(هل هذه المدينة المهشّمة التي رأيتها وتجوّلتُ فيها وهي محمولة على رائحة الموت القوية؟ كانت بالفعل موجودة). سؤالٌ يطرحه الكاتب الفرنسي (جان جينيه)، في نصّه الشهير (أربع ساعاتٍ في صبرا وشاتيلا) الذي نشر في مجلة الدراسات الفلسطينية في خريف 1983. وقد قمنا بدورنا بإعادة طرحه مثل باقي الأسئلة الأخرى الكثيرة من خلال المسرح، وعصاه السحرية التي تدعو، إلى إعادة النظر في كتابة التاريخ وتفسير. انطلاقا من فكرة أن المسرح نفسه، كممارسة، يمكن أن ينظر إليه باعتباره (شاهدا)، في صنع التاريخ، لا سيما ان مفهوم (الشهادة) متأصل في مفهوم الذاكرة، وعملية التذكر، والنسيان. هذا بالاضافة إلى أن بإمكان المسرح أن يعطي معنى للتاريخ، من خلال تشكيل فهم جديد للماضي. لا سيما (إن تمثيل التاريخ، مثلما يقول كريك دونيك، هو شكل من أشكال الأداء)(1)، الذي يساعدنا على فهم حاضرنا من خلال وعينا بالماضي، مثلما بإمكاننا ان نعكس الوقت والمكان الخاص بحياتنا، من خلال تفكيرنا به. وبهذه الطريقة يصبح بإمكان المسرح أن يكون وسيلة لحل تناقضات الماضي، بتوضيحه للاحداث في سياق أيديولوجي معاصر. سواء من خلال تسليطه الضوء على الأبطال، أو من خلال تجميع الناس حول ذاكرة جمعية، والعمل على تصحيحها وتوضيح نقاطها الغامضة، من أجل خير ومصلحة المجتمع. ولكن، في هذه الرؤية، هناك الكثير من الاشكاليات والتعقيدات، خاصة عندما يتم تصفيتها من قبل المستعمر نفسه، أو من قبل مرتكبي الجريمة أو المجازر. وهذا ما حدث بالضبط في الاعلام الاسرائيلي الذي حاول أن يجمل الجريمة التي ارتكبها في صبرا وشاتيلا، بالقائه اللوم على غيره .
قصة المجزرة، بشكل موجز
بعد ساعات قليلة من دخول جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى مناطق بيروت الغربية وضاحيتها الجنوبية إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان برفقة حليفه الذي يتمثل بحزب الكتائب. وبعد إعلان الحليفين ضرورة تطهير المخيمات من الإرهابيين (الفدائيين) وفق خطة وضعت مسبقاُ. بدأت عملية الإبادة الجماعية، يوم الخميس في 16 سبتمبر 1982 لتنتهي يوم السبت في 18 سبتمبر 1982. وبعد الإتفاق بين الحليفين على مجريات الخطة أبقي على حصار المخيم من قبل الجيش الإسرائيلي ومنع الدخول أو الخروج منه، بعزله عن الجوار ومن ثم توقف القصف المدفعي على المخيم وتوقفت أيضاُ رصاصات القناصة الإسرائيليين مفسحة المجال لرجال الكتائب بتنفيذ مهامهم. وكان شعارهم كما صرح أحد ضباطهم «بدون عواطف، وكانت كلمة السر -أخضر- وتعني أن طريق الدم مفتوح. هذا ما يلخص مهام هؤلاء الرجال. لم يدخلوا المخيم بحثاُ عن إرهابيين (كما زعموا) وإن وجدوا فلماذا لم نسمع عن أي محاولة لردع هذا الهجوم ولو حتى رصاصة واحدة. دخلوا المخيم واستخدموا جميع أنواع الأسلحة: الرشاشات، البنادق والسلاح الأبيض مفترسين كل ما في طريقهم. فلم ينج لا الفلسطينيين ولا اللبنانيين من سخط وجنون العدو -لم يفرقوا بين رجل وامرأة أو شيخ وطفل… الكل قد أخذ نصيبه من هذه المجزرة، حتى الحوامل بقرت بطونهم وهدمت البيوت فوق رؤوس ساكنيها.
جان جينيه: ( أتنقل من جثة إلى أخرى، ولعبة الوزة هذه ستنتهي حتماً إلى هذه المعجزة: شاتيلا وصبرا يُمحيان. كانت المرأة الفلسطينية مُسنة، في غالب الظن، لأنّ الشيب كان يمازج شعرها. كانت ممددة على ظهرها. اندهشتُ، أول الأمر، لوجود جديلة غريبة، من قماش وحبل، مُمتدّة من معصم إلى معصم آخر، رابطة بذلك الذراعين المتباعدتين، وكأنهما مصلوبتان. والوجه الأسود المنتفخ مستدير نحو السماء، كاشفاً عن فم مفتوح ملأته قتامة الذباب، وأسنانه ظهرت لي جدّ بيضاء. كان هذا الوجه يبدو، من دون أن تتحرك عضلة فيه، إما كأنه يُقطِّب، أو يبتسم، أو يصرخ صرخة صامتة مسترسلة. كانت جواربها من الصوف الأسود، والفستان ذي الأزهار الوردية والرمادية مشمراً قليلاً، أو أنه جدّ قصير، لست أدري، ممّا يجعله يكشف عن أعلى ربلتي الساقين السوداوين المنتفختين.
– أنظر يا سيدي، أنظر إلى يديها.
لم أكن قد لاحظتُ ذلك، فأصابع يديها كانت مروحية الشكل، والأصابع العشر مقطوعة بمقصّ. لا شكّ أنّ جنوداً قد استمتعوا وهم يكتشفون هذا المقصّ ويستعملونه، ضاحكين مثل أولاد وهم يغنون فرحين(2).
ثلاثة أيام والمجزرة مستمرة على مدى ساعات اليوم الـ24 ولم تعلم وسائل الإعلام بخبر المجزرة إلا بعد انتهائها فرغم ما تسرب من أخبار عن مجزرة تدور في المنطقة لم يستطع أحد إستيعاب الأحداث وما يجري إلا بعد انهائها. ليدخل الصحفيون من بعدها إلى المخيم ليتفاجؤوا. وتناقلت الصحافة صور أشلاء وأجزاء بشرية في الطرقات والازقة الضيقة. شلالات الدماء تغطي المخيم وفاضت فوق القبور الجماعية التي ضمت آلاف الفلسطينيين واللبنانيين. وحاول الجيش الإسرائيلي إخفاء آثار المذبحة ومعالم الحريمة مستخدماً الجرافات والآليات لكنه فشل.
وفي غمرة الأحداث وتسارعها دخل الصليب الأحمر إلى المخيم بعد صعوبات ومنوعات فرضها الجيش الإسرائيلي. لكن في النهاية كانت الحصيلة تتراوح بين 3297 إلى 5000 شهيد من سكان مخيم شاتيلا . وكما هي الحال في الماضي والحاضر سارع حكام العرب إلى الإعراب عن أسفهم عما حدث واصفين ما حصل بجريمة حرب وهنا يقف خطابهم. ودعا المجتمع الدولي إلى تأليف لجان للتحقيق في الجريمة لكن هذه اللجان لم تصل لأي نتيجة أو حتى لم تدخل حيز الوجود أصلا لاصطدامها بحائط الردع الأمريكي. وتشكلت لجنة تحقيق إسرائيلية بقيادة القاضي كيهان. وتوصلت هذه اللجنة إلى عدة أمور منها أن الجيش الإسرائيلي لا يتحمل المسؤولية المباشرة عن المجزرة وألقت المسؤولية كاملة على ضباط حزب الكتائب (إيلي حبيقة وفادي أفرام). وأيضا عزل شارون من منصبه بعد أن كان وزير للدفاع في جيش الاحتلال الإسرائيلي التي حاصرت المخيم. وبعد اعتبار ما حصل جريمة شنعاء أقيمت محكمة عسكرية كنتيجة أخرى للتحقيقات غرمت لواء الجيش الإسرائيلي بـ10 قروش أي ما يعادل 14 سنتاُ أمريكياُ ، لأنه أسيء فهم أوامره. مهزلة جديدة تضاف إلى باقي المهازل !
هناك العديد من الفنانين والكتاب الذين قرروا أن يقتطعوا شذرات من الذاكرة الجمعية، لتغذية اعمالهم الفنية والأدبية، سواء كان ذلك، في مجال الفنون البصرية أو فنون الأداء الحية. ما هي أشكال هذه المشاريع الفنية التي انطلقت من الماضي، وعملت من أجله ؟ وكيف توصل البعض منهم إلى احياء الذكرى، من خلال أعمال، ساءت علاقة الماضي بالحاضر، بطريقة استفزازية أو مثيرة للقلق، في بعض الأحيان ؟ وكيف أنها ساهمت في اختراع ذاكرة حية ؟ ومن بين هؤلاء الكتاب والفنانين، كان جان جينيه الذي بعد انقطاع دام عشر سنوات عاد الى الكتابة، لكي يصف لنان (بذاة الحب والموت في مخيمي صبرا وشاتيلا). لقد حاول من خلال اللغة، على الرغم من اعترافه بقصورها أن يصف لنا مجاورته للموت، يقول: (انني أكتب هذا الكلام في بيروت، حيث كل شيء أكثر صدقاً مما هو عليه في فرنسا، ربما بسبب مجاورة الموت). لم يكن منحازا هذه المرة فيما يقول، وهو الذي عرف بمساندته للقضايا العربية والإنسانية في العالم بدءا من مناصرته للهنود السود بأمريكا، ومرورا بالقضية الجزائرية وانتهاء بالقضية الفلسطينية التي كرس لها بعد انقطاع طويل عن الكتابة، كتابين هما «أربع ساعات في شاتيلا»، و«أسير عاشق»، مثلما دافع عن حقوق المهاجرين في فرنسا، ولقد كان لإقامته في المغرب حافز مهم لتعزيز التزاماته تجاه الكثير من القضايا العربية والعالمية، إذ عبر عنها في مختلف كتاباته ولقد استوحى في مؤلفيه: ‹السواتر› و› أربع ساعات في شاتيلا› وقائع موضوعية. وقد تميز هذا الكاتب عن باقي الكتاب الآخرين، بكونه رفض الغرب لأنه استعمر الآخر، وان جان جينيه شاعر تبنته المؤسسة الاجتماعية الفرنسية بعد أن سلمته لها والدته ولم يتجاوز عمره سبعة أشهر وقد أحس بهذا الجرح، جرح افتقاد الوالدين، فكان دائما يبحث عمن يتبناه، ووجد في القضايا التي ساندها خير معين، وكانت القضية الفلسطينية، بالنسبة له بمثابة هذه الأم والأب في الوقت نفسه، وأنه تعرف على العالم العربي من الداخل، وتفاعل مع قضيته المركزية عبر التزاماته نحوها ووجوده بين الفدائيين قولا وعملا، وأنه يعتبر الكاتب الغربي الوحيد الذي كان في حوار دائم ومستمر مع الكتاب العرب، لأنه ألغى الحدود الثقافية، أي أنه كان داخل العالم العربي، ومع الشعب الفلسطيني الذي تبناه هو الآخر وأعطاه مكانته اللائقة به.
يتناول جان جينيه، في مسرحية السواتر، الأحداث التي وقعت أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر. ولقد كتب في هذا الصدد: (إن الحقيقة التاريخية، يجب أن تظهر كما لو أنها قد وقعت في زمن بعيد، وتكاد أن تكون ممسوحة تقريبا(3). ما المقصود من هذا الكلام ؟ بلا شك، إن المقصود هو المهزلة. المهزلة خارج الزمن، وها هي تنبثق من جديد. إن الحدث في هذا النص يتموضع بشكل رئيسي على الأرض وفي السماء. وإن الموتى فيه يحظرون بنوع من الاندهاش أو القلق، وفقا لمذبحة الأحياء. اليس هذا ما حدث أيضا، في مجزرة صبرا وشاتيلا ؟! بعض احداث مسرحية (السواتر) تدور في بيت الدعارة. في حين أن احدث نص (اربع ساعات في صبرا وشاتيلا) تدور جميعها، في المخيم الذي تحول إلى رماد ومعرض للجثث المسودة ! ربما لأنه لم يكتب نصا مسرحيا على غرار (السواتر)، وإنما حاول أن يقوم، على الاقل بالنسبة لنا، باقتراح مسرحي يكاد أن لا يصدق من كثرة صدقه وغرائبيته في آن واحد. ولكن لماذا في بيت دعارة بالذات؟ ربما لأن عالم الحرب بالنسبة لجان جينيه بمثابة دعارة. إنه في حالة حرب. يقول جينيه، ضمن الملاحظات التي ضمنها في النص إلى المخرج والممثلين دائما: (ينبغي على الرجال أن يبقروا، وينبعجوا وليس الفئران. ومع ذلك فأن القبعات ذات القرنين التي يستعملها بخاصة أعضاء المجتمع العلمي الفرنسي تصنع من جلد الفئران(4). ويقول على لسان حال شخصية الرقيب: (قوات مدججة بالسلاح تغزوا الأراضي، في حين أن الأبطال الحقيقيين هم السكان الأصليين. إن سعيد، وليلى، والأم يعيشون زمانهم وهم مغتصبون(5). نلاحظ، إن جان جينيه في نص (السواتر)، يعيش حالة ألفة مع الملحمة، مثلما عاش الألفة مع الجثث في مجزرة صبرا وشاتيلا. بحيث يوجد في نص (السواتر)، 16 لوحة تصويرية ومائة كائن، ومكتوب بكثافة شعرية عالية ولا تخلو في الكثير من الأحيان من الكتابة البرازية-نوع من الأدب المتعلق بالبراز والغائط، وبالموضوعات الداعرة إجمالا- ومع ذلك فإن الغنائية فيه لا يستهان بها ولا تبعث على الازدراء وإنما على العكس، إنها في أوج عظمتها، مثلها في ذلك مثل الشكل الذي يؤطر الكتابة نفسها بجمل، مثل: ( تفوح منك رائحة السرقة؛ وإن الحرب مضاجعة جماعية صاخبة(6). إن عبقرية جان جينيه في هذا النص تكمن وبشكل خاص في المشهد الذي تقوم به القتلة بتمزيق السواتر، فيجدون أنفسهم فجأة، في مملكة الأموات. وللإشارة هنا، إن السواتر في هذا النص تمثل الديكور، وتكون على هيئة واجهات تمثل : الصحراء، وبستان البرتقال، ومحل البقالة، وبيت الدعارة، وإلى آخره. وفي نهاية المطاف، إن جميع المخلوقات الموجودة فيه ستكون في وقت ما قد توفيت، مثلما في نص (أربع ساعات في صبرا وشاتيلا) وأثناء الجملتين أو الثلاث الأخيرة، تكون الأموات قد حملت ستائرها. فنرى الأم على سبيل المثال، تخرج من الخلف مع كرسيها. وهنا ينتهي كل شيء، إذ نكتشف أن ليس هناك قواعد في مسرح جان جينيه ولا رسائل، وإنما فقط، يوجد طعم للسيرك، ولمدينة الألعاب، وطعم للإنسان، الذي يجعلنا من خلاله أن نتعرف على البشر المستحضرين. أليس هذا هو المسرح، انه الذي يجعلنا أن نعرف ما هو الحقيقي البعيد كل البعد عن تغيرات الهيئة والوجه. وهنا يولد ونعثر على الاضطراب والبلبلة، وعلى التأكيد الحقيقي لفن المهرج، وعلى بعض النكات المأساوية التي نرغب في إعطائها إلى هذا المشهد أو ذاك. ولهذا، و(على الرغم من المأساة، فإن على الممثلين، أن يلعبوا أدوارهم بطريقة تهريجية، وأود أن أقول، إنه على الرغم من جدية اللعنات التي تتلفظ بها الأدوار النسائية والأم، يجب أن يعلم الجمهور أن ما يجري أمامه مجرد تمثيل). ويقول جان جينيه أيضا: ( ستكون ظهور الممثلين مقوسة ومحنية نحو أحذيتهم السميكة النعل، وأنوفهم مزيفة مستبدلة ويعتلي سطوحها شيء أخر ليعطيها بعدا أخر غير ما هي عليه، وشعر مستعار، وماكياج بألوان زاهية متعددة، وهكذا ستكون المشاهد المسرحية سريعة وعاجلة، والإلقاء سيكون مرحا ومضحكا، وأصوات الحيوانات مقلدة)7. ويختم جان جينيه بقوله: ( كنت أريد في هذه المسرحية أن أتلفظ بحماقات)8. في هذا النص يوجد، التمثيل داخل التمثيل وليس المسرح داخل المسرح فقط، مثلما يوجد أيضا طعم وذوق المسرح، وتمويه وكراهية للمسرح الفرنسي. ولقد لاحظنا من خلال قراءتنا لما حدث من سوء فهم عندما قدم النص المخرج الفرنسي (روجيه بلان) على مسرح الأوديون، كيف قوبل هذا الشاعر الذي يدعى جان جينيه بالاستهزاء والسخرية؛ هذا الشاعر الذي لم تكن له أية صلة بالحرب على الجزائر، وهذا يبدو واضحا؛ هذا الشاعر المسرحي الذي اخترع من جديد الفن الباروكي ذات الأسلوب الفني الذي ساد في القرن السابع عشر الذي تميز بالزخارف والحركة والحرية في الشكل؛ هذا الشاعر الذي استطاع أن يستعمل سوقا من دمى العرائس؛ والذي تلذذ في قول الجمل البذيئة؛ والذي صور الملازم مثل كلب لا يحب سوى دور الدعارة والعاهرات. مع ذلك، إن الممثلين والممثلات يحبون لعب هذا النوع من الشخصيات، مثلما يحبون تمثيل الملاحم الكبيرة، والقصص والأساطير، مثلما يقول جينيه. تقول شخصية وردة، العاهرة الرقيقة والجميلة: (في المركز، توجد المحرقة، جهنم الحمراء، ونحن بداخلها)(9). ويبدو أن ما كانت تعنيه وردة بالأمس هو كذلك اليوم تماما، فجهنم الحمراء، والتطهير العرقي كان حاضرا أيضا في مخيم صبرا وشاتيلا، ولكن بشكل معاصر هذه المرة. في هذين النصين، توجد هناك قيم وضحايا وجلادين، ويوجد أيضا من يذهبون (إلى حتفهم باسمين)، مثلما يقول الشاعر الكبير محمود درويش في إحدى قصائده.
من أجل أن يصور المسرح، هذا الموت الجماعي، عليه أن يطور استراتيجيات مختلفة، من خلال المقارنة بين عالمين، عالم الموتى وعالم الاحياء، بحيث تتزامن هذه الاستراتيجيات، على المسرح، من خلال عدة نقاط. فإذا قمنا، بشكل خاص، بتدوين كل الصعوبات التي ترافق عملية التصوير، وتلك التي يصعب تقديمها أو بالأحرى لا يمكن تقديمها على المسرح، سنرى كيف أن جميع المشاركين وكذلك المؤلف، يعتمدون على حقيقة أن المسرح هو في المقام الأول، تصوير أدائي، وحدث للعب، ولعبة الحدث. وهنا تكمن خصوصية المسرح، في هذا المكان الموجود من أجل التفاعل الجمالي، والاجتماعي الذي يستكشف خطر اللعب نفسه من خلال مبدأ الظهور في سياق الحدث في الحاضر. وبعبارة أخرى، فإن المسرح، وهو في مواجهة القتل الجماعي، ينتج بشكل منهجي، عملية ظهور للكل أمام الكل، وإذن، فهو مثلما يقول كريستين بيه: فن اجتماعي عميق، معد الإنتاج، معا، الاحكام المتعدة التي تكشف عن الذاكرة والقضاء، وعن الحاجة إلى التماسك الاجتماعي، وعن تلك التي تزعزعه، أو تقوم بمساءلته،، في المكان المسرحي) (10).
وفي خضم هذه الفوضى، وهذه الجرائم المجانية المتتالية، نتساءل بدورنا عن هذا الذي يمكن أن يقوله أو يسكت عليه الأرشيف المسرحي ؟ وما هي الحدود التي تفرضها معرفة (التاريخ، وعلم الجمال، والنقد، وما إلى ذلك، عن هذه المذبحة التي صارت تنتمي إلى الماضي الآن. وبالمقابل، ماذا ستعلمنا؟ وكيف نقدر على استنطاقها ؟ وكيف، بادئ ذي بدء، نحدد ونعرف طبيعة مسرح الارشيف أو الارشفة عن طريق المسرح؟ وكيف سيستخدم هذا الأخير، العلامات الخاصة التي يحتفظ بها الماضي، وفقا لهذه الالتباس المقصودة ؟. هذه بعض الأسئلة التي قمنا بمناقشتها في اطار عملنا ورؤيتنا إلى نص جان جينيه (اربع ساعات في صبرا وشاتيلا)(11).
لقد تناولنا هذا المقترح المسرحي إن صح التعبير، مرتين: الأولى، في تونس، بتاريخ 29 تشرين الثاني (نوفمبر) في عام 2002، ضمن فعاليات مهرجان المدينة عام 2001، وكانت بصحبة الفنان التونسي المنصف السويسي والممثلة التونسية منى الورتاني، وكان في اللغة العربية لأنه كان موجها إلى جمهور عربي، والثاني في باريس، على مسرح معهد العالم العربي عام 2010. في إطار التظاهرة السنوية «أسبوع الثقافات الأجنبية» التي نظمها (الطاهر ولد العروسي) مدير مكتبة معهد العالم العربي، وكان في اللغة العربية والفرنسية، وقد اشترك في تقديمه معي كل من الممثلة الفلسطينية الشابة أصيل سويسي، والممثلة المغربية فاطمة قمياح.
كيف يمكن استعادة هذا النص اربع ساعات في شاتيلا، وهل بامكان المسرح ان يحتمل الفاجعة كما صورها جان جينيه على ايقاع تلك البنية السوداوية الموعظة في تفاصيلها وبلغتها المتفجرة.
لا شيء يستحيل على المسرح ـ في الواقع ـ مهما كانت طبيعة النص. والنص ـ هنا ـ ابن لحظته، طالما أن هذه اللحظة لم تتبدل بقدر ما تتوغل في الكارثة.
كيف التعامل مع هذا النص كذاكرة، وكترتيب مسرحي، بالكيفية التي تجعله يتحالف مع الحاضر والمستقبل، بدلا من أن ينتهي في أروقة الماضي السحيق ؟ بلا شك ان هذا التحدي يشمل الفنانين جميعا، وكذلك المعلمين والعاملين في حقل ابتكار السبل اللازمة لاختراق العصور. لأن العمل على الذاكرة، مثلما يقول ايمانويل فالون، (هو واجب، وإنه أقل بكثير من كونه رغبة. ولهذا فهو يحتاج إلى جهد فردي ينصهر في الالتزام المشترك)(12).
لقد طرحنا في هذين العملين، العديد من الأسئلة، التي انبثقت وتشكلت من الشهادة الشخصية الجريئة لجان جينيه حول اجتياح الجيش الاسرائيلي للبنان عام 1982. حاولنا من خلالها أن نعيد تشكيل الاحداث من خلال فهم آليات التذكر والذاكرة، والتاريخ، والنسيان، وضرورة الأرشفة. ففي هذا الريبوتاج الصحفي الذي كتبه جان جينيه أثناء وجوده في بيروت، لا يوجد مكان للرثاء أو التمظهر الأيديولوجي مثلما لا يوجد فيه مكان للحزن أو الحداد، على الرغم من وجود الموت، الذي لم يكن يهيمن فقط على مخيم شاتيلا بجثثه، وإنما على منطقة تمزقها الكراهية وشتى أنواع الحروب بأكملها. في قلب بيروت، كان جينيه تحت الحصار مثله في ذلك مثل بقية السكان، وبدلا من أن يبقى في بيته منتظرا راح يتجول بين جثث مذبحة شاتيلا، فهو أول أوروبي قد غامر ودخل المذبحة وتجول فيها، لا لكي يبحث فيها عن الشهرة، ولا السبق الصحفي، وإنما دخلها بوصفه شاعرا هشا وشجاعا وصوفيا.
يقول:(إنّ قاتلين قد أنجزوا العملية، لكن جماعات عديدة من فرق التعذيب هي، في غالب الظنّ، التي كانت تفتح الجماجم وتشرح الافخاذ، وتبتر الأذرعة والأيدي والاصابع، وهي التي كانت تجرّ، بواسطة حبال، محتضرين معاقين، رجالاً ونساءً كانوا ما يزالون على قيد الحياة)(13).
لم نلجأ في عرضينا إلى تجسيد ما يسرده جينيه من رعب وتلذذ واحتفال بالموت، بقدر ما حاولنا أن نسمع كلاما خاصا ومعنيا، في المسرح، بالمقام الأول. كلام لغته الوحيدة هو تناوب النثر والشعر، وكذلك، أصوات آلات موسيقية هجينة. لقد حاولنا أن نكسر أواصر الواقع، وإزعاج أولئك الذين تعودوا على سماع الجمل الطبيعية المألوفة. لم نلجأ في عرضينا، إلى التلخيص، وإنما إلى التكثيف، لنعيد تسلسل الأحداث التي قادة الجنود الاسرائليين على ارتكاب مثل هذه الأفعال المشؤومة. وبهذا السياق، كنا ننتقل من المسرح حيث هو مكان للتفاعل الجمالي والاجتماعي والسياسي، والخ … إلى النص كمتن سردي، فاتحين في مرات عديدة حوارا مثيرا مع الكاتب جان جينيه من خلال حضوره على المسرح بشكل افتراضي، قامت بأدائه الشخصيات تباعا وعلى التوالي.
يقول جينيه: ( للصورة الشمسية بُعدان، وكذلك لشاشة التلفزيون، إلا أنهما كلاهما لا يمكن أن يعبرهما الإنسان أو يطوف داخلهما. من جدار إلى جدار، داخل زقاق الأرجل المقوّسة أو المدعّمة التي تدفع الحائط، والرؤوس المتكئة بعضها على بعض، والجثث المُسودّة المنتفخة التي كان عليّ أن أتخطاها، كلها كانت جثث فلسطينيين ولبنانيين.
إنّ الصورة الشمسية لا تلتقط الذباب، ولا رائحة الموت البيضاء والكثيفة. إنها لا تقول لنا القفزات التي يتحتم القيام بها عندما ننتقل من جثة إلى أخرى)14.
منذ أكثر من ثلاث سنوات، ونحن منشغلون بمسرح قريب كل القرب من مسرح الصوت، والصور اللأمتناهية، التي تقبض على الزمن، وتجعله لا يفر من الايدي مثل حبات سبحة انقطع خيطها. صور وأصوات، قادمة من قلب النثر، والشعر الحديث مباشرة، والأسلوب السردي الذي اعتمده جان جينيه في مقاربته السينمائية، التي سعت في شكلها ومضمونها إلى تفكيك الذكريات وإعادة اختراعها من جديد بأسلوب تصويري، سمح لنا بالأصغاء إلى أصوات أخرى يتعذر علينا سماعها في ظروف أخرى عادية. بهذه الطريقة قررنا، اختراق ظلمة الليل، ومحاربة الظلام الذي يحاول اعتراض الضوء، من خلال تساؤلاتنا عن حصة كل من الخيال والحلم والأستيهام والواقع الذي عاشه ابطال هذه التراجيدية المعاصرة. قررنا أن نتعلم من هذا النص، كيف ننظر إلى الأشياء المكتوبة من قبل، لاسيما إن تعلم الرؤية، وفقا لديدرو، لا يعني تعلم لغة جديدة فحسب، وإنما هو يشبه إلى حد كبير عملية تعلم الكلام، والنطق للمرة الأولى. لهذ السبب بالذات قررنا قول الكلام مثلما لو أننا نهمس بالأذن بصوت عال، وهنا لا بد من اختيار الجسد كظهور، من خلال النفس المتواتر، والصوت المرتجف وليس المتهدج. إذن، حاولنا أن نطرق أبواب مسرح يحاول أن يتحرر من العلاقة البصرية، كإحساس نادر ومتفرد، لكي ننفتح على السمع أو الاستماع. وبهذه الطريقة عملنا على الكشف، بشكل واضح، عن منشأ اللغة، وعن النشاط الذي هو جزء لا يتجزأ من تجربة تقاسم الإحساس، ودقة الوصف وحقيقة الأفعال. حاولنا طرق أبواب مسرح يحاول في كل سعيه أن يكشف عن مستقبل الكلمات ومتاهاتها، من خلال العثور في كل ما هو قديم، على ما قبل الكلمات، وما قبل اللغة، للاستماع إلى نبض الروح نفسها. أليس هذا ما كان ينادي به أرتو؟(15). لهذا السبب بالذات، لم نحاول احياء الجثث من جديد، ونجعلها تتكلم عن نفسها، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، عن طريق شريط سينمائي، على سبيل المثال، أو تسجيل صوتي. ربما لانها كانت اكثر جمالا وهي جثث ميته، أو اكثر حياة وهي توصف من قبل لغة جان جينيه، وأكثر تأثيرا. ثم ماذا يعني اليوم إعادة احياء الجثث على المسرح من جديد، شيء مالوف، ومطروق، لا يتناسب لا مع جمال النص، ولا مع طريقتنا في رؤية الأشياء. ولهذا اكتفينا بالتجريد والتكثيف في تعرية فضاء المسرح، ولم نشغله إلا بالصوت الانساني. لقد اكتفينا في عملنا (اربع ساعات في صبرا وشاتيلا)، بطرح أسئلة جوهرية لادراك ما عاشه جان جينيه بين الجثث. أسئلة تحاول ان لا تنسينا الزمن، ولا تكذبة أو تشكك فيه، لاسيما أن نص (أربع ساعات في صبرا وشاتيلا)، ليس بسيرة ذاتية، لأن الحياة الشخصية فيه لا تستحضر أو تستنطق إلا من خلال التلميح والإشارة إلى ما عاشه الكاتب من قبل بين صفوف الفدائيين في جبال عجلون في الأردن، وهو ليس بسرد تسلسلي للأحداث التاريخية المنظمة، بقدر ما هو استحضار غير تاريخي وغير تقليدي، للقاء الكاتب مع الموت المجاني، التي ارتكبته الآلة العسكرية الاسرائيلية. وهذا ما جعل النظام السردي مضطرباً بعض الشيء، وما منح النص، صفة التقديم السردي والنظرة التائهة وغير المتوقعة . أسئلة حول مصير الذاكرة وليس الذكريات فقط، والحقيقة وما بعدها من خلال ارشفة جان جينيه للاحداث، وتصويره للواقع المرير، ولامعقولية الجريمة، وليس الحرب. لأن ما حدث في صبرا وشاتيلا، لا ينتمي إلى الحرب في شيء وإنما إلى الجريمة الدولية التي اشتركت في ارتكابها اقطاب عدة.
يقول جان جينيه:
(لننظر إلى المسألة عن قرب: منظمة التحرير الفلسطينية تغادر بيروت بكرامة، فوق باخرة إغريقية ترافقها حراسة بحرية. بشير الجميل يزور بيجن في إسرائيل متخفياً ما أمكن. القوات الدولية (الأمريكية والفرنسية والإيطالية) تنهي وجودها يوم الاثنين وتغادر. يوم الثلاثاء يُقتل بشير، وصباح يوم الأربعاء تدخل القوات الإسرائيلية إلى بيروت الغربية. وبما أنّ الجنود الإسرائيليين أتوْا من جهة الميناء، فقد كانوا يزحفون على بيروت صباحَ دفن بشير الجميّل. ومن الطابق الثامن للعمارة التي أسكنها، كنت أراهم، بواسطة منظار مقرّب، يصلون في شكل صفّ هنديّ: صف واحد. تعجّبت من أنّ لا شيء آخر يحدث، لأنّ بندقية منظار جيدة كانت قادرة على أن تُسقطهم جميعهم. لكنّ وحشيتهم كانت تسبقهم.
كانت إسرائيل قد تعهّدت أمام فيليب حبيب، ممثل الحكومة الأميركية، بألا تدخل بيروت الغربية، وتعهدت بأن تحترم سكان المخيمات الفلسطينية المدنيين. وقد وعد حبيب عرفات بإطلاق سراح تسعة آلاف سجين معتقلين في إسرائيل… لكن، يوم الخميس بدأت مذابح شاتيلا وصبرا)(16).
لقد حاولت، قراءتنا المسرحية ان تلتقط أدق التفاصيل من الوصف الذي راح ينتقل بنا من جثة إلى أخرى، بنفس الاسلوب الذي كان يقفز فيه جان جينيه بين الجثث. لقد كان يقفز بحذر شديد خشية أن يزعج صفو برك الدم المتخثرة، والأوصال البشرية المرمية عند مدخل البيوت وعلى عتباتها، وكنا نفعل مثله تقريبا.
لم يكتف جان جينيه، بنص (اربع ساعت في صبرا وشاتيلا) بمساءلة الحاضر غير المعروف وغير المتوقع، والماضي الذي هو ليس إلا حقيقة لتذكير الحاضر، والمستقبل الذي هو حقيقة تأمل أن تكون حاضرة، مثلما يقول بورخس(17)، وإنما كان يبحث أيضا عن العواطف الأكثر قلقا في البشر. إنه يبدو في هذا النص السردي وكأنه معتاد على الجثث الفلسطينية المنتفخة في شاتيلا، معتاد على ماضيها القديم الذي يلوح له في ظلال الأفق البعيد في زمن آخر كان قد عاشه في جبال وغابات جرش وعجلون في الأردن في سنوات السبعين من القرن الفائت، إنه يتتبع آثارهم منذ سنين، بحيث بدا وكأنه قد هيمنت عليه فوضى سحرية بين عالم الموت حيث الذباب يسيطر فيه مثل قوة ساخرة، وحيث(الرائحة البيضاء والكثيفة للموت)، يبدو أنه يبحث أيضا عن لغز، فهو يعدَ الجثث ويتحقق منها، وربما كان يبحث عن صديق قريب سبق له وأن التقى به (صديقه حمزة، ذلك المقاتل الفلسطيني الشاب الذي قابله في الأردن).
إن الساعات الأخيرة التي أمضاها جان جينيه في مجزرة صبرا وشاتيلا قد سمحت له بأن يخرج عن صمته الذي دام سنوات عديدة وإن تحيا فيه رغبته في الكتابة. وهكذا ولد نص (أربع ساعات في شاتيلا).
(الحبّ والموت؛ هاتان الكلمتان تتداعيان بسرعة كبيرة عندما تكتب إحداهما على الورق. لقد كان عليّ أن أذهب إلى شاتيلا لأُدرك بذاءة الحبّ وبذاءة الموت. فالأجساد، في الحالتين، ليس لديها ما تخفيه. كان جسم رجل فيما بين الثلاثين والخامسة والثلاثين مُمدداً على بطنه، والجزء الوحيد من وجهه، الذي تمكنتُ من رؤيته، كان بنفسجياً وأسودَ. وفوق الركبة بقليل، كان فخذه المثني يكشف جرحاً تحت الثوب المُمزق. ما أصل الجرح: حربة، أم سكين، أم فأس، أم خنجر؟ ذباب فوق الجرح وحوله. والرأس أكبر من بطيخة، بطيخة سوداء. سألت عن اسمه.
– فلسطيني، أجابني رجل فرنسي في الأربعين وقال: أنظر ما فعلوا.
وسط جميع الضحايا التي تعرّضت للتعذيب، وبالقرب منها، لا يستطيع ذهني أن يتخلص من تلك “النظرة اللامرئية”: كيف كان شكل ممارس التعذيب؟ من هو؟ إنني أراه ولا أراه. إنه يفقأ عيني، ولن يكون له أبداً شكل آخر سوى الشّكل الذي ترسمه وضعية أجساد الموتى، وإشاراتهم الخشنة، وهم تحت الشمس، تنهبهم أسراب الذباب)18.
لقد حاول جان جينية أن يتخيل الألم الذي عانت منه كل جثة من الجثث قبل احتضارها الأخير، باستحضاره كافة الاحتمالات التي بإمكان المخيلة أن تنتجها وهي في حضرة الموت، وأمام الاجساد الهزيلة التي مثل بها، بنوع من التلذذ السادي. ولقد حاولنا بدورنا أن نجسد ذلك، من خلال البحث عن شكل الحركات الدفاعية التي قامت بها هذه الاجساد المتناثرة بين أزقة المخيم الضيقة، قبل الموت وبعده.
(أول جثة رأيتها كانت لرجل في الخمسين أو الستين من عمره، وكان مهيأ ليكون له إكليل من الشعر الأبيض، لولا أن شرخاً (ضربة فأس، فيما خيّل الي) قد فتحت جمجمته. جزء من النخاع المسود كان ملقى على الأرض الى جانب الرأس. وكان مجموع الجسد مسجىً فوق بقعة من دم أسود ومتخثر. لم يكن الحزام مشدوداً. والبنطلون ممسوك بصدفة واحدة. كانت رجلا الميت وساقاه عارية، سوداء، بنفسجية وخبازية اللون، ربما فوجئ في الليل أو عند الفجر؟ هل كان بصدد الهرب ؟ )
إن نص جان جينيه، يعتمد في تركيبته وبنائيته الكتابية على اللغة، ولكن ليس على أية لغة، إنه يعتمد، على لغة الأدب التي سمحت لنا باستخدام لغة إيقاعية شعرية موزونة بعيدة كل البعد عما هو واقعي، استخدام لغة استطاعت أن تعبر عن نفسها من خلال اختصار الذاكرة كفكرة بكيفية درامية. من المعروف عن هذا النوع من المسرح-والمقصود هنا المسرح الحكائي- يتأسس على عوالم من السرد الذي يمنح الزمن في الكثير من الأحيان، إمكانية أن يخترق عصور الماضي، والحاضر والمستقبل بحرية، يسمح له لأن يلعب على ومع العلاقة المعقودة بشكل خفي ما بين الحقيقة المعاشة، والحقيقة المخزونة في الذاكرة والحقيقة المتخيلة. إن الحاضر في هذا النص، يتعاقب مع سردية الماضي من أجل أن يكمل بقايا الحلقات المفقودة، وذلك من خلال رسم وتصوير كل ما هو عاطفي، اجتماعي، سياسي، وتاريخي. في خضم هذه الفوضى الفكرية التي تتداخل فيها العصور، حاولنا أن نبحث عن نظام جديد لا يشبه بكل تأكيد ذلك النظام الذي نادى به بوش الرئيس الأمريكي الأسبق أيام حرب الخليج، وإنما يبحث لنفسه عن أسلوب يكشف عن خرابات الحروب والجرائم المرتكبة، التي لم تفارق مخيلتنا.
لقد حاولنا في تجربة (أربع ساعت في صبرا وشاتيلا)، الاقتراب من حدود اللغة، من خلال التوزيع العادل للصمت والصوت والموسيقى، من خلال أصوات اللغة نفسها، التي تقود إلى ما وراء الحواس، وإلى أصوات أخرى أيضا يتم اختراعها، خارج اللغة. بهذه الطريقة تعالت أصوات الجثث التي استحضرها جان جينيه، كالمزامير، ومثل محاولة غير محدودة للغة. لأن اللغة، في الكثير من الأحيان تكون غير دقيقة، وتقريبية، وتبعث على سوء الفهم، والغموض، والضبابية، والتناقض، ولهذا فإننا قد وجدنا ضالتنا في هذا الفضاء الذي يتناوب فيه النثر والشعر في آن واحد. ولم يكتف عملنا مثلما إنه لم ينحصر على سماع معاني النص، لا سيما إنها كثيرة، وإنما أيضا على إسماع نسيج صوتي مصنوع من المواد المتخيلة والعاطفية، التي يتردد صوتها في داخلنا، لكي تبدأ في خلق وبعث الحياة فيها. ومن أجل الحفاظ على عدم تحديد وتعيين الكلمات، عملنا باستمرار على النظر في درجة إشعاعاتها. أي إننا حاولنا اسماع هذا الذي مازال بإمكان المسرح أن ينتزعه من الكلمات، وهذا يعني بموجب أنتونان أرتو، (إمكانية التفتح خارج الكلمات، والتطور في الفضاء، والتأثير الاهتزازي الفاصل على الإحساس. ها هنا تتداخل النبرات، والطريقة الخاصة التي تنطلق بها الكلمة. ها هنا تتداخل، فيما بعد لغة الأصوات السمعية، واللغة البصرية، ولغة الأشياء، والحركات والوقفات، ولكن بشرط أن يمتد معناها، وشكلها وتجميعها إلى الإشارات)(19). إذن، إن عرضنا لم يقتصر عمله على قيمة الكلمات الخطابية، التي يعرفها أرتو مثل قيمة توضيحية تفسيرية، وإنما أيضا، على قيمتها التوسعية. وكان هدفنا من ذلك، كسر حالة الصمت، والتغلب على المفاهيم الخاطئة، عن طريق الفصل بين الذاكرة، والعمل على استجوابها، من خلال (خلق الممكن)، مثلما تقول شنتال لامار.
كلمة …
يصف جان جينيه نص (أربع ساعات في صبرا وشاتيلا)، بقوله: « إنه نوع من حكاية صغيرة كتبتها، حكاية لم أكتبها انطلاقاً من أفكاري، حكاية كتبتها بكلمات هي كلماتي ولكن لأحكي فيها عن حقيقة ليست حقيقتي».(20) إن هذا العمل هو فعل أرشيفي حقيقي قد تم انجازه من خلال مخطوط مكتوب، على هيئة حكاية صغيرة. إن جان جينيه قد ترك ذكرى، والتي هي هنا بمثابة الأثر الذي تشكل بمجرد ما راح يسرد الواقعة. وهذا ما يتشابه كثيرا مع المسرح في سرده وحكايته للوقائع, إن المسرح هو حفل، أو ينبغي أن يكون كذلك، انه الحفل الذي نحصل فيه على المتع: متعة اللحظة الحالية، والاستسلام إلى ما هو غير متوقع، ومتعة تحدي المواضيع … وإن العمل فيه لا ينفصل عن الاحداثيات الزمكانية، أي ما كان قبل اليوم، ومثل هذه الساعة، وفي هذا المكان. ومن هذه الاحداثيات الزمكانية يأخذ المشاهد متعته، من هذا العمل الفني الذي لا يمكن استنساخه، على الرغم من تكراره. وهل يمكن اعتبار وقت تجميع الآثار بعد الحفل بيوم، هو وقت بدء الارشيف؟ إن المسرح فن المفارقة. وبإمكاننا الذهاب بعيدا ونقول إنه المفارقة ذاتها، فهو نتاج أدبي وفي نفس الوقت، عرض مادي؛ وهو في ذات الوقت، فن خالد (قابل لأن يعاد إنتاجه وتجديده دائما وأبدا)(21)، وهو فن آني لا يمكن إعادة إنتاجه بنفس الطريقة التي تم تصويره فيها من قبل: لأن العرض الذي يقدم اليوم لا يمكن أن يكون أبدا هو نفسه غدا؛ فهو فن على حد قول «انتونان أرتو، صنع لأجل عرض ونهاية واحدة. انه فن اليوم، وأن عرض الغد، الذي هو نفسه كان عرض البارحة، يُمثل من قبل أشخاص تحولوا إلى شخصيات أخرى وأمام جمهور هو الآخر مختلف. وهو بهذه الطريقة يترك آثارا كثيرة، والأثر يعني الأرشيف، وإنه ليس بحالة زائلة وإنما هو نتيجة لها، ومن المستحيل القول إن الفعل كعرض مسرحي، على سبيل المثال، لم يدم طويلا إذا كان لا يترك اثرا، إذ لا يوجد فعل من دون أثر. إن الفعل كعرض مسرحي يترك الذكرى، التي هي الأثر بمجرد ما يسرد واقعة. وهنا يلتقي المسرح بما فعله جان جينيه عندما قام بسرد واقعة صبرا وشاتيلا. نقول أن الفعل المسرحي سريع الزوال، وهذا في الحقيقة ما يعطيه اسما ووجودا ويخلق له ارشيفا. إذن إن االعرض المسرحي كونه فعل زائل ينتج أرشيفا، ويبدو أن هذا هو التناقض، ولكن هل بإمكاننا أن نقول ان الحلم موجود أن لم تكن له قصة ؟ إن المسرح هو فن التطبيق، والممارسة العملية الزاخرة بالمعالجات، والعلامات الكبيرة،: يجب أن يكون مرئيا، ومفهوما كليا. إذن إنه يحتاج إلى المشاركة النشطة والفعالة للعديد من الأفراد، دون الأخذ بعين الاعتبار التدخل المباشر وغير المباشر للمتفرجين. إنه فن ذهني وصعب، ولا يتحقق ولا يصل إلى هدفه إلا في اللحظة التي يصبح فيها المتفرج المتعدد من حشد إلى جمهور، في وحدته المفترضة مسبقا، مع كل ما يستلزم ذلك من غموض وخداع(22). لأن الذاكرة التي لا يمكن مقاسمتها بالكاد موجودة، فالمشاركة تترك اثرا، يعني، أرشيفا.
نلاحظ أن في الأرشيف المسرحي توجد خصوصية لا مثيل لها في أي أرشيف آخر من حيث أنه الخلاصة، وراسب الحدث أو قاعدته، وهو في هذا الوحيد الذي يستطيع أن يقول أو يشير إلى وجود الحدث. في حين أن مخطوط الرواية، في الواقع، هو مثيل للرواية، ومن دون هذا الأرشيف، أوهذا المخطوط، فالرواية موجودة رغم ذلك، عكس المسرح تماما، فهو من دون الأرشيف، لم يعد هناك وجود للعمل المسرحي. إذن، ان أرشيف المسرح هو فريد من نوعه من حيث أنه أرشيف للحدث. إن أرشيف الرواية يشبه الرواية، وأن أرشيف المسرح ليس هو بنظير له، وذلك وببساطة، لأن مادة العمل المسرحي غير موجودة!
إن ارشيف المسرح غير مكتمل في الاساس. وبلا شك أن أرشيف عمل مخطوط سواء كان أدبيا أو تشكيليا هو إضافة للعمل نفسه، في حين أن المسرح هو نتيجة طرح واقتطاع وتبديل، وإنه يتجاهل بالضرورة مادته، ويفقدها، وإنه قلتها، في حين أن أرشيف العمل المخطوط، على العكس، يغلفها، ويغطيها، ويزيدها. وانطلاقا من هذا (القليل) الموجود في الارشيف المسرحي، يتوجب تخيل الكل الذي، هو بطبيعة الحال، ممتنع بشكل نهائي، إلا من خلال الخيال، وقوة التجسيد واللعب. ونحن نعلم أننا انطلاقا من الأرشيف، لا يمكن استعادة العمل لأنه هو حدث غير موجود خارج وقته الخاص، ونحن لا نقدر على استعادته، ولكن بإمكاننا صناعة شبيها له ولمظهره.
وفي النهاية، إننا لسنا مجرد متفرجين على ما يحدث قي وحدة الزمن الذي نعيش فيه، بقدر ما نحن نعيش أيضا في ما جرى بالماضي القديم ، والأخر. وإن الأرشيف يقوض الخصائص الزمنية من حياتنا العملية والفكرية ويوسع من حساسيتنا, يتساءل جاك كوبو، ويقول: هل نحن ممثلون لماض قابل للاسترجاع ؟ أم أننا على العكس، المبشرون بالمستقبل الذي بالكاد يمكن أن يستشف المرحلة القصوى لعصر منته ؟(23)
الهوامش
1 – Greg Dening, Performing on the Beaches of the Mind: An Essay, History and Theory, Vol. 41, No. 1 (Feb., 2002), pp. 1-24, Published by, Blackwell.
2 – شهادة شخصية نشرها الأديب الفرنسي جان جينيه في مجلة “الدراسات الفلسطينية” بالفرنسية، ثم نُشر النصّ العربيّ في مجلة “الكرمل”، العدد السابع، 1983. أعيد نشرها ونُقلت عن ملحق “فلسطين” الدوري في “السفير” اللبنانية، العدد 5 – الإثنين 20 أيلول 2010.
3 – ettres à Roger Blin Jean Genet,, Edition Gallimard, Paru en avril 1986.
4 – Lettres à Roger Blin Jean Genet,, Edition Gallimard, Paru en avril 1986.
5 – Lettres à Roger Blin Jean Genet.
6 – Les paravents, Jean Genet, Théâtre (poche),Folio, numéro 1309 ,Edition Gallimard Paru en 09/1981.
7 – Lettres à Roger Blin Jean Genet.
8 – Lettres à Roger Blin Jean Genet.
9 – Les paravents, Jean Genet, Théâtre (poche),Folio, numéro 1309 ,Edition Gallimard Paru en 09/1981.
10 – Biet Chr., 2006, dir, Théâtre de la cruauté et récits sanglants (fin du XVIe-début du XVIIe siècle), Paris, Laffont.
11 – مذبحة صبرا وشاتيلا، بالاعتماد على الكثير من المصادر الموجودة في الصحف المختلفة وعلى موقع ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
12 – Entretien réalisé avec Emmanuel Wallon, 14 février 2007.
13 – شهادة شخصية نشرها الأديب الفرنسي جان جينيه في مجلة “الدراسات الفلسطينية” بالفرنسية، ثم نُشر النصّ العربيّ في مجلة “الكرمل”، العدد السابع، 1983. أعيد نشرها ونُقلت عن ملحق “فلسطين” الدوري في “السفير” اللبنانية، العدد 5 – الإثنين 20 أيلول 2010.
14 – شهادة شخصية نشرها الأديب الفرنسي جان جينيه في مجلة “الدراسات الفلسطينية” بالفرنسية، ثم نُشر النصّ العربيّ في مجلة “الكرمل”، العدد السابع، 1983. أعيد نشرها ونُقلت عن ملحق “فلسطين” الدوري في “السفير” اللبنانية، العدد 5 – الإثنين 20 أيلول 2010.
15 – ARTAUD, A., Le Théâtre et son double, Paris : Gallimard, 1964, p. 141
16 – شهادة شخصية نشرها الأديب الفرنسي جان جينيه في مجلة “الدراسات الفلسطينية” بالفرنسية، ثم نُشر النصّ العربيّ في مجلة “الكرمل”، العدد السابع، 1983. أعيد نشرها ونُقلت عن ملحق “فلسطين” الدوري في “السفير” اللبنانية، العدد 5 – الإثنين 20 أيلول 2010.
17 – Jorge Luis Borges, Fictions, Gallimard, 1991.
18 – شهادة شخصية نشرها الأديب الفرنسي جان جينيه في مجلة “الدراسات الفلسطينية” بالفرنسية، ثم نُشر النصّ العربيّ في مجلة “الكرمل”، العدد السابع، 1983. أعيد نشرها ونُقلت عن ملحق “فلسطين” الدوري في “السفير” اللبنانية، العدد 5 – الإثنين 20 أيلول 2010.
19 – أنتونان أرتو، المسرح وقرينة، مسرح القسوة (المنفستو الأول، باريس، كاليمار ، 1964، صفحة 138.
7- المصدر الجريدة الإلكترونية المغربية:
http://www.hespress.com/?browser=view&EgyxpID=2114
21 – Anne Ubersfeld, Lire le théâtre, Paris, ?ditions sociales, 1977, 316 pages.
22 -Anne Ubersfeld, Lire le théâtre, Paris, ?ditions sociales, 1977, 3120 pages.
23 – Copeau Jacques, Les registres du Vieux Colombiers 111, Paris, 1979, P 426 .