من اعداد وتقديم: عيسى مخلوف*
“أمواتاً كنّا ونحن لا شيء، ولقد تمَّ ذِكرنا في العدَم”.
(قَول لاتيني مأخوذ من مجموعة الكتابات التي رافقت الأضرحة الرومانية منذ أكثر من ألفَي سنة، ولا يُعرَف من هم كتّابها).
طلب منّي صلاح ستيتيّة، قبل أسبوع واحد من مغادرة بيته وذهابه إلى دار رعاية المُسنّين، أن أنقل إلى اللغة العربيّة إحدى قصائده. نقلتها وحملتها معي إلى قرية “ترامبلي سور مولدر” التي تبعد قرابة الساعة عن باريس. هناك أقام الشاعر في منزل يرقى إلى القرن السابع عشر، يطلّ على حديقة صغيرة زُرعت على جَنَباتها أشجار الورد. كان ينظر إليها ويرى ورودها تشرئبّ بأعناقها من وراء النافذة كأنها تتفقّده في وحدته، ومن حضورها استوحى عدداً من قصائده التي تحكي عن الحياة وهشاشة الشرط الإنساني والوقت العابر.
حين وصلتُ إليه، كان يرتدي بيجاما مُقَلَّمة رماديّة اللون. جلستُ إلى جانبه في ردهة الاستقبال، وناولته الورقة التي طبعتُ عليها ترجمة قصيدته. أخذها من يدي وسألني من دون أن يلتفت إليّ: “لمن هذه القصيدة؟”. قلتُ له إنها قصيدته التي طلب منّي أن أترجمها. هزّ رأسه وظلّ ينظر إلى الورقة.
الذي أمضى حياته بين الكتب، نسيَ أنّه هو الذي يكتب. لذلك، قرأتُ عنه المقطع الأخير منها: “لترجع إليهم لحظاتُ الذاكرة هذه، مع باقة البنفسج/ عندئذ، سيتذكّرون صباحاتِ الندى/ رائحةَ الماء ودخان الفجر على سطح القمر!”.
بعد أن انتهيتُ من قراءة هذه الكلمات، نهض من مكانه وهو يقول: “لم ترَ مقبرتي بعد، ألا تريد رؤيتها؟ كان فخوراً بالمنحوتة التي تستوي على القبر، وهي تحمل توقيع صديقه النحّات الفرنسي جان آنغيرا، وتُمثّل خطوطاً أُفقيّة محفورة في الرُّخام الأسود. رفع يده نحوها وهو يقول: “إنّها الطريق التي لا تؤدّي إلى مكان”. ثمّ التفت إلى اليمين وأشار مبتسماً إلى قبر الكاتب بليز ساندرار الذي سيكون جاره في الموت.
من بيروت حيث ولد عام 1929 إلى باريس حيث درس وعمل سفيراً للبنان، إلى دول ومدن كثيرة، خطَّ صلاح ستيتيّة سيرته، وكتب شعره ونثره، وصاغ هويّته المنفتحة على الثقافات، شرقاً وغرباً. كان يعيش على مفترق بين ضفّتي المتوسّط، بين اللغتين العربيّة والفرنسيّة. يتكلّم عن أرتور رامبو ويتذكّر الحلاّج، يذكر اسم راينر ماريا ريلكه ويستتبعه باسم جلال الدين الرومي. يحفر عميقاً في القواسم المشتركة بين الثقافات، مراهناً على الثقافة والإبداع في التوصّل إلى حوار متكافئ بين الشعوب. من هنا، جاء اهتمامه بالصوفيّة الإسلامية والمسيحية، وبصوفيّة الشرق الأقصى أيضاً، ليس من باب التوفيق بين الأديان، بل من أجل الذهاب إلى ما يتجاوزها، ولتبيان الروابط بين المسعى الروحاني والمسعى الشعري. في هذا السياق، تأتـي استشهاداته التي تدعم هذا التوجّه، وصولاً إلى كلمات “العابر الهائل بنعال من ريح”: “كنتُ أكتبُ سكونات، ليالي. أدوّنُ ما لا يُعبَّر عنه. كنتُ أحدّق في الدُّوار”. إلى أيّ مدى يشبه هذا التحديق في الدُّوار الشّطح الصوفيّ والكتابات الصوفيّة؟ ألا نتبيّن من خلاله حيرة الوَجد التي طبعت كتابات رابعة العدويّة وتيريزا الآبليّة، بل جميع الذين يحومون حول اللغز ويمضون حياتهم بحثاً عن الجوهر؟
تجربة رامبو استوقفت ستيتيّة الذي خصّص لها كتابين صدرا عن دار “فاتا مورغانا”، الأول بعنوان “رامبو النائم الثامن”، والثاني عنوانه “رامبو العدَنيّ” (نسبة إلى عدن). وفي هذين الكتابين لا يعتبر ستيتيّة أنّ شاعر “إشراقات” كان صوفيّاً وإن تقاطعت تجربته وصوفيّة الشرق، بل يؤكّد على روحانيّة الشعر لا على صوفيّة الشاعر، ويعتبر أنّ مشروع رامبو الشعري كان مشروعاً روحياً بامتياز، وحديثه عن الشرق جاء في هذا الإطار الشامل، ولا ينحصر في حدود الشرق الجغرافيّة، بل يتجاوزها إلى أبعاده الرمزيّة بصفته مقرَّ الشُّروق وموطنَ البدايات. على ضوء هذا الرؤية، نقرأ قصيدة “المستحيل” التي وردت في كتاب “فصل في الجحيم”: “كنتُ أرسل إلى الشيطان سعف الشهداء، أشعّة الفنّ، كبرياء المخترعين، حماسة اللصوص. كنتُ أعود إلى الشرق وإلى الحكمة الأولى الأبديّة”.
اهتمام ستيتيّة بالتصوّف دفعه إلى تكريس كتاب للحلاّج وآخر لرابعة العدويّة، ترجمةً ودراسة، بالإضافة إلى كتب تتضمّن دراسات وأبحاثاً تتناول جوانب مختلفة من الإسلام انطلاقا من قراءة مقارنة مع بعض أوجه الثقافة الغربيّة. من هذه الكتب: “نور على نور أو الإسلام المبدِع”، “الإسلام والصور”، “فردوس أو الحديقة” و”حمَلة النار”.
ضمن هذا الأُفق التأمّلي، كتب ستيتيّة شذراته التي صدرت في كتاب “إشارات وقرود”. والكتاب المزيّن بمجموعة كبيرة من الرسوم التي تحمل توقيع الفنّان التشكيلي الفرنسي بيار أليشنسكي، يتألّف من تأمّلات ولحظات شعرية ومقاربات فلسفيّة حِكَميّة، وهو كتابه الثالث في هذا المجال. تشكّل هذه التجربة في نتاج ستيتيّة محطّة على حِدة، لأنّها لا تندرج في إطار ما عُرف به، في مجالَي الشعر والبحث، على الأقلّ في العالم العربي حيث نُقل الجزء الأكبر من هذا النتاج.
كان ثمّة نار مشتعلة في قلب الأعمال الشعريّة التي مرّت بمعابر كثيرة قبل الوصول إلى معبرها الخاصّ. في قصيدة “نعاس الثلج”، يصف ستيتيّة الثلج بمفردات ناريّة تحفل بالاشتعال والتوهّج. ثمّ اختار إحدى هذه المفردات عنواناً لكتاب يضمّ أعماله الكاملة، صدر عن دار “روبير لافون”: “في موقعٍ ما من الاشتعال”. ومردّ ذلك، بالنسبة إليه، أنّ النار مادّة الكون الأولى وهي التي “سمحت بتَشَكُّل الوجود”.
في العقد الأخير من حياته، عاش صلاح ستيتيّة مسكوناً بهاجس الغياب. يعيش معه ولا يحيد نظره عنه. ولقد كتب قصائده الوجدانيّة الأخيرة من خلال لغة كثيفة ومقتضبة تتمحور حول الذات والطبيعة والعالم، وتفتح الأبواب على مصراعيها بين المرئيّ وغير المرئيّ. في هذا الشعر الذي بلغ أقصى درجات التجريد، كما في كتاباته الشعريّة كلّها، من “حمّى الأيقونة وشفاؤها” إلى “قراءة امرأة”، انفتحت تجربة ستيتيّة على تجارب عدد كبير من الشعراء، ومنهم بالأخصّ: مالارميه وهولدرلين وريلكه وبونفوا. لكن، كان يحلو له دائماً أن يردّد العبارة التي وصفه بها أدونيس: “شاعر عربي يكتب باللغة الفرنسيّة”.
في ديوانه “الثعبان الذي يرى”، عبّر ستيتيّة عن نظرته العدميّة إلى نفسه وإلى العالم من حوله: “فارغٌ هو العالم/ العالمُ فارغ/ فارغةٌ هي الأرض/ الأرضُ فارغة/ فارغةٌ هي السماء/ السماءُ فارغة/ فارغةٌ هي الريح/ الريحُ فارغة/ القلبُ أيضاً/ الحبُّ أيضاً/ الأملُ أيضاً”.
عند الحدّ الفاصل بين الحياة والموت، راح ستيتيّة المُصاب بحمّى الرحيل يكتب عن الموت ويتحدّث عنه، في كلّ مناسبة، مع الأصدقاء والمقرّبين. حين كرّمته الجامعة الأنطونيّة في لبنان، العام 2016، ونشرت كتاباً يشتمل على مقالات وشهادات عنه، ختمَ صلاح كلمته الافتتاحيّة بقوله: “عندما سينام الرجل العجوز في قبره في مقبرة قريته الصغيرة “ترامبلاي سور مولدر”، سيوضع هذا الكتاب المرصّع بالصداقة والحلم (وبطلب منه بالطّبع) تحت رأسه. سيحمل قلبي معه، حتّى خفقانه الأخير، ذكرى نهاية هذا النهار الجميل في لبنان”.
هكذا بدأ ستيتيّة يتآلف مع تصوُّره لغيابه، ومع فكرة العدم. في موازاة ذلك، ظلّ غزير الإنتاج. يكتب كلّ يوم ويقرأ قصائده لمن حوله. كان لا ينفكّ يكتب كما لو أنّ خيط الحياة سينقطع فجأةً إذا ما انقطع خيط الكتابة. لكنّه، في الوقت نفسه، كان يجمع أوراقه ومخطوطاته ويضعها في المكان المناسب قبل أن يحين موعد الرحيل. أودعَ مخطوطاته والطبعات الأصليّة من كتبه والكتب الفنّية والمراسلات والصور، ثلاثةَ مواضع: «مكتبة جاك دوسيه»، والمحفوظات الأدبية لمنشورات «فاتا مورغانا»، و«مكتبة فرنسا الوطنية» في باريس.
إلى ذلك، عرضَ مجموعته الفنّية الخاصّة للبيع في مزاد علنيّ، في قاعات “دروو”، في العاصمة الفرنسية. لكنّه أبقى بعض الأعمال الفنّية (لوحات زيتيّة، محفورات ومنحوتات) في منزله. أبقاها معه كأنّها رفيقة درب في مشواره الطويل الجامع بين الكتابة والفنّ. من تلك الأعمال لوحة تمثّل وجهه يوم كان لا يزال شابّاً في بيروت، وتحمل توقيع الفنّان صليبا الدويهي، أحد روّاد الفنّ التشكيلي في لبنان.
تبقى شاهداً على علاقة ستيتيّة بالفنّ والفنانين الصالة التي افتُتحت في “متحف بول فاليري” في مدينة سيت في الجنوب الفرنسي، وضمّت مجموعة أعمال فنّية كان قدّمها الشاعر كهِبة إلى المتحف، وكانت جزءاً من مجموعته الفنّية الخاصّة التي تتألّف من رسوم ومخطوطات ومنحوتات وصور فوتوغرافية ولوحات زيتيّة ومائيّة تحمل تواقيع 88 فناناً بعضهم معروف على المستوى العالمي، مثل البلجيكي بيار أليشنسكي والإسباني أنطونيو تابييس والفرنسي جورج ماتيو. فرادة هذا الحدث أنّها المرّة الأولى التي يخصَّص فيها لكاتب وشاعر عربي مثل هذا الحيّز في متحف فرنسي، فضلاً عن أنّ هذا الحيّز يكشف، على أفضل وجه، ثراء العلاقة بين الشاعر والفنانين الذين تفاعلوا مع شعره وهم من جنسيّات مختلفة. ولا تعكس مجموعة ستيتية المنتقاة بعناية، والمعروضة دائماً داخل المتحف، حساسية هذا الشاعر في علاقته بالفنون البصرية فحسب، وإنما تعكس أيضاً جانباً مهماً من الحساسية الجمالية التي طبعت المشهد التشكيلي الحديث والمعاصر، في تنوّع أساليبه وأدواته وأشكاله، وهي محصّلة لقاء شعري فنّي يغطّي مرحلة زمنية كبيرة تتجاوز النصف قرن. وقد ترك ستيتيّة نصوصاً كثيرة عن عدد من الفنّانين وعن علاقته بهم، كما قدّم بعض أعمالهم، ومن إصداراته في هذا المجال كتاب بعنوان: “رامبراندت والفاتنات”. وتقتضي الإشارة، هنا، إلى أنّ “متحف بول فاليري” سبق أن أقام معرضاً، العام 2012، بعنوان «صلاح ستيتية والفنانون» ضمّ جزءاً من مقتنيات الشاعر الفنية.
ولم ينسَ ستيتيّة أن يكتب مذكّراته التي كشفت عن شخصيته المركّبة وعن وجوهه الكثيرة. في هذا الكتاب الذي تجاوز الستمئة صفحة، وجاء تحت عنوان “حفلة جنون”، عاد الشاعر إلى طفولته وإلى طبيعة لبنان كما كانت قبل الاستقلال، وقبل أن تهجم عليها المباني الإسمنتيّة العشوائيّة، خصوصاً أثناء الحرب الأهليّة وبعدها. ولا تكمن أهمّية الوصف هنا في بعده التوثيقي فقط، بل أيضاً، وفي بعض المواقع، في جماليّة السرد البهيَ. لكن، بالإضافة إلى الوصف والذكريات، وهذا الرّواح والمجيء بين لبنان وفرنسا وأماكن كثيرة من العالم، إلى جانب هذه الغاليري من الأسماء اللامعة في عالم الآداب والفنون والتي أضفت عليها الذكرى، وطريقة استعادتها، بُعداً حُلمياً، كان هناك وجه آخر هو وجه الدبلوماسي الذي يعنيه أن يكون على علاقة طيّبة مع رجال السياسة، حتى لو كان بعضهم في عداد الأكثر سوقيّة وانحطاطاً وعنفاً.
يحضر في مذكّراته زين العائدين بن علي وعمر بونغو طبعاً، إلى جانب شارل دوغول ودومينيك دو فيلبان. ويحضر الملك الحسن الثاني الذي أفرد له الشاعر فصلاً كاملاً تحت عنوان: “سنواتي الحسن الثاني”، وقد خصّصه لسنواته المغربية (يوم كان سفيراً للبنان في المغرب)، وتحدّث فيه عن خوفه من الملك وانبهاره به في آن واحد. حكى عن نفوره من بطشه وعن إعجابه بِـ “ثقافته الواسعة”، الملك الذي “كان يمضي الليالي وهو يقرأ”، على حدّ تعبير ستيتيّة. وربّما لهذا السبب أهداه الشاعر كتبه بعد أن غلّفها “بجلد أخضر اللون”.
يتوقّف ستيتية في مذكّراته عند محطّات ومرويّات كثيرة، منها بالأخص تلك التي يتحدث فيها عن صديقه الشاعر اللبناني باللغة الفرنسية جورج شحادة الذي ورد اسمه مراراً في الكتاب. فهو معجب به ويعبّر بوضوح عن هذا الإعجاب، لكنّه في الوقت نفسه يخبرنا بأنّ شحادة كان يقصد مكتبات حيّ “السان جيرمان” في باريس ليشتري نُسَخاً من كتبه، بل ويحثّه على الاحتذاء به، وذلك لزيادة نسبة مبيعاتها!
في هذه المذكّرات، تتكشّف وجوه الكاتب في حياته الشخصيّة واليوميّة، وهي تختلف عمّا يرشح من نصوصه الشعريّة التي لا تُبرز من باطن الأرض إلاّ حجارتها الكريمة. أليست هي حالنا في الغالب؟
لقد ارتبط ستيتيّة بعلاقات صداقة مع عدد كبير من الشعراء والفنانين التشكيليين ومنهم – بالإضافة إلى شحادة ومشاعره المتناقضة حياله – رونيه شار وبيار جان جوف وإيف بونفوا وبيار ألشنسكي، وجمعته بهؤلاء لقاءات ورسائل ولوحات وهواجس مشتركة. إثر زيارته لبونفوا وهو على فراش الموت، أخبرني كيف اقترب منه وأمسك بيده، وسمعه يقول: “وصلنا إلى العتبة”. تذكَّرنا، عندئذ، ما قاله بول فاليري في لحظاته الأخيرة حين نظر إلى مكتبته الكبيرة حوله وتمتم بضع كلمات: “ذلك كلّه لا يرتقي، بالتأكيد، إلى مؤخّرة جميلة”. أو، بكلام آخر: “هذا هو الهَباء”، ولم يدرِ أحد عن أيّ هباء كان يتحدّث: هباء الموت أو هباء الحياة نفسها، أو كليهما معاً!
كان ستيتيّة يلاحظ أنّ كلّ ما حوله يتغيّر، البشر والحجر على السواء. كلّ شيء يعبر كالغيوم السارحة. أصدقاؤه يتوارون ومعالم مدينة باريس تتبدّل. يقول إنّ المدن كالأجسام الحيّة التي تتطوّر، تتغيّر وأحياناً تموت. “شكل المدينة يتغيّر، للأسف، بسرعة أكبر من قلب الإنسان الفاني”، هذا ما كتبه شارل بودلير في ديوانه “أزهار الشر”.
وصل ستيتيّة إلى باريس العام 1950، وكانت المدينة يومها تكاد تخرج من القرن التاسع عشر، ورافقها وهي تنتقل إلى القرن الأوَّل من الألفية الثالثة. عرف باريس بواجهات مبانيها السوداء، كما كانت لا تزال بعد الحرب العالميّة الثانية، ثمّ رآها وقد أصبحت نظيفة بيضاء تلمع بواجهاتها المتجدّدة كأنها آتية من المستقبل. يقول: “عرفتُ أيضا، في أنحاء كثيرة من العالم، مدناً قتلها أهلها، كما يفعل بعض المجانين الذين يقتلون أمّهاتهم، وبيروت هي واحدة من تلك المدن. حلب وتدمر أيضاً. لنبكِ، فنحن، لا نستطيع أن نفعل شيئاً ضدّ ما يُسمَّى “الحماقة بسُحنة ثور”. ماذا عسانا أن نفعل؟”. لقد ظلّت مدينة بيروت جرحه السرّي حتّي النهاية، يحمله معه أينما حلّ، وكذلك أحوال العالم العربي الذي يغرق، أكثر فأكثر، في الجهل والعنف والتخلّف.
في لقائنا الأخير، وقبل أن أودّعه، أخبرني بأنه رأى في منامه طفلاً يطير في غرفة مقفلة، يرتطم في الجدار وسرعان ما يختفي. من وحي هذا الحلم، كتب قصيدة استهلّها بالقول: “يطير الطفل، صرختُ في الغرفة”، ثمّ، فجأةً، يختفي الطفل ولا يعود له أثر. هذه القصيدة لم تستلهم الحلم بقدر ما استلهمت الواقع الذي ولّده، والأفكار التي كانت تجول في رأسه حول امّحاء الذات ونهاية الطفولة. كأنّ الشاعر لا يكبر ولا يشيخ إلاّ لحظة موته. لذلك ظلّ صاحب “الماء البارد المحفوظ” يكتب ويسعى إلى رتق الوقت بالكلمات حتّى لحظة الاقتراب من النسيان الكبير.
بعد أسفار طويلة، سلكَ صلاح ستيتية الطريق الذي قال عنه يوماً إنه لا يؤدّي إلى مكان، وكان، بمقدار خوفه من السير عليه، متشوّقاً إلى معرفة ما يوجد وراءه، هناك، في الضفّة الأخرى.