1 –
أيها العدم الذي تربى في دمي
رفقا بنصف السؤال
بالوقت المنهمر في مرايا الزمن
بالفراغ النحيل
بالأحجيات التي تكبر في عتمة الصمت
بالوميض المتقطع
بالأفكار الراكضة في سهوب المخيلة كجراء خائفة
بالحزن المتيقظ ككلب حراسة
بالزهرة الوحيدة القابعة إلى جانب النهر الكبير
الوحيدة حتى من يد تمتد لتقطفها
أو نحلة تتحر بتويجاتها النيئة إذ تمتص منها الرحيق
أو فراشة تذرو حبوب اللقاح
الزهرة التي تودع المراكب الخالية كل يوم
وترنو للنهر الكبير الذي ينظر غير آبه بها – للبعيد
في حين تزهر هي كل عام لمجرد احتمال بأن يرنو إليها قليلا ذات مساء
تلك الزهرة التي تسكن قلبي منذ الأزل.
2 –
أقرأ وأمشي
هكذا أصرّف أيامي الفائضات
أوزع الخطوات على الدروب الشائكة
أزرع شتلات اللغات القديمة في أصص الخيال والذاكرة
وكفلاحة طيبة أترفق بي
أحيط جسدي بالشمس والماء، وروحي بالحب
أترفق بأحزاني، باللون، بقامات النخيل، بالدروب المكفهرة، بالسماوات، بالأزمنة العجاف، بالسحب والماء.
وأسحب شهيقا عميقا عبر لغات العالم
وأرسل قصيدتي نذرا للخطوات المرتبكة
أصفف شعر أيامي في مرايا العدم، وأهتف بالليل تعال ببطء، وكن بردا وسلاما على قلب الثكالى والمحرومين
أناغي طفلا بقلبي، وأمتص حليب القيامات
وأبتسم كلما أطبق الصمت وكلما استدارت الطريق، وكلما مر أمامي جبان أو طحلب متلوّن
وكلما استطالت الطعنات في الظهر أنحني قليلا لأبكي
ثم أنتصب بقهقهة عالية
وأعبر للقادم بحلم جديد
3 –
لم أعد أستطيع أن أكتب شعرا جيدا
فكل ماحولي شعراء بشكل يخجلني
الشجيرات التي تغني للريح بأجسادها المجوّفة
القطة المجنونة التي تتسلق الفراغ فتعيد تشكيله
المرأة التي بلمسة سحرية تجعل الأمكنة أكثر اتساعا والوجود أكثر نصاعة
الأجهزة التي تخبرني أسرار الجمع على رنة عصافير
الأرجوحة التي تدغدغ الحزن فيضحك كلما جئت إليها
شقائق النعمان اللواتي يقلمن أظافر الوقت كي لا يجرح الأمل
الملائكة الذين يجبّرون قلبي بعناق دافئ كلما انكسر
وكثيرا
كثيرا جدا
الرجل الذي يحوّل يومياته لألحان شجية ويغريني بيده كلما تعرّقت أصابعي
ويرسم فيها قلباً ينبض حتى حين أنام
فكيف أكتب أجمل من هذا .. وهل ثمة ما هو أجمل وأكثر شعرية من ذلك
4 –
أشتهي صديقة أقشّر معها الكلام
أفكك أزرار النميمة على مهل
وأحفر بئرا لروحي داخلها
امرأة من قشطة وعسل، كما كان أبي يحب للصباحات والمساءات الباردة
أرهقتني كذبات الشاشة الميتة
كلنا طيبون هناك، وكلنا نضحك للكاميرات
وكلنا متعبون
كلنا متعبون
يأكل القلق أيامنا
ويغسل الحزن يديه على موائدنا الجاهزة
وتعبر السنوات ثقالا بلا أدمع صادقات وبلا شهقة نافرة
ونكذب نكذب
نرسم صورا للكلام
ووجوها نضرة أمام وجوهنا الباهتة
ونكذب نكذب
نصافح أيدي مقطوعة في السراب
ونرسل تنهيدة للفقد لا نشعر بها
يا للأسى !
أريد حوارا طويلا بين عاشقين لا يناما إلا على أمل الاستيقاظ لاستيفائه
أريد لثغة طفل تعمّر الأرض بالضحكات
أريد صراخا يقضم عرى الشاشات الواهيات
والحكومات البائسات
والبشر الكاذبين
أريد بشرا من حنانات الرؤى ولذائذ الرغبات
من الكادحين والعابثين الذين إذ يمشون لا يتلفّتون
ولا يضحكون لصورة عاجلة
لا أريد سبات
وشاشات تشرّح أحلامنا للملأ
وترفل في كذب الأغنيات
5 –
ببطء شديد يا أبي
كسلحفاة عجوز
أو كبومة حكيمة
أصبحت أدير محرك أيامي
بين قهوة وكتاب
أهدهد أحلامي كي لا تموت
وأتّحد مع شخصية في فيلم أو رواية
أتقمّصها لأيام
كي أنجو من براثن الوجود
ومن صاعقة العدم
وحين أملّ منها أخلعها كمعطف قديم
وأرتدي آخر أكثر بهاء
أغنّي لأيامي كي تهدأ عجلتها الدوارة
ولا أنتبه للفصول في تبدلاتها المثيرة
وجنونها الأرعن
ولا أأبه للبشر في خرافة الحياة والسعي
لا أتلفت كثيرا
لا يعنيني أحدٌ
أتعثر كثيرا وأنهض كثيرا وأحلم كثيرا
وأمضي للغد الذي لا أعرف ببطء أشدّ
يرفرف ويتحرك بقلق
أتجاهله كي يظل هائما في الكون
علّه يجمّل القبح قليلا
أو يحرس بعض أحلام الموتى
أو يغازل الحقيقة الفجة بنسبيته المستفزّة
أتركه يلوّن الأشياء خارجي لأنعم بالسكينة خارجه !
6 –
ثمة شق كبير بيني وبين هذا العالم
أحاول أن أضمّده بالكلمات
أمسح على جرحه الكبير بقلبي المرتجف كل ليلة
أقرأ عليه قصة
أعلمه أن يحلم كثيرا ليلتئم قليلا
أحاول أن أعلمه أن يكذب على نفسه ليعيش
أو يختلق فقاعة باهتة ليحيا فيها
أن يتدرب على الكذب كل يوم بدأب وإصرار كي يفقد بعض وزنه
وأن يحفظ بعض الكلمات الهزيلة عن الأمل كمن يتعلم لغة صعبة
كي يحلّق أخيرا كبالونة فارغة
الشق يتسع
وكل ما أخشاه أن يبتلعني
وأنا أردد نفس النصائح همسا داخلي
7 –
قميصك الأزرق الفاتح
الذي كلما ارتديتَه استحال قلبي بحرا
هو ذاته بأزراره الصغيرة وبذلك الزر الثالث المرتخي قليلا
وبتلك التجاعيد عند الياقة وعند الكتفين
بالخطوط الطولية الباهتة
التي طالما قلت في سري كلما رأيتها لو كانت زرقاء أكثر
قميصكَ الأزرق الذي أحب هو ذاته لمحته اليوم
يومئ لي على رجل الجدار المعلّق في أحد المحطات
الشيء الوحيد الذي كان ينقصه تلك الرائحة الخافتة التي تشبه رائحة الفجر في قريتي الصغيرة
تلك التي تجرحني في الذاكرة تماما
وتوقظ فيّ الحنين لبكاء طويل كلما رأيتك ترتديه.
8 –
فور دخولي المقهى أخرجت حزني من حقيبتي
وضعته على الطاولة
فذهب في التمدد والارتقاء
ثم تشكل كائنا خرافيا وجلس على الكرسي المقابل
طلبت له (آيس كريم) ولي قهوة سوداء أشربها نخبا له
ابتسم النادل وهو يقول:
جميل هذا الحزن.. كثير جدا، وشهي ياسيدتي
يكفي لكتابة قصيدة
أو كي يزهر الربيع مجددا في بلاد الحر
أما الرجل السمين الذي يجلس على الطاولة المجاورة
فكان يهش بيديه كي لايصله شيء من فراشات الحزن التي غمرت المكان فور دخولي
يبدو أنه يخاف أحزان النساء
أو لعله متورط فيها أكثر مما ينبغي!
فاطمة الشيدي *