على مدى عامين من زمن مضى، لم تكن هناك مشكلة.. بل على العكس من ذلك، هناك ود واحترام ومحاولات مستمرة لاقامة علاقات مودة بينه وبين كل الزميلات والزملاء..
كان يدرك تماما أنهم يريدون اتخاذ صداقته المتينة مع السيد المدير العام لتحقيق مأرب شخصية.. وكان في أعماقه قد وصل إلى قناعة تامة وموقف حاسم بعدم ايجاد أي تداخل بين عمله الوظيفي وصداقته مع السيد المدير العام.. فهو لا يريد أن يعرف ويحترم ويكافأ.. من خلال هذه الصداقة، بل أن تكون له~ التي يريد أن يعرف بها.. لا الإنسان الذي يرسمون صورة المدير العام في عينه وقلبه وذاكر ته فحسب ثم يجردونه من كل شيء على مدى ستين من الأعوام بناها بيقظة تامة واحساس عميق واخلاص تام واتقان وتفان ونقاء.. كذلك لا يريد أن يمارس ضغطا على أي قرار يتخذه المدير العام.. وان كان يدرك جيدا خطأ القرار.. حتى لا يأخذ التفكير بالسيد المدير.. انه مستغل وانه يريد تحقيق رغبات ومكاسب شخصية لنفسه..
كان يجهد نفسه، حتى يبقى مشرقا في عيني نفسه، وفي عيني المدير، وفي عيون كل الموظفين.. حتى يدركوا أن المدير العام لم يأت به، لمجرد انه صديق يريد أن يحقق له فوائد، بل لأنه أهل لعمله.. قادر عليه، متفوق فيه.. يملأ الكرسي الذي يجلس عليه بكفاءته. كانت به رغبة ان يحب موظفة بادلته الارتياح التام في الحوار، لكنه أرجأ نمو هذا الحوار..
كانت به.. حقائق لخيرة يريد ايصالها الى المدير العام.. لكنه رفض فكرة أن يقول شيئا.. قد يضر بالموظف ماديا.. وبالموظفة سلوكا.. وبالدروب التي تحيط بطبيعة العمل وتثقل هشاشة غلافه الخارجي.
كان يرى كل شيء يقود الى الأعمى.. وان كل شيء بدأ يذوب ويتلاشى وأن كل هذا الهوى من بذخ الألوان والموسيقى والابتسامات العريضة المحيطة به.. وأن كل هذه الحميمية والصداقات التي تبدو أقوى من العروة الوثقي، وأن كل ما يعبرون به عن موقف أمين، ودراية كلية، وعمل مخلص مفتون بالتفاني، وان كل هذا الحب الذي يضمرونه للسيد المدير العام.. ما هو إلا كذب بدءا من الجذر.. وصولا الى اللانهاية..
يتساءل: كيف يمكن أن يلفي ظاهرة الزيف التي صدق بها السيد المدير العام كيف يثبت له عكس قناعاته تلك. كيف يمكن أن يصطفي نفسه خارج هذا الاطار الكلي..؟ ظلت الأسئلة تحاصره، والحزن يثقل عليه.. فيما الكل يسعى للاقتراب منه، للاقتراب من المدير العام.. عن طريقه.. لكن لم يفكر في يوم ما أن يحقق مكاسب لنفسه أو لسواه عن هذا الطريق.. بل أن يضحي أكثر من سواه، أن يعمل بجهد مضاعف.. أن يكون القدوة الحسنة، أن يكون أول من يضحي وآخر من يستفيد.
لا يعرف على وجه الدقة إن كان المدير على بينة من هذا، أم أنه يفكر على العكس من ذلك.. على أنه صاحب فضل عليه، على أنه مدين للسيد المدير العام.
كان يهمه الا تكون هناك.. تراكمات.. فضل مبذول ودين مؤجل. ولا مودة ظاهرة، ولا زيف مكتوم.. ولا كتمان لحقيقة..
حين فكر بالكتمان.. توقعه مليا.. أحس أنه يختنق بالكلمة.. بأمر مر وقاس لا حدود له..
لقد نبه السيد المدير العام.. بعد تردد ومراجعة وتأهيل..
ثم حسم الموقف وقال رأيه الصريح في هذه المسألة أو تلك.. وكان يريد أن يبوح بالكثير الكثير.. لكنه لم يجرؤ.. لا من خوف فيه، ولا تردد من عدم قناعة تامة، ولا خشية غضب.. ومن ثم تسريحه من عمله، أو إهمال شأنه.. ولكنه كان يحرص تماما على الا يثير حالة من شأنها أن تصعد مرض من يحب.. مما يجعل ضغط الدم الذي يعاني منه السيد المدير العام يصعد، ويتوتر..
وبالتالي يهون عليه وفق حقائق كثيرة ومتراكمة بات ينوى بحملها.. ثم يجيبه.. سهلة، خفيفة، ماذا أفعل.. أو يضع حلولا توفيقية، وفي أدق وأكثر الأمور والقرارات حسما اصدار موافقات عديدة.. وأوامر ادارية.. لا ينفذها أحد!
آلمه أن يكون هكذا.. في موقع يسمع ويرى ويلمس ويحس.. ويعيش واقعا خاطئا.. ثم يسكت على كل شيء.. يكتم كل حقيقة.
لم يفكر بايذاء أحد.. لم يكن يريد للمدير العام أن يلعب هذا الدور.. الذي هو أصلا من طبع المدير من صلب شخصيته.. من الفنان الرقيق الحس الذي يملأ قلبه وذهنه.. مثلما هو في الكتابة التي يمارسها بعشق خاص لقد جاء به ليكون خبيرا ثقافيا.. إذن لا عليه من كل الأخطاء المحيطة به لا عليه من لوحات تسرق أو تزيف أو تشوه..
لا عليه من اتفاقات خاصة على إخراج لوحات ودخول أخرى.. لقاء ثمن لا عليه من صفقات جداريات ونصب ينفذها هذا أو ذاك.. لا يهم من يكون.. من يكون هو من يدفع أكثر.
لا عليه من حسابات تصطفي لأشخاص بعينهم فوائد استثنائية، ويرضعون في لجان تجني فوائد، أو عمل اضافي وهمي.. فيه فوائد، فلا أحد يستحق أن يتمتع بالأهوال إلا من يجمعها، ولا شأن للآخرين بنقود ينظرونها تتبدد يوميا من الدائرة في أمور هامشية.. ومن ينظر يكتفي بالنظر.. والحق كل الحق لمن تعامل مع جدول الضرب.. لا بضرب مبرح بل بلمسة حنان، بود غامر.. فطبع الأوراق النقدية.. من طبع أوراق الورد المندى بالعطر لا عليه من أشخاص وظيفتهم صرف مكافآت لسواهم، مقابل حصة.. والأفضل من يجعل نسبة الحصة أعلى.
لا عليه من إعلام يصرف لـ(الزملاء والزميلات) أجور نقل ومكافأة جهد، فالأعلامي الجيد من يقابل الاحسان بالاحسان والمنفعة بالمنفعة !
لا.. لا عليه من لوحة ترفض أو تضيع أو تباع دون علم صاحبها..
لا عليه من قوائم رسمية ومختومة.. تقر شراء مواد بأثمان أكثر خيالا من الخيال.. مادامت تثبت الأسعار لا وفق حركة السوق اليومية، بل وفق مشيئة لجنة المشتريات العتيدة المؤتمنة على تقسيم الأرباح.. أما أن تكون المادة المشتراة من أردأ الأنواع، لتحسب في قائمة الحسابات أفضل الأنواع وبأ على الأسعار فهذا أمر تقره لجنة معتمدة.. لا رأي للفرد فيها، فالفرد عرضة للابتزاز وللطمع وللشيطان أن يلعب في دخيلة نفسه.. أما وجود اللجنة.. فهو الأكثر ضمانا لصالح جماعة تعرف كيف تقسم.. وتعطي لكل زي حق حقه، ولا حق لثرثار، ولا لمغفل يدعي القيم، ويقيم جدارا بينه وبين الباطل، بينه وبين المال الحرام.. فمثله معتوه، ومثالي، لا يستحق أن يفكر فيه أحد إلا من جانب حذر.. والحذر سر المواقف ! لا.. لا عليه أن يذكر بمسؤول قسم يكتب مكافآت لأفراد من قسم آخر.. فالسيد المدير العام.. يوقع بالموافقة، ويقر بالحاجات والفوائد المتبادلة بين الأقسام.. ومثل هذا تعاون مشروع، واعتراف بحقوق ووفاء..
لا عليه من آلاف من الدنانير التي تصل حد المليون وقد تتجاوزه بأرقام.. من أجل صيانة التدفئة والتبريد والمصاعد ودورات المياه وسيارة الدائرة واصلاح الكراسي أو شراء باقات الورد أو شراء حاجات لا حاجة للدائرة بها.. أو إرسال من يشتري وجبات طعام شهية لمن يبذل جهده في التفكير بتحقيق مزيد من الفوائد لنفسه وللحميمين معه..
الكل من حقه أن يفكر بالسراق والفاسدين و.. لكن ليس من حقه أبدا، ولا أن تتمادى به مؤشرات الشك لتتجاوز حدودها.. وتطالب بالعدالة.. عدالة أن يسرق الجميع كما يشاؤون مثلما يعشقون من يشاؤون..
تلك مسألة لا يفترض أن ترد في البال.. فالكلى يجب أن يصل إلى قناعة تامة تقر وتعترف، أن موقعا يتيح لك فرصة أن تسرق وتملأ الأرض فسادا دون أن تجعل أحدا يكشف سرك.. فهذه هي الشطارة التي لا يصل اليها إلا من كانت له بصيرة.. فاليوم لك ما تغنمه وغدا عليك أن تضع حسابات مقدما.
فكر.. كيف تجني أكثر الفوائد، بأقصر وقت، بأقل جهد، بأعلى سرية. هكذا.. راح يحاور نفسه، ويسعى جاهدا للوصول الى نتائج، إلى أمر يعينه من إثم الكتمان، من. ضجة الصمت التي فيه.
مرارا سكت.. مرارا أومأ.. مرارا كشف.. مرارا وضع حقائق.. السكوت والايماء والكشف والحقائق كلها.. كانت تذوب وتتلاشى في حكايات لاحقة مع حميمية الحديث مع السيد المدير .. والسيد.. السيد..
السيد.. من فرط طيبته لا يحسم.. حتى الحسم عنده لا ينفذ.. حتى التنفيذ يظل منقوصا.. حتى النقص يكبر.. يكبر حين يزعم الموظف الإداري.. أن هذا يجوز وهذا لا يجوز قانونا، ويكبر حين تدعي موظفة الحسابات.. الدقة والأمانة وتجمع كل الفضائل على لسانها.. ثم ترميها في أقرب سلة للمهملات تجدها أمامها.. يكفيها أن السيد المدير العام، يثق بها، ويقول: أنا لا أفهم في الحسابات ! يكفيها.. أن يرتاح إلى ابتسامتها والى هاتفها، والى معرفة أسرية تدعيها.. ثقلت الأمور. الإشاعة الواحدة صارت إشاعات.. خرجت من جدران أربعة إلى فضاء الدائرة، إلى فضاءات الوزارة.. صارت تلوح في كل مكان.
والسيد المدير العام.. كان قد نسي أن الكرسي الذي يشغله.. هو مجرد كرسي. لا يمتلئ إلا بالحكمة.. حكمة شاغله.. إما أن يكون المتكأ مريحا والجلسة مستقرة والاستئذان بالدخول.. والحذر من غضب المسؤول الأعلى.. فتلك مسألة أخرى لا يريد لصديقه أن يهدأ اليها أو يركن لوجودها.
كانت به رغبة مخلصة إلى أن تتحول هذه الدائرة إلى مركز اشعاع حضاري، الى نموذج يحتذى بالتفانى والإخلاص والعطاء.. مادام يدرك جيدا أن السيد المدير العام يفكر هكذا.. أيضا وعلى نحو متقدم دائما.. لكنه بات يفاجأ كل يوم بمحنة جديدة بإشكالات واضحة الخلل، وأشخاصها في قلب البصر.. والسيد المدير العام يتجاوزها كأنها لم تكن.. حتى أحس أن السيد المدير يسكت.. يسكت لسبب ويتغافل عن حقائق لسبب، ويقبل بما لا يقبل لسبب ويرضى.. لا تنفذ قراراته وموافقاته – التي قد يكون محرجا في المصادقة عليها- لسبب.. هناك سبب إذن.. هناك تبرير جاهز للأخطاء إذن.. هذا ما يسمعه وينكره ويرفضه ويجادله في حقائقه.
لا يريد أن يصدق ما يقال عن السيد المدير العام.. لا.. ما يعرفه عن السيد.. أنقى وأبر وأقدس من كل ما يقال لا.. لا يمكن أن يصدق بطائر بري ساحر الألوان.. غريدا.. صفى كماء الينابيع، يمكن أن يتحول إلى خرتيت.
يمكن أن يصدق بجبال تتلاشى، ببحار تجف، بشمس ترفض أن تشرق، بشيخوخة تعود إلى شبابها، وشباب يشيخ فجأة.. بالموت يتمرد. وبالحياة تتمرد نحو الضد لكنه لا يمكن أن يصدق.. بالأسباب المقرونة بالسيد المدير العام كونه بات شريكا فالأسباب تنتحر خجلا من نقائه، والأسباب أوهى من أن تكون.. والأفضل الأفضل.. الأفضل أمر واحد ينبغي عليه حسمه.. هو أن يترك المكان.. أن يترك أوراقه وأقلامه تجف على المنضدة وحيدة. وأن يدع ألوان صديقه.. السيد المدير العام تعلن عن أنفاسها.. تبوح لمن يحب ولمن يكره.. فهذا أفضل، أفضل تماما.. أن يخنق الإنسان محتفظا بعافية صدقه، فمن يسكت أمام ألوان الصديق العزيز التي بدأت تفرق، تفرق وهو في موقع حالم.. لم يستيقظ بعد، وليس لديه الاستعداد للاصغاء.. وجر أقدامه إلى الخارج ينوى بأثقال من الهم.
حسب الله يحيى (كاتب من العراق)