ظبية خميس
هل يُمكن للعالم الذي نعرفه في حياتنا أن يختفي حقا، ولا نعود نتذكره كما عرفناه. محو ذاكرة وعناصر حياة متعمد. وأن يكون ذلك مع سبق إصرارٍ وتعمّد من سلطات وقوى أمنيّة تحقّقُ سياساتها في محوِ عناصر الحياة من الطبيعة والثقافة والاقتصاد والمجتمع والفن، وتخلق أجهزتها لفرض ذلك على البشر دون هوادة أو رحمة.
نعم ذلك ممكن في رواية شرطة الذاكرة للروائية اليابانية يوكو أوغاوا. سبق أن قرأت لها رواية فندق السوست آيريس، و هي لا تقل رُعبًا في المصائر عن الثانية.
يكتب اليابانيون بهدوء ورقة ولغة تحتشد بالطبيعة والتفاصيل عن أشد الأمور فظاظة وقسوة في غالب أعمالهم الإبداعية.
لم تترجم أعمال يوكو أوغاوا إلى اللغة العربية مباشرة، بل عبر وسيط اللغة الإنجليزية. ولها كتب تمت ترجمتها من اليابانية إلى الإنجليزية؛ منها ثأر، ومدبرة المنزل، والبروفيسور، وحوض السباحة.
وقد فازت الكاتبة بأكبر جوائز اليابان الأدبية، ونشرت في المجلات الأدبية الكبرى في أمريكا وأوروبا، ورشحت لجوائز عالمية.
في المرّات التي قرأت فيها ليوكو أوغاوا شعرت بتأثير عقلي وروحي وبدني لأيام. شيء يُشبه الصدمة العميقة لما تثيره من مشاعر عنيفة عبر لغتها الهادئة والسلسة .لا تحمل شخصيات أعمالها أسماء أحيانا؛ لكنك لا تلاحظ ذلك وأنت تقرأ، فهي تسحب وعيك إلى ذوات الشخصيّات؛ بحيث تنسى أن لها أسماء أصلا.
في فندق آيريس وفي شرطة الذاكرة تجري الأحداث في جزيرة وغرف مغلقة وذوات محدودة وخيط عاطفة ينسج نفسه كبيوت العنكبوت .هناك تعذيبٌ ما تمارسه جهة ما أو فرد، واستسلام كليّ للضحيّة أو الضحايا. بشر لا يقاومون ما يفعل بهم مهما بلغ شره.
علاقة غامضة بين فتاة مراهقة ومترجم عجوز في فندق آيريس. ما من حوار و لا حب؛ بل تعذيب بكامل أشكاله الجسديّة دون أي اعتراض من الفتاة التي تكرر زياراتها لذلك المترجم في بيته المعزول في جزيرة أخرى صغيرة لتتناول حصتها من التعذيب الذي ظنته شكلا من أشكال الحب والتعلق.
رجل وامرأة في وحدة مطلقة واكتفاء مطلقٍ في جلساتِ تعذيبٍ جسديٍّ تتكرر، ونهاية مأساوية للمترجم الذي أنهى حياته بالموت غرقا.
– « أحيانا أتعجب ما الذي اختفى أول مرة، من بين كل تلك الأشياء التي تختفي في هذه الجزيرة؟».
هكذا تبدأ الراوية حكايتها في كتاب شرطة الذاكرة. تسرد ما أخبرته إياها أمها، التي كانت من قلة احتفظوا بذاكرتهم، وجمعوا أشياء أبقوها لديهم سرًّا مما اختفت. الأم النحاتة التي تخبر طفلتها عن أشياء مختلفة؛ غير أن الأم نفسها تختفي بعد حين عندما تقبض عليها شرطة الذاكرة بتهمة عدم النسيان، ويعيدونها جثّة هامدة إلى بيت العائلة بعد أسبوع. واختفى الأب أيضا، عالم الطيور الذي علم طفلته عن أصنافها بعدما قررت شرطة الذاكرة إنهاء وجود الطيور، وكل ما يخصها من الجزيرة حتى لم يعد الناس يعرفون أن هناك كائنات تدعى طيورا.
في البداية اختفت أشرطة الشعر والأجراس والزمرد والطوابع والورود وحدائقها.عاشت البنت وحيدة وكانت تكتب الرواية. وفي النص رواية تكتبها البنت والرواية الأصلية لما تعيشه تلك البنت، وكله يدور حول سلطة متسلطة تخفي علامات وعناصر وذاكرة الحياة التي يعيشها الناس وتمسح ذاكرتهم ويعتبر مجرما ويستحق القتل من لم يستطع فقد ذاكرته.
وفي كل مرة يصدر قرار شرطة الذاكرة بأن يتخلص الناس من عناصر ذاكرتهم برمي الأشياء في النهر أو البحر أو حرقها مثلا.
لدى بطلة الرواية صلة باثنين: محرّرُ كتبها، الذي لم يستطع التخلص من ذاكرته، وعجوز صديق للعائلة كان يصلح الأشياء وكان بحارا سابقا؛ إلى أن صدر قرار حرق كل القوارب والمراكب ومنع الصيد والإبحار.
المحرر يحب الماضي، ويحاول أن يقدح ذاكرة الفتاة بالحديث عن أشياء اختفت ولم تعد تتذكرها.
وفي كل يوم يترّبص الناس بذلك الشيء الذي سيختفي مع شعور توجّس وفزع وإحساس باختفاء ما لشيء يكتشفون كنهه فيما بعد، ثم يتخلصون منه في سجل ذاكرتهم.
يلجأ بعض من لا يستطيعون التخلص من ذاكرتهم إلى بيت آمن، حيث يخفيهم البعض كي لا يقبض عليهم جهاز شرطة الذاكرة ويقتلهم. وهذا ما تفعله بطلة الرواية بعمل مخبأ ضيق خفي في بيتها وضعت فيه كل ما يحتاجه المحرر، وأغلقت عليه بمساعدة صديقها العجوز.
-« الجزيرة تدار عبر رجال مصمّمين أن يروا الأشياء تختفي. ومن وجهة نظرهم كل ما يقررون اختفاءه ويفشل بعض الناس في ذلك فإنهم يطبقون عليهم القانون بالقوة ويجعلونه يختفي بأياديهم.»
لا توجد لمحة إنسانية لأولئك الذين يعملون في شرطة الذاكرة . وجوههم خالية من التعبير ونظراتهم بلا بريق وقسوة معدنية ونظامية في هيئاتهم حتى تخالهم مجموعة من الآليين يتحكمون في مصائر البشر.
حتى الطعام يختفي؛ وخضار وفواكه ونباتات يُحرم الناس منها، ولا يبقى لهم سوى القليل. وحدائق الورد تختفي، يجمع الورد كلّه بشتلاته ويقذف في مجرى النهر، يأخذه للبحر، ويعدم ولا يعود الناس يرون الورد وينسون وجوده وشذاه.
تحرق حدائق الورد وتحرق المكتبات حين يتمّ محو الكتاب والرواية ويحرق الناس صورهم الفوتوغرافية واللوحات بأيديهم، وحتى فصول السنة تم منعها، وأجبر الناس على الحياة في فصل شتاء قاسٍ واحد تكسوه الثلوج والجليد طوال العام فينسى الناس الشعور ببقية الفصول.
يجاهد المحرر مع الكاتبة كي تبقى قادرة على الكتابة ولو سرا، ويغلفهم الشعور بالرعب طوال الوقت، والتهديد بسطوة شرطة الذاكرة.
ويموت العجوز بعد اعتقاله بأيام وهو يشاهد البحر.
يستيقظ الناس يوما ليجدوا أنه لم تعد لديهم قدرة على استخدام الساق اليمنى ثم اليد اليسرى، وتختفي أعضاؤهم عضوا عضوا بقرارات من شرطة الذاكرة؛ بحيث تخرب الجزيرة، ولا يستطيع الناس أن يخدموا أنفسهم.
-« فقد المواطنون كل شيء له شكل من أجسادهم ولم يبقَ سوى أصواتنا تتجول بلا هدف».
وقليلا قليلا حتى الأصوات تتبخر.
ولم يبقَ من ذلك العالم سوى المحرر الذي خرج من مخبئه بعد أن اختفى كل شيء بما فيه شرطة الذاكرة التي أنهت مهمتها.
رواية شرطة الذاكرة لليابانية يوكو أوغاوا تحفل بالسرد والتفاصيل المفزعة لمخيّلة القارئ وجوديًا. كيف لنا أن نتحمل اختفاء الحياة بكامل تفاصيلها حتى تُمحى حيواتنا حقا، وتتبخر بعد محو كل تلك التفاصيل.
غير أنك حين تفكر تكتشف أن ذلك حدث ويحدث بالفعل في حياتنا المتحوّلة عبر عمر بأكمله. كم من الأشياء اختفت ومُحيت، وربما استبدلت بغيرها أو بقي مكانها فارغا منسيّا. وكم من الناس اختفوا بالموت أو القطيعة أو النسيان. وكم من ملامحنا وأفكارنا وذكرياتنا الخاصة قد تغيّرت أو اختفت أو نسيناها.
واليوم مع تقدم التكنولوجيا وانتشار الأوبئة والتحول القسري على طرق الحياة والتواصل والتوجس من أمور كثيرة؛ ألسنا أيضا نمر بتجربة مماثلة؟
كما أن السلطات الرسميّة تنامت وأحكمت قبضتها على حياة المجتمعات والناس حول العالم، وسنّت المزيد من القوانين المقيّدة والمصادرة للحريات ووضعت الناس تحت رقابة التكنولوجيا والكاميرات ورموز التشفير، وكلما زاد التقدم في الدول زادت السيطرة المرئية، واللا مرئية على شعوب وعقول وأجساد وحياة البشر فيها.
شرطة الذاكرة سردٌ مخيفٌ لواقع الناس ومستقبلهم، وتحذير واهن؛ لكنّه يؤكد على أهمية احتفاظ الناس بحق الذاكرة.