نوريت پيليد إيلهانان(1)
تمرُّ كلُّ استراتيجيّةٍ تروم الهيمنة، عبر إلغاء الشّرعية على المُهيمَن عليهم، وإضفاء صفة الضّحية على المهيمِنين. وتجري هذه العمليّة على نحو خاصّ في إسرائيل، من خلال النّظام التّعليمي. وإذا كانت الغاية الرّئيسة التي تستهدف الكتبُ المدرسيّة تحقيقَها في كافّة الدّول هي إضفاء الشّرعية على النّظام الحاكم (الدّولة)، فإنّ دورها المركزيّ في إسرائيل يتمثّل في تبرير المشروع الصّهيوني والاحتلال الاستعماريّ، لفائدة أُمَّة تدّعي صفاءَ العِرق. والمحصّلةُ الطّبيعية المباشرة التي لا يمكن دحْضُها هي تغييب “الشّعب الأصليّ”، أو إقصاؤه. “وقد تواطأتْ جميعُ القِوى المُؤسِّسة للصّهيونية فيما بينها -كما قال إدوارد سعيد Edward Saïd- على استبعاد هذا الوجود، أو بالأحرى تغييب السّاكنة الفلسطينيّة الأصليّة تغييبا وظيفيّا. فالفلسطينيّون يقعون في الخارج أو يتمّ تغييبهم، حتّى وإنْ ظلّوا موجودين بأعداد غفيرة جدّا”.
ولم يتوفّر لنا بالكلّ، ما توفّر في كافّة الجامعات الأوروبّية والأمريكيّة، وأعني مجموعَ البرامج الدّراسية التي تسعى الى “حلّ النّزاعات”؛ كما لم تتواجد لدينا أبدا، برامج تدعو الى التّربية على السّلام. ولم يقع عندنا الى جانب ذلك، أيّ تحفيز يُشجّع على الاختلاط بين الطّلبة اليهود والفلسطينيّين. والسّبب؟! يكمن في ما تمّ الكشف عنه: فقد قام عدّة مؤرّخين اليوم، بتحليل الخطاب الإسرائيليّ التّاريخي القائم على الهيمنة، تحليلا محكما على الوجه الأكمل؛ وهو خطاب يُوصف بكونه يمثّل تمثيلًا نموذجيًّا، خطابَ كلّ حركة استعماريّة نهّابة تروم الاستيطان. وما يميّز هذه الأخيرة هو ثلاثة مُعامِلات: الإلحاح على الخاصّية الاستثنائيّة للأمّة المستَعمِرة، والنّزعة الذّاتية الحصريّة للمستوطِنين، ورفض كافّة وجوه التّواجد المرتبط بالسّاكنة الأصليّة، التي يقع استعمارها.
“استعارة البسْتَنة” وتطابقها مع النّظام التّربوي الإسرائيليّ:
تصف “استعارة البَسْتَنة”، التي صاغها زيغمونت باومان(2) سنة 1989، وصفًا مثاليًّا السّياسةَ الاسرائيليّة المتّبعة حِيال الفلسطينيّين والأقلّيات اليهوديّة(3)، مثلما تبرّر البرنامج الاستراتيجيّ لهذه السّياسة تجاه الشّباب الإسرائيلي. وتنطبق استعارة “البَسْتَنة” ضمن هذا التّصور، على الأنظمة السّياسية التي تهدف الى خلق مجتمع نقيّ ومصطنع، “وهي ممارسة تؤحِّد بين استراتيجيّات المهندسين المكلّفين بالمعمار وبين البُستانيّين، في اقتران مع استراتيجيّات الطّب أيضا… بحكم ما تتيحه من إمكانات للقضاء على عناصر الواقع الرّاهن غير المندرجة ضمن الرّؤية المثاليّة للواقع المراد تحقيقه، أو التي لا تستطيع التّبدل من تلقاء نفسها للدّخول ضمن هذا الواقع”.
ومن ثمّ، تكشف هذه الرّؤية بوضوح، أنّ الأعمال التي تستهدف انتزاع الأرض من أصحابها، إلى جانب أعمال التّخريب وقتل الفلسطينيّين، ليست ممارسات معزولة ولا منفصلة، وإنّما هي على العكس من ذلك، مجموعةٌ من الأعمال المتّصلة فيما بينها، من قبيل ما وقعت برمجته على النّحو الأكمل. وحتّى يتمّ القبول بهذا الوضع بالنّسبة للجهة المكلّفة بتربية الشّباب الإسرائيليّ لتهيئته كي يُصبح منفّذا جيّدا لتلك الممارسات، سيتمّ تحويل الفلسطينيّين إلى مشكلات مجرّدة، يقع تمثَّلها ذهنيّا من خلال صُوَر نمطيّة عنصريّة، وسيبرّر فيها حبْسهم ضمن نطاق ضيّق، أو القضاء عليهم تحت ذريعة الحاجة الماسّة إلى تنمية مجتمع نقيّ، أو يتكوّن على الأقلّ من أغلبيّة يهوديّة.
مهمّة أساسيّة منوطة بالكِتاب المدرسيّ
ففي إسرائيل، تناط مهمّة إعداد الكُتب المدرسيّة بالمؤسّسات والشّركات الخاصّة، التي تخضع لشروط التّرخيص المحدّدة من لدُن وزارة التّربية، قصد استخدام هذه الكتب في الحجرات الدّراسيّة. لذلك، تتضمّن كافّة المسلّمات الأيديولوجيّة، كما تشتمل على جماع المزاعم غير القابلة للدّحض وكلّ الأساطير المؤسّسة للنّزعة الصّهيونية الاستعماريّة، التي يتمّ تقديمها على أساس أنّها حقائق مقطوع بصحّتها سلفا.
وأولى هذه المسلّمات التي يقع توضيحها في كتب التّاريخ والجغرافيا المدرسيّة، هي مسلّمة الحقّ “التّاريخي” لإسرائيل في هذه الأرض، الذي يستند إلى الكتاب المقدّس. وعادة ما يُعمَد الى استعمال هذه الحجّة الدّينية، حتّى من قبل أولئك الذين لا يؤمنون إطلاقا، مثل بن غوريون Ben Gourion؛ رغم أنّ هذا الكتاب لا يشير بالحرف أبدا الى “اليهود”، وإنّما الى القبائل الاثنتي عشرة من قبائل بني إسرائيل، التي تنحدر منها واحدة من صلب يهوذا. ومع ذلك، يخبرنا كتاب “دول حوض البحر الأبيض المتوسّط” المدرسيّ لمادّة الجغرافيا، والمخصّص للتّلاميذ المتراوحة أعمارهم بين عشْر واثنتي عشرة سنة، بأنّ القدس ظلّت منذ ثلاثة آلاف عام، عاصمة دائمة للشّعب اليهوديّ. كما يشير هذا الكتاب أيضا إلى المناطق المحيطة بالبحر الأبيض المتوسّط، باعتماد أسماء مستمدّة من الكتاب المقدّس. وإلى جانب هذا، يُحشَر الكتاب باقتباسات أخرى مُستمدَّة كذلك من سِفْر التّكوين وسِفْر التّثنية وسِفْر يشوعا، لإبراز الوعد الرّباني الذي خُصّ به الشّعب المختار، في إقصاء تامّ لكلّ توصيف يطول الشّعوب والحضارات الأخرى، التي عاشت على جنبات هذا الحوض المتوسّطي؛ وذلك بغاية توضيح الفكرة التي تقول بأنّ الأرض الموعودة، منذورة بأن تُوسّع بغير حدود على مستوى الشّمال والجنوب والشّرق والغرب.
ولأنّ وجود الدّولة الصّهيونية يستند الى الحقّ الإلهي في إسرائيل، فإنّ “العنف والسّيادة يُطالِبان باسترداد هذا السَّند الإلهي، في هذه الحالة… الأمر الذي يفترض في دروس التّاريخ والجغرافيا وعلم الخرائط والآثار، أن تُدعّم هذا المطلب؛ وعلى هذا النّحو، يتمّ ربط الهوية بالطّوبوغرافيا ربطا حميميّا”، كما بيّن أشيل مبيمبي4(Achile Mbimbi)، في مبحثه الموسوم بعنوان: نيكروبوليتيكس Necropolitics، حيث يتمّ وصف الأشكال المعاصرة لعمليات إخضاع الحياة لسلطة الموت.
وفي كتاب الأزمنة المعاصرة المدرسيّ، ثمّة فصل بعنوان: خلق المشكلة الفلسطينيّة، يقع فيه على نحو جيّد توضيح الفرضيّة التي تقول بأنّ الفلسطينيّين، أو عرب إسرائيل، قد تخلّوا عن قُراهم وغادروها، بصرف النّظر عمّا إذا كانت هذه القُرى قد تعرّضت للتّدمير، أو طُردَت السّاكنةُ منها بالعنف. وإنّما تبقى قضية هؤلاء في كلّ الكتب المدرسيّة، مسألة تخلٍّ وترك دائميْن لقراهم وحسب.
وتتمثّل إحدى السّمات الخاصّة بالخطاب العنصريّ، بالاستناد الى ما قاله فان ليوين Van Leeuwen)5)، في تغييب البُعد “الإنسانيّ” في عملية تعيين الأشخاص، أو تكمن في إسناد صفة قدحيّة ما إليهم، من قبيل نعتهم بـ “المشكلة” مثلا. ففي الفصل الموسوم بعنوان: إسرائيل دولة جديدة، يظهر بالكتاب المدرسيّ التّالي: في عالم من التّغييرات، بعض اليهود الذين التُقِطت لهم صورةٌ في قرية “مهجورة”، تخضع لعملية إعادة الإعمار. وعلى سبيل التّوضيح، يضيف العنوان المرفق بالصّورة ما يلي: “أشغال البناء بقرية مهجورة، تقع بمنطقة بِنْ هودْ، صارت تسمّى منذ عام 1949: بِنْ هودْ”. فهل سيكون السّكان قد دمّروا قريتهم وقت تأهّبهم للفرار؟ هنا، تغيير الاسم وحده يفترض الوجود المرتبط بهؤلاء، الذي كان وجودا سابقا!
كابوس ديموغرافي:
أمّا المأثرة الثّانية التي تقدّمها الكُتب المدرسيّة على أنّها مسلّمة، فهي خطر الفلسطينيّن المُحدق بالخاصّية اليهوديّة للدّولة؛ وبتعبير آخر: الخطر الدّيموغرفي الذي يمكن أن يتحوّل في حالة عدم السّيطرة عليه، “كابوسا ديموغرافيّا” حسب تعبير إيلي بارنافي Elie Barnavi)6). ولهذا، مُنِعت عودة اللاجئين الفلسطينيّين. وقد تعلّم التّلاميذ بفعل ما دأبوا على تحصيله، الدّرسَ الذي يفيد بأنّ البيوت الفارغة، التي غادرها العرب على خلفية هدم القرى، أُعلِنتْ “ملكيات مهجورة” وقع حجزها بعد ذلك، لإيواء اليهود الوافدين على فلسطين (ن. بلانك N. Blank: كتاب التّاريخ، 2006). مثلما تعلّم التّلاميذ أيضا، تجاهل مأساة الآخر: مأساة الضّحية، واحتقار القرارات الأمميّة والقانون الدّولي، واعتبار عواقب هذا الظّلم الغاشم نِعمةً، يُستفاد منها في تنمية الدّولة اليهوديّة الإسرائيليّة.
والأمر التّعليمي الثّالث الذي يقدّم كمسلّمة أخيرة، هو الذي يوصي بالعادل والمرغوب فيه: أي بدولة يهوديّة بها غالبية يهوديّة ورقابة يهوديّة. والسّؤال الذي يطرح نفسه تلقائيّا إذن، هو: كيف يمكن المحافظة على غالبيّة يهوديّة، إذا كان السّكان الفلسطينيّون المهيمَن عليهم، يمثّلون نصف السّاكنة تقريبا؟ هنا، تقدّمُ “استعارة البَسْتنة”، التي صاغها زيغمونت باومان، الإجابة الأكثر نجاعة: “تُحدِّدُ كلُّ رؤية تؤمن بالمجتمع البستانيّ، أجزاءَ معينة من البيئة الطّبيعية المحيطة بالأمّة على أنّها أعشاب بشريّة ضارّة. وككلّ أعشاب ضارّة، يتعيّن إبعادها جانبا، ومنعها من الانتشار والتّحرك والاحتفاظ بها خارج حدود المجتمع؛ وإذا لم تنفع كافّة هذه الطّرق في إزاحتها، فينبغي قتلها”.
“الآخرون” في إسرائيل
ثمّة نوعان من “الآخرين”، في إسرائيل. يتكوّن أحدهما من اليهود وغير العرب، الذين لا يندرجون ضمن خانة السّاكنة الأصليّة المهيمَن عليها، وإنّما وقع استقطابهم خلال السّنوات السّبعين الماضيّة، لضمان التّفوق العدديّ الدّيموغرافي، ضمن ما يُسمّى بـ”حدود” الدّولة. ومن ثمّ، حصل الاعتناء “بزرعهم” في التّربة الجديدة، أو تشكيل وعيهم على النّحو الذي يتمكّنون معه من الاندماج، في مجتمع يهوديّ ديموقراطيّ. فصار يتعيّن عليهم تغيير اسمهم الأصلي، ونسيان لغتهم الأصليّة، وطقوسهم الدّينية، وكافّة ما شكَّل تراثهم الثّقافي الأصليّ؛ لكنّ “ضحايا فخّ الصّهيونية” هؤلاء ليسوا موضوع هذه الدّراسة، الآن. بينما يُشكّل الفلسطينيّون النّوع الثّاني من هؤلاء “الآخرين”، أي ذلك النّوع الذي لا يمكن “زرعه” بعناية في المجتمع، فتوجّب بالتّالي وضعه بالضّرورة على الهامش، أو اقتلاعه والقضاء عليه.
ففي سلسلة الكتب المنشورة خلال سنة 2006، بغاية تقديم دروس في التّربية المدنيّة لفائدة تلاميذ الصّف الابتدائيّ، يتمّ في مادّة العيش المشترك في إسرائيل تغييب اليهود الإثيوبّيين واليمنيّين والبدو والدروز والفلسطينيّين، تغييبا تامّا من الدّروس والصّور المرئيّة التي تصف طقوس الحياة اليوميّة في إسرائيل، كما يتمّ حصر هؤلاء في إطارات ملوّنة ذات تصميم مختلف، حيث تتمّ الإشارة فيها إليهم بوصفهم “عيّنات من الأقلّية الإثنية” المتواجدة في المجتمع، لكنّها بعيدة كلّ البُعد عن الاندماج مع بقية السّاكنة اليهوديّة. لذا، يتعلّم الأطفال الإسرائيليّون، ومنذ حداثة سنّهم إذن، كيف يتعرّفون إلى هؤلاء “الآخرين” المنضوين ضمن نمط بشريّ مختلف، وكيف يميّزونهم بصريّا ولفظيّا؛ وتبعا لذلك، يسلّمون بواقعة أنّ المرء كلّما كان إثيوبّيا، درزيّا أو من البدو أو عربيّا، كان منفصلًا عن حياتهم الطّبيعية العاديّة.
خلق صور نمطيّة أو إكْليشيهات…
“تقوم العنصريّة الاستعماريّة على صرح يتأسّس من مكوّنات أيديولوجيّة ثلاثة: هوة سحيقة فاصلة بين ثقافة المستعمِر وثقافة المستعمَر؛ واستغلال هذا الاختلاف لفائدة المستعمِر؛ واستعمال هذا الاختلاف المزعوم على أنّه معيارٌ للحقيقة المطلقة”(7). وكلّما وقع تمثّل هذه الاختلافات المزعومة باعتبارها معايير للحقيقة، كلّما تمّ تقديم “المختلف” عبر صور نمطيّة. وهكذا، تسهم التّمثلات التي تصوّر المواطنين العرب في إسرائيل على أنّهم مجموعة من الرُّحَل البدائيّين، الذين خرجوا من بطن الأساطير، في خلق فكرة مؤدّاها أنّ هؤلاء المستعمَرين لن يمكثوا بشكل دائم بيننا هنا، وإنّما سيختفون في يوم ما لحطّ الرِّحال، برفقة إبلهم وجمالهم، في الدّول العربيّة المجاورة.
إنّ التّمثلات القائمة على الصّور النّمطية تندرج ضمن منطق يروم انتزاع الصّفة الإنسانيّة عن الإنسان، وهو ما يتطابق مع منطق الإلغاء والإقصاء، أو هو الذي يولِّد في هذا المنطق -بتعبير أدقّ- عنصر الحثّ والتّحفيز، وفق ما قال به إيلان بابّي(8). ولا تعني عمليةُ نزع الصّفة الإنسانيّة عن الإنسان بالضّرورة، وصفَ وحشية المخلوقات وحقارتها ودناءتها، مثلما حصل مع اليهود خلال مرحلة النّظام النّازي، وإنّما تعني بالأحرى تحديدَ مجموعةٍ بشريّةٍ ما بوصفها مختلفة، وإلزامها -من باب الواجب الأعلى- بالخضوع لنظام ما، ولمنظومة إداريّة مختلفة. وما إن يتمّ انتزاع البُعد الإنسانيّ عن أفراد هذه المجموعة، حتّى لا يعود هؤلاء ملاكني لأيّ ذريعة، بل والأدهى أنّهم لا يعودون أصحاب أيّ “قضيّة عادلة”، وإنّما يصيرون مجرد عامل مزعج وحسب.
استخدام الخطاب العنصريّ
إنّ الخطاب العنصريّ بالنّسبة لألبير ميمّي Albert Memmi)9)، بوصفه صرحا تتأسّس على قاعدته العلاقات الرّابطة بين المستعمِر والمستعمَر، هو جوهرٌ شريكٌ في النّزعة الاستعماريّة. وفي سياق مجتمع مسكون بالنّزوع الى الكمال المثاليّ، تنزع بعض الفئات المتواجدة من النّاس إلى مقاومة كلّ شكل من أشكال التّحكم، محصّنة نفسها باستمرار ضدّ أيّ تغيير أو تطوير. وفي هذا السّياق، يتحدّث ثيّو غولدبرغ Théo Goldberg)10) عن عمليّة التّبييء العنصري التّلقائيّ مثلما تمارس ضدّ الفلسطينيّين: إذ يتمّ وضع هؤلاء على الهامش، فيتعرّضون على إثر ذلك للقتل لما هم عليه، وبسبب موضع تواجدهم. إنّهم يتعرّضون للتّصفية الجسديّة، لأنّ أراضيهم تعدّ هدفا للسّيطرة (كما جرى مثلا في قرية أمّ الحيران). ويتعرّضون للقتل أيضا، لأنّهم يَعْبُرون طريقا مخصّصة لليهود (كما حصل لشابّ رفقة أخته في قلنديا)؛ ولأنّهم ينتمون إلى منظمات تنشط في المقاومة (حماس)؛ أو لأنّهم يحملون -زورا وبهتانا- سلاحا أبيض، وهم يقتربون من بعض الجنود المسلّحين. أمّا الأطفال، فيتمّ قتلهم والتّنكيل بهم وحبسهم في السّجن بغير عقوبة، بسبب ما سيصيرونه في المستقبل.
التّشريع للاستئصال: التّغييب والتّجريد
في كتاب إسرائيل: الإنسان والمكان المدرسيّ والمخصّص للجغرافيا، تُظهِر إحدى الخرائط “السّاكنة العربيّة بإسرائيل”، دون أن تنعت بالاسم أيّ مدينة من المدن العربيّة، مثل عكّا والنّاصرة؛ الشيء الذي يُستفاد منه أنّ هؤلاء، حتّى وإنْ كانوا يعيشون هناك، فهم ثقلٌ علينا وعلى مدننا، بشكل غير مقبول. وفي نفس الكتاب أيضا، يتمّ تقديم الضّفة الغربيّة بوصفها فضاءً أبيض، يقول عنه النّص التّوضيحي المرفق: “منطقة لا وجود لأيّ بيانات بشأنها”. فهل ينبغي أن نفهم من خريطة سكّانية، تقدّم المنطقة على هذا النّحو، بأنّها تشير إلى مكان خالٍ من السّاكنة؟!
ثمّة العديد من الأمثلة التي يتعرّض فيها الفلسطينيّون للتّغييب، فلا تقع رؤيتهم حتى في الأماكن التي يعيشون فيها. ففي كتاب: كائنات بشريّة في الفضاء، يتمّ تخصيص فصل “للاجئين، الذي يفرّون لإنقاذ حياتهم”، وفيه تظهر صورٌ لبعض اللاجئين من مختلف بلدان العالم، وبجوار صورة للاجئين يهود، تظهر أخرى من نوع خاصّ، تخلو تماما من أيّ كائن حيّ. وفي التّعليق المرفق بها، نقرأ: “مخيّم جباليا بقطاع غزّة؛ وهو أحد أكبر المخيمات المكتظّة باللاجئين، حيث يعيش النّاس في ظروف مزرية للغاية، وحيث مستوى النّظافة ومعدّل التّعليم متدنّيان جدّا”. إنّ مأساة هؤلاء النّاس الذين يبقون مغيّبين ومجرّدين، يتمّ تقديمها وكأنّها محصلة طبيعيّة وعاديّة!
الخلاص في الانفصال
إنّ المغالاة في لعب دور الضّحية المُقلّصة في إسرائيل إلى مجرد أقلّية، تعادل الخوف من قيام محرقة جديدة؛ لذا، تصف الكتب المدرسيّة العدوان على لبنان سنة 1982، بأنّه “منجاة لنا من مصير أوشفيتس جديد”، (إ. برنافي E. Bernavi، 1998). ولهذا، يقع الخوف في النّفوس من أن تتحوّل الأقلّية الفلسطينيّة إلى أغلبيّة، تستبدّ بها بغتة، نزعة إحداث إبادة جماعيّة. وقد صرّح الجنرال أميرام ليفين Amiram Levin أمام إحدى الكاميرات، قائلا وهو يخاطب ثلّة من الضّباط الشّباب، الذين ما زالوا في طور التّدريب: “إنّ الكَمّ أهمّ من الكيف. توقّفوا عن البحث عمّن يستحقّ الموت، وعمّن لا يستحقّه. كلّ هؤلاء النّاس وُلِدوا كي يختفوا، على كلّ حال!”.
إنّ هذا الهاجس العدديّ تتمّ ترجمته في الكتب المدرسيّة، من خلال تقسيم ثابت يفصل بين اليهود والعرب، سواء في الخرائط الجغرافيّة أو في المتن المكتوب؛ وبناء على ذلك، تُعالج كافّة الموضوعات المتّصلة بالزّراعة والعمران والزّواج والمِهن والأعمار، معالجةً تفصل بين اليهود والعرب. والأهمّ من ذلك أن هؤلاء الأخيرين، لا يظهرون في الصّور أبدا. وبما أنّ فكرة وجودهم قد أضحت كابوسا، فقد عُدّ من الحيويّ إقصاؤهم، والعمل على عزلهم أو حسبهم. وهكذا يعيش اليهود محصورين فيما بينهم داخل حدود معزولة، بينما يحاط العرب بحدود فاصلة وحواجز، بحيث لا يقع تقاطع هؤلاء أبدا بأولئك في الحياة اليوميّة، وما قد يقع للبعض قد لا يكون من الممكن أن يهتمّ له الآخر.
دولة الاستثناء: الحياة خارج القانون
إنّ سياسة التّمييز العنصريّ التي تطول الفلسطينيّين، والشّروط اللإنسانيّة المفروضة عليهم، تُقدّم كلّها في الكتب المدرسيّة على أنّها إستراتيجيّة “وجوديّة”؛ بمعنى أنّها ضرب من تحصيل الحاصل، الذي يتعلّم الأطفال بخصوصه أنّ لإسرائيل، بوصفها دولة ذات سيادة، القدرةَ والحقّ في التّصرف لتثبيت سيادتها خارج القانون، وبأنّ لا تعارض ثمّة في أن تمارس دولة ديموقراطيّة الإقصاء والتّمييز العنصريّ. وقد صرّح أ. ديسكين A. Diskin)11)، قائلا: “ليس هناك أيّ تناقض بين أن تتواجد بإسرائيل مجموعة مدنيّة مكوّنة من مختلف الأقلّيات الإثنيّة والثّقافية، وبين أن تختصّ الأمّة اليهوديّة وحدها بحقّ تقرير المصير”، (كتاب الدّراسات المدنيّة،2011، ص: 165). “إنّ التّصور الصّهيوني المثاليّ وتعريف إسرائيل كدولة خاصّة بالشّعب اليهوديّ، يجعلان من الصّعب على عرب إسرائيل القبول بذلك بعد هزيمتهم، بوصفهم أقلّية”، (د. شاهار D. Shahar، 2013، ص: 300). والحالة هذه، أنّ القبول بوضع الأقلّية الإثنيّة يعني القبول بالعيش في دولة تعلن دائما عن حالة الاستثناء؛ “وحالة الاستثناء هي في نفس الوقت قانون، تمّ أخذه بعين الاعتبار من طرف القانون، إلاّ أنّه يبقى خارج القانون… ولا وجود لأيّ إجراء قانونيّ آخر من شأنه أن يحكُم حالةَ الاستثناء، ما دام أنّ الأمر يتعلّق هنا بتعليقٍ للقانون”. ويعني هذا عمليّا، أنّ كلّ ضابط شابّ أو حتّى مجرد جنديّ شابّ، لهما الحقّ في أن يقرّرا حياة أو موت الفلسطينيّين، بمنأى عن أيّ عقاب زجريّ.
وقد تمّ استعراض حالة بدو النّقَب، الذين يعيشون في قرى غير معترف بها منذ 1948، على أنّها حالة تحصيل حاصل، لا تستحقّ أيّ انتقاد ولا مناقشة في الكتاب المدرسيّ، على هذا النّحو: “إنّ البدو يعيشون في قرى غير معترف بها من لدُن السّلطات العموميّة؛ وعليه، فهمْ لا يتلقّون أيّ خدمة من البلديّة، من قبيل ربط البيوت بشبكات الماء أو الكهرباء، ولا يستفيدون من أي خدمة أخرى اجتماعيّة أو صحّية”، (د. شاهار، 2013، ص: 215). ومعناه: أنّ وضع هؤلاء بما أنّه قد نجم عن مقاومتهم، فإنّهمْ تبعًا لذلك يعدّون لوحدهم مذنبين، وستتمّ معاقبتهم على اتّخاذهم لذلك الموقف المقاوم، معاقبة شديدة.
الهوية الكاسرة: شروحات وتبريرات
ليست اللّغة المعتمدة في الكتب المدرسيّة للحديث عن قتل الفلسطينيّين لغة الاستعمال البشريّ بالكلّ، وإنّما هي بالأحرى لغة جماد وحسب، على غرار الّلغة الصّحافية. فهي لا تشير الى لفظ الضّحايا بالمرّة، حين يقع اغتيال الفلسطينيّين من قِبل الجنود، وإنّما يتعلَّم هؤلاء أن يصوّبوا فقط على أهداف، تسقط على الأرض، كلّما أصيبت بالرّصاص! فنحن نجد في كتاب س. إنبار S. Inbar مثلا، ما يلي: “تستهدف معظم الغارات الجوّية أهدافا مدنيّة، بمراكزها المنذورة للمراقبة والتّسلل، خلف خطوط الجبهة”، (2004 ص: 244). كما تقدّم كتب التّاريخ أيضا، الخطّة د D التي بُنِيتْ على أساس التّطهير العرقيّ الذي حصل بين تل أبيب والقدس، على أساس يجعلها تبدو بمثابة نجاح قاهر: “تمثّل الخطّة د D من وجهة نظر يهوديّة نجاحا باهرا، لأنّها قوّتْ القدرة العسكريّة للمجتمع اليهوديّ. وبما أنّ الوحدة التّرابية قد تشكّلت على إثر ذلك، فإنّ هذا حقّق لنا غُنْما إستراتيجيّا مفيدا، انعكست آثاره الإيجابيّة على المستوى الدّيبلوماسي، خاصّة في عملية إقناع الأمريكيّين والرّوس، بأنّ المجتمع اليهوديّ قادر على الدّفاع عن مصالحه”، (ن. بلانك، 2006، 46).
إنّ الكتب المدرسيّة لا تشرح أبدا، كما أنّها لا تبرّر بالكلّ، ولا تعتذر عن الاغتيالات التي يتعرّض لها الفليسطينيّون؛ وإنّما تعتبر هذه مجرد وقائع مشروعة، تترتّب عنها تبعات إيجابيّة لفائدة إسرائيل. وبهذه الكيفية، يتمّ لاحقا تحويل نتائج هذه الاغتيالات الى أسباب. يقول الخطاب السّياسي بخصوص المجازر، التي وقعت في غزّة سنة 2016، على سبيل المثال: يموت الفلسطينيّون لأنّهم رفضوا الامتثال للتّعاليم المُعطاة لهم، أو لأنّهم ماتوا خطأ. ودائما ما تكون الشّروح المقدّمة من طبيعة تقنية بحتة، لا يتمّ فيها الحديث نهائيّا عن الضّحايا، ولا عن عائلاتهم. وها نحن أمام ما يسمّيه أشيل مبيمبي A. Mbembe بمنطق البقاء: “مع كلّ عدوٍّ يُقتَل، يشعر النّاجي بأنّه حمى نفسه بشكل أفضل”. ولذا، تُحوَّل صُورُ القَتَلة بصريّا، إلى أيقونات أسطوريّة ونماذج للشّجاعة والبسالة لدى شباب إسرائيل.
وبالجملة، فإنّ تنميّة الحسّ العنصريّ الصّفوي والحصريّ هو الدّور، الذي تضطلع به الكتب المدرسيّة الإسرائيليّة؛ وهو ما يزكّيه هذا التّعريف الذي وضعه س. زيزيك S. Zizek بقوله: “إنّ النّتيجة الإيجابيّة التي نجنيها، تكفل أو تلتمس (لنا) العذر عن الشّر الذي نجم (حِيالهم).
الهوامش
نوريت پيليد إلهانان Nurit Peled-Elhanan أستاذة جامعيّة متخصّصة في الدّراسات الفيلولوجيّة والأدب المقارن بجامعة القدس، إلى جانب كونها مترجمة ومثقّفة ملتزمة، عُرفتْ بنضالها الطّويل ضمن حركة السّلام الآن. وقد شرعت نوريت پيليد في نضالها المناصر للحقّ الفلسطينيّ، منذ الاقتناع بعدالة هذه القضية، بُعيد حرب حزيران 1967، رغم كونها سليلة جنرال كبير في المؤسّسة العسكرية الإسرائيليّة. والنّص الذي نقدّم ترجمته ، هو ورقة ساهمت بها هذه الدّارسة ضمن أعمال ندوة أقيمتْ ببروكسيل، بتنظيم الجمعية البلجيكيّة الفلسطينيّة سنة 2019، بعنوان: «الفلسطينيّون في الكتاب المدرسيّ الإسرائيلي»، وقد تصرّفتُ نسبيّا في هذا العنوان، مثلما سيلاحظ القارئ. أمّا النّص الأصلي للمداخلة، فموجود على الرّابط التّالي (المترجم):
زيغمونت باومان Zygmunt Bauman(1925/2017)، فيلسوف وسوسيولوجي من أصول بولونيّة، وأحد مفكّري دائرة فرانكفورت. اشتهر بنظرية الدّولة البُستانيّ ومجتمع السّائل L’état jardinier et la société liquide(المترجم).
المقصود بهذه الأقلّيات اليهوديّة تلك الطّوائف الدّينية، التي تناهض المشروع الصّهيوني، وتؤكّد على أنّ اليهود لا ينبغي لهم تأسيس أيّ دولة على الأرض، وإنّما القبول بمصير الشّتات، عقابا لهم من الرّب (المترجم).
أشيل مبيمبي – بالكاميرون (Achille Mbimbi (1957، باحث جامعي ومؤرّخ كبير للظاهرة الاستعمارية (المترجم).
أنطون يفان ليوين (1632-1723) Antoni van Leeuwenhoek ، عالم هولندي متعدّد المواهب وعصاميّ (المترجم).
إيلي بارنافي- رومانيا- بوخارست (Elie Barnavi (1946 ، مؤرّخ وديبلوماسي إسرائيلي (المترجم).
لا تشير الدّارسة إلى مصدر هذا الاستشهاد، وإنّما تتركه عاريّا من غير أي انتساب، ما دفع بنا إلى القيام بالبحث عن مصدره، وأرجح أن يكون صاحبه هو ألبير ميمّي Albert Memmi ، خاصّة أنّنا نجد نفس المكوّنات الأيديولوجيّة الثلاثة في كتابه الموسوم بعنوان: العنصرية Le racisme. منشورات غاليمار Gallimard، سلسلة: فوليو folio، باريس، 1994 (المترجم).
إيلان بابّي – بحيفا (Ilan Pappée (1954 ، مؤرّخ إسرائيليّ ينتمي الى طائفة المؤرّخين الجدد، الذين أعادوا النّظر من موقع النّقد والتّجريح، في التّاريخ الأسطوري الذي اعتمدته الدّولة الإسرائيليّة بمزاعمها وأطماعها الصّهيونيّة (المترجم).
ألبير ميمّي (Albert Memmi (1920/2020، دارس وأديب فرنسي تونسي من أصول يهوديّة (المترجم).
دافيد ثيّو غولدبرغ – جنوب أفريقيا (David Théo Goldberg (1952، باحث في ظاهرة التّمييز العنصري بالولايات المتحدة الأمريكيّة، ومعروف بالنّظرية المنتقدة للتّمييز القائم على الفصل العنصري. ومفهوم التّبييء التّلقائي العنصريّ la racialisation يعني عنده: «سيرورة اجتماعية يتلفّظ فيها النّاس بالأيديولوجيا العنصريّة ويعيدون إنتاج التّمييز العنصريّ، لكن دائما ضمن إطار لم يحدّدوه هم بالذّات لأنفسهم (المترجم).
أبراهام ديسكين (Abraham Diskin (1947، رئيس شعبة العلوم السّياسية في الجامعة العبريّة بالقدس، ومؤثّر كبير في المسار السياسي الإسرائيليّ (المترجم).