في السنوات الأخيرة نشط المترجمون في ترجمة الأدب الكردي الى اللغة العربية ، خاصة في سوريا فظهرت عشرات الكتب هنا وهناك في الشعر والرواية والقصة والأساطير، وجاءت هذه الترجمات عشوائية ، وأحيانا رديئة جدا، لكتب هي في الاصل سياحية مثل كتاب اليوناني "أدونيس بودوريس " "حديث مع كردي" أو روايات لا تمتلك أية مقومات للفن الروائي، مثل روايات محمد أوزون الوعظية الساذجة ، وأذكر واحدا من هؤلاء المترجمين وهو الدكتور محمد عبدو النجاري، الذي ترجم دزينة من نوعية هذه الكتب ، ومع ذلك وجدت هذه الترجمات صدى طيبا لدى القاريء وذلك لفقر المكتبة العربية لهذا الأدب أولا، وثانيا لغموض هذا الأدب القادم من منطقة معزولة ودموية تاريخيا. وبالرغم من طغيان الترجمات السطحية لأدب كردي بسيط ، فقد استطاعت كتب أخرى النفاذ من هذه الحالة ، قوتها في الزخم الموجود فيها، واستطاعت أن تستقر في وجدان القاريء ، ومنها كتب الشاعر شيركو بيكه س ، الذي صعد شعره بقوة عند القاريء العربي والكردي على السواء، من خلال ديوانه الأول المترجم الى العربية ، وكذلك من خلال بضع قصائد نشرها في أحد أعداد الكومل ، والآن يغامر بكتابه الشعري الثالث المترجم الى العربية "مضيق الفراشات " حيث يستهل الشاعر ديوانه بمقطع للشاعر الكردي "نالي " يقول فيه : "تحسرا على هجرانك لي هذا العام / كل يوم أتمنى لو أني مت دونك قبل عامين " هذا المقطع والمقطع التالي من الشاعر الحاج قادر الكويي: "استوطن الاغتراب غربتي، وأحال علي الأرض بأسرها زنزانة "، أقول يختصر هذان المقطعان كل قصيدة الشاعر المطولة التي تضم الكتاب ، ولنن كان اختيار الشاعر ذكيا، فانه يحاول على مدار المشات من الأبيات أن يستحضر الغياب ويخاطب المنفى، وفي قصيدة هي أقرب الى
النص المفتوح منها الى القصيدة الطويلة ، فهي تحتوي على البرقيات ، والرسائل ، وبطاقات الى الأصدقاء ، أمثال وكتابات وطرائف حديثة ، وبذلك فيكون الشاعر قد أضاف لغة جديدة الى الشعر الكردي المعا هو، وخلصه من رطانة الغنائية التي نجدها عند الكثيرين من الشعراء الأكراد. لكن وفي نفس الوقت بقي بيكه س وفيا لتقليد شعري كردي آخر وهو استخدام مفردات الجبل وما تحمله من دلالات ريفية : الطير، الشجر، المغارة ، الصقر، العاصفة .. الخ ، وهو بذلك لم يتأثر بحالة المدينية المعاصرة ، بالرغم من اقامة الشاعر في ستوكهولم ، فهو مازال متمسكا بالذاكرة ، وأقصد هنا الذاكرة التاريخية للشخصيات الكردية التي هي في أغلبها شعراء وأدبا، أكراا، يستحضرها من نسيانها ومنافيها وغبارها القديم ، فيقدم بانوراما شاملة لومضات شعراء انطفأوا في المنافي أو في البؤس مثل الشاعر الكبير "نالي " الذي عاهر الامارة اليابانية في القرن التاسع عشر، ثم هاجر الى دمشق ومنها الى اسطنبول حيث مات هناك ، أو العالم واللغوي الكردي البارز الأمير «جلادة بدوخان » الذي توفي في دمشق ، وكذلك الشاعر الكبير عبدالله كوردن ، حشد كبير من الشخصيات التاريخية وأحيانا المعاصرة ، تأتي إلى قصيدة شيركو ، بالاضافة الى الأساطير مثل أسطورة كاوا الحداد، وقصص الحب مثل مم وزين ، حتى من المغرب العربي»: "اسمي مار كريتا/ كان أبي يحلم مثل احلامك .. لحين قضى نحبه / هذا كلام فتاة مغربية هجينة قالته لي في ليلة باردة / في أحد بارات أوسلو الثملة / ثم يقول بعد ذلك : «منذ تلك الليلة أشعر وكان سيماء ابنتي الصغري/ قد استحال الى سيماء مار كريتا/ منذ تلك الليلة أشعر وكأنني والد مار كريتا وصوت قصيدة حزن أصفر/ "، وهكذا تختلط في ذاكرة الشاعر ومضات الماضي مع احزان غربته : "طويلة … طويلة .. طويلة هي غربتي / أطول من سكك أوروبا الحديدية " وبالضرورة سوف تكون للشاعر وقفة مع والده الشاعر المعروف فائق بيكه س حيث يقول : "شجيرة كنت أنام فوق سطح دارنا / فأصبح في الهزيع راعيا للنجوم / أمنيتي أن أنزل تلك النجمة الساطعة البعيدة / الى داخل حصيرتنا / هأنذا أحتضن النجمة داخل حصيرتنا/ فيستيقظ والدي من زقزقتها/ فيمد يده ويأخذ النجمة / يضعها بين طفله وبين القصيدة / فأقبل خدها الفضي/ ويكتب والدي أمامها قصيدة / " بهذا القدر من الشفافية يستدعي شيركو بيكه س والده الشاعر الذي مات وشيركو بعد مازال طفلا صغيرا، وأذكر في حوار سابق لي معه قال : كان والدي يطالع دائما مجلة عليها صورة الهلال ، وعرفت بعد ذلك أنها الهلال المصرية ، وفي ديوانه يستشهد مرة ثانية بالشاعر نالي الذي يقول : «ضعيف أنا كالهلال » وسوف يتنامى هذا الشعور على مدار الكتاب ، ويتلون بثنائية الغياب / المنفى، بالرجع الخافت والندم أيضا لما جرى ويجري على أرض كردستان ، خاصة وأن الشاعر يتماهى مع شخصياته والتاريخ الكردي المدجج بالدم ، من حلبجة الى اغتيال الكاتب الكردي عبدالخالق معروف على أيدي الأصولية الكردية ، وفي المقطع الذي خصه لهذا الكاتب ، يتفرد الشاعر بتلك الشحنة الهائلة من البساطة ودفقة الالم التي تجعل القاريء يشاركه في الحزن ، ولا بأس هنا في الاستشهاد بالمقطع : "أصدقائي/ أنا أيضا سأجيء هذا المساء/ احجزوا لقصائدي مقعدا / في المقهى الصغير / ولا تعطره لأحد/ إن جاء يشماخ الخال رجب المازح / قولوا له عذرا انه محجوز/ إن جاءت برنيطة أحمد ميرزا بخطي حثيثة / قولوا لها أيضا : محجوز/ الا اذا وصل توا ضيف عزيز من أربيل / وهو يلهث من التعب / الا اذا كان ذاك الضيف / كتاب عبدالخالق المتمرد/ ذا الكلمات المدعاة على أكتافها وأعناقها/ اذ ليس بوسعه الوقوف على قدميه / من شدة آلام جروحه ." هذا المقطع الحزين يردنا الى أجواء ديوان الشاعر الأول المترجم الى العربية "مرايا صغيرة " الذي كان آنذاك جديدا على الشعر الكردي ، كما هذا الكتاب ، وما بينهما سنوات عديدة ، لكن السؤال هو: الى أي مدى تستطيع القصيدة الطويلة / الملحمة أن تتحمل نبض الشعر ومسافة التوتر، وتنأى بنفسها عن الترهل والاستطراد كما يقول كمال أبو ديب :؟ خاصة وأن قصيدة شيركو هي محاولة الاندماج مه الآخر، وكما يقول سعدي يوسف في تقديمه لكتابه الشعري الثاني "ساعات من قصب " ولنن أغرق الشاعر نصه في لفة الجبل والذاكرة ، لكنه استطاع في مرات كثيرة أن يكبح من سطوة هذه اللغة ، وبالتالي يستفيد من تجارب الشعر العالمي بدءا من كافا فيس : "عندما دلفت الخيول / والفرسان وتاج المضيق الفضي/ كان يتصاعد من اجسادهم بخار فضي "والى الشعر الفرنسي المعاصر":
"أيتها الوحدة / أيها الحصان الأسود الضجر" وانتهاء بلفته نفسها التي تميز بها ، تلك الخاطفة السريعة : "لاتدفنوا الأزهار البيض حتى أصل "أو" ان اعترضت طريقك العاصفة ….. صر جبلا/ ان استقبلك النسيم … هو بستانا "لكن هذه اللفة المفاجئة تقع في أحيان كثيرة في نثرية الكلام ، والسبب ربما كان المترجم نفسه ، الذي لم يتوان عن التعب والجهد الشاق في ترجمة هذا العمل الطويل ، بلغة سليمة تماما، ولكن جافة وصارمة ، لا تحمل الا القليل من نداوة الشعر ورهافة الألم ، ومرة ثانية تأتي مشكلة الترجمات ، خاصة الشعر، وهل الترجمة خيانة ؟
ملاحظة صغيرة ، تتعلق أيضا بالترجمات وتتمحور حول السؤال التالي : أما آن الأوان لمترجمينا أن يقدموا أدب الأمم المجاورة غير ناظم حكمت وأدباء الواقعية الاشتراكية الفجة حيث ثمة الكثير من الأدب الجيد، وشيركو بيكه س خير مثال ، ولمترجمينا الأكراد أما آن الأوان لترجمة أكر ادهم الى لغتهم وخر مثال سليم بركات ؟
محمد عفيف الحسني ( كاتب عربي يعيش في السويد)