جميل الشبيبي
باحث عراقي
يمثل صعود الهامش إلى مركز القرار في الحياة العربية المعاصرة أحد الإشكالات المهمة التي ظهرت إثر التحولات الكبيرة في حياتنا، في عصر ما بعد الحداثة، ويمثل ظهور النساء في الحياة المعاصرة بشكل فاعل تحديًا وإجابة فاعلة على أسئلة وفتاوى الفقهاء ورجال الدين والرجال عموما حول دورها المحدود في الحياة الذي رسمه الفقه بوصفها وعاء يحمل نطفة الرجل، وأنها عيب ينبغي ستره، وهي آراء أخذت صفة التطبيق خلال عصور التاريخ وأطبقت على واقع المرأة الحياتي فجعلته شبكة من التضييفات والكبت والطرد إلى هامش الحياة بفعل هذه التفسيرات المتعسفة، وخلال مسيرة التاريخ الطويلة سنتعرف على بعض الفتاوى المتناقضة من عصر إلى عصر عن تهميش المرأة، وكلها تعتمد الآيات القرآنية بتفسيرات مختلفة.
ومن أبرز الاتجاهات الفقهية حول قضية تولي المرأة الشأن العام والخاص في الدولة ما كتبه الدكتور مشتاق بن موسى اللواتي، وهو باحثٌ في الفكر العربي الإسلامي من سلطنة عُمَان، بحثٌ قدم فيه تقسيما لاتّجاهات (الفقهاء والمفكِّرين المسلمين حول هذه القضية إلى ثلاثة اتّجاهات، وهي:
الأول: حرمة تولّي المرأة جميع مناصب السلطة.
الثاني: مشروعية تولّي المرأة بعض المناصب، مع بعض القيود.
الثالث: أهليّة المرأة لتولّي جميع مناصب السلطة.(1)
وهناك آراء أخرى تتعلق بالزواج وأحكامه بين القدماء والمعاصرين، فالزواج مثلا عند كبار الفقهاء القدامى، على وفق ما يقول أبو حامد الغزالي عنه في كتابه (إحياء علوم الدين): هو نوع من الرق (والقول الشافي في أن النكاح نوع رق، فهي رقيقة له، فعليها طاعة الزوج مطلقا في كل ما طلب منها في نفسها مما لا معصية فيه ص497)
ويصف الإمام أبو حامد الغزالي المرأة أيضا بصفات الحيوان وينزلها منزلته، حين يعدد ما يشبه صفاتها التي يعتقد أنها متوفرة فيها فهي: الخنزيرة والحية والكلبة، والبقرة وغيرها، جاء ذلك في أحد كتبه كما يقول الباحث معجب الزهراني(2)، إلى جانب تحذيرات وشكوك ونصائح ملزمة في معاملة المرأة تستند إلى روايات تدعي أن النبي (ص) قالها، مضافا إليها أقوال الخلفاء والأئمة والصحابة يتصدرها الحديث النبوي الشريف (لا يفلح قوم تملكهم امرأة) الذي رواه أبو بكرة أثناء معركة الجمل كما ورد في كتاب للمفكرة التونسية فاطمة المرنيسي (الحريم النسائي- النبي والنساء ص11) وقد ناقشت هذا الحديث، وفندت محتواه، ولكنه ما زال شاخصا في الكتب التراثية يضاف إليه آراء العديد من الفقهاء ورجال الدين والخلفاء، فقد نسب إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أنه قال: (خالفوا النساء فإن في خلافهن البركة) و(شاوروهن وخالفوهن. وينسب له أقوال مثل: “تعس عبد الزوجة”) كما ينسب للإمام الحسن قوله: (والله ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار.)(3) ومعظم ما قيل عن النساء ، يلخص بعبارات قيلت منذ وقت طويل لكنها ما زالت تأخذ وقعها وتطبيقها في العديد من المجتمعات العربية، مثل (والغالب عليهن سوء الخلق وركاكة العقل، ولا يعتدل ذلك منهن إلا بنوع لطف ممزوج بسياسة.)(4) أو تكرار الحديث المنسوب إلى النبي (ص): “مثل المرأة الصالحة في النساء كمثل الغراب الأعصم بين مائة غراب”(5).
ومن الأمثلة على تدني وضع النساء في منظور الفقه السلفي ما جاء في فتح كتاب الباري (باب واذكر عبدنا داود) إذ يقول عن قوله تعالى: (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة)، يقال للمرأة نعجة ويقال عنها أيضا شاة، وقال القرطبي في تفسيره لهذه الآية: (والعرب تكنى عن المرأة بالنعجة والشاة، وقد يكنى عنها بالناقة أو البقرة، لأن الكل مركوب)(6).
ويلخص الشيخ جمال البنا موقفه من مشايخ الأزهر والأحزاب الدينية السلفية بهذه العبارة: (ويمكننا القول إن قوانين الأحوال الشخصية في مصر المستمدة من أحكام الفقهاء وضعت من ألف عام، تعد سبة في معايير العدالة، ويتعين تغييرها بما يتفق مع القرآن الكريم ومبادئ الفقه الجديد )(7).
وعلى الرغم مما يقال بأن المرأة تحتل مكانة متميزة في المجتمعات الإسلامية، بتأكيد أن الإسلام قد أنصفها نسبة إلى المجتمعات غير الإسلامية، لكن الملاحظ أن الأفكار التي تخالف تكريم الأم والزوجة والمرأة في القرآن الكريم قد جرى تأكيدها عبر شبكة من المغالطات والأفكار والاجتهادات، وأصبحت تقاليد وممارسات، وسلوكيات في المجتمعات العربية خصوصا الخليجية منها، تديمها الأفكار السلفية المتطرفة، التي تجعل من الإسلام دينا معاديًا للنساء، يحذر الرجال منهن ويصف حياتهن بصفات غير لائقة.
وفي معظم الروايات النسوية الخليجية، نتعرف على نماذج من الناس، (رجالًا ونساءً)، يمتثلون إلى أفكار ومعتقدات عصور وأزمان سحيقة، ويستمتعون بمنجزات العصر الحديث وأنظمته وتقنياته، الأمر الذي يمثل إشكالية عميقة الجذور في الوعي والممارسة.
ويمثل وضع المرأة في سلطنة عُمان إبان الستينيات نموذجا متدنيا، وهامشا يقبع في الزوايا القصية من المجتمع الذكوري الخليجي، الذي يسلبها حقها، ويصادر حقوقها، ويقمع تطلعها الإنساني نحو حياة لائقة، وعلى وفق ذلك اتخذنا رواية (صابرة وأصيلة) للروائية غالية آل سعيد مع روايات خليجية أخرى، للكشف عن مكانة الهامش النسائي المتدني في المجتمع الخليجي، ثم صعوده إلى المركز بفعل عوامل خارجية وداخلية سنؤشرها من خلال تحليل تلك الأعمال الروائية، وستكون رواية (صابرة وأصيلة) عينة بحثية مستفيضة، لكونها شهادة كاشفة من المركز -الذي تمثله الروائية- إلى الهامش، يغلب عليها التعاطف والحث الخيالي لرفع رتبة الهامش إلى مركز الحدث، باستدعاء معاناة الشخصية المهمشة صابرة، وعذاباتها إلى هذا المركز، بغية الانتصار لها وإدامة الحلم الذي تسيد على شخصيتها وروحها وسط بركة من الدم المسفوح يوم عيد الأضحى..
تسرد رواية (صابرة وأصيلة) تاريخا مكثفا، لحياة المرأة في ستينيات القرن العشرين، في سلطنة عمان بشكل خاص وبمنطقة الخليج العربي بشكل عام، تلحقها بحكاية خيالية يسردها سارد عليم لكنه مصاحب للشخصية الرئيسة (صابرة)، أو شخصياتها الأخرى كالمدرس الفلسطيني شهم، أما سرد أحداث التاريخ فيكون بصوت المؤلفة التي تشغل مكانة خاصة في أعلى سلطة في المجتمع العُماني، ويتضح صوتا الساردَين، منذ الصفحات الأولى حين يحضر صوت المؤلفة في صدر الرواية برغبتها في إهداء (عملي هذا للذين عاشوا تلك الحقبة من تاريخ عُمان موضوع وأحداث الرواية …) وكذلك تحديد زمن الحدث (في عقد الستينيات من القرن الماضي) الذي يحدد زمن الحكاية: في ستينيات القرن العشرين، أما زمن الكتابة فتحدده الروائية في القرن الثاني والعشرين، كما يجري تحديد مكان الحدث (مسقط عاصمة عُمان)، وكل ذلك من أجل نفي مبطن لانتهاكات حقوق المرأة في حاضر السلطنة، واعتبار ذلك من أحداث صفحات التاريخ الماضي المأساوية التي طويت، كما يظهر صوت المؤلفة في اختيارها لقصائد الشاعر عدنان الصائغ تتلى على لسان الفلسطيني شهم، وبذلك تجاوزت زمن الحكاية في ستينيات القرن العشرين، إلى زمن قريب من زمن الكتابة، ليمتزج الزمنان من خلال التقنية الشعرية التي استثمرها الشاعر، ونشرها عام 2002، ولم تكن مألوفة في زمن الحكاية.
جاء في الصفحات الأولى للرواية قول الروائية إنها استوحت أحداث الرواية (في عقد الستينيات من القرن الماضي) وكان مسرحها مسقط عاصمة عُمان ص7)، من خلال عالم بسيط وشخوص لا يمتلكون خاصية البطولة الاستثنائية التي تجعل من تفاعل الشخصية مع الحدث مركزا للحكاية، فقد كانت (وسائل المعرفة شحيحة، لدرجة الانكباب على الوجه لقراءة ما تيسر من مكتوب ص7)، مما يعني أن الناس في تلك الحقبة كانوا يعيشون، ضمن كيان دائري ساكن كانت أبعاده عن مركز الدائرة متساوية، كما أن المركز نفسه يعيش حالة السكون واجترار الأحداث اليومية أيضا، وقد أشارت الكاتبة إليه وهي تدرك أنها من شخوص المركز قائلة: (كنا نتهافت على قصاصات الجرائد العربية التي تصلنا بشق الأنفس، ونعتبرها كنزا ثمينا لا يقدر بثمن ص7)، وتكشف تحولات السرد وحركته وإغنائه،عن جهد كبير في التعامل مع شخصيات دائرية، ليس لها قابلية النمو والانفتاح على عالم متمرد على شكلها الدائري المستكين تجاه عالم الانعتاق والتمرد، لكن المؤلفة اخترقت هذا الشكل الساكن وأحدثت فيه ثقوبا وقطوعات، من خلال شخصية صابرة الحالمة والمنصتة لأخبار المجلات والمذياع، المنصتة إلى الحياة الجديدة، فتغذي المؤلفة اندفاعها وحبها للحياة وتدفع بها إلى طريق غير سالكة تهدف نهايته المأساوية التي خططتها المؤلفة، موقف يصنع من بطلتها شهيدة للتخلف، ويفتح طريقا مضيئة في ظلام الأيام الرتيبة.
إن تمثيل عالم الماضي بهذه الأحداث المأساوية بالاستفادة من ذاكرة طفولية يقظة وسجلات تاريخية موثقة عن تلك الحقبة يشكل لدينا وثيقة معتمدة عن ماضي المرأة في عُمان والخليج العربي، كان فيها المركز والهامش يجتر الإشكالات الاجتماعية ووجهة النظر عن المرأة نفسها، بدلالة ضمير الأنا الجمعي (كنا)، حيث تكون المسافة قريبة بين المركز والهامش في هذه الثنائية.
وقد استثمرت الروائية سجلات الماضي بتراكم مكثف لسطوة المجتمع الرجالي على حياة النساء، وتوالي العذابات التي تحيط بهن من خلال شخصية صابرة، التي تمثل هنا عينة عامة تحمل اسما دالا على معاناة النساء، ثم عالجت فقر شخصيتها بتغذية أحلامها، بوسائل بدائية كقصاصات الجرائد والصفحات المنزوعة من المجلات القادمة من أقطار الوطن العربي، والاستماع إلى المذياع الصغير المخبأ عن سلطة أخيها حمد، وكل ذلك أسهم في تحفيز ذاتها وذاكرتها تجاه عالم الأمل في مدن منفتحة على عالم النساء، ثم تأتي شحنة (شهم) المدرس الفلسطيني في إحدى مدارس مسقط، لنمو تمردها والسير حثيثا نحو عالم خيالها، الذي يصنع منها شخصية متمردة على ظرفها الذاتي، مضحية بحياتها في أحد شوارع مسقط، متسربلة بدمها الذي سيغسل المسالك المسدودة، لعالمها الجديد..
ستخضع قراءتنا لرواية صابرة وأصيلة، لتحر وتدقيق لمواطن الإذلال والتهميش والتعذيب لذات الأنثى عبر التفاصيل التي أثبتتها الروائية متخطين -إلى حين- الدلالة والمعنى العميق لكفاح الأنثى وهي تقاوم كل ذلك التهميش والإذلال حتى يتم قتلها من قبل أخيها حمد للتخلص من تمردها على ظروف حياتها، وتنزع الأغلال التي حاولت تكبيلها على وفق رؤيا الروائية التي سجلت انتصارا لتلك الذات المعذبة الصابرة وطموحاتها وآمالها.
تاريخ الذل
بداية نتعرف على حياة عائلتين عُمانيتين تمثيلا للواقع العماني في ستينيات القرن العشرين، عائلة صابرة وعائلة أصيلة، ويتم التعتيم على العائلة الثانية بوصفها عائلة تتمتع بالتوازن الاجتماعي والعائلي، في حين تسرد حياة عائلة صابرة بوصفها موطنا لإذلال الأنثى أُمًا أو زوجةً أو بنتًا، وتسلط الأضواء على حياة صابرة التي تعيش حياة (بائسة ومرتبكة) يحكم فيها أخوها الوحيد حمد (حكما صارما وكلمته نافذة تمشي على الجميع بمن فيهم والده الذي يعيش في ظل الابن المسيطر ص11).
ووسط هذا الإذلال للجميع، تتمرد صابرة على ظروفها البشعة، متفوقة على حياتها الصعبة صاعدة سلم طريق النضوج وتكامل شخصيتها، فهي في الدراسة الابتدائية القصيرة تعلمت مبادئ القراءة والكتابة بشكل سريع، ونما عقلها منذ الثامنة من عمرها وحصلت على مهارات بيتية متميزة، وكانت تعود إلى البيت من المدرسة بعلامات (عالية ونجوم ذهبية تزين بها المدرسات كراسات الطالبات المتميزات ص12)، لكن أخاها يتمكن من حرمانها من المدرسة، لتبدأ رحلة العذاب بين طموحها في حياة بشرية لائقة تغذيها أحلامها، وبين حياة السجن في البيت لتكرس كل وقتها للطبخ وتنظيف المنزل والاعتناء ببنات أخيها حمد.
الأخ يحدد حياة الأنثى
يرسم الأخ حمد طريقا مقصودا لحياة أخته صابرة، متخطيا إنسانيتها ورغباتها على وفق ما خططه عقله واستوعب دروس الآخر النائمة في عقله الباطن، عن حياة النساء في ذلك الزمن، فهو يرى أن تعليم المرأة خطر عليها حين تتحول إلى (امرأة ذكية وسريعة البديهة، ويحذر والده بتميزها العقلي والاستقلال الذاتي ص12)، وهو يريدها أن تتحول إلى زوجة لا تحتاج إلى تعليم سوى الطبخ الذي تتعلمه من أمها، ويتدخل في خصوصيات ارتدائها الزيّ الملائم، كارتداء غطاء الوجه عند خروجها من البيت، وارتداء الملابس (المحتشمة) الطويلة التي تجعل منها كيانا دون ملامح (عباءة طويلة وغشاء وجه سميك أسود اللون)، وقد لاحظ شهم المدرس الفلسطيني الذي أغواها والتقى بها، أن صابرة/ منيرة التي ظهرت أمامه أول مرة بصورة، هي (فتاة لا يعرف شكلها ولكنها دعته إلى اللقاء، يحس بروحها وبوجودها على الرغم من تسربلها بالسواد من قمة رأسها إلى أخمص قدميها ص50) وشغله شكلها هذا بصعوبة أن يقترب منها، واستحالة لمس يدها أو تقبيلها!!!، وحين يقارن بينها وبين حبيبته الفلسطينية (نبال) ذات الروح (الحرة الوثابة والضحك المتواصل واللبس المتحرر القصير …) يجد الفارق شاسعا!!!
ومن أهم أوامر حمد ترْكَها للمدرسة بعد عمر الثامنة، لأن المدرسة تساعد على التعالي والتمرد على أسرتها، وهي من التوصيات التي تعتبر قوانين مطاعة من قبل العائلة، كان لحمد مقدرة فائقة على معرفة الأشياء التي تؤذي النساء وتسبب لهن الذل والهوان الرواية ص15) ولسان حاله يقول:
– لدينا غيرة على بناتنا، ونريد بنات مستورات وخاضعات – الرواية ص12.
وتكشف وجهات نظر الغرباء عن هذا المكان (المدرسون العرب)، تخلف المجتمع العماني في تلك الحقبة، إذ عد مدرس اللغة العربية المصري إن عادة تربية الذقون لدى الرجال العمانيين يمثل تخلفا يمنعهم من الدخول إلى عالم العصر الحديث والمدنية إلا بإزالة ذقونهم، أما مدرس الرياضيات العراقي فقد كان مقتنعا (إن الوضع في عُمان لا يختلف عن الوضع في العراق، كان يذكر أن النساء في العراق يرتدين العباءة وغطاء الوجه تماما مثل النساء العمانيات – الرواية ص54)، وهو رأي مسموع وغير صحيح إذا أخذنا بعموميته، فنساء المدينة في الستينيات في العراق، سافرات ويلبسن آخر الموديلات الشائعة في الغرب (الميني جوب)، غير إن وجهة نظر المدرس العراقي تنطبق على نساء بعض أرياف العراق خصوصا جنوب مدينة البصرة التي تشتهر بهذا الزي إلى وقتنا الحاضر!!
لقد رسمت الروائية غالية آل سعيد عالما بسيطا وشخوصا لا يمتلكون خاصية البطولة أو الاستثنائية التي تجعل من الشخصية مركزا للحكاية، هنا الشخصية مسطحة دائرية الشكل ليس فيها نتوءات متمردة على شكلها الدائري المستكين إلى عالمه والمبتلى به، لكن المؤلفة اخترقت هذا الشكل الساكن وأحدثت فيه ثقوبا وقطوعات، كما اشرنا، من خلال شخصية صابرة الحالمة والمنتفعة من أخبار المجلات والمذياع، المنصتة إلى الحياة الجديدة، تغذي المؤلفة اندفاعها وتدفع بها إلى طريق التمرد… فصابرة التي رضخت لذلك كانت متأكدة من أمر واحد هو أن عليها حماية عقلها من أوامر حمد وأبيها وأمها، احتفظت لنفسها على قدرة المقاومة والاضمحلال والموت البطيء، في ذاتها الرافضة، وعليها العمل على شحذه من أجل البقاء النفسي والعقلي. ليس صعبا-فكرت صابرة- أن أخرج من الحالة التي أعيش فيها وأغادر عُمان بكاملها، لأنطلق في العالم الواسع، من أجل الحصول على المعرفة الرحبة والعلوم المتعددة.الرواية ص15.
كان تمرد صابرة يكبر ويتخطى عالمها الساكن وقصصه الفاجعة ووقائعه المخيفة تجاه خيالها الجامح، وهي تفكر بشهم الذي سيخطو بها إلى عالم الأمل، ولم تتجاوب مع نصائح وتحذيرات صديقتها أصيلة،التي سردت على مسامعها قصة (عائشة)التي أقامت علاقة محرمة مع ضابط، وانتهى بها الأمر إلى الانتحار(وجلب العار لعائلتها وأهلها الرواية ص78)، بل تخطت تلك العقبة تجاه اللقاء المرتقب.
وحين التقت به كانت تحمل أحلامها تحت اسم مستعار(منيرة)، في إشارة رمزية لعالم منير تتطلع إليه، وقد تسلحت بأفكار وخيالات متفائلة غذتها الروائية بوسائل عديدة لرفع رتبة طموح صابرة إلى حياة جديدة مفارقة لحياتها في هذا المكان، وذلك بتنشيط خيالها بقصاصات الجرائد والمجلات اللبنانية والمصرية التي تحصل عليها من خلال لفات الملابس بالجريدة أو المجلة ومن خلال الراديو أيضا، لقد (كانت تتطلع إلى عالم عصري حديث تستطيع مناله من خلال السفر- الرواية ص57) وهي تلبس الفساتين الضيقة التي تماشي الموضة (صابرة وأصيلة تختاران ملابسهما من تصاميم موجودة في كاتلوجات قديمة عند الخياط الهندي، الوحيد المتخصص في خياطة ملابس النساء في المدينة. لا يسمح لصابرة بتفصيل ملابسها معه لأنه رجل، ولهذا تقوم بمساعدة أصيلة بخياطة الفساتين بنفسها (…) بالماكينة الهزيلة التي اشتراها حمد لتخيط بها ملابس بناته في الأعياد والمناسبات الاجتماعية- الرواية ص58)، وقد شعرت يوم إجراء المكالمة مع شهم في (دكان الهندي) لأول مرة في حياتها بأنها أنثى مليئة بالأمل والحيوية، أنثى تنتظر موعدا جميلا- الرواية ص59).
يدخل شهم إلى فضاء الرواية من خلال وجهة نظر صابرة التي رأته بالمصادفة البحتة وشعرت وقتها (بمتعة تشبه متعة كتابة القصص وقراءة الجرائد- الرواية ص29)، ثم تتعمق في معرفة تفاصيل عن شكله وحركاته الدالة عليه، فيتحول الإعجاب من طريقته في التدريس والكتابة على السبورة إلى الإعجاب بشكله، وقد عرفت اسمه من تهامس التلاميذ به (أبو طفلة) وهو اسم غريب عن الجو العُماني، ويعمد السارد إلى تضخيم إعجاب صابرة بشهم بعبارات خارجية تصف مشاعرها تجاهه (أعجبت به أكثر- الرواية ص31.
نلاحظ أن حكاية صابرة وأصيلة، وهما نتاج مجتمع دائري مغلق على نفسه هي حكاية بسيطة، لا يمكن أن ترتفع إلى عالم روائي، ولذا لجأت الروائية غالية آل سعيد إلى سارد خارج السيرة الذاتية لحياة صابرة التي غذتها ذكريات الطفولة في حياة الروائية إبان الستينيات، فحكاية صابرة وأصيلة مستوحاة من عالم الروائية التي تؤكده في حوار مع الشاعر عبد الرزاق الربيعي، (بعد ذلك أقول لك، ذكريات السنين التي عشتها في مسقط، وفي الحي الذي ولدت فيه لم تفارقني أبدا. الأيام التي عشتها في مسقط في بيت عم أبي السيد نادر بن فيصل مع أخي، وبنات وأبناء عمومتي، والزوار الذين كانوا يأتون لزيارة عمتنا السيدة مزنة بنت نادر، طبعت في خيالي صورا ما زالت ماثلة في ذاكرتي ووجداني. كانت النسوة يأتين من الخارج حاملات الأخبار، والقصص من قلب مسقط، ومن وسط حاراتها، يجري الحديث عن ورطة الخروج بعد الساعة العاشرة حيث يحظر التجول في مسقط من دون حمل قنديل(9).
كما أكدت الروائية في نفس الحوار أنها استثمرت فضاء هذه الرواية في (توظيف الموروث العماني. في تلك الرواية تجد وصفا دقيقا لغرفة حارس المدرسة مصبح، تلك الغرفة تعكس نمط الحياة في ذلك الوقت، كذلك أزياء صابرة وأصيلة التقليدية، ولا تنسى التقاليد الأسرية والمجتمعية الموصوفة بتفاصيل دقيقة للغاية)(10)، وهي شهادة أخرى على السارد الداخلي للحكاية الذي استثمر السيرة الذاتية لمدينة مسقط وشخوصها.
وبهذا يتأكد لدينا وجود ساردين اثنين يديران السرد، أولهما سارد من داخل الحكاية، عارف بالسيرة الذاتية للبطلة ولخفايا مدينة مسقط ، لكنه ليس شخصية من شخوصها فهو سارد شاهد على الحدث، وقد أكدته الروائية في حوارها الذي أثبتناه، أما السارد الثاني فهو سارد خارجي، يستفيد من سجلات التاريخ وتوظيف الخيال الروائي في بناء الحدث روائيا بإدخال شخصية شهم إلى فضاء الرواية ودفعه إلى الواجهة ليكون منشطا لحكاية صابرة الفقيرة بالتفاصيل والتحولات، حيث ينتقل السرد إلى عالم الخيال ويرفع رتبة صابرة إلى عوالم خيالية لم تكن مستعدة لها قبل التعرف على المدرس شهم.
إن اختيار شخصية فقيرة الملامح وفضاء مكاني تقليدي تتكرر فيه الأحداث، ولا تنمو تجاه فضاء جديد، يشكل صعوبة كبيرة في إنتاج عالم روائي متماسك، ومن ثم انفتاحه على عوالم خيالية موحية وذات دلالات متنوعة، فاختيار الهامش المنحى الذي تمثله صابرة وعائلتها نموذجا روائيا هنا، كان مغامرة كتابية للروائية غالية في بداية تجربتها الروائية (زمن كتابة الرواية 2007)، لكنها تمكنت من إضاءة زوايا الفضاء الساكنة والمظلمة ببدائل خيالية، اقترحتها وفعلتها من خلال خيال أنثى، معبأ بروح التطلع والتفاعل مع منتجات المدن الأخرى، الواردة أخبارها في قصاصات الجرائد والمجلات بوصفها نوافذ على خارج ضاج بالحركة تشغل فيه الأنثى موقعا مهما، كما حفز السارد خيال صابرة على الكتابة بديلا عن حياتها الساكنة، فأنتج خيالها قصصا لنساء متمردات على أوضاعهن التي تشبه حياتها، كقصة الصياد (الذي رأى كل شيء) والفتاة على شاطئ البحر التي كانت تراقبه وتعجب بتفاصيل جسمه، ثم تم اللقاء بينهما، وهي على يقين بأن ما فعلته سوف لن يغضب الآلهة، فحبهما كان قويا ومثاليا- الرواية ص105). وفي نهاية هذه القصة تجسد صابرة فرحها الطاغي بلقائها بشهم عبر لسان بطلة القصة التي (شعرت بفرح غامر باللحظات التي قضياها معا في القلعة، ستظل خالدة مدى الدهر- §الرواية ص105. وخلال ذلك شعرت صابرة (بأن تغييرا كبيرا حدث في أسلوب حياتها، فهي الآن تحب- الرواية ص105.
كما أن دخول شهم في حياة صابرة أكسبها غنى في أحلامها وخيالاتها بواقع يرسمه شهم لها، وقد سرد السارد الخارجي بالنيابة عن صابرة تفاصيل عن أحلامها عن الرجل الذي (يحمل في أنفاسه رياح البحر المتوسط وعنده صور لهذا التفتح الذي تراه)، وهي عبارة لا يمكن أن تتفوه بها انثى كصابرة، ولكن السارد/ المؤلف تجول في أعماق صابرة وانطقها عبارات لا يمكن أن تنطقها، ولكنها دونت في الرواية بوصفها تمنيات مستحيلة التحقق (تحول شهم إلى محور لحياتها العاطفية والنفسية وإلى رمز للحداثة والمعاصرة، وأصبح حاملها في المستقبل المشرق والآفاق البعيدة- الرواية ص116). وقد عبر السارد عن استحالة هذا النوع من الخيال المجنح في عبارات أخرى وصف فيها زواجها من شهم وبموافقةعائلتها (زواجا أسطوريا) تنعدم فيه حدود الزمان والمكان!!
ومع كل ما ورد من عبارات وخيالات أقحمت في جوانح صابرة العاشقة للحياة، فهي تمثل من وجهة نظرنا رفع رتبة الهامش الذي تحيا ضمنه صابرة إلى المركز، وهو اتجاه في الكتابة ينتصر للمهمش، ويضعه في قلب الحدث الذي ينبغي له أن يتحرك، مغادرا حالة السكون التي أنتجته.
نلاحظ أيضا أن شهم لم يكن شخصية إشكالية قادرة بنفسها على قيادة التغيير في حياة صابرة، بل إنه كان يمثل نزوعا لحلول ذاتية لأزمة حياته الساكنة في عُمان، وكان لقاؤه بصابرة حلا لهذه الإشكالية الجنسية بشكل خاص (أن تكون منيرة بمثابة الفتاة التي ترفه عنه وتقلل هموم الغربة وتمده ببعض النبض وتعيد الحياة إلى يومه الطويل وشيئا من الحيوية التي يتوق إليها – الرواية ص 92)، كما أنه كان يفكر بها كونها فتاة (تجاوزها الزمن وتعيش خارج التاريخ- الرواية ص 120)، ولذا كانت أشعاره وذكرياته عن بلده فلسطين التي سردها على مسامع صابرة، هي نوع من تضخيم الذات، بما فيها من مبالغات، وكانت قصصها التي أرسلتها له (محاولة سخيفة ومرتبكة، اتضحت له ضآلة تعليمها ومحدودية تطلعها، فأشفق عليه- الرواية ص120).
لكن أخباره وأشعاره، في ذاكرة صابرة كانت دافعا فعالا لتمردها وتنشيط خيالها تجاه عالم جديد، فقد أحبته (لأنه نفحة هواء خارجي مختلف والاختلاف هو ما تتوق إليه. هناك في جزء آخر من العالم، النساء نلن حظا وافرا من العلم وفرص العمل- الرواية ص133.
ولم يكن لقاؤه الجنسي معها في المرة الثانية في بيت الحارس إلا نزوة لم يقدر نتائجها إذ اعتبر (ما حصل بينهما كما يتصوره ليس سوى ما يحصل بين رجل وامرأة، مثل الذي حصل بينه وبين نبال ص148.
وهذا واقع الحال الذي يشعر به الذكر عن العلاقة الجنسية مع أنثى، في حين تتحمل الأنثى نتائج وخيمة من هذه العملية، أهمها الآلام الشديدة التي (تشبه طعنة سكين حادة تحش الأمعاء من دون رحمة أو شفقة- الرواية ص151)، ثم خسارة حياتها على يد أخيها حمد وهي (تسبح في دم أحمر ينزف من دون توقف- ص156) في يوم عيد الأضحى وكأنها أضحية. وبهذا المعنى يكون شهم تقنية روائية لانتزاع صابرة من هامشها المهمل إلى مركز الرواية، على الرغم من نهاية حياتها المأساوية على يد أخيها حمد في عيد الأضحى، لكن كل ذلك سيصبح انتصارا لأحلامها، وسيكون وليدها (باسم- انظر إلى دلالة الاسم) الذي ولد في يوم العيد، بشرى بعالم جديد، كانت تتطلع إليه، أما دمها المسفوح فهو أضحية لهذا العالم الذي تخيلته صابرة وحلمت به، حلم يقظة كما بشرت به الرواية .
الهوامش
-1 انظر دراسة الاتّجاهات الفقهية حول أهليّة المرأة لتولّي السلطة -الدكتور مشتاق بن موسى اللواتي- موقع نصوص معاصرة الإلكتروني- مركز البحوث المعاصرة في بيروت.
-2 (أما تشبيه الغزالي للمرأة بالخنزيرة والكلبة والعقربة والحية.. إلخ، فهو دليل احتقار لها وتحذير منها وتحريض على المزيد من العداء نحوها، ومن هنا يختلف المنطقان ويتعارضان كليًا). (د.معجب سعيد الزهراني- من أجل الثقافة والإنسان- صورة المرأة في خطاب ابن رشد – موقع أنفاس ـ ww.anfasse.org › تاريخ وتراث › تراث ودراسات تراثية بتاريخ 19/11/2007. ولم يشر الدكتور معجب الزهراني للمرجع الذي استقى منه تفوهات الغزالي عن صفات المرأة، لكن الشاعر أحمد الشهاوي أشار إلى كتاب الغزالي (التبر المسبوك في نصيحة الملوك) باعتباره يتضمن وجهة نظر الغزالي عن المرأة بعنوان يصفها بصفات الحيوانات في مقالته الموسومة (كارهو النساء) المنشورة في الموقع الالكتروني- المصري اليومwww.almasryalyoum.com/،
-3 إحياء علوم الدين/الكتاب الثاني- كتاب النكاح- أبو حامد الغزالي -إعداد وتقديم إصلاح عبد السلام الرفاعي- مركز الأهرام للترجمة والنشر ط1 1988 ص182
-4 المصدر نفسه ص183
-5 المصدر نفسه ص183
-6 كتاب المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء – الشيخ جمال البنا ص119
-7 المصدر نفسه – ص125
-8 غالية آل سعيد: الرواية لعبة دهشة ثلاثية الأبعاد- حوار عبد الرزاق الربيعي- مجلة نزوى العمانية – الملف 10 أكتوبر2017
-9 المصدر نفسه
-10 المصدر نفسه