«الحبانية» المدينة العراقية التي كانت قاعدة عسكرية أثناء الاحتلال البريطاني للعراق عام 1917 كانت في الصميم من سيرة موجعة،لكل من عرف صموئيل شمعون أو قرأ له أو سمع عنه،وبالرغم من هوسه من خلال سيرته بباريس ونسائها نستطيع أن نرى أيضا أن الهدف المبثوث في ثنايا سيرته،نابضا متلألئا يذكرنا بحلم العودة إلى الأصل، إلى الحبانية مدينة الطفولة والحلم،المدينة التي تعرف على الحياة والسينما لأول مرة فيها.
تعرفت على الكاتب «صموئيل شمعون» من خلال ما كان يرويه لنا الأصدقاء من الأدباء في الثمانينات عندما كنا نعود من جبهات القتال خلال الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 لنلتقط أنفاسنا في مقاهي بغداد أو البصرة ونروي فظائع الحرب التي كنا نخوضها كجنود في جبهات القتال المختلفة،وسرعان ما ننتقل للحديث عن أدباء وكتاب ومثقفين عراقيين تخلصوا من المحرقة بفضل وعيهم السابق على الآخرين، وخرجوا من البلاد قبل أن تغلق الحدود على الجميع، ويمنع جميع من كان في سن العسكرية من السفر إلى خارج العراق،ليعيش الذين نجوا من محرقة الحرب أتون محرقة أخرى من العيش الصعب،ولا أقول الذليل في منافي العالم المختلفة في ظروف حياة لا استطيع إلا أن أقول أنها بائسة، وغير إنسانية،ولا ادري من كان منا يعاني أكثر؟! من كان في العراق يخوض حربا لا معنى لها،أو من كان في خارجه يعيش مرارات متعددة:البعد عن الوطن والأهل وقسوة الفاقة والتشرد؟!!أثناء تلك السنوات الضاجة بالجنون والموت المجاني،ولكن في تلك الفترة لو خيرنا بين البقاء أو الخروج من الوطن مع صموئيل شمعون، ورفاقه من كتاب ومثقفي العراق، لفضلنا الخروج والانتصار لإنسانيتنا الرافضة،لأي حرب مهما كانت ولأي سبب غير الدفاع عن النفس والأهل،والدين والشرف وحق العيش بكرامة!
الحلم والتشرد
يبدأ صموئيل شمعون المسيحي العراقي،الذي يعتز بعراقيته،إلى درجة أنه جعل عنوان كتابه «عراقي في باريس» ولم يقل على سبيل المثال:صموئيل شمعون في باريس! وكان هذا التغيير سيعطي الكتاب قراء أكثر واهتماما بالكتاب من جنسيات أخرى غير العراقيين، ولا يصير الكتاب متنفسا لقارئ عراقي محبط،مفلس لا يجد ربما في مناف كثيرة الـ5 دولارات ثمن الكتاب ليقتنيه! لقد فضل شمعون أن يقول «أنا عراقي» رافضا على سبيل المثال أن يكون مليونيرا من بيع مليون نسخة من كتابه في وقت يفضل الكثيرون فيه، من المناضلين السابقين واللاحقين للتخلي عن جنسيتهم العراقية وجوازات سفرهم العراقية، قبل أن تزورها الحكومة الديمقراطية الجديدة، وترفضها دول العالم لكونها وثائق مشبوهة،وهم يبحثون عن وطن آخر يلم جراحهم أو ليستثمر البعض منهم «أولئك الذين سرقوا أموال العراق في هذه البلدان!» لقد تخلى شمعون المسيحي الأشوري، العراقي عن وجاهة المليونير من بيع كتابه تحت أسم يوحي بان شخصية كاتبه أجنبيه،كما تخلى وهو كبير السن في تونس عن قلفته، فقد كان أقلف كأبناء طائفته الباقين،وكان في وعيه المبكر أنه لا ينتمي إلى ميثولوجيا وعقائد – أهل العراق من الطوائف- الذين يعتقدون بنجاسة ممن لم يختن،وتعود سنة الختان كما هو معروف إلى النبي إبراهيم عليه السلام، النبي الذي ولد وعاش في العراق،ونزح منها، كما أمره الخالق بذلك، وقد أمن بأن الختان ميثاق بينه وبين الخالق، وقد ورد ذلك الميثاق في التوراة في النص القائل: – وقال الله لإبراهيم: أما أنت فتحفظ عهدي بيني وبينكم، يختن كل منكم، فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم، فيكون عهدي في لحمكم عهد أبيا-() وما مر على صموئيل في تونس وهو يختن بيد حلاق تونسي، من فصول السيرة المؤلمة، لأسباب عديدة منها، أن عملية الختان تتم بوسائل بدائية،ولأن البطل بعيش وحيدا، ولا أحد يعني به،والحادثة تبدو للقارئ وكأنها وقعت قضاء وقدرا، ولكن المسالة تبدو وفق ما جاء في السيرة أبعد من هذا بكثير، وهي تأكيد عاطفي على الهوية، التي ينتمي لها صموئيل شمعون بإتمام عقد عهده مع ربه بأنه ينتمي إلى بلد الأجداد، بلد إبراهيم عليه السلام، قبل أن يبدأ رحلة العذاب،الضاجة إلى الغرب لتحقيق حلمه بعمل فيلم سينمائي عن أبيه الأخرس، وحبه العجيب لملكة بريطانيا!
تقنيات السيرة
التقنية التي أتبعها الكاتب في سيرته هي المرور على الأحداث كمرور عدسة الكاميرا على جثث مرمية في الطريق، فهناك وجوه مزرقة وأيام كالحة، ونساء يمررن مرور الأشباح، ولا تشعر بقطرة دم واحدة من خجل في وجوههن، وجوه زرقاء يكرهها صاحب السيرة، ولكنه يحشد هاته الوجوه في صفحاته، لأنها تمثل جزءا من ذاكرته وحياته التي يريد التطهر من الكثير من احداثها، وحتى تلك العجوز السبعينية التي يشاء القدر أن تصير جارة له في ضواحي باريس، ويعاملها كأم حقيقية له تكافئه بأن تدعي خلال مائدة يولمها لها، أن الأسنان الذهبية التي عثر عليها الكلب في حديقته، وتصرف بها وتسوق بثمنها ثمن طعام الوليمة، هي أسنانها الذهبية! التي ضاعت منها منذ سنوات وبذلك فقد جعلته يشعر بالإحباط، والدونية لأنه أخذ ما لا يخصه وأنه ليس متكرما عليها بل هو يكرمها بمالها المسروق منها!
حياة سابقة
بدت السيرة سيناريو فيلم حقيقي تمر على أيامها العدسة مسجلة، مرة بلقطة قريبة وأخرى بعيدة ولقطة متلاشية وصورة كبيرة وأخرى صغيرة، وواسعة بانورامية، وأخرى مزج بأخرى،صور المطر وعواصف باريس لا تزال في ذاكرتي حتى بعد أن فرغت من قراءة السيرة بأيام، وأنا لا أزال أتخيل البطل ينام علي مصطبة الحديقة ورجل كبير في السن يطالبه من شرفة شقته المطلة على الحديقة أن يغادر المصطبة بسبب شخيره العالي الذي أقلق صاحب الشقة وأزعجه! وزوجة صديقه التي ظنها مخلصة جدا لصديقه، التي وجدها مصادفة في مدينة أخرى عند رجل آخر عارية! الدايلوج الذي يستخدمه الكاتب دايلوج سريع وقصير متوتر، كأننا بالضبط نستمع إلى مسمع إذاعي،والمنلوج هي الوسيلة التي لم يستخدمها كاتب السيرة بتوسع في عمله، لأنه كاتب حدث وحركة ولا تهمه الأفكار في عمله،ولو كان الكاتب مركزا على المنلوجات الطويلة في سيرته لشعرنا بعدم أخلاصه لبطله الذي عاش في الشارع حياة قلقة، لفترات طويلة، وحتى طفولته في الحبانية، التي كان يمضيها ببيع الأزبري على طلاب المدرسة في الصباح، وعندما يحل المساء يكون عند بوابة السينما لتكملة حملته في بيع الأزبري،أو لمحايلة بواب السينما للدخول مجانا لرؤية أحد العروض السينمائية لأحد أفلام نورمان وزدم، حيث يقع مرة في أكثر سرود السيرة صدقا ودرامية تحت رحمة عامل السينما، الذي أراد اغتصابه! في صالة السينما المظلمة والخالية من الرواد وهو يمنيه برؤية الفلم بشكل خاص مع مكافأة، كومة من قصاصات أفلام سابقة! الحركة في السيرة تابعها الكاتب عبر حكي متواصل يقوله السارد وتتداخل فيه الأزمنة بين الماضي والحاضر،والمستقبل، ولكي لا يقع الكاتب في النمطية كتب عن طفولته في الفصول الأخيرة من السيرة بشكل أكثر تكثيفا،لتبدو السيرة وكأنها استعادة للذكريات يقوم بها شخص ناضج يرى بعدسة الكاميرا ما عاشه في مراحل حياته المختلفة.
الحبانية في الستينات
الضياع في باريس ومهما كان المتن الذي أستحوذ عليه من النص إلا أن القيمة الكبرى في هذا الضياع الباخوسي، هو ما ترك لبطلنا من ذاكرة حية أبقت لنا صورة الأم «كرجية» التي بعد كل سنوات الفراق تسال بوجه ضاحك عن أنف البطل الذي تضخم عبر السنوات أو «نسرين» تلك المرأة التي اغرم بها حين كان صبيا وكانت اكبر منه سنا وكانت تبعثه ليتسوق لها، فيضع نقوده فوق نقود مسواقها ليأتي ببضاعة أكثر محبة بنسرين، وهو يوهمها بأنه يعرف البائعين جميعا لذلك فهم فيخفضون له الأسعار، أو شخصية الأب الأخرس والأطرش، الذي يطلق عليه لقب كيكا، الذي لا تنسى شخصيته عبر صفحات الكتاب، ذلك الخباز الذي أحب عهد الاحتلال، وخلف لابنه محبة الملكية، والبارات، فبقيت في قلبه مثل حلم يستعيد من خلاله أجمل أيام حياته في الحبانية في فترة الستينات، وقرياقوس هذا الذي سميته أنا «الملاك الحارس لسينما صموئيل شمعون!» الذي يأتي دائما كضمير حي للفتى صموئيل وللرجل صومئيل ولا يتركه أبدا، ضمير متكامل يتابعه في كل مكان يحل به ليذكره بهدف حياته وما قطعه على نفسه من عهود حول محبة السينما والعمل في هوليود! عذابات الفتى في السيرة تنبع من محبة الحياة وإصراره على تحقيق طموح فتى قروي قادم من قرية عراقية بعيدة اسمها الحبانية! ونحن نتابع تجميعه للملح من المستنقعات لبيعه في السوق، ومع الأم التي تقول دائما: أننا مثل المسيح الذي لم يحب أكل اللحوم وهي تعرف أنها تقول ذلك، لا تستطيع شراء اللحوم فهي اذن تفلسف فقرها ذاك ولكنها حالما يترك لها زوجها المال اللازم حتى تهرع لشراء هذا الذي لا يحب أكله سيدنا المسيح! الشخصيات التي رسمها الكاتب كرفيق الهندي، نصرت شاه، غلوبي النغل،الأخ الأكبر لكاتب السيرة» شمشون» الذي يأخذ جزءا من يوميته في بيع الأزبري، والأخت الجميلة «شميران» التي تحب مضمدا في المستشفى الجمهوري، فتضطر إلى جرح أصبعها مرارا لكي تذهب إليه ليداويها، ومن ثم بعد توطد علاقتها به وشى بها الوشاة بأنها ركبت معه على دراجته الهوائية وذهب بها إلى البستان القريب، وتلك تعتبر في ذلك الوقت فضيحة لبنت عائلة مستورة في تلك المدينة الصغيرة التي تشبه قرية والمحافظة جدا، لكنها تمر في السيرة بسرعة كماء النبع العذب الذي يجد في طريقه حصى فيمر حولها مضفيا على مسيرته جمالا ورونقا.
سيرة التسامح
لم أقرأمن قبل لكاتب عراقي يمثل هذا التسامح، والفكر النير والنظرة الإنسانية لما عاشه من أيام صعبة،وما وجدت عبر صفحات سيرته كلمة حقد واحدة أو شتيمة لمن ظلمه واضطهده، وما وجدت إلا روحا عراقية تلوب في جسد اكتوى بكل ظلم السياسيين وجشعهم،وعدم غيرتهم على أبناء وطنهم في منافيهم وتركهم لأبناء وطنهم قديما وحديثا يلعقون جراحهم وفقرهم في أقسى المنافي، وأكثرها وحشة وفقرا، ولم يساعدهم أيضا أبناء جلدتهم أو يهتم بهم أحد من أصحاب الملايين العراقيين،كما فعل غيرهم من أغنياء الشعوب الأخرى، الذين كتبوا أزهى الصفحات رقة وعذوبة في إعانة الأدباء والفنانين والموهوبين من أبناء وطنهم،وتعهدهم بجميع نفقاتهم، حتى نبغوا وأضافوا لسجل إبداع أوطانهم أسماء في الآداب والفنون والعلوم، «عراقي في باريس» سيرة من أكثر كتب السيرة صدقا ومحبة للحياة والفن، تقرأ السيرة من نهايتها حتى بدايتها، وأيضا يمكن قراءتها من البداية حتى بلوغ النهاية! في المرتين ستجد أنك تقرأ كتابا مختلفا، وقيما عليا عن محبة الحياة والحرية، ستجد صديقا قديما صادقا ومخلصا يروي لك ضاحكا كل ما عاشه من بؤس وعوز ومرارة بلغة فكهة وتسامح مع الناس والحياة قل نظيره.
تكوين : 16: 9 – 13، انظر سيد محمود القمني، النبي إبراهيم والتاريخ المجهول.. الناشر : مكتبة مدبولي الصغير 1995 ص 12.
عراقي في باريس /دار توبقال للنشر/الدار البيضاء/المغرب/2009 قطع كبير 210 صفحة.
فيصل عبد الحسن
كاتب وصحفي عراقي يقيم في الرباط