صلاح بوسريف*
كُلَّما قرأْتُ شاعراً يَكْتُب بغير اللِّسان الذي أَكْتُبُ به، تساءَلْتُ، ما الذي يُمْكِنُ أن يَكُون في هذا اللِّسانِ مِنْ مِيزاتٍ بها يكون هذا الشِّعْر غَيْر ما يُكْتَبُ بالعربية مِنْ شِعْرٍ، خصوصاً إذَا ما تعلَّقَ الأمْرُ بِشَاعِر عَربِيّ يكْتُب بغَيْر اللِّسان العربي؟
وكُلَّمَا وَجَدْتُ نفسي في مُواجَهَةِ تجربةٍ شعرية من هذا النَّوْع، أنْكَبُّ عليها، أقرأُها بتأمُّل، بل بِإمْعانٍ، وبنوع من الإنْصاتِ الشِّعْرِيّ الذي أسْتَمِع فيه لِمآ يَجْرِي في النَّص من موسِيقَى وإيقاعٍ، ومن صُوَرٍ ومعانٍ. لا يَعْنِي هذا أنني لا أهْتَمُّ بالبناءِ، أعْنِي ببناء النَّص، بمعماره، أو بالطَّرِيقَة التي بِها تتحرَّكُ المُوسِيقَى والإيقاع، وبها تتوزَّعُ الصُّوَر والمعاني في ثَنَايا النَّصّ، وبين نَسِجِ خُيوطِه المُتَشَابِكة. في البِناء، تَحْرِصُ اللُّغَةُ أن تَتَشَكَّل وَفْقَ ما تتَّخِذُهُ في النّص من اشْتِبَاكٍ وتوَالُجٍ، المَجازُ هو ما يُحَدِّدُ أسْرارَها، أو ما تُرِيدُ أن تُحِيلَ عليه من دَلالاتٍ. هذه، إِحْدَى مُشْكِلاتِ الشِّعر مع قَارِئِه، فالشِّعْر ليس مُعْطًى، لا في لُغته، ولا في إيقاعاته، ولا في صُوَرِهِ ومجازاته، بل هو دَعْوَة للانْخِراط في مآزِقِه، في ما يَخْلُقُه من عوالم، وفي ما يُتِيحُه من مجهولاتٍ، أو من لانِهائِيّ بالأحرى.
لا يَعْنِي هذا أنَّنِي لا أبْحَثُ، أيْضاً، في الشِّعْر العربيّ عن هذه الخَواصِّ، فقط، حين أكُونُ أمام نص مكتُوبٍ بغير العربية، أُحاوِل اخْتِبارَ العلاقات المُمْكِنَة التي يُتِيحُها الشِّعر، في بُعْدِهِ الكَوْنِيّ، في كُلّ ألْسِنَتِه، وفي ما يتميَّز به لِسانٌ عن آخر، أو ما يكون به شِعْرُ لِسَانٍ وثقافَة ما، هو غير شعر ثقافاتٍ أُخْرَى، رَغْمَ ما يَتَّسِمُ به الشِّعر من قُدْرَةٍ على الذَّوَبَان في الوُجودِ، باعْتِباره نِداءً كونياً، نوافِذُهُ مُشْرَعَةٌ على كُلّ الجِهات والمَجرَّاتِ.
بهذا المعْنَى قَرَأْتُ تجربة الشَّاعر المغربي عبداللطيف اللعبي، وهي تجربة يمكن أن نقْرَآَها في مراحل عُبُورِها المختلفة، لأنَّ اللعبي، مثل شُعراء الجيل الذي ينتمي إليه، كَتَبَ لِيَحْتَجَّ، لِيَصْرُخَ، لِيُدِينَ، لِيَقُول لَا، وليُغَيِّرَ،
عبد اللطيف اللعبي، وكذلك محمد خير الدين، ومصطفى النيسابوري، كَتَبُوا عارفِين أنَّ وُجُ
الدواوين الأخيرة لعبد اللطيف اللعبي، جَاءَتْ بهذا المعنى، أو بهذا الشَّرْط. وهي كانت بمثابة العُبُور الآخر من ماءٍ إلى مَاءٍ، رغم أن النَّصّ الشِّعْرِيّ عنده، لم يتنازل عن وجود الآخر فيه، لكنه الآخر الذي هو مُضاعِفُ الذَّات نفسها، الذَّاتُ وهي تتشَظَّى، وتتمزَّق، وتَنْفَرِط، لِتُعانِقَ جِراح الآخرين، في سياقها الوطني المحلي، لكن بِبُعْدٍ كونِيّ إنساني هذه المرَّة، هذا البُعْد الذي هو مُشْتَرَك الشِّعر في علاقته بالوُجود، وفي تَمَثُّله لِمَعْنَى الشَّرْط الإساني في الشِّعر حاصَّةً، وفي الكتابة والفن عُموماً. فعبد اللطيف اللعبي لم يَكْتَفِ بالشِّعر، فقط، بل ذهب إلى الرواية أيضاً، كما أنه عارف بضرورة الفن، في علاقته بالشِّعر.
النَّصُّ المُتَشَظِّي، في تجربة اللعبي الشِّعْرِيَّة، هو انْعِكاسٌ لِتَشَظِّي الذَّات، لِكُسُورِها التي رأَى اللعبي، في أكثر من نص، بل في أغلب النصوص الأخيرة، أنها لم تَنْجَمِع بَعْدَ، رَغْم كُلّ «الأمل» الذي يَبْدُو في الأُفُق، فثمَّة غيمة ما تزال جاثِيَةً على الرؤية، تمنع عنها النَّظَر بوضوح، بل بثقة وصبر وَعَنَاء، وهذا ما جعل الاحتمال غالباً في كتابات اللعبي، وما جعل الممكن يُوشِكُ أن يبدو مُسْتَحيلاً، أو ما ينفرط من بين الأصابع، وكأنَّه سرابٌ، ما إن نقترب منه حتَّى يبتعد وينْأَى.
الجملة الشِّعْرِيَّة، في تجربته هذه، هي جُمْلَة خاطِفَة، وكثيراً ما أرْبَكَتْنِي مثل هذه الجُمُل، لأنني كُنْتُ، وأنا أقرأها، بهذا الانخطاف والتَّخايُل، أتساءل، كيف يُمْكِن لقارئ لم يتمرَّس على قراءة الشِّعر بما فيه من اختراق، أن يقتنع أنَّ مثل هذه الجُمَل يمكن أن تكون، في سياق النص، شعراً، أو تتحقَّق فيها جمالية الكتابة الشِّعرية، ويكون المَعْنَى جارياً فيها، أو في ما يمكن أن تُشِير إليه.
مثل هذه الجُمَل، حين نتأمَّلُها، مُنْصِتِين إلى صَمْتِها، إلى ما تُخْفِيه وتَسْكُتُ عن قَوْلِه، وحين نُمْعِن الإنْصاتَ إلى انْقِطاعاتِها، إلى ما فيها من تَشَظٍّ وانفراط، فهي تأخُذُنا إلى سِرِّ الكتابة في تجربة اللعبي، أعني إلى ذلك المعنى الثَّاوِي في ذات الشَّاعر، وهو معنًى لا يقوله كاملاً، لا يُصَرِّحُ به، كما كان يفعل من قبل في سنوات المُواجَهَة والاحتجاج، بل هو يُدْلِي به بِجُرُعاتٍ، وهذا ما يُبَرِّر حضور الصُّوَر الشِّعرية في كتابة اللعبي، باعتبارها إشارات، تكتفي بالإشارة والتَّلْمِيح، ولا تقول كُل شيء دُفْعَة واحدة، لأنَّها تُراهِنُ على اسْتِشْفافَ المَعْنَى، وعلى ضُمُورِه لا عَلَى ظهوره، فالمعنى، في مثل هذه التجارب، هو انبثاق، يتخلَّق إبَّان قراءة النص ومواجهته.
حين أشَرْتُ إلى البناء، من قبل، فأنا كُنْتُ أنْتَظِرُ هذه اللحظة بالذات، لأشْرَحَ مَعْنَى الجملة الخاطِفَة، ومعنى الصُّوَر التي تتوالَى وكأنها بلا روابط، أو روابطها واهية، لأنَّ شعر التجريب والحداثة، بل شِعْر الاختراق والرغبة في المُغايرة، مهما كانت القضية أو الرسالة يذهب إليها، فهو يذهب إليها من النص ذاته، من الشِّعر، من داخل الشِّعر، من جمالياته، لا من خارجه، أي من داخل البناء، وهذا التلاشي والوَهَن المُتَبَدِّي في طبيعة الجملة أو الصورة، هو ما يجعل القضية والرسالة، أو المعنى بالأحرى، يصل بالقَدْرِ الذي يُرِيدُ النص أن يجعله مَعْنًى لا يتنازل عن شرطه الجمالي، ولا تنتهي الرسالة بمجرد وصولها إلى من تَعْنِيهم، فالرسالة، هنا، هي رسالة تُقْرأُ على دُفُعاتٍ، لأنَّ الشاعر، وهو يكتب، توخَّى أن يكون المعنى مثل السَّفَر، سِرُّهُ في الطُّرُق التي نقطعها، لا في الوصول، لأنَّ الوصول إذا لم يكن بدايةً لسفر آخر، فهو، حتْماً، سيكون نهاية.
لا يتنازَلُ اللعبي عن التَّصَادِي بين الكلمات والجُمَلِ، رغم ما يُحْدِثُه فِيها من انشِقَاقاتٍ وتصدُّعاتٍ، فالإيقاع الشِّعْرِيّ، هو ما يضمن التَّلاحُمَ والتَّرابُطَ، مثلما يَحْدُثُ في المُوسِيقى بالذَّات. آلاتٍ مُخْتَلِفَةٌ في عَزْفِها، في طبيعة النَّغَم الذي يَصْدُرُ عَنْها، لَكِنَّ اللَّحْنَ النَّاظِمَ للمُوسِيقَى في مُجْمَلِها، هو ما يُذِيبُ آلَةً في أخرى، ويَجْعَلُ المُوسيقَى، أو الإيقاع، بالأحرى، مثل المَاء، بعضه يشْرَبُ بعضاً، والصَّوْتُ يصيرُ واحداً، فيما هو في قرارتهِ أصواتٌ تتجاوُبُ، وتتصادَى، وتتشرَّبُ بعضها، كما تشرَّبُ الماءُ المَاءَ.
لا شِعْرَ دون وُجُود هذين الدَّالَّيْن الشِّعْرِيَيْن، الصورة والإيقاع، واللعبي، أدْرَكَ هذا، وذهَبَ إليه، بل جعله بين الدَّوال التي بها ابْتَنَى شِعْرية تجربته، وحَرِصَ على شَرْطِ البناء في هذه التجربة، عِلْماً أنَّ الشِّعر، ما لَم يحرص على شرط البناء، لن تتحقَّقَ شعريته، رغم ما قد نُحَقِّقُه فيها من دَوالٍّ قد تكون مُجرَّدَ تَوْشِيَّة وإقحام، أو لَعِبٍ بالكَلام، يخلُو من أفق الشِّعر، ومن دَهَشَتِه التي هي مدارُه.
في البناء يَحْدُثُ تَواشُجُ الدَّوالّ، ويَحْدُثُ التَّصَادِي، ويصير المَعْنَى، مَعْنًى جمالياً، رغم ما قد يجري فيه من تعبيراتٍ مأساوية، أو تراجيدية عن أوضاعٍ، الذَّات تذهب إليها باعتبارها جُرْحاً من جراحاتنا المُشْتَرَكة، في ما نحن فيه من إقامة على الأرض. واللَّعْبِي، هو شاعر مُدْرِكٌ لمعرفة الشِّعر، ولِما يقتضيه الشِّعر من توسيع لدوالِّه، حتَّى يستطيع فتح المعنى على شُرفاته التي منها تدخل الشمس إلى الشِّعر، وتُشْعِل جذْوَة الشِّعر فيه. ولعل القديمين من العرب، وغيرهم في الثقافة الغربية القديمة والحديثة، أدْرَكُوا خطر البناء في الشِّعر، وأَصَرُّوا عليه، حتَّى لا يبدو النص عمارة، دَاخِلُها خراب، وهذا ما نجده اليوم، في عدد من الكتابات التي لم تُدْرِك معنى البناء في الشِّعر.
تبقى تجربة عبد اللطيف اللعبي، بين التَّجارب الشِّعرية، التي واصلت، في مراحل عبورها المختلفة، وَعْدَهَا الشِّعري الجمالي، دون أن تتنازل عن الحق في الاحتجاج، لكن، بوضع الشِّعْر في محكّ المواجهة الجمالية، هذه المرة، التي هي إعادة خلق الوجود والكون، بشرطهما الإنساني، الذي فيه تتحقَّق عدالة الأرض، لأنَّ العدالة والمُساواة، عند اللعبي، لا يُمْكِن فَصْلُهُما عن الجمال الذي يبقى هو القيمة التي تُضْفِي اللون والطَّعْمَ على معنى الوجود البشري على الأرض. فاللعبي، وهو يكتب بغير لسانه الأصلي، فهو يُضْمِرُ هذا اللسان في المعنى الثقافي لِما يكتبُه، وفي توسِيع أفق المعنى، بتوسيع أفق اللغة، وجَعْلِها لُغَة بِلِسانَيْن، ظاهِر ومُضْمَر، وهذا المُضْمَر هو ما علينا الذَّهاب إليه، والاشتغال على سياقاته الثقافية والجمالية، في تجربة اللعبي.