ماذا أقول عنه بعد رفقة دامت أكثر العمر؟ كنت غالباً ما ألتقيه في حرم الجامعة اللبنانية الأميركية في رأس بيروت حيث كان يدرّس. وبعد تقاعده استمرّ تواجده فيها وهي بالنسبة اليه كانت قِبلة حياته.
ولد فؤاد رفقة في قرية الكفرون في سوريا سنة 1930. ثم جاء مع عائلته الى بيروت حيث تابع دراسته الجامعية في الجامعة الأميركية ومنها الى جامعة توبنغن في ألمانيا حيث نال شهادة الدكتوراه سنة 1965 في الفلسفة عن الفيلسوف الألماني المعروف مارتن هايديغر.
ولعلّ أهم ما قام به الدكتور فؤاد رفقة ترجمته للشعر الألماني وللفلسفة الألمانية. ترجم لعدد من كبار الشعراء الألمان أمثال: غوته وريلكه وهولدرلن ونوفالس وتراكل وهيسّه، الى مختارات من الشعر الالماني الحديث.
شارك يوسف الخال في نشر مجلة «شعر» سنة 1957، وفي سنة 1961 نشر مجموعته الشعرية الأولى «مرساة على الخليج». الويل لمن يختاره الشعر!
ومنذ أن وقع صدفة في معهد غوته في بيروت على كتاب الشاعر النمساوي راينرماريا ريلكه(1875-1926) حتى أُخذ به. وفي دراسته للفلسفة في المانيا اقتنع بأن الشعر والفلسفة توأمان. إن دراسته للشعر الألماني وللفلسفة الألمانية أثرت في كيانه مدى حياته. تأثر بالتجربة الانسانية والنِظرة الى الوجود وبالتأمّل وبالفكر عمّا يزخر به الشعر الألماني.
وجد فؤاد رفقة، الذي يحب العزلة والتأمل في الوجود، نفسه مسوقاً الى ترجمة مختارات من الشعر الألماني منحته معنىً جديداً للحياة وأضاءت له السبيل لاكتشاف أسرار الذات والوجود والحبّ والموت مما نال عليه أعلى التقدير من الأوساط الثقافية في ألمانيا تُوّج بمنحه جائزة غوته سنة 2010.
استمر فؤاد في التردد على زيارة الجامعات والمراكز الثقافية الالمانية. وفي صيف 1993 – وكنت قد دعيت لتدريس «سمينار» في جامعة مونستر التي درست فيها، يتناول الشاعرين الكبيرين خليل حاوي وأدونيس – هنا هو في بلدة شترالن التي تقع قرب الحدود الهولندية حيث يوجد مركز للذين يعملون في الترجمة من وإلى اللغة الألمانية – ألحَّ عليّ أن ازوره هناك. ففعلت، وأمضينا أياماً كنّا نتذكرها كلما التقينا في بيروت.
لم يكن فؤاد ممن يسعون الى التكريم، ولم يُبْتَلَ بمرض حب الظهور، ولم يكن يؤخذ بالمظاهر والقشور. كان يهوى ان يعيش في الظلّ يعمل بصمت يمارس نظم الشعر وترجمته. ان ترجمة الشعر ليست أسهل من نظمه.
ترك عشرات المجموعات الشعرية والمؤلفات والترجمات الشعرية والفلسفية وكان «بيدر» – وهو عنوان أحد كتبه – اللقب الذي يأنس اليه.
يوم أخبرني، في حرم الجامعة اللبنانية الأميركية، صباح ذلك الاثنين المشؤوم في 7/6/1982 عن انتحار صديقنا المشترك الشاعر خليل حاوي ليل الأحد في 6/6/1982 بكيناه معاً. أما اليوم بعد رحيله فقد تركني أبكي وحيداً.
رحم الله الشاعر الكبير أمين نخلة الذي قال:
وَجَدَ الأحبابُ مَن يبكي لهم
وغداً نمضي، فمن يبكي لنا..
في كتابه «مرثية طائر القطا» الصادر عن دار نلسن، 2009، يقول:
«مثلما الشاعر يحب الموت
كلما اقترب من الموت».
ويقول: «شبح أشبه بالموت يعبر
أيها الموت ابتعد حتى أراها
ثم خذ ما أبقت الأمواجُ
من آثار عمري».
ويقول: «أيتها الكائنات الخفيَّة، أيتها القوى التي لا تعرف النعاس، أنتِ يا من ترسمين مسار الريح ومصائر السفن، اليكِ نضرع، فخلّصيه بالموت مما هو قد أقسى من الموت».
وفي كتابه الأخير «مِحدلة الموت وهموم لا تنتهي» الصادر عن دار نلسن 2011، نجد أن فؤاد، المسكون بهاجس الموت الذي رافقه طيلة حياته، يرثي ذاته.
يقول(ص 4) مخاطباً الموت:
«يا موتُ
يا محدلةً
لا تعرف الضجر».
وفي(ص 13) يقول:
«يا موتُ، شكراً
ما تبقّى
ربّما يُنهيه في مملكةٍ
لا زَمَنٌ فيها
ولا حدود:
فانثر على جثمانه الورود».
وهو يحاور الموت ويواجهه. الموت لا ينتظر. الموت جلاّد ينفّذ حكم الإعدام دون محاكمة! فلا بُدّ أن يخلي مكانه لسواه ويعود الى التراب الذي جاء منه.
وفي(ص 43) من كتابه «محدلة الموت» يقول:
«صار حطّاباً يرى
ما تحدس الطيرُ وما
تسيّره الريح الصديقة».
سنة 1988 أصدر كتاباً بعنوان «يوميات حطّاب» فأحببت أن أُطلق عليه لقب «حطّاب». هكذا كنت أتخيّل فؤاد رفقة حطّاباً يقطع الجذوع اليابسة ويُقلِّم الأغصان الذابلة ويُبقي على الأغصان النضرة الممتلئة عافية وحياة.
لا أجد أروع ما أختم به كلمتي عنك يا صديقي مما قاله الشاعر عبدالله غانم في ديوانه «العندليب»: «حطّاب نَزَّلَ حَمِلْتو وارتاح».