لم يكن منزلي كبيراً، بل كان متواضعاً، متهالكاً إلى حد ما، يقبع في حارة تتوسط العاصمة، تراكمت بيوتها بشكل عشوائي عبر السنوات الثلاثين الماضية. لكن كان هناك شيء يميز هذا المنزل عن غيره في الحارة، بل وعن أي بيت من بيوت العاصمة، فقد كان في حديقته الصغيرة بعض الزهور التي جهدتْ في البقاء على قيد الحياة، وشجرة وحيدة تأكد لي مؤخراً، بكثير من الدهشة والإعجاب، أنها كانت أطول شجرة في عاصمة البلاد.
لطالما كنت أعرف أن شجرة منزلنا عالية جداً، أستطيع أن أميزها من مدخل الحارة أو حتى من مسافات بعيدة. وكم قد خضت من معارك حامية مع جيراني دفاعاً عن وجودها! كنت في بعض الأحيان أهادنهم بالوعد أن أقطعها في أقرب وقت حتى أمتص غضبهم الجماعي، وفي أحيان أخرى كنتُ أقوم بأعمال تهدئ من نقمتهم عليّ؛ كأن أساعدهم في تنظيف أسطح منازلهم من أوراقها وفروعها اليابسة التي كانوا يدعون أنها تسد منافذ الميازيب، خاصة في مواسم المطر القليلة. وفي حالات أخرى كنتُ مضطراً أن أدفع أجرة العامل الذي يستأجره جاري لقطع جذورها الممتدة إلى فناء منزله… جاري رجلٌ طيب لكنه كان قد جعل من الشجرة عدوته اللدود، فهو لا يكل ولا يمل من الشكوى والتذمر مما تسببه شجرتي من أضرار على أساسات منزله، على الرغم من بعدها عن جدران السور المرتفع بيني وبينه. لم أكن أدري من أين جاءت هذه العداوة التي يظهرها الجميع للشجرة، رغم أنها كانت الوحيدة التي يمكن أن تراها في حارتنا المقفرة! لكأن خضرتها تصيبهم بنوع من الهستيريا التي لا أفهمها، أو ربما كانت هذه هي عادة سكان مدينتنا الأسمنتية، الذين لا يأبهون للأشجار التي تناقص عددها في الآونة الأخيرة بشكل مخيف من على وجه المدينة المثقلة بالغبار. سألت نفسي يوماً: كيف كان سيغدو الحال لو أنها كانت من تلك الأشجار التي تحدث إضراراً واضحة؟ فقد كانت شجرتي أثلة، والجميع يعرفون، بمن فيهم جيراني، أنها تغرس جذورها عمودياً في باطن الأرض ولا ضرر منها… لكن أياً من جيراني لم يكن ليتنازل عن غريزته العنيدة لقطع الأشجار، أياً كان نوعها.
كان صباحاً رائعاً من أيام أبريل الممطرة عندما فتحت باب المنزل خارجاً إلى العمل ليفاجئني أحد جيراني بتحية صباحية يشكو فيها من انسداد ميازيب بيته، مشيراً بأصابع الاتهام إلى قمة الشجرة التي بدت لي ذلك الصباح عالية جداً. حينها تبادرت إلى ذهني فكرة أنعشت آمالي؛ كانت شجرتي أطول شجرة رأيتها ربما في حياتي. حينها أغلقت باب المنزل بعجل متجاهلاً اقتراحات جاري الذي لم يتوقف، تحت زخات المطر، عن الحديث الذي كنت قد حفظته عن ظهر قلب، وقد عزمت على أمرٍ لمتُ نفسي كثيراً لعدم التفكير فيه من قبل: أن أقيس ارتفاع الشجرة. وما هي إلا أيام حتى تعرفت، عن طريق صديق في العمل، على مهندس مدني استطاع بعد عدة محاولات أن يكتب رقماً نهائياً لارتفاعها، بعد أن شرح لي كيف يمكنني أن أقيس ارتفاع الأشجار دون أن أتعرض لخطر تسلقها.
بعد ثلاثة أسابيع فقط، قضيتها في التجوال في شوارع المدينة وأحيائها، تمكنت من رصد جميع الأشجار العالية، وقد دهشت كم كانت قليلة، وكيف أن مدينتنا أصبحت صلعاء متهالكة…! وبعد أن قمت بقياس بعض الأشجار التي بدت لي الأكثر ارتفاعاً، حدث ما كنت أخافه، إذ تأكد لي أن شجرتي لم تكن أطول شجرة في المدينة. لم أكن مستاءً جداً، ذلك أنني بعد أن قارنت بدقة القياسات المختلفة التي دونتها في دفتر خاص، اكتشفت أن الأثلة التي نبتت منذ زمن طويل في حديقة منزلي المتواضع تأتي في المرتبة الثانية، بفارق مترين ونصف عن شجرة الكافور العملاقة التي كانت تغطي بظلالها حديقة السفارة الروسية الكائنة في حي «بير العزب».
ما زلت أتذكر كيف استطعت، بعد عناء كبير، أن أقنع القنصل الروسي بالسماح لي، ولصديق كان يساعدني، بقياس ارتفاع الأشجار العالية في فناء السفارة. لم يكن مقتنعاً في البداية، وكان الشك قد راوده في طلبي الغريب خاصة وأنني لم أكن مُرسلاً من أي جهة رسمية، لهذا لم يتردد في الاعتذار بشكل لا يخلو من صرامة وجدتها غير لائقة. في اليوم الثاني كان مزاج القنصل منشرحاً، وقد لانت طباعة، وهو يستقبلني مع صديقي في مكتبه، وقد أعجبه إصرارنا، حسب ما تخيلت، وأنا أشرح له كيف يمكن أن يقاس ارتفاع الأشجار بسرعة ودون أن نضطر إلى تسلق أيٍّ منها. عندما أكملنا قياس ارتفاع شجرة الكافور تلك أصبت بالإحباط، فقد كانت شجرتي حتى ذلك اليوم هي الأطول من بين جميع الأشجار التي قمت بقياس أطوالها، لكنها اليوم لم تعد كذلك، وتبخرت بعض الآمال التي كانت قد ترعرعت خلال الأيام الماضية. قلت لهم بشيء من الحزن إنهم يملكون أطول شجرة في المدينة. لم تكن المعلومة ذات أهمية بالنسبة لهم، ومع ذلك شكرنا القنصل بدبلوماسية تعود عليها محاولاً أن يخفي ما ارتسم على وجهه من علامات السخرية، ولم ينس أن يهدينا بعض التقاويم الروسية وكتيبات سياحية قديمة.
مع مرور الأيام ازداد تعلقي بالشجرة، حتى أنني أصبحت مهووساً بها كما قالت لي زوجتي في أحد الأيام، خاصة عندما شاهدتني وأنا أوصي أولادي الصغار بهذه الشجرة مخافة أن أموت فتقطع… لم يرق لها هذا المشهد مخافة أن أصيبهم بقلقٍ لا داعي له، والذي ربما كان قد أصابها وقد وجدتني أهمل بعض شؤوني منصرفاً لقياس ارتفاع الأشجار التي كنت أبحث عنها بدأب في ضواحي العاصمة.
بعد ذلك بعام تقريباً، مرت عليّ أيامه برتابة كئيبة، جاء صديقي ليخبرني، وقد تملكته حماسة شديدة، أن شجرة الكافور التي كانت في فناء السفارة الروسية قد قطعت. أخبرني كيف أنه استنتج ذلك عن طريق مشاهدته لخريطة جوية استخرجها من الانترنت للحي الذي تقع فيه السفارة الروسية. عندما أعطاني صورة الخريطة تيقنت أنه كان محقاً. كان مسبحاً ضخماً قد أنشئ حديثاً متوسطاً الركن الأيمن من الفناء الداخلي للسفارة، حيث كانت مجموعة الأشجار العملاقة، ومنها شجرة الكافور تلك، تمد ظلالها عليه. حينها أيقنت أن شجرتي قد أصبحت هي أطول شجرة في العاصمة، فصرخت بفرحة عظيمة، وتوقد في داخلي أمل قديم كان قد ذوى في رتابة الأيام الكئيبة.
في صباح اليوم التالي، توجهت إلى أمانة العاصمة، حاملاً بعض الأوراق التي اعتقدت أنها ستفيدني في ما كنت قد عقدت العزم عليه منذ مدة طويلة وهو تسجيل الشجرة رسمياً كأطول شجرة في المدينة. «ستأتي الصحافة حتماً عندما يصلها الخبر، وسيلتقطون الصور… وسيجرون معي مقابلة صحفية دون شك…!»، حدثت نفسي وقد بدأت الآمال تداعبني. «ربما تصبح مزاراً سياحياً يوماً ما…!»، هكذا ظلت الأحلام تطير بي بعيداً حتى وصلت إلى مقر أمانة العاصمة الرئيسي، الذي يحتل مبنى تاريخياً في قلب ميدان التحرير، بطراز معمار رائع، وفناء خلفي واسع أصلع تماماً لم تنبت فيه شجرة واحدة. شعرت بشيء من خيبة الأمل وقلت في نفسي: «وهل سيهتمون بشجرتي إذا كانوا لا يهتمون بتشجير حديقة المبنى؟». لكنني قررت أن أطرد هذه الأفكار من رأسي ودلفت بسرعة إلى داخل المبنى. كان الواقفون أمام البوابة قد تكرموا بإرشادي إلى الموظف المختص.
– صباح الخير!!
نظر إليّ موظفٌ في مقتبل العمر، جالساً على كرسي خلف مكتب حديدي بدا لي وكأن صروف دهر طويل قد مرت به… لم يرد التحية ونظر مرة أخرى إلى الجريدة الرسمية التي بين يديه…
– عفواً يا أخ…!
نظر إليّ من جديد:
– أيوه…!
شرحت له باختصار ماذا أريد… لم يفهم… عدت وكررت بتفصيل أكثر…
– معك شجرة طويلة تريد تسجيلها في سجلات الأمانة؟
قال ذلك وقد بانت على وجهه علامات دهشة لم تكتمل.
– أريد تسجيلها كأطول شجرة في العاصمة…
قلت له موضحاً، ثم أخرجت من حقيبتي بعض الأوراق وصورة للشجرة، وشرحت له من البداية كل شيء عارضاً عليه القياسات التي دونتها. وكان قد أخذ الصورة بين يديه ممعناً النظر إليها وقد أحسست أنه لم يكن يسمعني بانتباه… بعد لحظات من الصمت نظر إليّ من جديد قائلاً:
– وما هو المطلوب بالضبط…؟!
– أن تقوم الأمانة بتسجيل الشجرة رسمياً كونها أطول شجرة في العاصمة… !
أجبته بنبرة صوت مرتفعة قليلاً هذه المرة… ثم أضفت محاولاً جلب اهتمامه:
– يمكنكم التأكد من صحة القياسات إذا أحببتم.
قام الموظف من كرسيه ثم ضرب كفاً بكف… نظر إليّ نظرة لم أفهمها قبل أن يلتقط الجريدة من على المكتب مغادراً الغرفة دون أن يقول لي شيئاً… «كان معتوهاً دون شك…!»، قلت في نفسي، وقد أدركت أنه ربما لم يكن الموظف المختص بمثل هذه القضايا… «لكن كان بإمكانه أن يرشدني إلى المكان الصحيح بدلاً من تجاهلي بهذه الطريقة الغبية!»، حدثت نفسي وأنا أخرج من الغرفة أبحث عن شخص يمكنه مساعدتي، دون أن أعرف أنني سأمنى بهزيمة كبيرة ذلك اليوم الكارثي، وأن ذلك الموظف لم يكن معتوهاً بما فيه الكفاية مقارنة بزملائه الآخرين. أدركت تماماً ألا وجود لأي أمل بتسجيل الشجرة رسمياً، ذلك أن تسجيل قياسات من هذا النوع لم يكن جزءاً من اهتمام أي هيئة رسمية في البلاد… هذا إذا تجاهلنا سخرية الجميع حول اهتمامي بمثل هذا الأمر التافه حسب قول الكثيرين.
ليلة ذلك اليوم كنت مكتئباً إلى درجة أصابتي بحمى شديدة، ونمت متململاً وأنا أحلم بأطول شجرة في العالم، وكيف تسنى لمجموعة هواة أن يخترقوا إحدى غابات كاليفورنيا ليصلوا إليها… كانت «سيكويا» بارتفاع يصل إلى 112 متراً. كانت صورة تلك الشجرة، التي كنت قد وجدتها في الانترنت، لا تبارح مخيلتي المريضة. كانت زوجتي قلقة على صحتي، وحاولت صباح اليوم التالي منعي من الخروج، إلا أنني كنت قد صممتُ أن أعرض قضيتي للصحافة، فلابد أنها ستهتم بهذا الأمر، حتى وإن نشر الخبر في إحدى الملحقات السياحية الهزيلة التي تصدر أسبوعياً.
كنت أرتعش من الحمى وأنا أعرض لمدير تحرير الصحيفة القياسات التي قمت بها. لم يكن يصغي لحديثي المضطرب باهتمام إلا أنه كان يمعن بالصورة التي أمسكها في يده وقد أظهر اهتماماً واضحاً بها، بينما كانت أصابع يده الأخرى تحكم قبضتها على سيجارته التي أصابني دخانها بغثيان شديد. بعد فترة صمت أعاد لي الصورة وقد ابتسم ابتسامة بلهاء وهو ينظر لي من خلال نظارته الطبية… لم يقل شيئاً، بل حكَّ كرشه الكبير كثيراً قبل أن يلتفت إلى موظف كان قد دخل الغرفة بسرعة، ثم هتف به صارخاً:
– يا محمود….! انتظر… أريد سلفة… الأمر ضروري جداً!
كان هذا الـ»محمود» قد غادر الغرفة دون أن يعيره أي اهتمام، وما أن همَّ مدير التحرير باللحاق به حتى قفزت من مقعدي لأمسك بياقة قميصه وأشده نحوي بعنف. كانت فورة غضبي قد وصلت إلى حدودها القصوى وكنت حينها مستعداً لارتكاب أكبر الحماقات التي تخطر في بالي… كانت نظارته الطبية قد سقطت على الأرض، فقمت وأنا ما أزال ممسكاً بياقة قميصه بسحقها بقدمي المرتعشة… عندها فاجأني بلكمة قوية في وجهي ليبدأ شجار عنيف بالأيدي لم أعرف كيف انتهى… كل ما أعرفه هو أن زوجتي كانت توقظني وقد ارتسم الخوف على وجهها… استيقظتُ من حلمي مذعوراً… كنتُ في غرفة نومي، وكنتُ مبتلاً بالعرق… بعد لحظات استعدت وعيي وأدركت أنني كنت أحلم… طمأنتُ زوجتي وطلبتُ منها بعض الماء… هرولتْ خارجة وهي تقرأ المعوذات، بينما جلستُ على سريري وأنا أفكر بصمت… لقد كان كل شيء يبدو حقيقياً… شعرتُ أن الحمى كانت قد انقشعت أخيراً.
بعدها بساعات جائني أحد أبنائي ليخبرني أن جارنا يريد رؤيتي… لقد جاء ليطمئن على صحتي بعد أن سمع بمرضي… لم يمكث طويلاً… شكرته على زيارته، وخرجت معه لأودعه، وفكري لا يزال منشغلاً بذلك الحلم الذي ربما كان أطول حلم مرَّ بي في حياتي، والذي عشت كل تفاصيله بوضوح عجيب. مررنا بحديقة منزلي وأنا أنظر إلى تلك الزهور التي جهدتْ في البقاء على قيد الحياة، وبجانبها الأثلة الصغيرة والوحيدة التي زرعتها قبل فترة قصيرة… ودعتُ جاري، لكنه قبل أن يخرج، أشار بإصبعه نحو الأثلة، وقال لي:
– بالمناسبة… لقد قالوا لي إنك زرعتَ أثلة في فناء المنزل… لكنني لم أصدق…
– بلى… منذ أسبوعين…
حينها نظر إليّ بعتاب شديد قبل أن يقول بجدية مصطنعة:
– أرجو منك أن تقطعها… فسوف تؤثر كثيراً على أساسات بيتك..!
ثم أضاف بحرج ملحوظ:
– وبيتي أيضاً… لا يمكن أن ترضى لي بالضرر… أنا متأكد من ذلك…
ابتسمت له، ولزمتُ الصمت لفترة قصيرة قبل أن تتطور ابتسامتي إلى ما يشبه الضحك، قائلاً له:
– سأفكر في الموضوع… إن شاء الله خير…
ودعته مرة أخرى، وأقفلت الباب وراءه عائداً إلى المنزل وقد أيقنت أن سنوات طويلة من العراك تنتظرني…