(1)
بعد دهر مضى، ذهبت الى مكتب البريد. كم سنة لم آت إلى هنا؟ مع ذلك لم يتغير شيء. الأبواب نفسها، بنفس الأعطاب والثقوب. مواقف السيارات خاوية، والشعور بأن المكان مهجور، هو نفسه. على هامش البريد، ثمة مقبرة بسفح جبل تطل بشواهدها، وكأنها تحرس المكان، كأنها تراقب البريد، رسائله التي لا تأتي ولا تذهب. هي نفس المقبرة ونفس الشواهد والقبور. ملعب كرة القدم والدكاكين المهجورة. لم يكن لدي مفتاح البريد فقد ضاع منذ زمن، ولكني دخلت معتمدا ومطمئنا لطيبة الموظف. وبالفعل، وبمجرد أن أخبرته عن رقم صندوق البريد، ومن غير أن أطالعه ببطاقتي المدنية، قام ليحضر الرسائل. كأنه عاش لينتظر من يسأله الرسائل. كانت كومة كبيرة. فواتير ومناشير إعلانية ورسائل مشفرة بأرقام البنوك.. عبثت بها، قلبتها إضبارة بعد اخرى، مظروف بعد آخر، ثم تركتها على رف البريد المهمل وخرجت. لم تكن بينها الرسالة المنتظرة. سلمت على المقبرة القديمة ونظرت إلى الأرجاء الفسيحة والخاوية ثم دلفت إلى الشارع واختفيت وسط الغبار.
(2)
الصلاة التي تذهب الى الله غير الصلاة التي تأتي منه. الأولى مثل حقل نسقيه كل يوم ونترقب أوان الحصاد. أما الصلاة التي تأتي من الله، فمثلها مثل الثمرة اليانعة، تسقط من شجرة، نبتت وحيدة، في صحراء بعيدة، تسقط أمام طفل عطشان، عطشان كالرمل وجائع لدرجة أنه لا يعرف من أين أتى وإلى أين يسير، يأكل الثمرة، التي هي صلاة الله، فترويه من ظمأ وتشبعه من جوع وتعيد إليه الذاكرة ليمضي من جديد.
(3)
ماذا يفعل الولد بجنب الشباك؟
– ماذا تفعل عندك؟ (تسأله امه)
لا يتحرك
يداه على الإطار وعيناه مرسلتان إلى الخارج.
– ما الذي تفعله هناك، ألا جئت إليَّ قليلا؟
(أخته الكبرى تسأله) وهو كما هو، لا يتحرك ويظل ممسكا بيديه على الشباك.
– هلاّ جئت لحظة، ابنتك تعاندني. (تخاطبه زوجته) ولكن الرجل العالق بالشباك، يلتزم مكانه ولا ينقل ناظريه عن السديم الخارجي.
– يا جدي، ألن تأتي أخيرا؟ سيبرد العشاء! ولكنه يذوي في مكانه، خلف شبّاك حياته التي مرت ببطء وسرعة خاطفة.
(4)
يقول تشيخوف عن جيرانه القرويين الذين كانوا يزورونه يوميا في بيته الريفي، إنهم يبدأون حديثهم معه عن الأدب، ويتكلفون في ذلك أيما تكلف ويلحقهم العذاب من اختيار الكلمات الملائمة. وحتى يزيح الكرب عنهم، كان يبادرهم بالسؤال عن مهنهم، فإن كان الواحد منهم فلاحا، يجره إلى الحديث عن الفلاحة وحياضها، وإن كان حدادا فعن الحديد وميادينه،.. وهكذا. حينها – يقول تشيخوف – تهدأ نفوسهم وتنساب الأحاديث في ألسنتهم. وهكذا كان تشيخوف/ الطبيب والأديب، يشفي العلل بأنواعها.
(5)
حتى لو انهارت المدن كلها، ففي الذاكرة حائط لأطفالي، يلعبون ويتعلمون.
(6)
الحجر الذي ترميه في بحيرة الصمت، يعود ليشج رأسك.
(7)
دائما وأبدا، تحسس جيبك أو محفظتك او حقيبتك، المكان الذي تضع فيه أشياءك الثمينة، وتأكد من وجود عود الثقاب الأخير. اطمئن عليه، على شكله وجاهزيته. وحين يأتي وقت إحراق السفن، أشعله بلا تردد أو رحمة، فلذلك جُعل وقد حان وقته. بعدها يجب أن تحتفظ بعود ثقاب آخر وأخير أيضا. إنه قلبك ورهان حياتك.
(8)
على جسد اللغة يتسلق عربي اليوم. يزهق شهوته سريعا ويختبئ من النيران.
(9)
توفي سالم، المقهوي في (مطرح) وسوقها القديم. كان يأتي لشراء القهوة المحمسة من دكان أبي: أول دكان يستورد مطحنة دنمركية في السوق. وكان أبي يزرعني شهرا في دكانه أحيان سفره إلى الحج، للعبادة والتجارة. سالم كان زبونا اسبوعيا. يأتي بإبريقه المجمر ووجهه المحمس ليشتري مؤونته من القهوة. وعلى غير عادة المشترين، لم يكن يجادل في السعر. يقف هادئا إلى حين أن أزن له قهوته وأرميها في فم المطحنة. يأخذ كيسه ويناولني النقود البنية. بعد ذلك بسنين، بعد أن هرم والدي، ولم يعد قادرا لا على التجارة ولا على الحج، وبعد أن غادرت أنا مطحنة الدكان إلى مطحنة الحياة، كنت أرى العم سالم في سوق (مطرح) واستوقفه لأتذوق تلك القهوة… وكم كان بارعا في العزف على الفناجين.
(10)
لا تودع شاعرا، لا في مطار أو ميناء، لا في محطة ولا في مقبرة. لا تودع شمسا ولا ظلا في الجحيم.
(11)
قبل أن يعطي القائد أوامره بتنفيذ الهجوم على البلدة وتسويتها بالتراب، انتابته خاطرة لم يستطع التخلص منها بأي حال، وهي الدخول إلى البلدة وإلقاء نظرة أخيرة قبل أن يسري عليها حُكمُهُ. سار في طريقها المرصوف بالتراب والطوب القديم. ورأى الناس يتجولون في سوقها وينامون تحت ظل أشجارها. فقراء، بائسون وغافلون عما يدور حولهم، حتى أنهم لم يُستثاروا بقدوم الغريب، وتركوه يدخل شوارعهم مثلما تدخل الريح وتمرُ ظلال السحب. في طريق عودته، بعد أن ازداد يقينا بأن البلدة وسكانها، مجرد رتل من الرمل وأحجار تدْرُج فوقه، صادف صبية جميلة، عيناها مثل ينابيع الشمس وخدودها مرايا مزهرة. حدثته نفسه قائلة: إنها حورية تاهت عن الجنة وضلت طريقها في هذا الجحيم. بيد أنه، حين سألها عن أهلها وبيتها، أشارت إلى كوخ قريب، وإلى رجل يداعب امرأته على المدخل، فما كان منه إلا أن استشاط غضبا ولطم الصبية على وجهها، وفي الحال انصرف خارجا. لم يعبأ الأبوان بصياح الابنة، ولم يصدقاها حين اتهمت الغريب بصفعها فالغرباء حسب ظنهم: «بشر مثلنا ولهم أخلاقهم كما هي عندنا». وصل القائد إلى كتيبته المتأهبة وهو يهمهم كالمجنون: إنها كاذبة ومخادعة بل جنية أرسلتها الشياطين لتثنيني عن واجبي المقدس… ومن بعيد رفع إشارة الهجوم. ما هي إلا برهة حتى اختفت القرية من على وجه الأرض، ببيوتها وبناسها وبالأخلاق.
(12)
يقولون عن العلاقة بين الكتابة والفن التشكيلي، وهذا أمر مؤكد، فالرسم والكتابة/القراءة، يتقاطعان ويتفاعلان في مجال البصر. في عملية الكتابة، تتضح تلك العلاقة أكثر حين يخصص الكاتب مقاطع من نصه لعملية الوصف، والوصف المجرد أحيانا؛ أي أنه (مثلا) ينغمس في وصف: «شجرة تلقي بظلها على الأرض بينما الثمار اليابسة تختلط بالتراب وكأن الفصول لم تمر من هنا»… هذه علاقة طبيعية ومثمرة. ولكن الجفاف الكتابي يظهر ويتسطح على صفحات النص، حين يبتعد الكاتب عن اللغة، وينقطع عن أصواتها، ويتعب من دروبها، ومن ثم يلجأ إلى خدعة مفضوحة وهي تحويل ما يكتبه الى مجرد «رسم»، أو إلى رسم «مجرد». ها هنا تختل العلاقة بين الكتابة والفن التشكيلي. ذلك لأن الكاتب تطفل كثيرا، وتخطى الكتابة إلى مجال قريب منها، ولكنه مختلف وخاص، فاختلطت عليه خطوط التشكيل بحروف الكتابة. لقد استبدل اللون بالحبر، حين عجز عن تلوين الحبر، وزاحم اللغة بشيء آخر.
(13)
إذا رمتك الكتابة بحجر وأدمت جبينك، فاثبت وتقدم لتواجه القادم. الكتابة حجر قبل أن تكون حبرا، وإن لم تستطع التعامل مع الأحجار يا صاح، فبناؤك متداع وأوراقك فارغة.
(14)
أعرف رجلا نظم الشعر ولكنه لم يخطه على ورق، اكتفى فقط بوضع كلماته على لسان زوجته. هي الوحيدة التي تحفظ شعره وتقوله وأحيانا تغنيه. عن ذلك الشاعر وتلك المغنية، عن ذلك الحب الكتيم والعظيم، أتمنى لو أقول شيئا.
(15)
من بين عشرات المحاولات والصيغ، ثمة في النهاية، صيغة واحدة للكتابة ستبلغ الذروة وتنقذف إلى مرجل الأفكار الخلاقة. على الكاتب ألا ينتقص من قيمة المحاولات المتكررة، ولا يخجل منها كما يفعل الأزواج الضعفاء، عديمي الفطنة والخبرة. عليه أن يمارسها ويلتذ بها كأنها النجاح بعينه، يحاول وينتشي دائما حتى تتفتح له ضلفتي الفرج الجميل.
(16)
عتبة الكتابة هي المعضلة لا الكتابة نفسها. حين تكون في الكتابة فأنت في غرفة النسيان، لا لوم عليك هنالك ولا تثريب. ولكن لا بد من عتبة للولوج إلى الغرفة.. لا بد للنسيان من ذاكرة.. لا بد من حياة وبلاد.
(17)
ثمة طيور كانت تتنقل بين سوريا ولبنان في أوقات معلومة من السنة (أخبرني صديق لبناني)، ولكنها، بسبب القتال الدائر في سوريا، انقطعت عن فعلها الطبيعي هذا. أتساءل أين هي الآن تلك الطيور؟ هل اجتمعت في غابة معزولة وطفقت تنتظر حتى ينتهي سفاح الأرض الهمجي؟ أتراها تنظر محتارة إلى الرؤوس المدججة، التي طفت على الأرض، بيضاء سوداء؟ أم أنها بدلت منطقها، وطارت بعيدا، بعيدا صوب السماء؟!
(18)
جلس على طاولتي بدون استئذان، قلت لا بأس، الطاولة كبيرة، واسعة وأنا وحدي، وحيد. أخذ ينظر إليَّ فخلته يفكر بي، قلت ياللسعادة، هذا إنسان يفكر بإنسان. ملأ الطاولة بالطعام، ثمة أشياء لا أطيق رائحتها، قلت لا بأس، هناك روائح أبشع، أشمها كل يوم. انسكب كوبه خطأ ولوث الطاولة وطرفا من ثوبي، قلت العفو عند المقدرة. شبع وصار يتجشأ ويتمخط… لم أقل شيئا. جاء أصدقاؤه واحتلوا بقية الطاولة. ركلني المكان من مكاني وانصرفت، قلت لا بأس، لا بأس، فالليل طويل وأرض الله واسعة وليس الناس عليها… كلهم عرب.
(19)
لست بحاجة إلى حبك
لدي النيران
كلما عنّ الهوى
ألقمتها قلبي
(20)
ينظر ناحيتي المشرد القابع تحت طبقات البؤس وأغطية العدم. عيون زائغة مخدرة، ملابس عضتها الشوارع ولاكتها الأرصفة، معدة غير معروضة للمارة ولكنها مهدمة الجدران بلا شك أو ريب.. مع ذلك يلتفت إليَّ بسخرية، كأني الذاهب إلى حتفه بينما يرفل هو في النعيم.
(21)
حين أتذكر المغرب منتصف التسعينات، والسنة اليتيمة التي قضيتها في الرباط، طالبا في المعهد العالي للفن المسرحي، أتذكر سنة من التشرد وشوطا من الصيام الكبير؛ ولكني أتذكر أكثر، أجنحة الرحمة التي كانت تنخفض في الساعة المنذورة، لتصنع الطعام وتهيئ للغريب سريره.
أتذكر، مرة من تلك المرات، كنت أمشي شاردا، لا أعرف إلى أين ولماذا، مثل كلب أعياه الجوع حتى أعماه، وفجأة سمعت من ينادي باسمي. التفت فرأيت حافلة تسير حذوي، ويد تمتد منها، ثم شاهدت شيئا يطير من النافذة ويسقط عند قدمي. انحنيت ونظرت فإذا هي كرة مضغوطة من دراهم ورقية.
لم أعرف من هو الرامي، ربما كان المسرحي المغربي عبد المجيد التونسي، وأغلب الظن أنه هو، فخط سير الحافلة مساير لطريقه إلى بيته في حي اليعقوبية. ربما شخص آخر، وربما يد الله امتدت من حافلة خضراء كانت تحمل الناس وتسير في شوارع الرباط؛ على كل حال، أكلت يومها وشربت حتى استعدت عافيتي وانسانيتي… ونمت.
(22)
حينما قطّع بازوليني ألسنة ممثليه في فيلم «سالو.. 120 يوما في سادوم» وجعلهم يلتهمون برازهم، وجعل الكاميرا ترتقي إلى أسفل سافلين، كان قد وضع الإنسان والسلطة على مخلب القرن الواحد والعشرين. مات بازوليني مقتولا وفي قلبه وردة يابسة… وغصن أخضر.
(23)
مسرحية يمثل فيها الجميع فلا يعود ثمة مشاهدين. محاكمة بلا شهود ولا قضاة ولا محكمة. وحدها المطرقة ترتفع بلا جناحين وتهوي على الطاولة، فيرتجع الصدى في الصالة الخاوية.
(24)
سقط كوب الشاي من يده المرتعشة، وتطايرت رشّاته على الطاولة قبل أن ترسم مجراها على السطح، ومن ثم وصولا حتى حدود الطاولة. قطرات قليلة سقطت على الأرض تبعتها أخرى حتى تشكل الخيط الغزير المنسكب. إلى ناحية الباب اندفع خيط الشاي. خرج من خصاصه الأسفل وأخذ طريقه إلى الشارع. كانت ثلة من التلميذات الصغيرات يقفن بانتظار حافلة المدرسة، ولم ينتبه منهن إلى ما يجري على الأرض سوى طفلة صغيرة، هي الأصغر بين البنات. بهدوء انفصلت عن رفيقاتها وتقدمت إلى الشاي الزاحف وأقعت تنظر إليه. جلست كالمسحورة وهي تبحلق في شيء ما في الماء، شيء جوهري، وغرقت في الدهشة حتى جاءتها إحدى البنات لتأخذها إلى الحافلة. هزتها من كتفها تنبهها، ولكن الصغيرة أبدت حركة متذمرة، طالبة من البنت أن تتركها وشأنها. قادتها من يدها عنوة، وفي داخل الحافلة، أخذت تنظر إلى حيث خيط الشاي وتلوّح بيدها مودعة. في الجانب الآخر، حيث كان الماء المسحور يتلاشى، لوّح رجل بيده مودعا ابنته التي تذهب المدرسة للمرة الأولى؛ تلويحة تملأها السعادة ويعصف بها القلق… وهي أيضا المرة الأولى التي يتجه فيها إلى عمله من غير أن يشرب الشاي.
(25)
ثمة في عمق أعماق الذاكرة، مكان عجيب غريب؛ هو من شعوذة الذاكرة أم تراه من سحر الأمكنة؟ عادة ما يكون على شكل طريق. ثمة ماء وأشجار وطحالب بلون الحياة الماضية. ثمة دائما رجال كبار ونساء. ودائما ثمة طفل، لا هو بالقريب ولا بالغريب. طفل ينظر بخجل وعجل إلى الحياة القادمة.
(26)
من يراقب هذا المعتوه، يدله على سرير النوم، يخبره أن الوقت متأخر، وأن لا مطار في المدينة، وبحرها بلا ميناء. أن ليلها يشبه النهار، وأحياؤها أموات. من يأخذه إلى مخدعه ويحكي له القصة، من ألفها ليائها؟ عله ينام.
(27)
يوم الجمعة. صيف الجمعة. صمت الجمعة. بعد قليل سيرتفع الآذان ويهرع المصلون إلى المساجد المكيفة. امرأة جلست على الرصيف تنتظر رزق يوم الجمعة. كومة سوداء ويدان نحيلتان تصعدان منها الى السماء. الشمس غير مرئية، غبار سديمي يحجبها، ولكن كل شئ يصطلي تحتها. هاهم يتوافدون إلى المسجد، موجة إثر موجة، سريعا يقطعون الشارع المشتعل ويختفون في البطن الباردة. تهدأ نفوسهم ويشعرون بالرحمة وهي تغمر المكان. الذين تأخروا ولم يجدوا مكانا في الداخل، سيجلسون في صحن المسجد حيث المراوح تصب على رؤوسهم، سهاما من الهواء الساخن. صوت الخطيب يأتي من المكان البارد، يبشر بالثواب وينذر بالعقاب القادم لا محالة. المصلون في الداخل مرتخون في جلساتهم ويتمايلون مع الخطبة. في الخارج بكى طفل من وطأة الحر.
ومن كومة سوداء وضعت على رصيف الشارع، امتدت إلى السماء يدان هزيلتان، محروقتان، تنشدان الله لو أن الصلاة تنتهي سريعا، وتهطل نقود المصلين المعدنية، وينقضي يوم الجمعة.
(28)
كالعادة، بعد أن شربوا وعاثوا فسادا، ذهب الشعراء إلى النوم من غير أن يلقنوا البلبلَ درس الغناء.
(29)
لا تحتاج الكتابة، وأنت في بحر الحياة، إلاّ حصاة وزورق من ورق. أما وأنت في الصحراء، صحراء الحياة، فانتظر وتخيل واختال في السراب.
(30)
يا إلهي، أكلما لاح ظِلَكْ، بزغت بندقية وانفجر مدفع.
(31)
أبلغ وصف للحالة السورية وجدته في هذا الخبر: جريح سوري يصاب بجروح بالغة.
(32)
أسقي أزهاري ثم أشرب وأنام.
(33)
من يتحدث اليوم عن نظريات تطور الحدث في النص ومركزية الشخضيات إنما هو كمن يتحدث إلى جاره على الحنطور. ما عاد النص مقيدا بالورق وما عاد معقودا إلى السطور المستقيمة. إن ما تراه على الأوراق ليس إلا ظل الكلام أما الأعضاء فابحث عنها خارج النطاق.
(34)
إن أول ما تتعرف عليه العين صباحا هو الشكل، سواء كانت العين لفيلسوف أو شاعر أو سارد أو لعاهرة أو سياسي لقيط. النهار يغلي بالمتن، ماكينة الخياطة طيلة النهار تخيط أعلام المتن والمصانع كلها تبني أحجاره والأفواه جميعها تلهج بذكره. ولكن في الصباح، حين يومض شعاع الضوء الأول وتستيقظ على إثره الروح الغافية، لا يظهر سوى الشكل، عاريا من أية حقيقة.
(35)
في منطقة وعرة، على شرفة فج عميق، على أغصان شجرة متدلية، فرعها في السماء وأصلها في الصخر، على غصن متدل، تعبث به الريح، يمنة ويسرة، تُميته ثم تحييه، هناك أريد أن أعلق قلبي وأمضي، مثل ظل الراعي السعيد.
(36)
يستيقظ الطفل منتصف الليل. يبكي مفجوعا وكأنه أشرف، لوهلة، على فوهة العدم. لا أحد ينجده، لا أحد إلا أمه، بحضورها وحضنها الذي يشبه مخدة سماوية وبضوع حليبها الذي يعيد للأرض دورانها ويسدُ فوهة العدم المخيفة ويهدئ من روع الصغير.
(37)
من خلال نظارتها الشمسية الرقيقة، وسط ضجيج سوق السمك وصليل سكاكين القصابين، كانت تنظر باشتهاء إلى طريقة تقطيعه لسمكاتها الطرية. كان هو يهوي بسكينه القاطعة على السمك ويحوله إلى أجزاء صغيرة تناسب ثغرها الحلو الصغير، وبين الضربة والأخرى، يرسل نظرة لزجة إلى الشفة السفلى المتدلية وإلى اللسان الوردي الذي بزغ كقمر على لياليه السوداء. تذكر ليلة الأمس وليلة ما قبل الأمس وكل ليالي عمره التي قضاها وهو يشتهي أنثى في فراشه المبلول بالأوهام. لكنه يعلم، بعد كل شيء، أن عينه، إن غفلت ثانية وابتعد تفكيره بعيدا في صحراء حياته، فإن نصل السكين الحاد سيجد لحما آخر ليقطعه غير لحم السمك. كان متيقضا لضرباته التي تحدث صفيرا موجعا وحادا حد الإشتهاء، وكانت هي تنظر إلى طريقته في التقطيع وتتذكر ليلتها الطاحنة التي استيقظت بعدها وهي تشتهي أكل السمك.
(38)
الشخص الذي خرج
من كل حروب التاريخ سالما
مازال يعشق الحياة..
ومازال يبحث عنها
في كل الحروب.
(39)
منذ متى لم يهطل المطر على مسقط؟! لا أتذكر منذ متى وكأنها لم تمطر مرة أبدا. هذا مزعج ومربك للإنسان. للحيوان وحتى للسمك الذي يحب أيضا شربة من ماء السماء، هناك حيث يوجد الخالق. الحياة صعبة بلا مطر، حقيقة ألا ينسكب من فم السماء ماء، تجعل المرء مشوشا، جافا ومستوحشا، فتعشعش في رأسه أفكار بالية وتسكن نفسه هواجس لا لزوم لها لبني البشر. فكم وكم أحسد أبناء الأنهار وأولاد المطر وأشتهي القرب إليهم!.
(40)
لا شيء يحدث
السماء صافية
والهواء مشبع بالموت
ولا يبدو أن شيئا يحدث بالمرة.
(41)
تخرج حاملا كيس الزبالة. عند مكب القمامة تشاهد رجلا يقلب الأكياس ويفرغها من حمولتها بحمية وبحث حثيث. تحاول أن تتحاشاه ولكن لا مجال إلا بالاقتراب منه والنظر إلى ما يفعله ولو كان ذلك بدون قصد وبحكم الفضول وحده. إنه بعمرك، ولا داعي لوصف مظهره الخارجي ومقارنته بمظهرك وأنت في طريقك إلى العمل. ولكنه ينظر إليك. لبرهة يترك ما بيده، يترك عمله ويعلق بصره في وجهك وتسمعه يخاطبك بلسانه الداخلي: «ما الذي تنظر إليه يا ذبان؟ ماذا تريد أن ترى يا تيس المزابل؟ هل رأيتني أسرق لتفتح عينيك الوقحتين هكذا؟ هل أشحذ منك يا عفن؟ أنا أخلصك من أوساخك. أساعدك يا مروحة العفن. هل علي أن أستأذنك يا دودة المستنقعات؟ أم أنك جئت لتسترد زبالتك يا زبالة؟ تعال إذن، اقترب، مد يدك المغسولة ببول الحرابي. هاتها.. هاهاتها. لا تخف. اعطني إياها. أريد تقبيلها على كل أفضالها. هاتها يا حشرة الروث.. يا…» يعود إلى عمله وتذهب أنت إلى وظيفتك.
42
أحب أن تكون العلاقة مع الكتابة كالعلاقة مع المرأة: بالهمس بالمس… إلخ.
43
شمس البداوة تشرق على أرض العرب من جديد. فإلى أين تقود حطامك، يا حادي العيس؟!
44
الشمس حينما تقف في المركز، لا تكون هي الشمس التي ينتظرها الناس وينظرون إليها. إنها شمس المركز التي تعمي العيون وتذيب الظلال البشرية. إنها شمس السلطة. كن في مكانك التاريخي أيها الكاتب والفنان والمثقف، وفي مسكنك الطبيعي، على هامش الأرض، عند منبت الشروق ومرمى الغروب، ليرى الناس ظلك ويتعرفوا عليك.
45
في طفولتي كانوا يرفعون الأذان وكأنهم يتحدثون إلى الملائكة، اليوم يرفعونه وكأنهم يطاردون الشياطين.
46
في (مطرح) منتصف السبعينات كنا نصعد حاملين جزء عَمّ، من (حلة الرحبيين) إلى (كهبن) حيث بيت معلمة القرآن حليمة البلوشية. لا تجيد معلمتنا الكتابة والقراءة وتتحدث بعربية مكسرة، كونها من مواطني بلوش العاصمة الذين اطمأنوا لثقافتهم ولغتهم الأم بعد أن أمنوا عليها في مدينة تسكنها ألسن كثيرة. كانت مختصة بجزء عم حفظا، وكانت تحب الأطفال ولا تريد لنا أن نهتم بسورة الكافرين، ذلك لأنها، بحسب منطقها الأمومي على الأغلب، تتردد فيها كلمة الكافرين كثيرا وهو كثير على قلوب الصغار. أتذكر مجلسها الصغير الذي يحده من اليمين قفص الدواجن ومن اليسار حوش صغير للمواشي، فوقنا، مباشرة، جبل أصم وتحتنا سلم حجري موصول ببيت المعلمة حليمة أو «ماه حليمة» كما كنا نناديها. نحمل معنا كل يوم خمسين بيسة لنشتري منها الحلوى «الشاكليت» (وهي طريقتها الوحيدة لتكسب من عملها). غير ذلك كانت (ماه حليمة) تنفق علينا أكثر مما تكسب بكثير. يرسلنا أهلونا إلى حليمة، التي تجهل القراءة والكتابة وتتجاهل سورة الكافرين، كل صباح قبل أن يفرغوا لأعمالهم؛ وهناك على سفح جبل في (مطرح) منتصف السبعينات، كنا نتهجى قصار السور، مع الدجاج والماعز وبحضور الجبل الأمرد وحليب أمنا حليمة البلوشية المشّرب بالسكر والمصطبغ بلون الزعفران.
47
أعتقد أن «السيستم» هو أفضع ما أنتجه الإنسان لنفسه وضد نفسه. وهو إلى جانب فضاعته وسطوته الجبارة، يظل إنتاجا عبقريا لا يضاهيه أي شيء آخر اقترفه الإنسان. ينظم أفعال البشر ويشق ويؤطر ويوجه القنوات التي تجري عليها أعمالهم، ما ظهر منها وما بطن. يفعل ذلك مثلما يفعل الراعي مع قطيعه، القطيع الذي يثغو وينفر ولكنه، عاجلا أم آجلا، سيمضي إلى المرعى، يقتات ويشرب ويداوم على الحياة… برضا السيستم أو بعصاه.
48
اللغة «المكتبية» التي يدون بها قصصه وقصائده ويدبج مقالاته. اللغة الكرتونية. لم تخرج إلى شارع ولم تدخل غابة. لم تتعفر بالتراب وتبتل بالمطر وتتلطخ بالوحل ولم تتوضأ بنور. تستلقي على القرطاس مثلما يستلقي البق الميت على البلاط الأبيض. لا تتهاون مع خطأ وليس فيها مصادفة ولا تجيد لعبة الغميضة مع النحو والصرف. لغة تشهر الحقيقة في وجهك كما يشهر الجزار سكينه على الأضحية، حقيقة مؤداها الموت ولا شيء آخر.
49
لا شيء يشبه بكاء الرضيع. صوت سابق لصوت الإنسان. كأن شيئا يحدث في المجرة بينما أصداؤه تتردد في نشيج الكائن الصغير وفي شجو مواويله.
50
تفهم الموسيقى أكثر حين تهدهد طفلك وتعرف قيمتها حين ينام.
51
مهمة الأجيال القادمة أن تخترع للخراب، معنى.
52
كل شيء حالك في المحطة ما عدا نشوة السفر.
53
في صحراء الورق لا تزهر إلا الكتابة الغريبة، المرتحلة في الجهات والضائعة ما بين الطرقات؛ أما التي تزعم الثبات، الكتابة الاصطناعية، فمحلها في أصص الصالونات والمجلات الملونة.
54
«الآخرون هم النار» – هكذا يجب أن يُترجم وجوديٌّ بقامة سارتر وليس: «الآخرون هم الجحيم» وكأنه بوذي متهيب. إنهم النار القريبة التي تشتعل في الثياب وليسوا الجحيم البعيد المؤجل الذي تجري المساومة عليه.
55
تغيب بعيدا وعميقا عن أرضك وثقافنك ولغتك وروحك حتى تكتب سطرا واحدا يستحق القراءة. الكتابة غربة دأبها الغياب.
56
لا ظهر لك أقوى من العبارة ولا وجه أجمل من الصمت.
57
بالأمس: في أي بلد عربي تريد أن تعيش؟
اليوم: في أي بلد عربي تريد أن تموت؟
58
بنى الجد، بجوار بستانه وبيته الطيني في قريته، بنى مسجدا صممه لتجري ساقية الماء من تحته ويظلله النخيل. في المرحلة الجديدة التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي، بعيد ظهور النفط، جاءه موظفو الوزارة ليعرضوا عليه تجهيز المسجد بالمكيفات، مجانا، فلم يشأ أن يدخل إلى بيت الله هواء اصطناعيا. وعن توصيل الكهرباء ووضع ميكرفون الآذان، ردهم قائلا إن ذلك لن يزيد الناس إيمانا، وظل يصلي بأهل القرية على ضوء القنديل حتى وفاته في التسعينيات. إلى الآن وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاما، أستطيع أن أسمع صوته المتشرب من ظلمة الليل وهو يقرأ سورة العصر (إن الإنسان لفي خسر) وخرير الماء يتناهى من تحت أقدامنا، فيما المسجد الصغير يسبح في هالة روحانية تلامس أهداب السحر ويرنو إلى سماء صافية مطرزة بالنجوم. فرحمة الله عليكما: يا جد ويا ذاك الزمان.
59
المجد للأحياء الشعبية، خيمة العرس فيها، الملونة بألوان قزح، هي نفسها سرداق العزاء.
60
أكاد ألمس ما فعلته بالأمس.
61
ربما أضاع أمه هذا الجرو الجميل. يتنطنط. أراه أمامي ثم يظهر من خلفي. يقترب وينسرب. أروع ما فيه قوائمه الطرية وخطمه. يضرب بقوائمه الأرض وكأنه ينهرها ويدفع خطمه إلى القمر، كأن القمر مرآته المتدلية. ولولا معرفتي الجيدة بكلاب الشوارع هؤلاء، لفكرت جديا في استدراجه إلى بيتي. لن يبقى معي طويلا ابن الشعب هذا، حتى وإن كان بيتي قصرا وطعامي موائد تهبط من السماء. سيظل يعوي كالثكالى في ليل بلا قمر أو أمل. سيموت من الرتابة والوحشة ومن الاشتياق إلى الشارع. فوداعا -إذا- يا صديقي، إني عائد إلى البيت.
أحمد الرحبي