عبر صوت القطار".
الرسالة الثانية تقول:
"يا له من عالم غريب. كلمات وحركات لا نفهمها. والليل الذي يخيفنا، لكننا سعيدان".
الرسالة الثالثة تقول:
"أبي العزيز، كم أنت بعيد عنا. الكسندر يقول أنك في حلما تبدو قريبا جدا، حتى أنه يستطيع أن يلمسك لو مد يده. نحن نسافر على الدوام، وكل شيء يمضي على عجل.. المدن والناس لكننا أحيانا نشعر بالتعب الى حد أننا ننساك، ولا نعود نعرف إن كنا سنعثر عليك أم لا".
خلال رحلتهما يصادفان: الثلج الهاطل كحدث اعجازي، انتحار رجل، محطات قطار، ساحة بلدة مغطاة بالثلج وعروس تجري باكية، جرارة (تراكتور) تسحب حصانا محتضرا نحو الساحة وتتركه ليموت هناك، ممثلا شابا يتحدث عن المسرح وعن صعوبة جعل الجمهور يضحك ويبكي، الممثلين الجوالين الذين يطوفون بعناد أرجاء اليونان ليقدموا المسرحية ذاتها والذين توصلوا الى قناعة بأن الثورات لم يعد لها مفعول ولا غاية وهناك أيضا اليد الرخامية التي تنبثق من البحر.
الصغيران يجدان نفسيهما وسط "قصص" مختلفة والمطلوب منهما أن يحاولا فهم كلمات وايماءات الآخرين. لكن الصغيرة (فاولا) تتعرض للاغتصاب على يد سائق شاحنة منتهكا بذلك براءتها ومحولا إياها الى امرأة أخرى.
نهاية الفيلم، بخلاف نهايات انجيلوبولوس الأخرى، توحي بالانتصار والتحقق مثل نهاية الحكاية الخرافية، فالفيلم الذي يبدأ بالظلمة ينتهي بالضوء حتى لو كان الضوء مرئيا من خلال السديم.
الصغيران لا يتمكنان كليا من فصل الضوء عن الظلام حتى عندما ينجحان في تخطي كل شيء في النهاية مع وصولهما – الواقعي أو التخيلي – الى الشجرة المضيئة في المنظر السديمي، انهما يعانقان الشجرة وعلى هذه الصورة ينهي انجيلوبولاس فيلمه تاركا لنا تأويل المعنى. لقد وجدا الشجرة ولم يجدا الأب. وللأشجار، في الأسطورة وفي الحكايات الشعبية، قوتها ومعانيها واتصالها بالسحر.
إننا نعرف شيئا واحدا: إن رحلتهما لم تنته، لكنهما وصلا الى مكان ما.
خطوة اللقلق المؤجلة (91)
مراسل تليفزيوني شاب وكولونيل يوناني يقفان على جسر فوق النهر، والذي يشكل الحد الفاصل بين اليونان وألبانيا. الكولونيل يشير الى الخط الأزرق ويقول إنها نهاية اليونان. في الطرف الآخر، الحرس الألباني يراقب. الكولونيل يرفع قدما ويقول: "لو مشيت خطوة أخرى فسوف أكون في مكان آخر.. أو أموت." الحرس الألباني في حالة توتر الكولونيل يخفض قدمه المعلقة ببطء، يستدير، يخطو الى الامام.. ويبتعدان.
انجيلوبولوس في هذا الفيلم يتعرض لتاريخ دول البلقان المضطرب مع نهاية القرن. إنه، مثل المراسل، يسعى وراء قصة ما، ويعود بصور ترغمنا على تأمل مفهوم الحدود والأقاليم: الجغرافية، الثقافية، السياسية، الذاتية.
الفيلم عبارة عن بحث، رحلة، قصة حب، قصة المسيح، انه تأمل مركب ومؤثر بعمق في التاريخ المعاصر الذي يتصل بلاجئين من كل مكان محاصرين في دول البلقان.
المراسل هنا يبحث عن "قصة" بشأن رجل سياسي يوناني شهير، انطلق في رحلته الخاصة ولم يعد أو يسمع عنه، لقد تخلى عن كل شي ء ليعيش وسط أكثر البشر تعاسة: اللاجئين العالميين الباحثين عن وطن.. حقيقي أو متخيل.
الفيلم يبدأ بجثث طافية على المياه لمجموعة من الآسيويين حاولوا اللجوء الى اليونان لكن رفض طلبهم وبدلا من العودة آثروا رمي أنفسهم في البحر. خارج الكادر نسمع صوت المراسل: "أتساءل كيف يقرر المرء الرحيل ؟ لماذا؟ والى أين ؟
انجيلوبولوس يعرض شهادات، بلغات مختلفة، تشير الى ما صادفه اللاجئون في بلادهم من أشكال التعذيب والموت والحرمان.
ويصرح الكولونيل للمراسل عن اندلاع حالة من الفوضى حيث ينشب النزاع بين اللاجئين أنفسهم لأسباب غير معروفة أبدا، لأن أحدا لا يعرف لغة الآخر. "إنهم يعبرون الحدود ليجدوا الحرية لكنهم يخلقون لأنفسهم حدودا جديدة هنا".
انجيلوبولوس لا يوضح لنا ما إذا كان السياسي هو الشخص الذي يبحثون عنه أم أنه شخص آخر. عندما يلتقي هذا السياسي بزوجته على الجسر، يتواجهان وكل منهما يحدق في الآخر، ثم تلتفت الزوجة الى الكاميرا وتقول "ليس هو". مع ذلك ثمة احساس بالشك يراود المتفرج، والتفسير الذي يبقى هو انه قد أصبح شخصا آخر، أنكر ذاته الحقيقية ونسي ماضيه.
والمراسل يكتشف في النهاية مأزقه: "الشيء الوحيد الذي كنت أعرفه هو أن أصور الآخرين دون أن أكترث بمشاعرهم". إن حياته كلها كانت عبارة عن خطوة مؤجلة. وهو يتحول من راصد سلبي الى مشارك، وخطوته لا تعود معلقة. إنه يخطو نحوا لحدود ليتصل بالآخرين.
قبل نهاية الفيلم نشهد مراسيم العرس في مشهد يستغرق ست دقائق إنه زفاف فتاة لاجئة وشاب يعيش في الجانب الآخر من النهر الذي يشكل التخم بين البلدين. وطوال هذا المشهد (الذي يتسم بجمال التكوينات وعمق المجال البؤري وتصميم اللقطات) لا نسمع غير صوت المياه التي تتدفق. مراسيم الزفاف تنتهي بصوت اطلاق الرصاص، فيتفوق الجمع ولا تبقى غير العروس مع عريسها، يفصلهما التخم، وكل منهما في بلد آخر. إنهما يحدقان الى بعضهما، ثم يرفع كل منهما ذراعه محييا الآخر، وبينهما يتدفق النهر. انهما مثل اللقلق الذي يرفع ساقه ويبقيها معلقة.
تحديقة يوليسيس (1995)
في هذا الفيلم (الحائز على جائزة في مهرجان كان) يعبر انجيلوبولوس الحدود واقعيا ومجازيا، ويأخذنا معه. إنه يغادر اليونان ويرتاد بقية دول البلقان رابطا هذه الرحلة برحلة البطل الذاتية.
"نحن اليونانيين شعب يحتضر".. يقول سائق التاكسي للبطل (الذي هو مخرج سينمائي يوناني – أمريكي).. إنها هذه الثقافة البلقانية "المحتضرة" التي يسبرها انجيلوبولوس باحثا عن إشارات الأمل والتفسخ والموت أيضا. الفيلم هو بحث ذاتي يقوم به المخرج انطلاقا من اليونان وعبورا بمقدونيا وبلغاريا ورومانيا والصرب، وأخيرا الى سراييفو التي تمزقها الحرب.
مرة أخرى يعانق انجيلوبولوس موضوع الأوديسا ورحلة يوليسيس التي تمثلت في أفلامه السابقة، لكن في هذا الفيلم تكون الاشارة صريحة للمرة الأولى في العنوان.
إن العنوان يستحضر هوميروس، وبالتالي العالم الشعري للقص والمجال الكلي للخيال الانساني. لكن التضمين الذي يستعيره انجيلوبولوس من الفيلسوف بلاتو، ويضعه على الشاشة في بداية الفيلم (وهكذا فإن النفس أيضا، إن هي ترغب في معرفة نفسها، سوف يتعين عليها أن تنظر الى النفس)، هذا التضمين يستدعي منا أن نرى الى الرحلة الأوديسية بوصفها رحلة في اتجاه النفس الباطنية. التضمين يستحضر روح الاستجواب، الشك، التفكير الفلسفي. من خلال هذا الاستحضار يطلب منا انجيلوبولوس أن ننظر الى أي مدى يمكن لهذه المراجع والاشارات الكلاسيكية أن تساعدنا وتغذي بحثنا في مناطق متخمة بالحرب والكراهية والتدمير والموت، والذكريات. هذا الفيلم، بشكل مباشر أكثر من كل أعماله السابقة، يتضمن عناصر من السيرة الذاتية، فالبطل مخرج سينمائي لا يحمل اسما، لكنه في السيناريو المطبوع يحمل حرف A، كما أن الفيلم يحتوي على أسماء أصدقائه ويتضمن حوارات في أفلامه السابقة.
إنه أول فيلم يخرجه انجيلوبولوس خارج اليونان، وأول فيلم له ناطق في أجزاء رئيسية منه، باللغة الانجليزية، وهذا يعود – كما يقول انجيلوبولوس، الى قوة أداء الممثل الامريكي هارفي كايتل، الأمر الذي جعله يعيد النظر في عملية الدوبلاج ويحافظ على اللغة الانجليزية.
في بداية الفيلم نرى شريطا من فيلم صامت قديم عن امرأة قروية تحوك، فيما نسمع خارج الكادر صوت البطل يقول: "حائكات في أفديلا، قرية يونانية، 1905، أول فيلم حققا الأخوان ماناكيا. أول فيلم صنع في اليونان ودول البلقان. لكن هل هذه حقيقة ؟ هل هو الفيلم الأول ؟ التحديقة الأولى؟".
التحديقة من وجهة نظر انجيلوبولوس، لا تعني فقط النظرة التي يوجهها المرء الى الآخر، إنما أيضا "أن تعرف" بالمعنى الفلسفي، يعني أن تحدق في نفس أو روح الآخر. والسينما ذاتها عملية تحديق، بالتالي، فإنها تقدر أن تصير وسيلة لمعرفة الذوات الأخرى.
في هذا الفيلم الخط بين السرد الحقيقي والمتخيل أو السينمائي يزول: التخيل يصبح هو الواقع والسينما معا بالنسبة لمخرج باحث عن "التحديقة المفقودة البراءة المفقودة".
ـــــــــــــــ
بتصرف عن كتاب:
أفلام ثيو انجيلوبولوس تأليف: اندرو هورتون. مطبوعات جامعة برينستون 1997م.
ترجمة: أمين صالح (ناقد وكاتب من البحرين)