«هذا أنت: من المني… إلى المنيّة»
(توفيق صايغ)
«إلى أين أوجه وجهي ؟
وها أن (المثكل) قد تمكن من لبي وجوارحي
أجل.. في مضجعي يقيم الموت
وحيثما أضع قدمي يربض الموت»
(جلجامش)
تحدثنا كثيرا عن تقصير المبدعين العراقيين في استثمار وتوظيف الكنوز الأسطورية التي تزخر بها بلادهم العظيمة، وخصوصا ملحمة جلجامش التي يصفها أستاذنا الباحث الراحل «طه باقر» خطأ بأنها «أوديسة العراق» في حين أن الأوديسة هي «ملحمة جلجامش اليونان». ومؤخرا صدرت للروائي العراقي المبدع «شاكر نوري» رواية جديدة هي «كلاب جلجامش» (منشورات الدار العربية للعلوم بيروت والاختلاف – الجزائر – 2008) كي تسد جانبا مهما من النقص في هذا المجال. هنا يقلب شاكر نوري الأسطورة «على بطانتها» كما يقول التعبير العامي بدقة. فإذا كان جوهر محنة جلجامش – وعظمته في الوقت نفسه – هو الجهد المستميت الذي بذله للحصول على الخلود، فإن اللعنة الكبرى التي حلت على أبناء وطن بطل رواية شاكر العائد من مغتربه لينفذ وصية صديقه بدفنه في أرض بلاده، هي أنهم خالدون ؛ خالدون إلى الأبد لكن تحت سياط العبودية والمهانة والإنخذال. تبدأ الرواية بمدخل «طريف» عن هشاشة الإنسان في موقفه المضعضع تجاه محنة الموت والفناء. فالإنسان هو بتعريف بسيط «الحيوان الوحيد الذي يموت ويعرف أنه لابد أن يموت» حسب تعبير « فولتير » الموفق. ولكنه، أي الإنسان، وفي محاولة نفسية دفاعية يحاول أن يطفئ قلق الموت المشتعل في داخله بشتى الآليات النفسية التخديرية – defence mechanisms. لكن هشاشته وقابليته على الإنجراح واقع مادي صلب، وهذا حال بطل روايتنا هذه فقد:(راوده الشك، من كثرة تردده مرات عديدة في النهار على المرحاض الملحق بالمختبر الذي يعمل فيه، أن يكون مصابا بمرض السكري مما جعل سلوكه متوترا رغم الحبوب الصغيرة التي اقترحها عليه طبيبه لتسييل بوله بسهولة أكبر. وبعد شعوره بالراحة، بعد كل عسر تبوّل، كان يفكر بانطلاقة ذلك الشاب في السابعة والعشرين، وهذا الكهل البالغ ثمانية وخمسين، وهذا ما أدّى به إلى التفكير بمعنى حياته على عدد المرّات التي يتبوّل بها في النهار والليل – ص 7).
يضعنا الكاتب الماكر – ومنذ استهلال الرواية هذا – أمام مداورة مسمومة يستثمر فيها أدق الإيحاءات التي علقت في أذهاننا ووجداننا من معاني ملحمة جلجامش. ففور أن يرد اسم جلجامش إلى أسماعنا تقفز إلى ذاكرتنا ملحمته وسعيه للحصول على الخلود فتقفز معها إلى أرواحنا اللائبة لعبة الحياة والموت..
وقفة:
تبدأ ملحمة جلجامش باستعراض صفات جلجامش و«أسمائه الحسنى» بصورة تضعه فوق البشر: (الرائي، العارف، الحكيم، المبصر، المقدم، الحامي.. إلخ) وهو ذو جمال متميز وهيئة بهية،، مكتمل القوة، صممت الآلهة العظيمة هيأته وبناءه الجسمي. وتتجسد قوته الخارقة من خلال التأكيد على وصفه بالثور النطاح وأنه موجة عاتية تحطم حتى جدران الحجر. وأغلب الصفات التي يضفيها الكاتب على جلجامش تعكس بشكل أساس الصفات الإلهية بصورة شاملة. ولكن صفة واحدة فقط يحددها وتؤكد بما لا يقبل اللبس الطبيعة البشرية للثلث الباقي، وكونه هو المتغلب رغم قلته الكمية. وتفوق الثلث البشري هذا يثبت أن لا فائدة من هذين الثلثين الإلهيين اللذين لا تزيد كل صفاتهما مجتمعة عن أن تكون صفات بشرية مختلفة في الدرجة وليس في النوع. وهذه الصفة المفردة الوحيدة ترسم الحد الفاصل بين الله والإنسان، وبين الأرض والسماء. وهذه الصفة هي: الخلود. جاء ذلك في البيت التاسع والثلاثين من الملحمة:
(هو الذي سعى لينال الحياة الخالدة).
وهنا يكون تساؤلنا مشروعا: ترى ما هي فائدة الثلثين الإلهيين في جسد جلجامش إن لم يوفرا له الخلود ؟
عودة:
ومن المنطلق نفسه يلح علينا تساؤل عن جدوى تخصص لروايتنا بعلم الجينات – المورّثات. وليس عبثا أن الكاتب اختار لبطله مثل هذا التخصص. فالمورّثات هي المسؤولة عن تكامل الإنسان الجسدي وعلوّ أدائه الوظيفي وطول الشوط الذي يقطعه في حياته، وهي التي يُنتظر منها – بعد البدء بفك ألغاز الشجرة الوراثية – أن تفك لغز الحياة والموت. لكن مازلنا نموت، ومادمنا قد أُخذنا رهينة بيدي المثكل ليس كأفراد حسب بل كنوع بشري بأكمله، فإن تلك التساؤلات ستمتد لتشمل جدوى كل ما أنجزه وينجزه «بطلنا « كممثل لنا في الرواية، هو نفسه يطلق تلك التساؤلات المقلقة:
(تذكّر بعض سنواته برضا وأخرى بأسف، فقد سافر إلى كل مكان، ووصل إلى تخوم العالم، ورأى كل شيء (تذكر أن الملحمة اسمها: هو الذي رأى – الناقد) وحصل على أعلى درجاته العلمية بنجاح، دكتوراه في علم الجينات، من لوس أنجلوس، تعرّف خلالها على أسرار وخفايا ونظريات، ووجد فيها حكمة العالم رغم عجزها عن تقديم أي حل للبشرية – ص 7).
لكن يمكننا تقليب الأمر على وجه تحليلي آخر فنقول أن نبوغ بطلنا و«اختياره» لعلم المورثات وتفوقه فيه، جاء مساقا بـ «حتمية» لاشعورية هاجسها السيطرة على قلق الموت المؤرق. بل أن هذه الهواجس قد انغرست في روحه بفعل اختيار «عشوائي « أسسه معلم الإبتدائية حين طلب من جلال – وهو اسم بطلنا ولاحظ التوازي في جرس الإسم مع اسم جلجامش – أن يمثل دور جلجامش ومن أنور – صديق طفولته – أن يمثل دور أنكيدو في مسرحية عن جلجامش. منذ الطفولة ترسخت التطلعات الخلودية ومع النمو المعرفي تصاعدت تساؤلاتها الحارقة. التساؤلات الخلودية التي تعبّر عن نضج الشخصية هي التي استولت على ذهن بطلنا. فهو لا يستطيع العيش ببلادة مثل كثيرين أدق وصف لهم هو أنهم أنابيب تصل المطبخ بالمرحاض !! إن انهمامه بتاريخ بلاده «سواديا « – ولاحظ الذكاء في صياغة هذا الإسم الرمزي وعمق معانيه – وبثقل ما ورثه عن أسلافه من ميراث يثقل كتفي حاضره، هو تمظهر للإنهمام المتأصل في موضوعة الموت والحياة:
(وتساءل: لماذا يشعر بكل تلك الصعاب ؟ أو بالأحرى لماذا يضعها في طريقه ؟ ألا يمكن له أن يستمر في حياة باذخة دون تفكير وهم ؟ لمَ لا ؟ الملايين تعيش هكذا سعيدة غير منكدة. لماذا يصارع الثور بقرونه الحديدية ويضرب رأسه بالأسوار ؟ لماذا يمضي إلى التاريخ السحيق، ولا يتنعم بالحاضر ؟ – ص 8).
إن تساؤلات بطلنا المحيّرة وقلقه الممض الذي نغّص عليه عيشه الهاديء الرغيد يذكّرنا بقلب جلجامش اللائب. تسأل الإلهة (ننسون) أم جلجامش الإله (شمش) وتعاتبه لأنه لم يجعل ابنها ذا إرادة مستخذية مسالمة تبعد عنه مخاطر التساؤلات الوجودية الفاجعة: (علام أعطيت ولدي جلجامش قلبا مضطربا لا يستقر ؟). لكننا في واقع الحال أمام مقلوب حالة جلجامش – الجد الأسطوري لبطلنا. فجلجامش أدرك فزعا أنه هش وقابل للموت بعد أن إنخلع جزء من أناه الشخصي ممثلا بموت خلّه وصاحبه.. وهو قد تأكد بعد أن فشلت محاولته في الحصول على الخلود، بأن لا سبيل لديه للظفر على المثكل إلا بالكلمة والحجر حسب تعبير «صلاح عبد الصبور «، فكتب الشاعر المجهول ملحمته الخالدة وأعلى أسوار أوروك. حاول جلجامش الإنتصار على الموت بعد أن ثبت أمامه وبصورة لا لبس فيها أن من المستحيل أن يلغي المسافة بين الأرض والسماء ؛ بين الإنسان والله. لكن بطل شاكر نوري – وبعد أسفاره ونبوغه العلمي و«رؤيته كل شيء» كمنافذ «خلودية» يعود ليتساءل في نهاية شوط حياة مفعمة بالإنجاز ولم تثقلها الخيبات، وعند نقطة هي بداية شوط جلجامش. وهو ضمن مساعيه اللائبة للرد على التساؤل الأول والأخير في حياة أي إنسان: لماذا أموت ؟ والذي يترتب عليه لقاؤه مع مسعى جلجامش الخلودي الذي يستند إلى تساؤل آخر هائل الأبعاد وهو: كيف يتسنى لي أن لا أموت ؟:
(واختطفته على الفور الفكرة الجذابة، تلك النظرية التي لم يهدأ من التفكير بها ليل نهار، وربما بعدد المرات التي يتبوّل فيها ليلا ونهارا. وقفزت إلى ذهنه تلك النظرية التي طالما حلم بتحقيقها ولكن عبثا: ماذا يحدث لو تمّ تلقيح جينات إنسانية مع جينات إلهية مختبريا ؟ طار من مكانه صارخا بأعلى صوته: ستكون النتيجة: كائن ثلثه إنسان وثلثاه إله ! – ص 9).
ومن خلال الإقتباس السابق يظهر أن هاجس الخلود ليس جديدا على منظومة بطلنا الفكرية والحياتية وانشغالاته الوجودية. إنها همّ أصيل وحلم مستحيل استولى على وجوده. هذا الحلم الذي صرخ به سمعه زميل له في المختبر وقام بنقله إلى مدير المختبر الذي دعاه بصورة مفاجئة إلى عشاء في أحد الفنادق الفاخرة وعرض عليه أن يأتي بهذه الوصفة: «الكائن الذي ثلثه إنسان وثلثاه إله». واقترح عليه أيضا أن يبعثه المختبر على حسابه إلى بلاده «سواديا» ليأتي بالمعلومات عن تلك الوصفة. لكن هناك بون شاسع بين نوايا الطرفين، فمن ناحية «جلال» يضغط هاجس الخلود المجرّد الذي يلوب في أعماق لاشعوره الفردي بفعل الشعور بتهديد الموت والذي أشعله عسر البول الذي يثير بصورة لا واعية مخاوف الإنخصاء التي تجذرت في الوجدان الطفلي، ولاشعوره الجمعي مخزونا فيه ضمن تركة أسطورية ووجودية ثقيلة وممارسات طقوسية اجتماعية هيمنة حضور الموت الخاصي لكل وجود نهائيا. يقابله هاجس مدير المختبر المصلحي الذي يفرضه أمن البلد الذي يعمل فيه جلال، وحسب تعبير الأول: «هذه الوصفة تخصّ أمن بلدنا، كما تعلم، فصراعنا الآن هو: كيف يستطيع الإنسان أن يمدّ عمره أطول مدة ممكنة، فما بالك بالخلود ؟ – ص 10 «. وقد بزغ إلى ذهني – كقارئ وفورا – ذلك الخبر الصاعق الذي نشرته جريدة العرب اللندنية في عام 2002 عن شراء الولايات المتحدة الأمريكية (17) ألف جنين مجمّد من كوريا الجنوبية التي تبيح الإجهاض لإجراء تجارب تهدف إلى «خلق « مقاتل لا يشعر بالألم. وقد ينجرف القاريء في تيار أجواء الرواية التي تدغدغ النزوع الخلودي القائم في نفس كل إنسان يرزح تحت مطارق الفناء، فلا ينتبه لثغرة تتعلق بالكيفية التي سيحصل من خلالها الباحث على جينات الآلهة !!. إن الحل يتمثل في جينات أبناء سواديا الذين سيتحولون إلى فئران مختبرية إذا وافق جلال على مقترح مديره، ولكنه لم يستطع إعلان رفضه لأن المختبر مراقب من أعلى الجهات الرسمية وقد يكلفه الرفض لا فقدان وظيفته التي أمضى فيها أكثر من عشرين عاما حسب، بل طرده من البلاد. إن النزوع الخلودي الذي يمور في أعماق كل إنسان يجعل كلا منا عرضة للـ «تنويم» بالأطروحات المغيبة للعملية الإبداعية التي تدغدغ خاصرة الأماني الخلودية الضالة. فالإنسان – نفسيا – يكون بحاجة إلى نوع من الخلود الرمزي ومن الشعور بوجود تاريخي خارج مدى الحياة الفردية المحدود. إحساس بالسيطرة على قلق الموت – death anxiety وتهديده. والإنسان، أي إنسان، يعبّر عادة عن هذه الحاجة للخلود الرمزي من خلال خمسة أشكال حسب (لفتون وأولسون) وهي:
– الخلود البايولوجي الذي يتضمن الإمتداد في خلايا الأبناء والأحفاد (تأكيد ديمومة واستمرارية الخلايا الجنسية).
– الخلود اللاهوتي ويتضمن الرموز الدينية والفلسفية لحياة ما بعد الموت.
– الخلود الطبيعي من خلال ديمومة الطبيعة:(من التراب جئت وإلى التراب تعود). – الخلود الإجرائي ويشمل شعور الفرد بالصحة والسعادة لكونه حيا ويركز على المشاركة الكاملة في كل ما تمنحه الحياة والعيش بصورة أكبر في الحاضر.
– الخلود الإبداعي الذي يتيح للبشر الإمتداد والديمومة من خلال الفن والأدب والإنجازات البارزة في حياتهم.
وأغلب هذه الأنواع من المساعي الباهظة في مقاومة الفناء الحتمي يمكن أن يجمعها عمل إبداعي واحد – وهذا ما سنراه لاحقا -، فيغيّب انتباهة المتلقي عن التقاط المفاتيح «الموضوعية» الحاكمة التي يؤسس عليها المبدع أطروحاته.
مع طلب مدير المختبر من بطلنا أن يسافر إلى بلاده «سواديا» للحصول على معلومات عن «وصفة» الخلود، وحيرة الأخير بين الرفض والقبول، تأتيه برقية من ممرضة اسمها «زهرة « تعمل بمستشفى بباريس تخبره أن صديقه «أنور» قد مات في المستشفى وترك له وصية يطلب فيها أن يدفنه في بلدهما «سوادي». تقول الوصية – والوصية يفتحها محام يتكفل بالإجراءات القانونية -: «كل ما أطلبه منك أن تقوم بنقل جثتي، وتعمل على دفني في بلدنا «سواديا». لا أريد أن أدفن في بلاد الغربة، بل أعانق الأرض التي ولدت فيها. لا تحزن. الموت حق.. أو هكذا علمتنا الكتب السماوية منذ الصغر، وحفظناها عن ظهر قلب دون أن نعي معانيها. لقد رتبت كافة الأمور المالية لهذا الغرض لأنني لا أريد أن أرهقك بموتي بعد أن أرهقتك بحياتي. لا تنس أن تودّع بالنيابة عني صديقنا سرمد – ص 11و12».
يأتي نبأ موت أنور كعامل مضاف على الهيمنة المستبدة للموت على الحياة ولتشعل، أيضا، وبصورة مضاعفة مخاوف جلال المتأصلة من الفناء المحقق. والآن ستطفو هذه المخاوف بصورة مؤكدة بعد أن اجتث منجل المثكل الباشط واحدا من أعز أصدقائه. إن مشكلة جلجامش كانت تكمن في أنه قد «رأى كل شيء» وعرف حقيقة جميع الأشياء ولكنه لم ير ولم يعرف شيئا بسيطا واحدا هو أشد الحقائق خطورة في حياته ألا وهو الشيء المتعلق بمصيره هو شخصيا. وهذا هو جوهر المحنة التي تحكم حياة كل إنسان وتتمثل في عدم إدراكه، أو إنكاره لإدراك حقيقة أنه حيوان يموت. وجلجامش (المظلة العظمى.. وحامي أتباعه من الرجال) كما تصفه الملحمة، لا يختلف قدره عن قدر أي تابع حقير من أتباعه (مات فرويد مثلما مات بائع النفط في نهاية شارعنا في حي الأمين). حتى الحجر الأصم التافه الذي نقش جلجامش عليه أسطورته هو أكثر خلودا منه. لكن المشكلة تتمثل لدى جلجامش مثلما هو الحال لدى جلال في أن في كلّ منهما يسكن إنسان عصور ما قبل التاريخ دون أن يتغير «هذا الإنسان – كما يقول معلم فيينا – الذي كان موقفه متميزا للغاية إزاء الموت. ولقد كان موقفا بعيدا عن التماسك، وكان حقا موقفا متناقضا. فهو من ناحية كان يأخذ الموت مأخذ الجد ويدركه على اعتبار أنه ختام الحياة، وكان يستخدمه لهذه الغاية، ومن ناحية أخرى فإنه كان يُنكر الموت ويردّه إلى عدم.. وهو في الشق الثاني من موقفه يعبر عن طبيعة لاشعورنا الذي لا يعتقد بموته هو «رغم أنه يقرّ بموت الآخرين. فمتى انقشعت عن بصيرة جلجامش تأثيرات سكرة الحياة ولطمته فكرة الموت العاتية ؟ عندما شعر بأنه مشروع للموت، وذلك حينما اهتزّت أركان أناه بموت أنكيدو خلّه وصاحبه حيث انخلع جزء من أناه الشخصي:
من أجل أنكيدو خلّه وصاحبه بكى جلجامش بكاء مرّا/ وهام على وجهه في الصحارى/ وصار يناجي نفسه:
إذا ما متّ أفلا يكون مصيري مثل أنكيدو ؟/ لقد حلّ الحزن والاسى بجسمي/ خفت من الموت، وها أنا أهيم في البوادي)
وهذا ما شكله أيضا موت أنور صديق جلال. لقد أوغل في وضعه على طريق الصحوة الصادمة المخيفة. ولكن مثلما جعل موت أنكيدو صديق جلجامش الأخير يندفع في عمل بطولي هائل غيّر حياته جذريا، فإن موت أنور صديق جلال جعل الأخير ليس من خلال إخلاصه في تنفيذ وصية صديقه حسب بل من خلال سعيه الملتهب واليائس لكشف لغز حياته. فقد هبطت عليه البرقية (مثل رسالة ربانية، جاءت من إله غامض، في زمن ولّت منه المعجزات، كلمات ضئيلة تمارس كلّ هذا السحر عليه، وتقذف به إلى حياة بعيدة فارقها بملء إرادته، فاته الكثير، وأنفق سنوات طويلة في سراديب المختبر المظلمة، دون أن يعثر على لغز حياته – ص 12).
وحين نقارن بين ردتي فعل الإثنين ؛ جلجامش وجلال، على موت صديق لكل منهما، فسنجد جلجامش يصاب بالرعب والإنهيار المدوّي لـ «بطل» يعلن بلا تردد: «خفت من الموت»، ويتردى حاله أمام جثمان خلّه: (كاللبوءة التي اختطف منها أشبالها.. صار يروح ويجيء أمام الفراش وينظر إليه.. وينتف شعره ويرميه إلى الأرض… خالعاً ورامياً ملابس جسمه الجميلة كأنها أشياء نجسة) ويدخل حالة سوداوية شديدة الأذى تتميز بحزن قاتل: (إني أبكي على صديقي أنكيدو، أبكي بصوت عال كالمرأة المنتحبة حزناً عليه) و(أنا من بعدك سأجعل جسمي يُملأ بالقروح.. وألبس جلد الكلب وأجوب البرية)، في حين نجد أن ردة فعل جلال جاءت «معقلنة» بدرجة أكبر، وذات طابع تأملّي إذا جاز التعبير وذات مسحة «نفعية» نفسية شخصية. لقد بكى قليلا وتألم على رحيل صاحبه بفعل السرطان ولكنه «تصافق» مع مدير المختبر بوعي ليوصل جثة صاحبه إلى وطنه «سواديا « ويبحث عن وصفة الخلود لإدارة المختبر التي ستتحمل الوقت والمال المطلوبين. ولكنها أعادت أيضا ذكرى علاقته بأنور وسرمد، صديقي عمره. ولكن الذكرى التي بزغت في فضاء ذاكرته كان لها معنى رمزي لا ينفصل عن سياقات تأويلاتنا السابقة، والتي تؤكد ثوابت البنية اللاشعورية لجلال في عواملها الحاكمة، فمن دون كل محتويات ذاكرته الهائلة قفزت ذكرى سهرة الشراب الثقيلة التي أمضاها مع صديقيه، وكيف شعر بإفراط في مفاصله ومثانته، ففتح أزرار سرواله وبال وهو واقف، ليقرأ على الجدار العاري عبارة «البول للحمير». وفي مناورتين: الأولى ساخرة حين يضحك منه أنور وسرمد ويقولا له: لست أنت المقصود بهذه العبارة، والثانية جادة وتهكمية حين يبرر بوله واقفا في الشارع: بلده الذي علم البشرية الأبجدية، لا توجد فيه مباول نظامية !!، فإنه يحاول إبعاد مركز انتباهتنا التحليلية عن أن هذه الذكرى، ترتبط بمحنة عسر البول التي استهل بها الكاتب روايته، ولا يمكن إلا أن نضع استنتاجا مفاده أن الهيام بالوظيفة القضيبية كمكافئ للخوف من الإنخصاء كان قديما لدى جلال. لكن اللاشعور الفردي – الذي يقرّ بموت غيره ولا يقرّ بفنائه الشخصي – قادر على الإلتفاف على أي معضلة وتمويهها وإخراجها بصورة خلاقة تغرّب جذرها الأصلي. لقد كان جلجامش في حقيقته الداخلية مرعوبا من الموت، وجاء موت أنكيدو ليثبّت أسس هذا الرعب ويكشفها أكثر وأكثر فانطلق وبفعل رعبه من الفناء إلى البحث عن عشبة الخلود. لكن جلال يرى أن موت أنور ووصيته قد أعادت له فكرة التحدي الوجودي القديمة وفق المعادلة الشكسبيرية في هملت: أكون أو لا أكون. وهناك فارق خطير بين رحلتي جلال وجلجامش، فالأخير دفن صاحبه بعد أن عطّله حتى تفسخ وخرج الدود من أنفه لينطلق في سفر الخلود المحبط، أما الأول فقد تقبل موت صديقه وانطلق في رحلة المخاطر الجسيمة لتنفيذ وصيته ودفنه في أرض بلاده:
«شعرت بعدم تنفيذها أخون صديقا لا تزال كلمات وصيته ترن في أذني.. بل أكثر من ذلك، جعلتني وصيته أقف أمام نفسي لأتخلص من الأفعال التافهة التي أقوم بها يوميا، حتى وجدت نفسي خجلا أمام جسده المنطفيء كما لو أنني كنت الجثة وهو الحي. لذا كان عليّ أن أحمل جثته على كتفي لأعبر بها إلى الضفة الأخرى من المحيط، وبالأحرى أحمل روحه قبل جسده إلى الأرض التي طالما عشقناها سوية – ص 20).
لقد وجد مبررا أصيلا يملأ حياته بطمأنينة – رغم أنها قلقة – ترتكز على باعث الوفاء الإنساني والتضحية التي توضع الآن على المحك، وذلك للقيام برحلة الأهوال، والتي كانت خطوتها الأولى إلى باريس حيث جثة صديقه التي لزاما عليه استلامها ونقلها إلى «سواديا». ومع الخطوة الأولى في باريس، ومنها، يبدأ شاكر نوري بتوظيف معرفته الموسوعية في مجالات علم النفس والأنثربولوجيا والسينما والحياة الغربية الحاضرة مما منحته له حياة خصبة ومدهشة استثمر كل لحظة فيها من أجل الثراء المعرفي والحياتي السلوكي. والروائي بحاجة ماسة تماما إلى المعرفة الموسوعية، وكنت أقول دائما ومازلت أعيد القول: أن القصة القصيرة فن، ولكن الرواية علم. وهذا العلم يتطلب أولا معرفة لا بأصوله السردية الفنية، بل بـ «مادته» التي هي الحياة كلّها. قرأ فلوبير (1500) كتاب ليتهيأ لكتابة روايته: «بيكوشيه». يستمر شاكر في استخدام ضمير المتكلم في هذا القسم (الثالث) بعد أن استخدمه منذ القسم الثاني، ومنتقلا من استخدام ضمير الغائب – ولا أدري كيف يكون غائبا وشاكر جعله كامل الحضور – في القسم الأول. يلتقي الراوي بالممرضة زهرة التي عاشت اللحظات الأخيرة من حياة صديقه أنور قبل أن يموت نازفا من كل مكان من جسمه بسبب السرطان الخبيث المنتشر. وفي لمحات سريعة ينقل لنا صورة مؤذية عن مهانة الإنسان في ظل حضارتنا المعاصرة. فالطبيب المناوب لم يكن يمتلك وقتا يتيح له أن يقلّب أوراق أنور. وبسبب تعثره في قراءة اسمه العربي سجل تحت اسمه «المدعو جثّة» من أجل الإسراع في نقله إلى ثلاجة الموتى، وإخلاء السرير لمريض غيره لتدوم حركة آلة تفريخ الأرباح. ولو عدنا إلى الارتكاز على محور المقارنات الإيحائية الحتمية بين الملحمة الأصلية التي حملت الرواية اسم بطلها وبين تفصيلات دلالات الرواية – أفكارا وشخوصا ورموزا – فسنجد تمظهرا أولا لـ «سيدوري» صاحبة الحانة المؤمنة بأن الآلهة قد رسمت لنفسها الخلود، وكتبت على البشر الفناء، وأن على الإنسان أن يقرّ بهذه الحقيقة القاسية. قالت سيدوري ومعنى اسمها هو «الشباب الدائم» لجلجامش:
(إلى أين تسعى يا جلجامش/ إن الحياة التي تبغي لن تجد/ حينما خلقت الآلهة العظام البشر/ قدرت الموت على البشرية/ واستأثرت
هي بالحياة/ أما أنت يا جلجامش فليكن كرشك مليئا على الدوام
وارقص والعب مساء نهار/ ودلّل الصغير الذي يمسك يدك
وأفرح الزوجة التي بين أحضانك/ وهذا هو نصيب البشرية).
وزهرة الممرضة تدعو جلال لأن لا يرتعب من الموت ولا يحنق على وصف «المدعو جثة» فـ«كل الموتى هم جثث في نهاية المطاف». وحين تدعوه لأن يُلقي نظرة على جثة صديقه يصاب بالذعر.. لكنها تتقدمه بعزم نحو ثلاجة الموتى – وهنا تطفح غريزة الحياة فيرصد رشاقتها وإثارة مشيتها وكأننا بالحالات التي تنتفض فيها غريزة الحياة بين يدي الموت مثل الانتعاظ الذي يحصل لدى الجنود في المعارك الحربية الدامية – ورغم أنها تجهش في البكاء وهي تستعيد اللحظات الأخيرة من رحيل أنور المأساوي إلا أنها لم تكن مرعوبة كما قد نتوقع.. صحيح أن التبليد – desensitization النفسي من خلال أن المريض الذي تتحدث معه في الصباح قد تنقله جثة هامدة في المساء، وذلك بفعل طبيعة عملها، قد يكون له أثر في اللاإكتراثية السطحية التي تظهر في استجابة زهرة في تعاملها مع موضوعة الموت، ولكن لمسات الكاتب الإحيائية و(السحرية) التي تتفق مع أصل ثقافة زهرة الشرقي يضعنا في موقع «جمالي» و«فلسفي» في التعاطي مع الثكل:
(لماذا تخاف من الموت هكذا ؟ نحن اعتدنا عليه، فمن المألوف أن نتحدث مع مريض في الصباح وننقله كجثة هامدة إلى الثلاجة في المساء ولكننا نستمر في مخاطبته كما لو كان حيا، بل نمزح معه حتى بعد الموت، وغالبا ما يرد علينا بابتسامة–ص 24).
وحين يعلن جلال عن دهشته وعدم تصديقه لما تقوله الممرضة، تسأله بدورها:
(ولمَ لا ؟ هذه أشياء تحدث، بل إن بعضهم ينهض من الموت ويتشافى ويواصل الحياة سنوات أخرى، فلا تتعجب – ص 24).
إن ما يجسده الكاتب هو – من جديد – مقلوب حالة «سيدوري « في علاقتها مع جلجامش، فالأخير لم يقنع بتفسيرات و«فلسفة» سيدوري في نظرتها إلى الحياة والموت، والفارق بين الآلهة والبشر، لكن الراوي يفكر بذاته، بالمهانة والإستخفاف المذل بمصيره من خلال الإستهانة بمصير صديقه. تصف زهرة كيف كان أنور يبتسم والسرطان ينهش جسمه كالدود الأعمى، وكيف كان يريد البوح بأحلامه في حين أن أناسا في حالته المرضية لا يرون سوى الكوابيس !!. هذا يخالف حالة أنكيدو الذي كان يبكي رعبا حينما اقترب منه أخّاذ الأرواح: (لقد أخذ بخناقي، حتى خمدت أنفاسي). إننا نقف – مع تخطيط الكاتب التفصيلي والمحكم – على توريات واستعارات وتوازيات شديدة الدهاء تحاول تسفيه ما وصلنا من ميراث جاهز لم ينتفع به أحد من خلال تأويله العلمي المقتدر الذي لا يعني نفض أيدينا من نزوع الأسطرة الذي هو نزوع إنساني تماما حتى أنه يكاد يكون أشبه بالغريزة كسلوك غير متعلم. تقول زهرة:
(صدقني رأيت روحه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، تخرج من جسده مثل غيمة ناصعة البياض، تُهشم زجاج النافذة، وتخترقه إلى السماء. لم يصدق الفريق الطبي ذلك باستثناء ممرضة أفريقية – ص 28).
جزء من دراسة طويلة
حسين سرمك حسن
ناقد عراقي مقيم في دمشق