دخلت طنجة
شيء ما يزعج المدينة ، يؤذيها
قلت الشيء. الشيء، هذا، أريد أن أراه ،. ان أمسك به _أن
أحطمه. أن أ….
في وجهي "الغامض" انتشر السكان ، سكان المدينة التي تدير للجنوب ظهرها، ولا تعطي وجهها للشمال.
انتشروا هياكل. هيكل بعد هيكل. أغمضت عيني، أبحث عن بعد لم عن أي شيء يمكن للمرء أن يبحث عندما يكون في طنجة ؟)
صور ملس مستديرة صور عميا،، صور متعددة لصورة
واحدة كانت تمرني بلا انقطاع ، منذ أن ملأ نور طنجة الخارق عيني.
صور ؟ ألم. قيء. انتشاء. انثناء. اختلاط الرهبة بالرحبة يستبد بي وأنا أمسح البحرين والبرين.
في قمة الجبل أتهادى.
أرى المدينة ولا أراها. مدينة تركبها الريح ، وهي تركب الموج.مدينة الشمس والماء الى أين تسير؟
الضوء، المستبد يشغل النفس عن التفسير. يجعل الاحساس يفور مثل بركان يتهيأ للتفجر أول مرة. بركان سعيد بإزاحة الضغوط عن نفسه ، والانسياب بلا قيود على القاع.
برفسة أترك الجبل والمنظرة. ألوان الوجوه الممصوصة. انصاف الأجساد المطموسة. انحدر كالسيل. أعبر الأنواء الزيتية الشاغلة. أمر بالعيون التي لم تعد نورا، اخترق الساحات والهذيانات. أركض. أركض ، لكأنني على موعد مع الريح.
كالبرق ألج اليمامة. قاعدا الحق الماشين : مؤخرات لا سمات لها. مؤخرات مسطحة وعصيبة. أكوام من الأجساد المتلاحقة بلا قصد.
اتطلع اظل اتطلع ، صامتا ، ليس بي رغبة في الحديث. أصير عيونا ، كلي ،الوجوه الوجوه ، الآن ، وجها وجها، أتملاها، أتملى الذاهب والآيب : لا شيء ،أبدا ، لاشيء. هياكل متحاركة تعبر فضاء ساكنا بلا انقطاع.
أين يختبيء ذلك الشي ء الذي يزعج المدينة ، ويؤذيها؟ أين ؟
(أكاد أنادي ، (ولكن…)
أترك "اليمامة " أجلس فورا، في "مانيلا" يكفي أن أعبر شارع "باسطور"، المكمل ، رأسا ،لشارع "محمد الخامس ". أعبره فقط.
من اليمامة الى "مانيلا" أكد اس الجلود بلا لابسين. محافظ السفر بلا مسافرين. الكحل بلا عيون الشفاة اليابسة بلا قبل. السحن الصفر بلا أمل.
شحوب كوني هائل يعبر معي ويقيم. بين اليمامة ومانيلا عالم واحد لا يتغير. عالم يرتجف من التوتر والبؤس. عالم كيف لي أن أدركه قبل أن يدركني وينساني؟
طنجة.
أعمى يقود مبصرا. الصورة القديمة ، نفسها شيخ أعمى مبصر فتى. الأعمى يحمل كيسا هائل الحجم. يمشي بلا تلعثم. يكاد يرى. انه يرى حقا، وهو مع ذلك أعمى.
الأعمى والمبصر يروحان ويجيئان. يفعلان ذلك عشرات المرات. الفتى المبصر لا يدل أعمده يمشي به وحواليه. يتبعه كمهر يتبع أمه.
بلا اهتمام يتحركان. يمران بالناس بحياد مخيف. لكأنهما لا يعرفان أحدا من أحد. عم يبحثان ؟ عن الشيء الذي أبحث أنا عنه ؟ عن غيره ؟ من يعرف نوديا الناس في طنجة ؟
منذ متى وهما يمشيان ؟ الشمس الحارقة لا تخيفهما؟ لا الشمس ولا القمر؟ ولم لا ؟ ألم أرهما يذرعان هذا الشارع السابح في الجحيم مرات ومرات ، دون أن يعثرا على منفذ لهما؟
الى أي نحو ينفذان ؟ كيف يمكن للكائن أن ينفذ من بؤسه ، إن لم يعثر، أولا، على نفسه ؟
أترك "مانيلا" أعود الى "اليمامة " أعبر "باسطور" بالاتجاه المعاكس للاتجاه الذي عبرته من قبل اقطعه من "ساحة فرنسا" الى "محمد الخامس " ، قبل أن أصعد يمينا في "موسى بن نصير". على الناصية ، تماما، التقي بهم : بأدب ينتظرون.
الشمس طالعة وجميلة. البحر هاديء وقريب. لكنهم يديرون للبحر ظهورهم ، ولا ينظرون الشمس. على "أحر من الجمر" ينتظرون. حراس فندقي "برانديت " و "فلاندريا" ، هم أيضا ينتظرون. ينتظرون الباص الذي سيقل الشباب الى الغياب : "يقلهم بلا تعيين / سرية المثقفين ".
يقلهم ، أم يقلونه ؟ أي فرق ، طالما ان المسافة ستخترق في النهاية ؟ مسافة الضوء والغمام ، حيث ألوان البرق على جدران "أصيلا" تبعث الاضطراب في قلب الرائي وفي مقلتيه. عند التقاء البحر باليابسة التقينا.
التقينا صدفة على أرض لا تعرف الصدف. التقينا بلا قصد، وافترقنا قصدا. تركتهما يتهامسان ينظران حولهما بلا احتجاج أو ضغينة ، لكان الحياة لم تسفر لهما ، أبدا ، عن وجهها القبيح. (يا للهول )
على قمة الجبل الذي كان مقابلا لجبل طارق. التقينا وافترقنا ، فورا تركتهما يأكلان ، يلتهمان الضوء والفضاء. "أحمد" و"حمادي".كم مضى من الوقت ؟ وأي زمن استخدما زمن البيعة أم زمن السيعة ؟ ما جدوى أن تعد؟ ما جدوى أن تعود: المزة ، الصالحية ، الميدان ،أكراد، المهاجرين ، شاغور ، العجمي ، النتباكي ، كوزموس ، اونيفورس ، الاقفية المخططة الطويلة ، البشر الذين هم بشر تقريبا، وهما وحدهما ، يلتهمان كل شيء وفي حدهما الجوع : الجوع العامر، الجوع الغامر. أين حدث هذا،طه ومتى؟ في طنجة ؟ في دمشق ؟ فيهما معا؟ هذا ، كله طنجاوي ، طنجاوي فقط ؟ وهؤلاء التعساء/ من صبية وجهلاه/ الباحثون في مزابل الطريق / عما يسد النفس ، أو يبل الريق / أما رأيتهم ، قبلا، هناك ؟
– اسمك ؟
– هشام.
– عمرك ؟
– تسع سنوات.
– تذهب الى المدرسة ؟
– نعم.
– في أي صف أنت ؟
– سأصف العام العام القادم.
– تقرأ ؟
– لا. ما أنا بقاريء.
وأحسني أرتجف محموما، وأنا أتناءى، في حرارة اللقيظ الباهظة عنه ، كتلة الضوء المتسلط تمنع الحركة ، كما تمنع السكون ، تجعل اختلاط الذات بالآخر أمرا لا مفر منه.
كيف لي أن أفر وهشام يلحق بنا باستمرار : من هنا "القصبة " ، ومن هنا "الجراندسوكو" (السوق الكبير).ومن هنا "البيتي سوكو" (السوق الصغير). وهناك ضارب الدف والاقعوان. وفي الداخل المرأة الجنية ، ذات المخالب الليلكية. و..
وأرى في عيني "هشام " بريقا عجيبا. لكأن عينيه مصنوعتان من اللؤلؤ والتمر. يضحك بحياء آسر، وكله فرح. لكأنه هو الذي أفسح للعالم ، في هذه المدينة ،الفضاء.
هشام يضع لنفسه حدا. يقف لصقنا وهو بعيد. وفجأة يشير بأصبعه الطفولي الوسخ. يشير في ثخانة الهواء الذي سكن من شدة الحر: انظر انظر وننظر معا الكوبرا الهرمة تدخل امرأة شديدة الهرم. تلتف حول جسدها الذي تهدم. ونرى الرعشات تكتسح الهيكل الشاحب. رعشات التوتر والحبور. العجوز التي كانت صفراء قاحلة صارت كتلة من جمر. لحانت الكوبرا المدربة تنصلق كالصقر الذي رأى صيده المحتوم في متناول مخابيه.
الى أي الجهات كانت تنحدر اللعينة ؟ وكأن هشاما فهم القصد، أدار برأسه اللطيف بعيدا عن الحفيف.
الكوبرا السوداء تتلوى حول خصر الشمطاء. وبعد أن تلامس الحلمتين ، تريد أن تعود وتمنع. وتروح تمشي الى السرة واليعسوب. ومن عمق الخط يأتي فحيحها مكتوما. كم مرة أدت الدور ؟ وكم جلد لحست ؟ وكم شمت من ثنايا وأبا طين ؟ وتريد أن تعود ، ومن جديد ، تمنع : لا. خشي الغار ، وطفي النار ، يصرخ بها الصاروخ.
وبغتة تسقط العجوز البلهاء. تسقط في عين الشمس ، وبين فخذيها تقف الكوبرا ، رافعة رأسها باعتزار.
ساحة مدينة فارو.
الناس هباب. الأرض تلتصق بالبحر. البحر باليابسة. الناس يتلاصقون. بعضهم يركب بعضا. في الساحة ثلاث صور كبيرة ترقى أعمدة ثلاثة. تنيرها أشعة عمودية ، مائلة ، وأفقية. الصور تطو الناس. الناس لا يعلون عن الأرض. "التيمة " القديمة نفسها : كهل يقرر ويافع يبرر. العالم لم يتغير، اذن (هل سيتغير؟). لكن طنجة لا توحي الا بالعكس (والعكس دائما هو الصحيح ). هذه الكتلة الهوجاء التي لا تكف عن التحرك ، وهذا الذهول المفجر للسكون ، وهذه الوجوه التي لا يعكر صفوها شي ء (ولا شيء يصفي عكرها) لا يمكن التنبؤ برغباتها ولا بما تنتويه.
ساحة مدينة فارو ، من جديد.
ساحة المدينة التوأم. "زنقة البحتري" (سابقا زنقة تولستوي ) قادتني سرا الى "الهاشمي" صائد الغزلان والرجال. في "الهاشمي" رأيت الرجل "الروبيو" (الأحمر)لا. أسكت قليلا الآن الأنف مكسور. النظر مقهور. شيء ما يزعج الروبيو ويؤذيه. "الروبيو" يحمحم. يريد الانطلاق ، ولا يقدر. يروم الانعتاق من ربقة المكان ، ولا يقوى. يرى العالم ملك يديه ولا يملك منه شيئا. هو يحس ذلك يحسه دون أن يفهمه ، ولا يهمه أن يفهم ما لا يفهم. كل ما يهمه هو احساسه العنيف بأنه مازال حيا. "الروبيو" فاض من قبل على الأمكنة والساحات. الآن ، صار لا يملك من العالم الا ما يملكه النظر العابر للناظر.
فجأة يصل "محمد" يصل ويرقي فورا كرسيه الخالي. يجلس منطويا ، كمن لم يخلص بعد من تهوراته التي لا تعرف القرار. "محمد" يتململ لاقترابات "الروبيو" المتكررة منا، ولا يحكي ، يرى الى ذهولي واضطرابي، ولا يحكي. كنا نأكل صمتا وصمتا نحتسي الليل.
"الروبيو" فوقنا يهمهم ، يريد أن يمتطينا ، فجأة يخبط العالم. يخبطه بقبضته الحمراء المنمشة ، يرى الينا ، ونحن نمسح البلل والصمت ويتعجب : هذا الشيء الذي يسد منافذ نفسي ان أخلص منه.
"محمد" يظل صامتا.لكأنه لا يفهم اللغط حوله "الروبيو" يبدأ الطنين. "محمد يتجاهل ، وأنا أتساهل (أحب الغناء ، الحزين عندما لا يكون غناء حقيقيا) ، وفعلا أصير أغني مع "الروبيو" الذي يبدأ نشيده المعهود ، ليلا، "محمد" يعرف ذلك وينساه. "الروبيو" يهجم عليه ، رافعا قبضتيه تذكرنا واخا. تنكرنا واخا.
زنقة "خالد بن الوليد" ، أصعدها حتى الفم. اختار ركنا قصيا فيها. استند بهدوء على الحديد البارد. لصقي امرأة صغيرة الحجم ، تستند ، هي الأخرى عليه ، امرأة سمراء. سوداء، زيتية البشرة ثوبها أصفر منقط بالأبيض المدور والمحصور. انفها عدل مستقيم ، عيونها سود لامعة. حذاؤها ذهبي أبرق. لا تلبس جوارب. تضع كفها حاجزا بين ردفها والحديد، ومثلي تنظر شذرا في الناس.
امرأة وحيدة في طنجة ، رجل وحيد فيها. انظر اليها. تنظر الى الناس. تنظر الى. انظر الى الليل الطنجاوي الهاجم (الليل الذي كنت أراه يتعجل المجيء لسبب لم أكن أدركه بعد). أكاد أراها تضحك وهي تحرك برقة قدميها. تلمهما ، بعد أن باعدتهما باغراء. تحسهما بطنا ببطن وكأنها تلعب بهما لعبة الليل. تفعل ذلك وهي تنظر قبلي ، وأنا أنظر قلبها: قلب طنجة الذي بدأ يظلم ، الآن. اكتشف (بلا قصد) سواد الجمع الغاطس في المساء: جمع الصبية والعصافير. أتعمد الا أفكر. أريد أن أخلو قليلا الى نفسي (قبل الرحيل ). لكن الجسد الصغير الملاصق لي لا يحل عني استدير عنه قليلا لأتحاشاه ، أقع على البشر المتمرغين في القاع. بشر صار يستثيرني بعمق. أريد أن أراه بشكل أفضل. لكن المرأة الصغيرة لا تكف عن الحركة ، لصقي. تهزني وهي تتحرك متفقدة أعضاءها (وكأنها ضيعت عضوا منها). تتفقد بلوعة أقدامها المدحوسة في الجلد، أوراكها المستورة (بالكاد) بالقماش. شعرها المفلوت بعناية. زنديها اللذين بدأ الارتعاش البارد يغزوهما ، كفها الفاصل بين ردفها والحديد.. و…
بتصميم أمشي. أمشي وحيدا. أخلف المرأة الصغيرة في ركنها القصي ، وحيدة المرأة الصفراء في ليل طنجة الأصفر: المرأة الشهية في الساحة البهية.
زنقة بعد زنقة أمشيها طنجة.
أحاذي القصبة في الليل. أرى البحر البعيد، الناس القريبين ، الأشجار المختنقة في العمق الأثواب المطروحة على الأرض باهمال. الأضواء الهباء التي تلون الصور الثلاث. الوجوم القاهر الذي يكاد أن يكون معديا: وجوم البؤس الصارم والاستياء ، العميق (أي هم ينهمر على المدينة
والليل ؟) الزنقات تتوالى. الزنقة الأخيرة قادتني الى "مقهى باريس
الكبير". أتوقف قبل الولوج أحسني غريبا. يعكر مزاجي (المعكر أصلا) مرأى الأثواب الزاهية. الأقمشة الموشاة. وجوه الحسان المزيفة الألوان. الحركات المغرضة الناعمة محافظ الجلد اللامعة سحن الرجال اكلس. لا.
لا أدخل "مقهى باريس الكبير" أعود القهقرى الى الساحة.
فيها أحسني في مكاني. في الساحة كل شيء يلتصق بكل شيء (ثمة حياة أخرى في الساحة ) الناس ذوو الوجوه القاتمة النهمة يتعاركون ، فيها نظرا، بلا انقطاع. لكان حربا خفية تدور بينهم. حرب هي حرب الحياة الحقيقية. ومع ذلك تتلاصق أجسادهم بلا فواصل ، ولا يحملون لبعضهم ضغينة أو حقدا.
منهم من يظل واقفا على قدميه طيلة الوقت وكأن الوقوف المستمر عقوبة لا تبلغ حدها. ومنهم من يرتكي على القضبان ، أو يتكيء قرب امرأة تفوح الحرارة منها. منهم من يأخذ القاع بجسده كله وكأنا يحس عبرها بأجساد الآخرين جميعا.
ما أذهلني فيهم ، أنهم يتوجهون جنوبا وهم ينظرون بذهول ، وكأنهم يتهيأون لطيران بعيد. مثلهم ، أتدلى على أطراف الحديد المستوي كالسيف. أغمض عيني عن الأضواء. ولا أعود أسمع في البعيد سوى الصوت : صوت البحر المتشاجر مع البر.
وأنا في الليل أحاول أن أستعيد النهار.
البارحة أخذني "مسعف " الى الجبل. أردت أن أرى سقوط الشمس الشرقية في العين الحمئة. سقطت في التراب. نصفها يضحك نصفها يبكي نصفها الآخر عكر ومكدور، صرت أصيح : "خذني الى البحر خذني." ضحك مسعف من فورة الجسد الطائشة عند الغروب ضحك ، ولم أضحك كانت الطبيعة تسحقني بين شقيها. صفرة حمراء كالدم الذي انهرت منذ ثوان تخيم على الفضاء الغربي. وسمار فضي باهت يملأ الأفق الشرقي. وأنا بينهما أتشظى. قلت انظر. الجنوب وفعلا نظرت. وسد نظري "مسعف " وهو يميل. يميل ليلتقط شذرات الضوء الهارب من الشمس والساقط تحت أقدامنا في التراب.
أترك "مسعفا" وأعود الى الناس. ماذا تعني الطبيعة بلا وجوه ؟ والريح بلا حركة ؟ والغروب بلا فوران عميق ؟
أعود اليهم عجلا وشغوفا : هذا الوجه أعرفه. وهذا أيضا. والرجل الأعرج، ذاك وهذا الناحل المضطرب الساقين. والهيكل الممصوص هذا. والمرأة البدينة التي تهتز دون أن تمشي ، هذه ، لكأنها امرأة "سوق ساروجة " القعيدة تلك التي كانت تهز ثدييها كلما مررنا بالقرب منها، وتلمس ، تحت شمس ،"دمشق " الحارقة ردفيها ، وهي تنظر أواسط الرجال. وهذا الذاهل عما يحيط به (من خير وضير) ألم أره من قبل في "الحجاز"؟ والرجل _ النصف ، هذا ، المخبيء حاله في كيس يسحبه تحت اليتيه ، هو بلاشك ، "رجل الموجة " في الشام. وهذا الذي يغير هيئته كل آن ، أو ليس هو العبان "باب مصلى " في "الميدان "؟ وهؤلاء الصبية المتسابقون هونا ، هونا، أمازالوا يجرون في ضواحي "المزة " ، يتصيدون ، باهتمام بالغ ذباب الساقية المليئة بالنتن ، مالئين أكياسهم المطاطية من ضفادعها الكسيحة ومن أسماعها المشوهة ذات الأجنحة الآخذة بالتآكل؟
هذا كله ، ممكن وغير ممكن في الوقت نفسه لكن الرجل الكسيح هذا ، الزاحف ، بخف ،على مؤخر ته المحمية بالجلد والمطاط ، هذا الكائن ، لا يمكن ، أبدا أن يكون أحدا آخر غير كسيح "باب توما " اللئيم.
ركب الماء ، ركب الهواء ، جاء زحفا ، جاء لحف جاء لا أدري،. لكنه هو الكسيح القديم نفسه ، ذو العيون العدائية الساخطة ، والفم الشهواني المكتوم: الرجل المأزوم. بد قليل أترك طنجة.
أتركها نهائيا ، كما تركت الشام. لا. لا أريد أن أعود الى التعبة ، من جديد. قلبي ط وجوه الناس البؤساه. نظرات الأطفال الجوعي. ظهور الرجال المثقلة بالملل والانتظار النسوة المتمهلات في سيرهن ، وكأنهن يبحثن ، معي عن ذلك الشي ء الذي يزعج المدينة ، ويؤذيها..
نسوة عجان، متسربلات ، ثلاثا ، ثلاثا. أقاربهن حتى اللماس.معهن ، انظر للقي الذي لازال دانيا. قمر طنجة الأحمر البطيء ، الذي بدأ (للتو) يشق البهمة التي أخذت تحيط بالأرض.
فجأة أترك اللجة حولي. وأقصد الجبل. الجبل الذي لم يكن مقابلا لجبل طارق ولا تابعا له جبل الجبال العالي. أريد أن أرى وأدرك (وهل ثمة ادراك بلا حركة ؟)
وكأن أحدا يسوقني بعصا سحرية أرحب الموج الذي يبدأ ابتعاده اللامتناهي. اتبع أحصنة الضوء المتطاردة في الفضاء. اقطع البحر الذي يوصل البحر باليابسة ، واليابسة بالبحر الآخر، بحر طنجة الثاني الذي يوصل بر "دمشق " ببحرها. أجمع البرين والبحرين ، وأنا أنظر بامعان. انظر في لحل شيء باحثا عن كل شيء.
بلى ، هذه الطريق الصاعدة بتكاسل هي طريق الشام القديمة ، نف مها، وهذه الدروب المنحدرة الى المجهول هي دروب الشام المنصلقة من الجبل الى الوادي. وأكوام القمامة السود المتراكمة ، هذه. والحفر المتعاقبة بانتظام يفقد العقل توازنه وحواف الطرق المكسرة. وبطونها المبتورة ، والجادات المهشمة. هي ، هي (لكأني لم أترك الشام ، أبدا).
وذاك الانبساط الأرضي الفسيح ، المحاط ، قليلا بالتلال وبالوديان ، قليلا والذي تهيمن عليا الأكمات الخضر ، الزرق الفيروزية ، هو، نفسه ، الانبساط القديم الذي يفصل.
"الشام " عن "حوران ".
و"الجزيرة "عن "حلب ".
و" حمص " عن "حماة ".
والريح عم مداه.
خليل النعيمي ( روائي وطبيب جراح يقيم في باريس)