«الأطفال هم مستقبلنا»
غسّان كنفاني
ربطت غسّان كنفاني بالطفل الفلسطيني علاقة وشيجة لازمت كلّ مراحل حياته وامتدّت إلى ما بعد استشهاده في 8 يوليو 1972. ففي سنّ الثانية عشرة عاش مثله مثل آلاف الأطفال الفلسطينييّن محنة التهجير سنة 1948 والتشرّد من منفى إلى منفى، وحين اشتدّ عوده وأصبح شابّا عاد ليلتصق بأطفال فلسطين مجدّدا حين اشتغل معلّما في مدارس اللاّجئين وكانت تجربته في التعليم هذه مصدرا خصبا نهل منه عوالم أقاصيصه الأولى خاصّة. وعندما بدأ يكتب الأقصوصة شغل الطفل الفلسطينيّ حجر الزاوية في أغلب ما كتب كنفاني من أقاصيص مفردا إياه بالبطولة، جاعلا وضع الطفل الفلسطينيّ ومشاكله وبؤسه ومعاناته مواضيع أقاصيصه الرئيسيّة. ولم يكن من باب الصدفة والحال هذه أن يكون الطفل بطل أوّل أقصوصة نشرها غسّان كنفاني سنة 1956 وحملت عنوان «ورقة من الرملة»، وأن يكون الطفل كذلك بطل آخر أقصوصة نشرها المؤلّف سنة 1969 وحملت عنوان «كان يومذاك طفلا». ومن علامات متانة هذه العلاقة كذلك ترديد كنفاني في مناسبات كثيرة قولته الشهيرة «الأطفال هم مستقبلنا»، وإهداؤه مجموعة «عالم ليس لنا» إلى الأطفال بدءا من ابنه فايز وابنة أخته لميس وصولا إلى كلّ الصغار :»إلى فايز ولميس، إلى كلّ الصغار الذين نطمح بعالم لهم». ولتعلّقه بابنة أخته لميس، واظب يكتب لها وهي تدرج في سنواتها الأولى، قصّة كلّ يوم. وقد جمعت هذه القصص بعد وفاته في كتيّب حمل عنوان «القنديل». ولم يرحل غسّان كنفاني عن الدنيا مستشهدا وحده بل رافقه الأطفال تمثلهم هذه الصبيّة نفسها :»لميس». ولم تنقطع صلته بالأطفال حتى بعد موته. فقد أدركت زوجته آني كنفاني عمق صلته بالطفل الفلسطينيّ وخطورة المهمّة التي شرع يضطلع بها تجاه هذا الطفل، فأتمّت ما قد يكون انتوى تأسيسه وبعثت في ذكرى وفاته 8 تمّوز 1974 «مؤسّسة غسّان كنفاني الثقافيّة»، وقد عرّفتها بأنّها «جمعية لبنانيّة غير حكوميّة تعمل على رعاية الأطفال في مخيّمات اللاّجئين الفلسطينيّين في لبنان وذلك من خلال توفير المناخ التربويّ وفق أحدث المبادئ والأساليب. تستقبل المؤسّسة في مركزها من روضات أطفال ومراكز تأهيل المعوقين ما يقارب 625 طفلا إلى جانب برنامج المتابعة والاستلحاق المنزليّ للأطفال المعوقين ومكتبات الأطفال».1 وبعيد ذلك بسنوات نشرت له في بيروت عام 1978 مجموعة مختارة من أقاصيصه حملت عنوانا شديد الدلالة هو «أطفال غسّان كنفاني» وقد ترجمت هذه المجموعة إلى الإنجليزيّة سنة 1984، فحملت عنوانا جديدا لا يقلّ دلالة عن الأوّل، بل لعلّه يدعمه ويقوّيه هو «أطفال فلسطين».
إنّ هذه المكانة الأثيرة التي حظي بها أطفال فلسطين في أقاصيص غسّان كنفاني وحياته تؤكّد ما سعى يوسف إدريس إلى إقامة البرهان عليه طيلة المقدّمة التي وضعها للمجلّد الثاني من «آثار غسّان كنفاني الكاملة»2، من ترابط عضوي بين الرجل ومؤلّفاته وتماه بين تجربته الحياتيّة وتجربته الأدبيّة. لقد كتب الرجل حياته فعلا ووظّف آلته السرديّة ليروي الواقع الذي عاشه وخبره، وألّف عشرات القصص ليقول إنّ الشعب الفلسطينيّ حيّ، صامد، قائم الذات وإن امتدّت تغريبته أمدا وتفرّقت به المنافي. وما الموقع الأثيل الذي خصّ به كنفاني أطفال فلسطين إلاّ لأنّهم كانوا الأقرب إليه وكان الأقرب إليهم، وإلاّ لأنّهم منارة المستقبل الذي يؤمن بقدومه.
لقد كان في هذه المعطيات كلها تشجيع لنا وحثّ على دراسة «صورة الطفل الفلسطينيّ في أقاصيص غسّان كنفاني». وهو مبحث لم ينجز بعد على حدّ علمنا إن استثنينا بعض الإشارات العجلى هنا وهناك، وكأنّ المسألة محسوم فيها لا تحتاج انكبابا على النصوص وتنقيبا فيها. ذلك أنّنا لاحظنا تناقضا كبيرا بين أهمية حضور الطفل في أدب كنفاني وزهد البحث النقديّ في دراسة هذه القضيّة. فتوجّهنا إلى أقاصيص المؤلّف مستخرجين معالم صورة الطفل الفلسطينيّ فيها، جاعلين من ذلك مرقاة لدراسة رؤية كنفاني لمأساة الفلسطينيّين وأبعاد استشرافه للمستقبل.
– هل يحقّ لنا الحديث عن شخصيّة جمعيّة للطفل الفلسطينيّ في أقاصيص كنفاني ؟
إنّ الحديث عن «صورة للطفل الفلسطيني في أقاصيص غسّان كنفاني «يفترض ضمنيّا التسليم بأنّ وراء الكثرة من الأطفال الحاضرين في أقاصيص المؤلّف وحدة ما، وبأنّ وراء الاختلاف في أسمائهم ومشاربهم ومعاناتهم تماثلا ما. ودون هذا التماثل وتلك الوحدة النسبيّين لا يستقيم الحديث عن صورة للطفل الفلسطيني. فهما فعلا المبرّر المنطقيّ والمنهجيّ لردّ الجمع في العالم القصصيّ إلى المفرد في العالم التصوّريّ، وإحكام الربط بينهما.
وفي الحقّ إنّ نصوص غسّان كنفاني تكفينا مؤونة التمحيص والتأويل لإثبات وجود هذه الشخصيّة الجمعيّة. فرواة أقاصيصه لا يتردّدون في بثّ إشارات كثيرة توحي للقارئ بأنّ أطفال القصص طفل واحد في أجساد عدّة، ووجود واحد وإن اتّخذ وجوها كثرا.
يبدو ذلك في انتقال الراوي المتكرّر في أقاصيص كثيرة من الطفل المفرد إلى الجمع، إلى الجيل الكامل. ذلك ما صرّح به راوي أقصوصة «ورقة من غزّة» وهو يعود ناديا ابنة أخيه في المستشفى بعد أن بترت ساقها :»كنت أعرف أنّ في الأمر شيئا أخفته عنّي أمّي وزوجة أخي، شيئا لم تستطيعا أن تقولاه بألسنتهما… شيئا عجيبا لم أستطع أن أحدّد أطرافه البتّة ! لقد اعتدت أن أحبّ ناديا، اعتدت أن أحبّ كلّ ذلك الجيل الذي رضع الهزيمة والتشرّد، إلى حدّ حسب فيه أنّ الحياة السعيدة ضرب من الشذوذ الاجتماعيّ»3. إنّ «ناديا» الملقاة على السرير وقد بترت ساقها بعد أن انفجرت أمامها قنبلة ليست حالة متفرّدة، بل هي صورة أنموذجيّة لعشرات أمثالها يشتركون في الانتماء إلى جيل الأطفال الذين اكتووا بنار التهجير. وفي أقصوصة «كعك على الرصيف» ينتقل الراوي المعلّم من الحديث عن شخصيّة الطفل «حميد» إلى بقيّة تلاميذه في عبارات ابتعدت عن الأسلوب السرديّ لتقترب من التحليل التقريري العام فيقول مستنتجا :»لقد كان الصفّ كلّه مزيجا من عدد كبير من أشباه حميد، صغار ينتظرون بفارغ الصبر صوت الجرس الأخير كي يشدّوا أنفسهم إلى أزقّة مترامية في مجاهل دمشق الكبيرة يصارعون الغروب من أجل أن يكسبوا العشاء»4. وفي أقصوصة «البومة في غرفة بعيدة» يندغم ضمير الأنا المفرد في ضمير الجمع «نحن» اندغاما سريعا كاملا، يوحي بأنّ الأنا ليس في الحقيقة إلاّ صوتا من أصوات مجموع الأطفال لا يزيد عن أن يتكلّم باسمهم، أمّا وجوده ووعيه فمتّصلان بوجود المجموع ووعيهم :»كنت طفلا آنذاك، وكنّا نشهد، دون أن نقدر على الاختيار، كيف كانت تتساقط فلسطين شبرا شبرا وكيف كنّا نتراجع شبرا شبرا»5. وما دام الأطفال كلّهم يرتدّون إلى شخصيّة جمعيّة يمكن تسميتها باستعمال «ألف ولام التعريف»: الطفل الفلسطيني، فقد أمكن للراوي أن يماهي بين الصبيّ والصبيّة فتحّدث عن ناديا ابنة أخيه في «ورقة من غزّة» بوصفها طفلا :»ماذا حدث في تلك السّاعة؟ لا أدري ! لقد دخلت الغرفة البيضاء بهدوء جمّ. إنّ الطفل المريض يكتسب شيئا من القداسة فكيف إذا كان الطفل مريضا إثر جراح قاسية مؤلمة ؟… كانت ناديا مستلقية على فراشها، وظهرها معتمد على مسند أبيض انتشر عليه شعرها، كفروة ثمينة (…)»6 لقد تجاوزت «ناديا» في هذا الشاهد حدود جنسها الأنثويّ وغدت رمزا لكلّ أطفال فلسطين، غدت الطفل الفلسطيني في المطلق وأضحت وجودا قيميّا متعاليا استمدّت منه قداسة. لذلك ألفينا الراوي يختم هذا الشاهد بقوله :»لا زالت ناديا طفلة، لكنّها كانت تبدو أكثر من طفلة، أكثر بكثير، وأكبر من طفلة، أكبر بكثير..»7
وما من شكّ في أنّ إقرارنا باندغام أطفال غسّان كنفاني ضمن شخصيّة جمعيّة تبرّر لنا الحديث عن صورة الطفل الفلسطيني لدى المؤلّف، لا يعني بالمرّة امّحاء كلّ الفوارق والاختلافات بين هؤلاء الأطفال في العالم القصصي. فهذه الاختلافات قائمة في النصوص تجعل صورة الطفل متنوّعة متعدّدة الأبعاد، لاسيّما في أقاصيص كنفاني المتأخّرة تلك التي كتبها بعد 1964. ولكنّ هذه التنويعات مع ذلك لا تنفي وجود صورة عامّة توحّد بين كلّ الأطفال وتميّز الطفل الفلسطيني من سائر أطفال العالم. بيد أنّ هذه الحقيقة أيضا لا تعني أنّ غسّان كنفاني اقتصر في تصويره الطفل الفلسطيني ورواية قصّة شقائه على الآني والمحلّي، قأقام من الحاضر سياجا حصر فيه آفاق نصّه التخييليّ. بل إنّ المتمّعن في أقاصيصه لاسيّما كتابات المرحلة الثانية المنشورة بعد 1964، ليلمس بوضوح سعي المؤلف إلى المصاهرة بين المحلي والكوني وتوظيفه مأساة الطفل الفلسطيني ليجعلها صورة لمأساة الإنسان عامّة طفلا كان أو كهلا، ولم يكن انشغاله بالحاضر ليمنعه من أن يرسم صورة الطفل الفلسطيني في المستقبل مضفيا على نصّه أبعادا تنبّئية تقرأ الانتصار في دياجير الهزيمة.
– عام النكبة وولادة جيل من الأطفال:
لعلّ أبرز العوامل التي ساهمت داخل أقاصيص كنفاني في تشكيل الشخصيّة الجمعيّة للطفل الفلسطيني وأدّت إلى ولادة جيل بأكمله من الأطفال الفلسطينيين هو بلا شكّ عام النكبة 1948، وما أفضت إليه هزيمة الجيوش العربيّة من تهجير لأطفال فلسطين، وتشريد لعائلاتهم، وحرمان لهم من أبسط حقوق الطفل المتعارف عليها في العالم المتحضّر بأسره. إنّ كلّ تفاصيل صورة الطفل الفلسطيني ممّا سنلمّ به بعد قليل، وكلّ ملامح البيئة التي وجد نفسه يعيش فيها، وكلّ عناصر المأساة التي تحاصر وجوده الفتيّ، لتجد جميعها تفسيرا لها وتعليلا في المحنة الكبرى : 1948. بل إنّ الناظر في مجموعات كنفاني القصصيّة «موت سرير رقم 12» و»أرض البرتقال الحزين» و»عالم ليس لنا» و»عن الرجال والبنادق» و»قصص أخرى» ليجد أنّ عام النكبة هو الحافز السرديّ الأساسيّ الذي نشأ العالم القصصيّ انطلاقا منه، ولعلّه السرّ الأوّل لفعل الكتابة عند غسّان كنفاني. إنّ ظلّ هذا العام يمتدّ على العالم القصصيّ بأكمله تصريحا حينا وإيماء حينا آخر، منه استمدّت الشخصيات القصصيّة لاسيّما الأطفال وجدها السرديّ، وعن الإكراهات والمآسي التي أوجدها هذا العام نشأت الحركة القصصيّة وانبثقت شرارة الصراعات والتناقضات الدافعة للقصّة. لقد أشار إلى ذلك أحسن الإشارة الناقد اللبنانيّ سامي سويدان معتبرا نكبة 1948 «العلّة الأولى» في أقاصيص كنفاني :»يبدو هذا العام يختزن في ذاته خلاصة كلّ الإساءات الأخرى بقدر ما يشكّل الإساءة الأولى أو الأذى الأوّل الذي يخلخل أساسا العالم القصصيّ ويشكّل في الوقت نفسه أرضيّته الصلبة والمتينة ومحرّكه الفاعل والدّافع في الآن ذاته»8.
إنّ استعارة سامي سويدان المصطلح الفلسفيّ الميتافيزيقيّ «العلّة الأولى» لتفسير منطلقات العالم القصصيّ لدى غسّان كنفاني، استعارة صائبة إلى أبعد الحدود لاسيّما إذا اعتمدناها مدخلا لفهم حضور الطفل في هذا العالم القصصيّ. فالطفل باعتباره الحلقة الأضعف في المجتمع، لا يقدر عادة إلاّ بقدرة غيره، قد دفع غاليا ثمن أخطاء الكبار وهزائمهم. وإذا كان الكبار قد فقدوا عام النكبة أراضيهم وبيوتهم وأرزاقهم، فإنّ الأطفال قد فقدوا وجودهم بأكملهم وأطردوا من جنّتهم الأرضيّة: الطفولة. لذلك مثّل التهجير بالنسبة إلى الكبار ختام مرحلة مهمّة من حياتهم لعلّ الأفق لا ينبئ بولادة جديدة من بعدها. أمّا بالنسبة إلى الصغار فقد مثّل عام 1948 البداية، بداية الوعي الشقيّ، وبداية إدراك العالم، وبداية تحمّل المسؤوليّة قبل أن يأزف أوانها.
يبد أنّ إقرارنا بقيام نكبة 1948 مفصلا زمنيّا محدّدا في أقاصيص غسّان كنفاني شكّل الشخصيّة الجمعيّة للطفل الفلسطيني، ينبغي أن لا يجعلنا نغفل عن الإشارة إلى ما يترتّب على هذا الترابط في النصوص القصصيّة بين عام 1948 وولادة جيل كامل من الأطفال، من حقيقة أساسيّة لا بدّ من الانتباه إليها وهي أنّ الصورة التي رسمها كنفاني للطفل الفلسطيني تظلّ رغم كلّ شيء مقترنة أساسا بالطفل الفلسطيني المهجّر المقيم في الملاجئ بعد 1948.
– صورة الطفل الفلسطينيّ :
يسمح لنا الحضور المكثّف للطفل شخصيّة محوريّة أساسيّة في أقاصيص غسّان كنفاني، بأن نستخرج أهمّ المعالم التي تشكّل صورته في العالم القصصيّ. وهذه المعالم وإن كانت كثيرة متعدّدة تلامس حقولا دلاليّة مختلفة : اجتماعيّة ونفسيّة وأخلاقيّة وسياسية…، فإنّها تتعاضد في ما بينها لتكون شهادة على خصائص شخصيّة الطفل الفلسطيني في مرحلة مفصليّة من تاريخ القضيّة الفلسطينيّة، ولتحمل في طيّاتها أهمّ أركان رؤية غسّان كنفاني للإنسان الفلسطينيّ في حاضره ومستقبله.
*الصورة الماديّة الخارجية :
قلّما اعتنى رواة الأقاصيص المدروسة برسم ملامح الأطفال الماديّة من جسد وهيأة وملبس. ولم نكد نظفر بوصف خارجيّ يتناول هذه المعطيات إلاّ في أقصوصتين فقط هما :»كعك على الرصيف» و»المنزلق». ففي «المنزلق» يصف الراوي تلميذ الأستاذ محسن وهو يغادر مقعده ويتقدّم إلى الصبّورة فيركّز على ملابسه الرثّة ويلقي لماحا نظرة على شعره «(…) وقبل أن يوافق الأستاذ محسن على الاقتراح كان الطفل قد صار خارج صفوف المقاعد، وواجه رفاقه ببنطال قصير أوسع من حجمه، وقميص ذي قماش نسائي عتيق، وشعر أسود غزير يصل متهدّلا…»9. إنّ النقاط المتتابعة تقطع حبل الوصف الماديّ الخارجيّ مكتفية بما التقطته عينا الراوي من مظاهر بؤس وفاقة تجسّدهما هيأة الطفل. فهل مردّ صمت الراوي عن الوصف واكتفائه بالنقاط المتتابعة سعي منه إلى تنشيط ملكة الخيال لدى القارئ فيفسح له المجال ليتمّ رسم ما تبقّى من الصورة ؟ أم إنّ هذه النقاط تعبير عن زهد الراوي في الوصف وعجز منه عن التمعّن في بقيّة مظاهر بؤس الصبيّ ؟ أم لعلّ الأمر إن هو إلاّ ضرب من ضروب التضامن بينه وبين هذا الطفل، فأراد عن طريق الصمّت التستّرَ على هذا الصبيّ دون أعين القراء ؟
يكاد هذا الوصف الماديّ نفسه وإن في اقتضاب أكبر يتكرّر في أقصوصة «كعك على الرصيف» حين وصف الراوي تلميذه حميد الذي عرفه ما سح أحذية قبل أن يفاجأ به واحدا من تلاميذ صفّه:» وحين دخلت إلى الصفّ لأوّل مرّة شاهدته جالسا في المقعد الأوّل.. كان شعره الأسود الخشن أقصر من ذي قبل، وكان قميصه المهترئ مجرّد محاولة فاشلة لستر عريه… وكانت عيونه مازالت تلتمع ببريق رغبة يائسة…»10. شعر أسود وقميص مهترئ : تانك هما المعلومتان الوحيدتان اللتان لا يكاد القارئ يجد غيرهما وصفا لشكل الطفل الفلسطيني وهيأته الخارجيّة. ولعلّ تفسير ذلك يعود في رأينا إلى تشابه أطفال غسّان كنفاني في ملامحهم وملابسهم تشابها كبيرا يصل إلى حدّ التماثل، ويجعل من الصعب أن يتميّز واحد منهم من الآخر في هذا المجال. وما من شكّ في أنّ ما دفع الراوي إلى الزهد في وصف أطفاله وصفا ماديّا مدقّقا إنّما هو نظرته إليهم ومن خلفه المؤلّف، تجسيدا لقيم أخلاقيّة ونفسيّة في المقام الأوّل.
الطفل اليتيم الفاقد للأواصر العائليّة :
إنّ أبرز الآثار الوحشيّة التي نتجت عن تهجير الفلسطينيّين وسبّبت دمارا لحياة الآلاف من أطفال فلسطين، هي ولا شكّ التشتّت العائليّ الذي أدّى إليه استشهاد كثير من الآباء والأمّهات أثناء حرب 48 أو خلال المجازر الصهيونيّة أو أثناء التهجير نفسه من ناحية، وما حصل من ضياع لبعض الأطفال وانفصال عن أسرهم بفعل التنقّل من ملجأ إلى آخر من ناحية أخرى.
كان ذلك هو القاسم المشترك بين أغلب أطفال الأقاصيص المدروسة. فهم وحيدون يتنقّلون فرادى في هذا العالم، يواجهون مصيرهم دون سند من أب وأمّ أو دون أيّ منهما في بعض الأحيان.
وعلى كواهلهم هم الصغار وقعت مسؤوليّة لمّ شتات العائلة ووصل ما انفصل بين أفرادها، والبحث عمّن تاه وسط طريق المنافي من أب أو أخ. ولعلّ أحسن تعبير على ذلك تعريف الطفل بنفسه في أقصوصة «أبعد من الحدود «قائلا :»تريد أن تعرف شيئا عنّي؟ هل يهمّك ذلك؟ احسب على أصابعك إذن : لي أمّ ماتت تحت أنقاض بيت بناه لها أبي في صفد، أبي يقيم في قطر آخر وليس بوسعي الالتحاق به ولا رؤيته ولا زيارته، لي أخ، يا سيّدي، يتعلّم الذلّ في مدارس الوكالة، لي أخت تزوّجت في قطر ثالث وليس بوسعها أن تراني أو ترى والدي، لي أخ آخر يا سيدي، في مكان ما لم يتيسّر لي أن أهتدي إليه بعد…»11. ولا يختلف وضع هذا الطفل العائلي عن وضع طفل أقصوصة «ورقة من الرملة» في المجموعة القصصيّة نفسها. فهو يقول متحدّثا عن أهميّته لدى أمّه :»كنت أنا من تبقّى لها، فأبي قد مات قبل بدء الحوادث بسنة كاملة، وأخي الكبير أخذوه أوّل ما دخلوا الرملة، لم أكن أعرف بالضبط ماذا كنت أعني بالنسبة لأميّ، لكنّني الآن لا أستطيع أن أتصوّر كيف كانت الأمور ستجري لو أنّني لم أكن عندها ساعة وصلت دمشق، لأبيع لها جرائد الصباح وأنا أنادي وأرتجف قرب مواقف الباصات…»12.
وعلى هذا النحو تقوم صورة العائلة في أقاصيص كنفاني صورة استعاريّة للمجتمع الفلسطيني بأكمله، يتوزّعه الشتات والمنافي ويفتقد أفراده أبسط أشكال التواصل العائليّ. وكان الناقد اللبناني سامي سويدان مصيبا عندما أوّل حادثة بتر ساق الطفلة «ناديا» في أقصوصة «ورقة من غزّة» بأنّها بتر للعائلة الفلسطينيّة بأكملها13.
وبذلك فإنّ سعي هؤلاء الأطفال المبتوري الأواصر العائليّة إلى لمّ شتات أسرهم، إن هو إلاّ تعبير من المؤلّف عن أمله في أن يضطلع هذا الجيل في مستقبل أيّامه بدور جمع ما تمزّق من أواصر المجتمع الفلسطينيّ وتحقيق حلم العودة. وعلى هذا النحو أيضا يمكن أن نفهم رمزيا ما لاقاه الطفل في أقصوصة «كان يومذاك طفلا» من عطف وعناية حباه بهما الكهول الذين كانوا يرافقونه في الحافلة المتّجهة صوب «نهاريا». فقد تجمّع في هذه الحافلة عشرون راكبا ينتمون إلى قرى وبلدات فلسطينيّة مختلفة. وكان الطفل مسافرا إلى حيفا بحثا عن أبيه، فلم يبخل عليه الركاب بالعطف والأكل وكأنّه ابن لهم جميعا، وكأنّ رحلته بحثا عن أبيه رحلتهم جميعا بحثا عمّن فقدوا. فكان تعلقّهم به تعلّقا بمستقبل جديد لهم جميعا14.
*الطفل الشاهد : حارس الذاكرة الجماعية :
إنّ اضطلاع الطفل في عدد مهمّ من أقاصيص غسّان كنفاني بدوري البطولة والرواية أهّله ليتبوّأ مكانة الشاهد على العصر، الحافظ للذاكرة الجماعيّة، الواصل بين الجيل الذي عاش النكبة واستشهد جزء منه وصمت جزء آخر، والجيل القادم المنبثق من رحم الهزيمة.
نجد هذه الصورة من صور الطفل الفلسطينيّ شديدة الوضوح في ثلاث أقاصيص ممّا درسنا هي:»ورقة من الرملة» و»أرض البرتقال الحزين» و»البومة في غرفة بعيدة».
تشترك هذه الأقاصيص الثلاث في تيمة الرحلة والسفر تهجيرا وانتقالا عنوة من الموطن الأصليّ إلى موطن آخر مرحليّا داخل فلسطين، ثمّ آخر نهائيّا أو شبه ذلك خارج فلسطين. وإلى جانب الرحلة تشترك هذه الأقاصيص كذلك في تيمة المواجهة الشديدة المحتدمة مع العصابات الصهيونيّة:»كنت في التاسعة من عمري يومذاك، ولقد شهدت قبل أربع ساعات فقط كيف دخل اليهود يفتّشون عن حليّ العجائز والصبايا، وينتزعونها منهنّ بعنف وشراسة. وكان ثمّة مجنّدات سمراوات يقمن بنفس العمليّة، ولكن في حماس أشدّ. وكنت أرى أيضا كيف كانت أميّ تنظر باتّجاهي وهي تبكي بصمت، وتمنيت لحظتذاك لو أستطيع أن أقول إنّني على ما يرام، وإنّ الشمس لا تؤثّر فيّ بالشكل الذي تتصوّره هي…»15. والمواجهة تؤدّي إلى القتل والإرهاب، فكان الطفل في أقصوصة «البومة في غرفة بعيدة» شاهدا على مذبحة «تل الزعتر» :»ولقد عرفنا، نحن الصغار، من أصوات الطلقات أنّ هناك أسلحة جديدة وأنّ هنالك هجوما من ناحية أخرى لم تطرق قبل الآن… وأنّ قنابل حارقة قد سقطت في وسط القرية فأحرقت بيتا وأطفالا. وحين نظرنا من خصاص النافذة الواطئة شاهدنا كمن يحلم أشباح نسوة منحنيات يسحبن جثثا إلى داخل القرية، وكان يستطيع المستمع بإمعان أن يلتقط صوت نشيج مخنوق : إحداهنّ، هكذا كانت تشير أميّ- فقدت زوجها وصمودها في آن معا. بعد ساعة من الهجوم المباغت، تراجع رجالنا، كانت جهنّم قد صعدت إلى ظهر قريتنا، وبدا لنا أنّ النجوم أخذت تتساقط على بتوتنا، قالت امرأة مرّت تحت شباكنا تسحب جثّة وتلهث : إنّهم يقاتلون بالفؤوس…»16.
ولا يمكننا أن نقرأ شهادة الطفل وسرده قصّة التهجير إلاّ في مستويين متعاضدين يكمل أحدهما الآخر: مستوى واقعيّ توثيقيّ يجعل فيه غسّان كنفاني الطفل الأجدر من غيره لسرد ما وقع والإلمام بتفاصيله الدقيقة. ومستوى رمزيّ مستقبليّ يسرّب من خلاله المؤلّف رسالة ضمنيّة إلى الجيل الذي عاش الهزيمة وظلّ باب المستقبل مشرّعا أمامه لتوثيق التهجير وتخليده عبر السرد، حماية للذاكرة وصونا لها من النسيان.
*الطفل الفداء :
لم يكتف أطفال غسّان كنفاني بأن كانوا شهودا على المظالم التي وقعت. بل كانوا طرفا فيها كابدوا ما كابد الكبار، ففقدوا أسرهم ونكلّ بهم، واستشهدوا. على أنّ مشاركة الأطفال في ملحمة الشعب الفلسطيني لم تقتصر أيضا على الوقوع ضحيّة العدوان الصهيونيّ بل تجاوزت ذلك إلى الفاعليّة القصوى، فاعليّة الفداء. فهذه «ناديا» في أقصوصة «ورقة من غزّة» تفقد ساقها :»عندما ألقت بنفسها فوق إخوتها الصغار تحميهم من القنابل واللهب وقد أنشبا أظفارهما في الدّار، كان يمكن لناديا أن تنجو بنفسها، أن تهرب… أن تنقذ ساقها، لكنّها لم تفعل… لماذا ؟»17. وفي أقصوصة «البومة في غرفة بعيدة» يتكفّل الطفل بمهمّة دفن السلاح في الحديقة بعيدا عن أنظار الجنود الأعداء وكانوا على مقربة منه18.
*الطفل رجل قبل الأوان :
أطفال غسّان كنفاني، أطفال انتزعوا من طفولتهم وغدوا رجالا قبل الأوان.. لا وجود لمراهق في قصص كنفاني فإمّا طفل وإمّا كهل، والمرور من هذا الطور إلى ذاك مرور سريع مباغت يتمّ في غفلة كلمح البصر.
ففي أقاصيص «ورقة من الرملة» و»ورقة من غزّة» و»كعك على الرصيف» و»أرض البرتقال الحزين» و»المنزلق» و»الصغير يذهب إلى المخيّم» غدا الأطفال رجالا كبارا ولمّا يتجاوز أغلبهم العاشرة. يقول راوي «أرض البرتقال الحزين» : « وعندما كنت أبتعد عن الدار كنت أبتعد عن طفولتي في الوقت ذاته»19. لقد انتقلوا إلى هذا الطور العمريّ، طور الرشد وتحمّل المسؤوليّة مرّتين : مرّة أولى حين وجدوا أنفسهم يكابدون ما يكابد الكبار ويسيرون في طريق التهجير، ومرّة ثانية حين استقرّوا في الملاجئ ووجدوا أسرهم بلا معول ولا مصدر رزق، فهبّ الطفل الفلسطيني يخوض في بحر الحياة اليوميّة ويسعى إلى ضمان لقمة تسدّ الرمق ويحقّق ما سمّاه راوي أقصوصة «الصغير يذهب إلى المخيّم» بـ»الفضيلة الأولى» : فضيلة «أن تحتفظ بنفسك حيّا»20. فهذا حميد بطل «كعك على الرصيف» يشتغل ماسح أحذية صباحا وبائع كعك لروّاد السينما في الليل، وهذا «درويش» أحد أطفال مجموعة «عن الرجال والبنادق» يبيع «الكعك بعد الدوام، وكنت أطارده بين الخيام والوحل والصفيح وبرك الوحل لأحمله إل الصفّ الليليّ. كان شعره جعدا قصيرا مبتلاّ دائما، وكان ذكيّا جدّا، أحسن من يكتب موضوع إنشاء في الصفّ. لو كان يجد ما يطعم به نفسه يومذاك لانبثق منه نابغة»21. وهذان راوي أقصوصة «الصغير يذهب إلى المخيّم» وابن عمّه عصام يضطلعان بمسؤوليّة إعالة أسرة كبيرة العدد تتكوّن من جدّ وأعمام وأحفاد. فيقومان كلّ يوم بهجمة على السوق، يختلسان في غفلة من العسس من الخضار والفاكهة ما يضمن اتّصال النَفَس في مهج أفراد أسرتهم.
على أنّ هذا الطفل الكهل ليس عددا محدودا من الأطفال يقلّون أحيانا ويكثرون أحيانا أخرى، بل كان الصورة الأنموذجيّة لكلّ الأطفال في العالم القصصيّ. لنستمع إلى راوي «كعك على الرصيف» يعرّفنا بتلاميذه :»لقد كان الصفّ كلّه مزيجا من عدد كبير من أشباه حميد، صغار ينتظرون بفارغ الصبر صوت الجرس الأخير كي يشدّوا أنفسهم إلى أزقّة مترامية في مجاهل دمشق الكبيرة يصارعون الغروب من أجل أن يكسبوا العشاء (…)»22. ويستنتج من ذلك قائلا :»كنت أحسّ بأنّني أدرّس أطفالا أكبر من أعمارهم، أكبر بكثير، كلّ واحد منهم كان شررا انبعث من احتكاكه القاسي بالحياة القاسية… وكانت عيونهم جميعهم تنوس في الصفّ كنوافذ صغيرة لعوالم مجهولة»23.
وليست حال الطفل الفلسطيني في العالم الواقعيّ المرجعيّ بأفضل منها في العالم القصصيّ التخييليّ. فها هو غسّان كنفاني في أحد حواراته الصحفيّة يعيد مضمون الشاهد السابق بالعبارات نفسها الواردة في القصّة تقريبا :»وعندما باشرت التدريس، واجهت مصاعب جمّة مع الأطفال الذين درّستهم في المخيّم.. فقد كنت أغضب دائما لدى مشاهدتي طفلا نائما أثناء الصفّ. وببساطة اكتشفت السبب: لقد كان هؤلاء الأولاد يعملون بالليل، يبيعون الحلوى أو العلكة أو ما شابه في دور السينما والطرقات وبالطبع كانوا يأتون إلى الصفّ وهم في غاية التعب…»24.
والطريف في هذه الصورة التي تقدّمها أقاصيص كنفاني للطفل /الرجل أنّ لدينا في النصوص صورة أخرى تقابلها وتوازيها فتزيدها إبرازا، هي صورة الأب الذي ارتدّ طفلا عاجزا عن الفعل مستكينا إلى البكاء. تلك هي حال الأب في أقصوصة «أرض البرتقال الحزين» :»ثمّ انفجر يبكي كطفل بائس» و»إنّه يصيح بصوت أبحّ… إنّه يلهث… لكنّه مازال يركض وراء رتل السيارات كطفل صغير…»25. وهي أيضا حال أبي العبد في أقصوصة «القميص المسروق» حين عجز عن أن يوفّر الملبس الجديد لابنه، فلم يجد إلاّ البكاء ملاذا :»كلّ ما يدريه هو أنّه عندما وجد نفسه في خيمته مبلولا يتقطّر ماء ووحلا، ضمّ إلى صدره ولده عبد الرحمان وهو يحدّق في وجهه الهزيل الأصفر… كان لا يزال راغبا في أن يراه يبتسم لقميص جديد… فأخذ يبكي…»26.
الجلد للأطفال والبكاء للكهول… ما سرّ هذه المعادلة الجديدة في أقاصيص كنفاني؟ هل هي نقد للكهول أم إيمان تفاؤليّ بالأطفال وقدرتهم على تغيير الواقع وتحويله؟
*الطّفل الأبيّ :
أطفال غسّان كنفاني يجوعون ويكدحون ويبيتون على الطوى لكنّهم لا يمدّون للناس أيديهم بالسؤال، بل لا ينصاعون حتّى إلى الشكوى فيتكوّرون على أحزانهم وشقائهم ويزمّون شفاههم لا ينبسون بكلمة وإن ألحف مخاطبهم في الاستفسار عن أحوالهم وشطّ في فضوله.
ذلك ما قاساه الراوي المعلّم في أقصوصة «كعك على الرصيف» وهو يحاول أن يفكّ أسرار تلميذه حميد ويجد سبيلا إلى مساعدته :»لقد بدأت مشكلة حميد تدخل شيئا فشيئا فيما بعد، إلى حياتي. كنت لا أستطيع على الإطلاق أن أكون عاجزا في حياته، متفرجّا إلى مأساته، ومن بين عشرات المآسي التي حفل بها صفّي لم تجتذبني سوى عيون حميد البائسة اليائسة… صرت أفكّر فيه على الدوام. وكثيرا ما كنت أقرّر أن أبدأ بنفسي، خارج المدرسة بحثا متّصلا حول حياة حميد… بل لقد فكّرت يوما في أن أبحث عن طريقة تجعل أمر مساعدته ماليّا شيئا طبيعيّا لا يحمل رائحة الإهانة… ولكنّ كلّ شيء كان يدور مجهدا حواليّ وكان ينتهي إلى الفشل أمام العيون التي تحتوي إلى جنب الأسى، شيئا كثيرا من الكبرياء والتعالي…»27. وفي سبيل أن يحافظ حميد هذا الطفل المدقع البائس، على كبريائه وإبائه، اضطرّ أن يكذب ويدّعي أنّ أباه ميّت حتّى يبرّر عمله في الشوارع من جهة وحتى يخفي جنون أبيه من جهة أخرى بعد أن شاهد ابنه الأخ الأكبر لحميد، يموت أمامه ويقطع المصعد الكهربائي رأسه. وقد أحسن غسّان كنفاني حين دفع الطفل إلى أن يقترف هذا الخطأ اّلأخلاقيّ ويظهره في مظهر المتبرّئ من أبيه. فقد ضمن بذلك الابتعاد بشخصيّة الطفل عن الأمثَلة، وأضفى عيها طابعا إنسانيّا يجعلها قادرة على أن تأتي جميل الأفعال وتأتي قبيحها أحيانا.
ومثلما كان الشأن مع معالم أخرى من صورة الطفل الفلسطينيّ لدى غسّان كنفاني، كانت صورة الإباء أيضا صورة أنموذجيّة يشترك فيها كلّ الأطفال. يقول راوي الأقصوصة نفسها :»وطوال الأيّام التالية كنت أبحث عن طريقة أدخل فيها إلى حياة حميد دون أن يمسّه فضولي، وكانت هذه العمليّة صعبة للغاية، إذ أنّ كلّ طالب في مدرسة النازحين كان يصرّ على الاحتفاظ بمأساته الخاصّة وضمّها بعنف في صدره.. كأنّما كان هناك شبه اتّفاق مشترك على أنّ هذا واجب ضروريّ»28.
*الطفل البطل الصامد :
يستشهد كلّ ركّاب الحافلة في أقصوصة «كان يومذاك طفلا» حين تقطع عليهم الطريق دوريّة من جنود الاحتلال، ولا يبقى منهم إلاّ طفل صغير قادم إلى حيفا بحثا عن أبيه، يستثنيه الضابط اليهودي من حفلة القتل الجماعيّة . وكان قصد الضابط من ذلك أن يجعل من الطفل شاهدا على ما رأى من فظاعة وإرهاب، بغية أن ينقل الحادثة إلى غيره من الفلسطينيّين، فيسكن الرعب في نفوسهم. ثم يطلب الضابط من الطفل أن يجري بأقصى سرعة فيما يأخذ هو بالعدّ من واحد إلى عشرة، وعليه أن يتوارى عن الأنظار قبل أن يتمّ العدّ وإلاّ أجهز عليه. لكنّ الطفل الفلسطينيّ لم ينصع إلى هذا الأمر ولم يجر سعيا إلى كسب الرهان والفوز بالحياة بل «وقف، ووضع كفيّه في جيبي سرواله وسار بخطوات ثابتة هادئة وسط الطريق دون أن يلتفت إلى الوراء. وبينه وبين نفسه فقط أخذ يعدّ عدّا بطيئا واحد، اثنين، ثلاثة…»29.
إنّ هذا الموقف الذي اتّخذه الطفل انبنى على اختيار وجوديّ واع أملى عليه أن يحسم أمره بين الحياة بذلّ وخضوع للعدوّ المحتلّ، وبين الموت في إباء وعزّ. فنحا إلى الخيار الثاني وجعل القرار الأخير في يده هو لا في يد عدوّه.
هذا الموقف الثابت الذي شبّهه الراوي بـ»ثبات الأشجار» يقرأ رمزيّا على أنّه انحياز من الطفل لمن ماتوا واستشهدوا، والتزام بمواصلة طريقهم والصمود في المقاومة وإن كان الموت محيقا واقعا لا محالة.
*الطفل الذكي:
إنّ العناصر التي حلّلناها آنفا واعتبرناها معالم الصورة العامّة للطفل الفلسطيني في أقاصيص كنفاني، تتعاضد كلّها في الحقيقة للدلالة على أنّ الطفل الذي يرسمه المؤلّف طفل ذكيّ نبيه قادر على إدراك خصائص الواقع من حوله وحركة التاريخ، يعرف عدوّه، متيقظ لمخططاته العدوانيّة.
بيد أنّ أقصوصة «المنزلق» تعدّ النصّ الأبرز الذي خصّصه غسّان كنفاني للاستدلال على ذكاء الطفل الفلسطيني والتغنّي بعبقريته. فمحسن أستاذ يعيّن للتدريس بإحدى المدارس الفقيرة. فيتوجّه إلى عمله وهو على قد كبير من الشكّ في إمكان أن تنجح المدرسة في تعليم الأطفال «الحياة». ويصبح هذا الشكّ أقرب إلى اليأس حين يلتقي المدير ويعلم أنّ الأطفال لا يملكون كتبا، وأنّ عليه بوصفه مدرّسا قديرا أن «يشغّل حصّته دون كتب». وكان الأمر كذلك. فما إن دخل القسم مشمئزّا نافرا من المكان حتّى تطوّع أحد التلاميذ بأن يروي قصّة ما. وإذا به ينغمس في سرد قصّة والده الإسكافيّ وتعبه في العمل وموته تحت ركام الأحذية التي رتّقها، وإذا بالقصّة تطفح حياة وخيالا وتنمّ عن معرفة عميقة للطفل بالناس ونواميس الحياة الاجتماعية وشؤون المال. أعجب الأستاذ بقصّة التلميذ فاصطحبه إلى المدير مبشّرا إيّاه :»لديّ في الصفّ طفل عبقريّ. أعتقد أنّه رائع، دعه يسمعك قصّة أبيّه…»30. استمع المدير وكانت الخيبة عندما حكم على الطفل بأنّه «طفل مجنون، يجب أن نرسله إلى مدرسة أخرى»31، رافضا أن يكون الأب قد مات تحت ركام الأحذية. يرفض التلميذ هذا الحكم ويسانده الأستاذ في ذلك متبرّعا بتأكيد الخاتمة التي انتهى إليها أبو الطفل مضيفا إليها تفاصيل جديدة. وتنتهي الأقصوصة والمدير ينظر بطرفي عينيه إلى الأستاذ حينا والتلميذ حينا آخر وقد استقرّ لديه أنّهما مجنونان.
إنّ المغزى من هذه القصّة هو إبراز التباين الشديد بين مناهج التعليم التقليديّة القائمة على التلقين، وبين قدرات التلميذ الفلسطيني الذهنيّة وعمق تجربته الحياتيّة وثراء مخياله. فنحن إزاء مدرسة تحنّط التلميذ وتكبّله من جهة، وتلميذ ذكيّ استطاع بتجربته الاجتماعيّة الفذّة أن يرتقي إلى مصاف الإبداع والخلق الأدبيّ من جهة أخرى.
– الأبعاد التنبؤيّة في صورة الطفل الفلسطيني :
لم يقتصر غسّان كنفاني وهو يرسم معالم صورة الطفل الفلسطيني على الآنيّ الحاضر، بل نحا لا سيّما في أقاصيصه الأخيرة الصادرة بعد سنة 1964 إلى مجاوزة اللحظة الحاضرة ليتنبّأ بصورة الطفل الفلسطيني في المستقبل. وأخذ يبتعد في هذه المرحلة عن وصف طفل ذي انتماء تاريخي وجغرافي محدّد، ليجعل الطفل الفلسطيني منصهرا في الإنسانيّة عامّة تمتزج أحلامه بأحلام الإنسان المطلقة بالحريّة والعدالة. فأخذت صورة الطفل تخرج عن التجسيد إلى الترميز، وتبتعد عن الإخبار بالموجود إلى الإنباء بالمنشود. ولنا في أقاصيص «الأخضر والأحمر» و»الصغير يكتشف أن المفتاح يشبه الفأس» و»كان يومذاك طفلا» أدلّة ناصعة البيان على ما نقول. فهي تشترك في التغنّي بالصمود والتمسّك بحقّ العودة والحلم بالحريّة. وما عاد يظهر فيها ما ميّز أقاصيص كنفاني الأولى من كشف عن البؤس الذي يحاصر الطفل الفلسطيني والتشرّد الذي يتربّص به في كلّ آن وحين. وغدا البناء الرمزي أحكم وأوضح.
تقوم قصّة «الصغير يكتشف أنّ المفتاح يشبه الفأس» على سرد قصّة تعامل أجيال من الأطفال ينتمون إلى عائلة واحدة مع المفتاح المعلّق على أحد جدران البيت رمزا يذكّر بالبيت الأوّل العتيق في الأرض المحتلّة. على أنّ مرور السنوات أنسى هؤلاء الأطفال وقد غدوا كهولا هذا المفتاح وجعلهم لا يكتشفون شبهه بالفأس. وذات يوم سقط المفتاح من عرشه فحمله حسّان، الطفل الصغير ابن الراوي، وصاح معبرا عن اكتشافه أنّ المفتاح «يشبه الفأس»32. والرمز الكامن في خاتمة هذه الأقصوصة هو أنّه لا يكفي تعليق الفلسطينيّين مفاتيح بيوتهم على الجدران، بل لا بدّ أن يروا فيها سلاحا وأداة للمقاومة ولا يقدر على الوصول إلى ذلك إلاّ الجيل الجديد.
في «الأخضر والأحمر» يرمز كنفاني لحركة المقاومة الفلسطينيّة الفتيّة بطفل صغير أسود اللون قصير القامة كناية على انبثاقها من رحم الهزيمة ومن «عيون الشهداء». وينهي الراوي الأقصوصة بخطاب آمر يتوجّه به إلى الطفل حاثّا إيّاه على الصمود وعدم الانسحاب :»(…) لقد نزفت من العرق ما يصنع ألف رجل كبير… يا عقدة الإصبع! يا عين الشيهد.. لا تمت قبل أن تكون ندّا… لا تمت…»33.
وفي ذلك نبوءة باستمرار المقاومة ودوامها، وإيمان بحتمية أن يصبح المقاوم الفلسطيني والنص كتب سنة 1962، مضاهيا للعدوّ قوة وبأسا.
أمّا في «كان يومذاك طفلا» فإنّ موقف الصمود الذي حلّلناه آنفا، صمود الطفل وتحدّيه أوامر الضابط اليهوديّ مفضّلا الموت على الحياة، هو كذلك تبشير بمستقبل قادم يقود فيه الأطفال مقاومة من نوع جديد لا تعتمد السلاح بقدر ما ترتكز على التحدّي. ولعلّ انتفاضة أطفال الحجارة التي اندلعت بعد صدور هذه الأقصوصة بعشرين سنة تقريبا أكبر تصديق لنبوءة غسّان كنفاني وتأكيد لها. ولنا في أحد المشاهد الشهيرة لهذه الانتفاضة، منظر طفل صغير يقف متحديا أمام جندي لا تفصله عنه إلا خطوة أو اثنتين، ولم يكن ذلك الطفل يملك إلا حصاة تقبض عليها كفّه، فيما كان الجندي مدجّجا بالسلاح…
خاتمة:
يتبيّن لنا من هذه الدراسة أنّ حضور الطفل في أقاصيص غسان كنفاني يعتبر حضورا مكثفا قد مثّل جسرا ربط بين الإنسان والمبدع في شخصية غسان كنفاني. فمثلما أفرد للأطفال منزلة في حياته امتدّت إلى ما بعد موته، جعلهم قطب الرحى في عالمه القصصي. وقد أفضى تحليل معالم صورة الطفل الفلسطيني في أقاصيص كنفاني إلى استنتاج محوري مفاده الارتباط بين مأساة الشعب الفلسطيني وهذه الصورة. فجيل الأطفال الذي تحدّث عته كنفاني وروى قصته قد انبثق من عام النكبة وولد مع التهجير. لكنّ هذا الجيل مثله كمثل طائر الفينيق في الأسطورة، استطاع من قلب الهزيمة أن يحلّق في السماء وينتصر على جراحه وهمومه، مكتسبا من المأساة الفلسطينية دوافع للصمود والفعل والمقاومة إلى درجة بدا فيها أطفال غسان كنفاني قد امتلكوا زمام المبادرة في عائلاتهم وهبّوا يعوّضون الكبار ويقومون مقامهم رجالا كبروا قبل الأوان.
بيد أنّ الأهمّ فيما توصلنا إليه يكمن في الحقيقة في أنّ صورة الطفل عند غسان كنفاني لم تنحصر في وصف حاضر الطفل الفلسطيني بعيد النكبة سنة 1948، بل تجاوزت ذلك إلى التنبّؤ بمستقبله في العقود القائمة. وهذا المستقبل الذي رسمه كنفاني للطفل لا ينفصل عن رؤيته للإنسان الفلسطيني عامة. فقد حمّل أقاصيصه ما حمل بين جناحيه وهو الكاتب والمناضل من تفاؤل بالمقاومة والقدرة على الصمود وحلم لا ينضب بحتمية العودة إلى الديار…
كلّ هذه القيم والأبعاد ينهض أطفال غسان كنفاني في أقاصيصه بمهمّة بثّها وتعليمها للكبار. ولا عجب في ذلك، أفلم يردّد غسان كنفاني في مناسبات كثيرة أنّ «الأطفال هم مستقبلنا؟».
1 انظر موقع غسان كنفاني في الشبكة العنكبوتية :
www.ghassankanafani.com
2 غسّان كنفاني، الآثار الكاملة، المجلّد الثاني، القصص القصيرة، دار الطبيعة بيروت، 1973. ص – ص، 11-30
3 أقصوصة : «ثلاث أوراق فلسطينيّة : ج. ورقة من غزّة»، ضمن مجموعة : أرض البرتقال الحزين، ط 4، سلسلة أعمال غسّان كنفاني، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت1987، ص-ص، 60-61.
4 المصدر نفسه، ص 45.
5 أقصوصة «البومة في غرفة بعيدة»، ضمن مجموعة : موت سرير رقم 12نمؤسسة الأبحاث العربية، ط.4، بيروت 1987، ص 20.
6 أرض البرتقال الحزين ، ص 61.
7 المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
سامي سويدان، في دلاليّة القصص وشعريّة السرد، دار الآداب، ط1، بيروت 1991، ص 109.8
9 الآثار الكاملة، المجلّد الثاني، ص 472.
10 أقصوصة «كعك على الرصيف» ضمن مجموعة «موت سرير رقم 12»، ص 45.
11 أقصوصة «أبعد من الحدود» ضمن مجموعة «أرض البرتقال الحزين»ن ص 15.
المصدر نفسه، ص 43-4412
سامي سويدان، في دلاليّة القصص وشعريّة السرد، ص 123.13
أقصوصة «كان يومذاك طفلا»، ضمن «وقصص أخرى»، الآثار الكاملة، المجلّد الثاني، ص-ص 869-877.14
أقصوصة «ورقة من الرملة» ضمن»أرض البرتقال الحزين»، ص4315
أقصوصة «البومة في غرفة بعيدة» ضمن مجموعة «عالم ليس لنا»، ص 20.16
أرض البرتقال الحزين، ص 63.17
أقصوصة «البومة في غرفة بعيدة» ضمن مجموعة موت سرير رقم 12، ص 23.18
19 – أرض البرتقال الحزين،ص 73.
20 أقصوصة «الصغير يذهب إلى المخيم»، الآثار الكاملة، المجلّد الثاني، ص 717.
21 المصدر نفسه، ص 616.
22 عالم ليس لنا، ص 45.
23 المصدر نفسه، ص 46.
24 «حوار مع غسّان كنفاني»، غسان كنفاني إنسانا وأديبا ومناضلا»، إحسان عبّاس، فضل النقيب وإلياس خوري، منشورات الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين بيروت، 1974، ص 136. وقد أخذنا الشاهد عن : رضوى عاشور، الطريق إلى الخيمة الأخرى، دراسة في أعمال غسّان كنفاني، دار الآداب، بيروت، 1977 ،ص 22.
25 أرض البرتقال الحزين، ص 78.
26 الآثار الكاملة، المجلّد الثاني، ص 790.
27 موت السرير رقم 12، ص 52.
28 المصدر نفسه، ص 49.
29 المصدر نفسه، ص 877.
30 الآثار الكاملة، المجلد الثاني، ص 475.
31 المصدر نفسه، ص 476.
32 الآثار الكاملة، ص 736.
33 أرض البرتقال الحزينن ص 72.
محمد آيت ميهوب*