قليلة هي كتب السيرة الذاتية- الجماعية, التي تنقل تجارب الأفراد والجماعات, من حيز الحدث الوقائعي الى مستوى التجربة الإنسانية التي تستحق التعميم, وعلى الصعيد الفلسطيني, ماتزال نادرة التجارب الكتابية في هذا المجال, ورغم كل ما كتب, فماتزال الوقائع الأهم قيد الرواية الشفوية التي يتم تداولها في المجالس, وتنتظر من ينقلها الى كتاب مقروء وتجربة مخزنة في ذاكرة الكتب, لا في ذاكرة الذين عاشوها من البشر.
في كتابه »طعم الفراق: ثلاثة أجيال فلسطينية في ذاكرة«, يقدم ربعي المدهون نفسه وبيئته, ولنقل تجربته, إلى قارئ كتابه هذا, في رحلة تنطوي على قدر من تداخل العناصر وتنوعها, حد التناقض, حيث المتعة هنا ليست معزولة عن المرارة, والواقع مختلط بالخرافة والاسطورة, والماضي يأتي عبر الحاضر بقدر ما يفضي هذا الحاضر إلى الماضي, في تقاطع زمني لخطوط السرد وللوقائع والحوادث, لا ضابط له سوى الدفق العفوي للحكاية- الرواية, التي هي مجموعة من الروايات في سيرة ليست هي سيرة »التشخص« إلا بقدر ما هي سيرة الجماعة التي تحيط به, سواء كانت عائلته المصغرة (الأب والأم والأخوة والجد والعمة), أو العائلة الأكبر المتمثلة في أناس مسقط الرأس (المجدل) ومخيم خانيونس, أو حتى العائلة الممتدة إلى الشعب- الوطن كله, ثم الناس والأمكنة التي تنقل فيها (الإسكندرية, والقاهرة, ودمشق, وعمان, وبغداد, وموسكو… الخ).
هذا – إذن- نص تنفتح فيه الذاكرة على الوثيقة, وتفتح هذه وتلك باب التأمل والتحليل, بأسلوب سردي يحتفي باللغة, ويشحنها بالدلالات والعبارات الرشيقة والحوارات (المونولوج والديالوج) المعمقة والطريفة. على غلاف الكتاب نقرأ كلمة »سير«, لكن القراءة تسلمنا الى نمط من الكتابة, ليس هو السيرة الذاتية المألوفة, وقد تكون, مع قدر غير قليل من التجاوز, أقرب إلى ما يدعى »السيرة الروائية«, لكنها ليست السيرة الوثائقية, وإن قاربت »الرواية الوثائقية« ففي »طعم الفراق« ما يتعدى السيرتين (الوثائقية والذاتية), وما هو روائي, إلى ما يجمع هذه الصيغ, وينتمي, أيضا, إلى روح الحكائي- الأسطوري, والتاريخ الشفوي- غير الرسمي, أي ما يذهب في اتجاه الروح الملحمية في الموضوع والمعالجة, حيث الكتابة إعادة خلق للشخوص والحوادث, على نحو يمتزج فيه الواقعي والأسطوري.
منذ البداية, وتحت عنوان »سفر الفلسطينيين«, يضعنا المؤلف في ساحة النص المقدس, عبر استعارة لغة الكتاب المقدس أولا, وثانيا من خلال رغبة في إظهار »قدسية« المكان والبشر والقضية, وتقديم ذلك بوصفه الرواية/ الأسطورة الفلسطينية البديلة للرواية/ الأسطورة الصهيونية كما جاءت في التوراة, أو كما تحققت بوعد بلفور, هي رواية الفلسطيني وأسطورته. فكونه فلسطينيا, يعني أن يكون »مسيحا ونبيا«, لكن ميزته في أن المؤلف يريده أن ينهض ويأخذ »مقلاع الحقيقة« لينتفض على »ظلم أبناء العمومة من نسل ابرام«, وليصحح علاقات القربى, وينتصر, ويعيد »صنع الحكاية«, فليست قضية الكتاب أن يؤرخ, أو يوثق حوادث ووقائع وحكايات, بل أن يعيد صوغ حكاية الكاتب من زاوية نظره هو, وليس بالضرورة كما يفهمها آخرون, أو حتى كما يمكن أن تكون حدثت.
هنا يتدخل الوعي في كتابة الحكاية, ولا يركن إلى الذاكرة وحدها, فالذاكرة وعاء ممتلئ يجري تأمل محتوياته, واختيار ما يلائم الحكاية, كي يكون ممكنا التوصل إلى غسل »خارطة البلاد من الكراهية« وتصحيح »خطايا مقدسة«, وقراءة »أسفار التعايش« فهذه أشبه بمهمات »برنامج وطني ديمقراطي« تم صوغه في لغة أدبية ذات طابع توراتي/ مقدس; وذلك عبر ذاكرة- موجهة من الوعي, وموجهة للخيال- في كثير من الأحيان?
(في الشكل والأسلوب)
بعيدا عن بداية المؤلف, سأبدأ بقصة اسمها (ربعي) وتشكيل حرفي الراء والباء, هذه القصة التي لا يحسمها المؤلف, رغم ما في قوله, في بعض المقاطع, من شكوى من كيفية مناداة الآخرين له. يقول في مقطوعة »قصة والدين« بما يشبه السخرية »أبي سماني ربعي, ولم يوزع على الناس حركات تشكيل معينة, ترك ألسنتهم, عن غيرقصد منه, تلعب بـ»رائي« تضمها, تفتحها, تكسرها.. بل وبـ»بائي« أيضا التي فتحت وضمت وكسرت.. «. والأغلب- كما أعتقد- هو فتح الراء والباء معا.
وأعود إلى بدايات المؤلف, فقد كان ينبغي- بحسب المؤلف- أن ينطلق النص من جملة »مات أبي.. «, التي ولدت في لحظة خروج القطار, الذي يستقله المؤلف من حدود ضاحية ريتشموند الراقية والجميلة, متجها إلى محطة كامدن رود, ثم كامدن تاون- حيث مكان العمل. و»حين زاد القطار من سرعته, يقول الكاتب/ الراوي, خرج أبي من ظل بعيد في الذاكرة قاطعا المسافة, منذ وفاته حتى الآن, لكي يهبط علي في القطار, جثة لفت بملاءة بيضاء مثلما رأتها أمي قبل ثمانية وثلاثين عاما, في حينه قالت إنها رأت بركة صغيرة تخثر دمها عند خاصرته اليسرى.. «. لكن المؤلف استبعد هذه البداية لأسباب منها أن رواية »الغريب« لكامو تبدأ بجملة شبيهة »اليوم, ماتت أمي.. أو ربما ماتت بالأمس«. وكذلك فرواية إلياس خوري »باب الشمس« تبدأ بعبارة ؛ماتت أم حسن.. ماتت نبيلة زوجة محمود القاسمي التي كانت أمنا.. «, وتأتي نصيحة الكاتب العراقي زهير الجزائري لتعزز موقف المؤلف الحائر مع سؤال لينين »من أين نبدأ? «.
يبدأ ربعي بفصل/ مقطوعة »صيد البدايات« الذي يضم تعريفا بالكتاب, وكيفية كتابته, ومدخل إلى عالم المجدل, وربط زمن فلسطين بزمن لندن وقت كتابة النص (1998), ولا يعود إلى موت الأب الا في المقطوعة الثالثة من الجزء الثاني من أجزاء الكتاب الأربعة. وقد أحسن الكاتب في ذلك, لأن موت الأب الذي ترويه مقطوعة »قصة والدين«, على أهميته, ليس على ذلك القدر من التأثير في مسار الشخصية, والموت الذي حدث حقيقة عام 1960, كان حدثا معنويا قبل ذلك بعشر سنوات, حين بات الأب مصابا بالسل الرئوي, يقضي في المستشفى أكثر مما في البيت! ويمكن الإشارة هنا, إلى أن دور الأب في تشكيل شخصية بطل النص/ المؤلف, كما يبدو في النص, أقل- مثلا- من دور الأم, ومن دور العمة, اللذين سنقف عليهما.
على صعيد تقطيع الكتاب, اختار المدهون »قالب الجاز«, لاعتقاده أن »الكونشيرتو, الذي تتحاور فيه آلتان موسيقيتان, أو آلة وأوركسترا, أكثر تطابقا مع طبيعة السرد في بعض فصول هذا العمل, لكن الجاز هو المناسب لغالبيتها«, لذلك أطلق اسم »مقطوعة« على الفصل, في محاولة أن يجعل منها »وحدة متماسكة تحت مظلة عنوان يحميها من اعتداء غيرها من العناوين.. «.
يركز الكاتب, كثيرا, على مضمون العنوان الأول »طعم الفراق«, في مقاطع من التذكر والتأمل تغرق في لغة تستحضر مفردات الألم واللوعة والحنين والحسرة, بقدر ما تستحضر الغضب والحقد تجاه مصادر الشقاء المختلفة. أما العنوان الفرعي: ثلاثة أجيال فلسطينية في ذاكرة, فهو تعبير عما يجتمع في هذا النص من أجيال, بدءا بجيل الجد سليم, وجيل الأب خليل, ثم جيل الأبناء ربعي وأخوته, لكن ثمة جيلا رابعا يبرز في لحظات قليلة من النص, هو الذي يلعب دور الواسطة بين ربعي ووالدته: أعني ابنتي أخته رحاب (أنسام وشقيقتها), بحيث تقوم أنسام- حين يتصل ربعي- بتوصيل الهاتف لجدتها. لكن المؤلف لا يرغب في استثمار هذه العلاقة كثيرا, ويكتفي بأن يؤشر إلى ملمح من ملامح الواقع الفلسطيني, بعد عودة السلطة إلى غزة, من خلال إشارة صغيرة, إذ تخبره أنسام أنها تدرس الكمبيوتر في »كلية عرفات«, فيضحك ويسألها إن كان اسم الكلية »عرفات«, ليقول ما لا يقوله الكثير من الشرح!
بدايات وتجريب
في المقطوعة الأولى: صيد البدايات, نقف على ملامح من مدينة المجدل التي »تضع رأسها على شاطئ عسقلان«, وعلى شيء من حال أهلها وعاداتهم وتقاليدهم, من خلال زواج خليل المدهون (18 عاما) بلطيفة (13 عاما), والمهر العالي بمعايير تلك الأيام (ثلاثمائة جنيه فلسطيني), لكن الطبيعي بالنسبة إلى أهل تلك المدينة, إذ كان مهرها ؛مثل كل مهور البنات في المجدل. فقد كان سكانها عموما أغنياء, ولم يكن بينهم فقراء, ولم تعرف مدينتهم البطالة. فمن لم يجد عملا اشتغل في صناعة النسيج على النول اليدوي, وهي مهنة »إن ما أغنت سترت« كما يقولون«. ثم من خلال انجاب ربعي (البكر), ورفيق (الذي مات). ثم راسم (الشاعر المعروف الآن), ثم رفقة (ماتت أيضا, حتى ليقول ربعي, كأنه يشير إلى الرفاق »كان اسم رفيق ومؤنثه لا يعيشان في عائلتنا«, لكن شقيقته رسمية- توأم رحاب, الأخت الوحيدة الباقية- ستموت أيضا بعد شهور من ولادتها, رغم أن اسمها ليس فيه شيء من »الرفاقية«, بل على العكس, فهو مذكر الاسم »رسمي«, بكل ايحاءاته ودلالاته.
ومع تقدم السرد في المقطوعة الأولى, يأخذ في التلون والتجريب و»التغريب«, وصولا إلى »غرائبية« تلائم النص, وتشيع فيه حميمية بقدر ما فيه من اللا- مألوف, فلأن المؤلف هو الراوي نفسه, فهو »بطل« الحكاية وراويها في آن, والحكاية تمتد إلى ما قبل ولادته, بل إلى ما قبل زواج والديه, ورغم ذلك فهو يمتلك في الحكاية »حضورا« و»وجودا«, يؤهلانه لمخاطبة جده (سليم) الذي حلف بالطلاق, يوم عرس والديه, ان لن يتم تأجيل العرس (كما يطالب أهل العروس, بسبب موت ابن عمتها), فيقول له الراوي »على إيش يا سليم نازل تحلف طلاق بالثلاثة, ومرتك ميتة.. حرام عليك يا زلمة«. أما بعد زواج الوالدين, فترتفع وتيرة التغريب حتى ان الراوي- الجنين هو الذي سيصف لنا بعض ما جرى آنذاك, سيقول »أحسست بي جنينا في بطنها, يعيش المتاعب التي يسببها دون أن يدركها, ويضحك من طرافة وحام أمه التي قالت عنه, عندما رأته على جلد خاصرتي اليسرى »هذي كبدة خروف مشوية«, وقلت عنه أنا عندما دلتني عليه »هذي ليفة حمام يمه«, غضبت كثيرا حينذاك, إذ أفقدتها نكهة وحامها«. ويمضي ربعي في التغريب »سمعت صرختي الأولى تعلن حضوري إلى الدنيا«, ويقول مبتهجا وهو يسمع التهاني بقدومه »فرحانين إبي«, بحسب اللهجة المجدلية.
تحضر اللهجة العامية المجدلية هذه حضورا واسعا في النص, من خلال أم ربعي أولا, وربعي نفسه وبقية شخوص النص ثانيا, في صورة تمنح النص صدقية وعفوية وقدرا من »التبيئة«. ونقف مع الأم تحديدا, فهي, كما يقول المؤلف ؛كانت بطلا ورواية, أغراني ذلك بالتجريب, بالتخلي عن دوري كراو, وتسليم مفاتيح السرد والكلام.. لأمي.. قررت المغامرة, أن أمنحها الفرصة لكي تكتب.. أن تطلق لهجتها العامية, المجدلية القحة, تسبح في فضاءات هذه الدراما الأدبية«. وفي سياق استنجاده بالأم لكي تحكي له عن »نكبة 1948«, يقول »هذه فرصتي, لكنها فرصتها لكي تكتب جانبا من سيرتي لأنها سيرتها.. حكت, أعادت ربط الحكايات الصغيرة المتناثرة في ذاكرتي.. خاطت بلسانها التفاصيل عن هجرة (مذلة وبتوطي الراس.. « وتتابع »اطلعنا يمه أول ناس.. «.
(أسئلة الهزيمة.. الجارحة)
تتداخل- إذن- حكايات المدينة والمخيم, وتتداخل فيها الدلالات, فما من حكاية تستقل بذاتها, فكل حكاية تقود إلى سواها, وترتبط بها عضويا, من ذلك- مثلا- حكاية (مصيبة) خليل الشيخ سلامة, التي تنبثق في أثناء تذكر الراوي لبيتهم, واكتشاف أن بيتهم هذا ليس بيتهم, وأن بيتهم لم يعد بيتهم! ثم ارتباط هذا بقصة السلاح الفلسطيني والمقاومة. فما حكاية خليل هذا, وكيف يرتبط بالبيت, وبالسلاح والمقاومة?
في لحظة غضب, يحمل خليل الشيخ سلامة بندقيته, وينطلق فيقتل (ابن قاسم) بسبب تعرضه لشقيقته دلول, وحتى »يغسل العار الذي لحق به«. وبعد محاكمة خليل وسجنه, ثم تبرئته وإطلاق سراحه, يطنب على خاله سليم المدهون, فيفرض هذا على ابنه خليل (والد ربعي) ترك بيته لابن عمته, والانتقال إلى بيت آخر. هذا عن قصة البيت. وعن حكاية السلاح, فمشهد خليل هذا يأتي, في وقت تصاعدت فيه أخبار عن هجمات منظمات هاغاناه وشتيرن وليحي وإيتسيل اليهودية في المناطق المحيطة بمدن يافا وصفد والقدس, ما أشاع انطباعا بأن مسلحين يهودا من مستوطنة »نغبا« القريبة يهاجمون المجدل. ليقول لنا المؤلف, في صورة غير مباشرة, إن هذا جزء من المشهد الذي قاد إلى النكبة.
مثلما سيكشف لنا, في مقاطع أخرى, أن ثمة أسلحة لم يتم استخدامها نهائيا, لا في معارك عام 1948 (بندقية خليل نفسه التي لم تظهر إلا »لغسل العار«, وبندقيتا الجد اللتان لم يخرجهما سوى مرة واحدة عندما »أطنب« عليه ابن أخته خليل.. وطلب حمايته من آل قاسم, ثم أعادهما إلى نومتهما الأبدية في قن الدجاج.. رغم كل القتل والتدمير الذي مارسته عصابات الصهاينة), ولا في 1956, حين احتلت (إسرائيل) خان يونس, ولم تواجه مقاومة حقيقية, وحين انسحبت تحت ضغط (الروس) وعبدالناصر.. بدأ ظهور أسلحة في المخيم; يقول المؤلف ؛رأيت خان يونس مزروعة بالبنادق. رأيت شابين يطلقان النار من رشاشي برن ثقيلين, ويترك لنا أن نتساءل: أين كانت هذه الأسلحة في أثناء الاحتلال? لماذا لم تستعمل? وهل هذا وضع يمكن تعميمه في أمكنه أخرى من فلسطين? لا يقول المدهون ذلك بالطبع.
هذا واحد من الأسئلة الجارحة في نص المدهون. وسوى هذا, ثمة أسئلة كثيرة على الصعيد نفسه, بعضها يطال التقصير الفلسطيني, وبعضها الآخر يطاول مسؤولية العرب وجيوشهم عن ؛النكبة«. وهنا يبدو واضحا المزج بين الذكريات والوثائق, بين المشاعر والأحاسيس وبين الأرقام والخطط والوقائع. فالكاتب يسعى لرسم صورة على قدر من الواقعية لما جرى, بدءا من هدير المدرعات الذي وصل المجدل قبل جنازيرها, مرورا بالاستقبال الشعبي الحافل, والهتافات المتفائلة بالنصر (الجيش المصري أجانا/ قطع روس ال.. هاغانا), و.. الحركة الناشطة التي شهدها مقهى المدهون حين »بدأ يرتاده جنود وضباط مصريون«, وما حققه القادمون العرب من »انتصارات أولية«, وانتهاء بالهزيمة وملحقاتها.
(في أحوال المخيم)
في »الجزء الثاني«, الذي يضم أربع مقطوعات, يقدم لنا المدهون ملامح من حياة المخيم, وتفاصيل هذه الحياة والعلاقات بين أهل خان يونس وسكان المخيم, بعض هذه الملامح خاصة وجديدة, وبعضها الآخر مما هو مألوف في حياة المخيمات, يجري تلوينها بلغة جديدة ومشاعر خاصة, فحكاية ابن المدينة الذي ينهر حماره »حا, وشك وش اللاجي«, تكررت في غير مكان. وكذلك حكاية الموقف من حليب وكالة الغوث وزيت سمكها وال د.د.ت, وكذلك حكاية اليهودي الذي يتعرف على فلسطيني ويتعاطف معه في نكبته, وسواها.
لكن من أهم ما يلفت النظر, ما جاء في مقطوعة »ضحى أحمر- أسطورة شهداء«, التي تروي تفاصيل مجازر خان يونس الوحشية عام 1956, وما يسميه المؤلف »الاستسلام« من قبل الجميع, باستثناء مقاومة يقودها الشهيد الأسطورة محمد أبوالكاس, إلى درجة أن طيف الشهيد يغدو محرضا على الثورة والانتقام! كما يلفت الاهتمام ما طرأ على المخيم من تحول في وضع المرأة, أولا حين يتناول شخصية عمته دلول »نخلة عسقلان« من جهة, وبائعة القماش, التي أصبحت من أكبر تجار خان يونس, من جهة ثانية. هذا التناول الذي يقارب التشكيل الأسطوري للشخصية, في قفزها من الصفر إلى موقع متقدم, بعقلية فذة, في مجتمع ليس من السهل على المرأة فيه تحقيق هذا التقدم.
ويتناول المؤلف حال المرأة, ثانيا, حين يصور ما جرى للفتاة التي تعلمت وباتت مصدرا للدخل في العائلة, في أوضاع صعبة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا, فقد اضطر الأهل الى غض النظر عن شيء من تمرد »لحم سيقان البنات« على الملابس. ويمضي في تصوير ارتفاع المهور, حتى صارت البنات »أصنافا من البضائع, تعرض بأسعار غير قابلة للمفاصلة أو للنقاش. اللداويات غاليات, والرملاويات واليافاويات لسن أقل منهن.. الفلاحات, اللاجئات من أصول قروية, أرخص.. أما المجدلاويات, فهن الأغلى مهرا بين الجميع. (فهن« بيضاوات, وجوههن مثل القماش البفتة. بنات حسب ونسب, يجمعن بساطة الفلاحات إلى شموخ بنات المدينة.. معدلات في كل شيء, في الطبخ, في النظافة, في الغسيل.. أما الخان يونسيات, فأحسن لك تنسى.. أهل خان يونس ما بيجوزوش بناتهم للاجئين.. «.
أكثر من ذلك, يقف المؤلف على شكل جديد من الزواج يجري العمل به, في المخيم, هو زواج شكلي- صوري, يتم بموجبه تسجيل فتاة كمتزوجة كي يتم فصلها عن عائلتها, فيسقط بذلك حقها في الحصول على تموين, ويبقى هذا الحق لذويها. وفي زواج- غريب- كهذا يدفع أهل الفتاة للزوج مبلغا »راتبا« شهريا مقابل: ألا يرى الزوج زوجته, وأن يضع العصمة في يدها لتتمكن من تطليقه حين يأتيها عريس حقيقي. هكذا تزوج سليم المدهون (جد ربعي) فتاتين, بمبلغ جنيهين ونصف الجنيه من كل منهما!
وأتوقف مع زوج العمة الحاج حسين العمصي, وما تحمله حكايته من غرائبية, هو الذي حمل ربعي في النكبة, ثم ها هو يجلس مشلولا من جانبه الأيسر, ويروي لربعي, في غياب زوجته, حكايته مع النساء في شبابه, ويوصيه بعدم إخبار عمته لأنها قوية مثل الزلام, ومش بعيدة ترمي علي يمين الطلاق«! لكن هذا الحاج هو نفسه الذي »رسم بنفسه جنازته في الدقائق الأخيرة من حياته, كأنه أراد أن يمشي في جنازته, يرقب المشيعين.. يشكر الحاضر ويعاتب من تخلف عن المشاركة.. «. ولأنه كان »لا يطيق ضيق النفس حتى وهو ميت«, فقد أوصى أن تتقدم جنازته فرقة دينية, ترافقه حتى المقبرة »تعبر شارع البحر, تقطع خان يونس المدينة من وسطها, تتجنب الأزقة والممرات«.
وأما مقطوعة »قصة والدين«, التي تبدأ بعبارة »مات أبي, أنهى أربعة وثلاثين عاما من عمره ومات«, ففيها من الحزن والألم والشجن, أكثر مما يحتمله إنسان في الخامسة عشرة من عمره (عمر ربعي آنذاك). ولكن أكثر ما يشدنا في موت الأب, هو النبوءة التي سبقت هذا الموت, إذ أرسل الأب من المستشفى من يخبر زوجته أنه سوف يخرج »يوم الخميس«, ولن يعود إلى المستشفى أبدا, وراحت لطيفة تستعد لاستقبال زوجها العائد متعافيا- حسب اعتقادها- فيما يشبه الاستعداد لعرس جديد معه: نظفت البيت والأواني وكل شيء, قصقصت الأوراق الصفر عن شجرة الليمون, سقت النعناع والورد الجوري والقرنفل ولسان العصفور وشجيرة التمر حنة.. قطفت عرقا أبيض وشكلته في طرف شعرها, مسحت بباطن كفها الريحانة الفواحة في زاوية الحوض الشرقية, فعبق البيت بالريحان… الخ.
وأعيد الرجل إلى بيته, يوم الخميس بالضبط, في صباح الخميس, جاء به ممرضان, محمولا فوق »دسكرة«, وسلماه إلى زوجته التي ستصبح, منذ الآن, أرملته, فقد صدق وعده وعاد, في اليوم المحدد, وصدق وعده بأن لن يعود الى المستشفى بعد. ورغم أنه أمضى سنواته في المستشفى كالمحكوم, إلا أن ابنه يتمنى لو ؛أنه مدد محكوميته.. ولم يمت.. يزورنا كل ثلاثة أشهر لمدة أسبوع.. أبي اليوم لن يعود. سوف نفتقد فيه حتى أنفاسه الخطيرة العابقة بالسل«. هنا يتلازم الحديث عن الموت, بالحديث عن البيت الفلسطيني, البيت الذي لا يمكن أن يخلو- إلا في حالات نادرة- من النباتات والأشجار والأزهار.. وعن المرأة الفلسطينية التي تصنع هذا البيت. ففي هذا التحايث بين حديثين متناقضين, تظهر سمة من سمات كتابة المدهون, سمة جمع المتناقضات, وتداخلها على نحو حركي يجعل الكتابة إعادة خلق للموضوع, لا مجرد استذكار واستعادة من الماضي.
(مصر.. الحب والهزيمة)
ينقلنا المؤلف فجأة, في الجزء الثالث من الكتاب, وفي المقطوعة الأولى منه (أقوال عين الشمس), إلى السنة الدراسية- الجامعية الثالثة, لكنها السنة الأولى التي قطعها بنجاح في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية, بعد سنتين من الفشل في كلية الزراعة بجامعة عين شمس.. سنتان لا يذكر عنهما سوى عبارة واحدة, ليبدأ من سنة الهزيمة, قبل حدوثها بأيام, حين كان يستعد لزيارة خان يونس في عطلة الصيف, لكن حرب حزيران تعطل الزيارة, ويبقى ربعي والطلبة الفلسطينيون ليشهدوا على ما حدث. وليضيعوا بين أقوال ؛صوت العرب« وأغنية شادية المبثوثة من إذاعة إسرائيل لتطلب من العرب عدم تصديق بيانات المصريين عن الحرب; البيانات التي أنجزت النصر منذ اللحظات الأولى في الحرب, ولم تترك لاسرائيل طائرة واحدة أو دبابة, ليتكشف أن ذلك كله ليس سوى تغطية على هزيمة نكراء. وحين يحاول البعض إعطاء فرصة أخيرة للزعيم كي يقول كلمته, لن يسمعوا سوى أنها ؛نكسة« وليست هزيمة, ثم التنحي عن الحكم, والعودة تحت ضغط الجماهير التي ملأت الشوارع.
في المقطوعة الثانية, حكاية علاقة المؤلف مع الفتاة- الحلم, في الإسكندرية, المدينة التي يقول عنها »الإسكندرية أجمل المقدونيات اللواتي حللن شعورهن على شاطئ المتوسط«. لكن العلاقة التي دامت ثلاث سنوات, وانتهت بخطبة رسمية, ستقطعها الفتاة بكلمتين تتمنى فيهما على المؤلف أن يظلا أصدقاء. فيتكاثف شعوره بالغربة. ولم يصدق المؤلف أن مصر الناصرية تذهب في التضييق على الفلسطينيين الذين عارضوا مشروع روجرز, واعتصموا احتجاجا عليه حد إبعاد مجموعة من الطلبة المنتمين إلى تنظيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين, خصوصا ربعي وراسم وعدد من الطلبة القادمين من غزة, والذين لا مكان لهم يلجأون إليه, ويحملون وثائق سفر مصرية, ولكن الإبعاد إلى دمشق يجري على وجه السرعة. ومن هناك, سينتقل الأخوان ربعي وراسم وعدد من الطلبة إلى عمان, في الوقت الذي كان فيه تقترب من أيلول الأسود.
(في عمّان ودمشق)
في عمان, موضوع المقطوعة الأولى »حريق الشعارات« من الجزء الرابع, سيكون المؤلف شاهدا ساخرا في كثير من المواقف, ومشاركا مضطرا في مواقف أخرى. يرى فيها ؛غابة بنادق يتمشى في ممراتها لينين.. ذقنه الثابتة مثل قوانين المادية تسبقه إلى المكان.. ينصب صواريخ باليستية في حديقة مقهى المدينة, يتفيأ تحت ظلالها الرفاق.. على مقربة منه يقود شاب يساري هجوما بالرشاشات على المصرف المركزي لكي يخط رفاقه بدهان أحمر شعارات المرحلة: لا سلطة فوق سلطة المقاومة«..
وفي أول مقابلة للطلبة المبعدين مع ياسر عبد ربه, يطلبون فيها حلا لمواصلة دراستهم التي انقطعت, سيقول لهم في سؤال استنكاري ؛مين قال بدنا طلاب.. إحنا بحاجة لمقاتلين?«, وحين تبدأ معارك أيلول, سيجد بعض الطلبة أنفسهم في مكاتب ومخيمات, يحملون أسلحة لا يستخدمونها, فهم مهمشون يعانون الرعب والشلل في آن. لم يعودوا طلبة, ولم يصبحوا مقاتلين, هكذا يتحدث المؤلف- وهو يتذكر أمه- عن حرب السياسي.. وعن الثورة وحربها ؛حربها تختلف.. حربها طويلة الأمد. حربها نار وبدها حطب, والحطب نحن, الوقود اللازم لتشغيل عجلة القضية.. سياسيونا يتحدثون بلغتهم, وأمي تحتفظ بلغتها, أمي لا تفهم عليهم. هي الفلسطينية, من مولدها.. حتى آخر غرزة تطريز ملونة في ثوبها المجدلاوي, لا تفهم عليهم, وهم لا يفهمون عليها. هي في الداخل, هم في الخارج. كيف يتصلون, كيف يتفاهمون?.. « ويعلن الضياع ؛بين لغتين: أمي تمنت تخرجي في الجامعة, الجبهة خرجتني من فوهة بندقية لكي أنطلق مثل قذيفة وأنفجر, وقد أنفجر في الهواء.. «, فقد »وجدنا في المكان الخطأ, الزمان الخطأ«, وفي »حرب مجانين«. ثم وجد نفسه, وشقيقه راسم, في فندق »روضة البقاع« في دمشق. ومنها إلى مكتب الجبهة الديمقراطية في بغداد »مدينة المدن«, حيث »الفراغ النضالي«, وحرب الحكومة على أصحاب السوالف مرة, وعلى جبهة تنظيم المرور مرة, وبعد أن يصطدم في بغداد مع صبري البنا »أبونضال«, سيعود الى دمشق.
ويشكل فصل دمشق المقطوعة الرابعة- قلب العروبة, قبل أن يسافر في دورة تثقيفية الى موسكو (وهنا يقدم لنا صورة مألوفة عن الدولة الاشتراكية التي يحب الناس فيها السجائر الأجنبية-0 مثلا- حد العبادة). وبعد عودته إلى دمشق, سيتهم بجريمة قتل ملفقة ضد رفيقه الشاب وجيه, ويجري اعتقاله 8 أيام, وتعذيبه بوحشية هو ومجموعة من الرفاق, ضمن حملة على الجبهة الديمقراطية, وحين يتم الإفراج عنه, ينطلق إلى بيروت ليتسلم عمله في الإعلام.
ومن أطرف / أقسى ما في هذا الجزء, خطبة ربعي على ابنة عمه أديبة, عن بعد, وبضغط من عمته دلول التي أرسلت له, مع ابن عمته خليل الشيخ سلامة, خاتم الخطبة وصورتين للعروس, فاضطر للموافقة, وأرسل لعمه توكيلا يخوله إتمام الخطبة. ثم يأتيه ابن عمته بعد شهور ليعلمه بفسخ الخطبة.. دون سبب!
وفي الختام, في إلى اللقاء, يقدم المؤلف الشكر لكل من وقف وراء هذا العمل, والجهود التي بذلت لإنجازه. فيذكر أمه أولا, ومجموعة من الأصدقاء على رأسهم ؛الصديق الشاعر أمجد ناصر الذي لم يكتف بمشاركتي هموم الكتابة, بل فتح لي خزائن مكتبته وقدم لي عددا من كتب السيرة الذاتية, وتابع معي عن قرب.. تطورات العمل.. وإلى ابني الأكبر, وسام, .. وابني الثاني رامي الذي قام بتصميم الغلاف, وتابع مع تجربة تصميم موقعي الخاص على الإنترنت.. «. ويخبرنا أن مرحلة بيروت سيخصص لها كتابه الثاني.. أملا بالوفاء بوعده مع القارئ لينهي رحلة فراق ذاق الكثير من مرارتها!!
يبقى القول إن الجوانب الذاتية في هذه السيرة, ليست منفصلة أبدا عن الجوانب التي تمثل الجماعة. فثمة اندغام شبه تام بين سيرة الفرد وسيرة الجماعة, وما هو خاص يجري طرحه في إطار العام, وليس في معزل عنه, وهكذا نعيد التأكيد على أننا في صدد سيرة ذاتية, تضع الذات الفردية في سياق الذات الجماعية, وهو ما يجعل الكتابة تتخذ صيغة ال-؛نحن« التي تغلف صيغة الـ»أنا« حينا, وتترافق معها حينا آخر!
) صدر في منشورات المؤسسة العربية للدراسات النشر, بيروت/ عمان, حزيران 2001م 377 صفحة.
عمر شبانة كاتب من فلسطين