على هيئة لم أرهم فيها من قبل، اندفعوا نحو مكتبي، يحجلون على عكازاتهم حجلا رشيقا متواترا،تسبقهم بهجتهم، ويلحق بهم رنين عكازاتهم المعدنية، متدافعين كأنما يسعى كل منهم للفوز بإبلاغي النبأ: "تخرجنا أستاذ.. تخرجنا".
– مبروك ألف مبروك.
قلت وأنا أنهض اليهم مصافحا معانقا، ثم أنخرط معهم في أحاديث عن أيام مضت، رحلات قمنا بها، مباريات خضناها، وكذا شقاوات كثيرة ارتكبوها وجهود بذلتها لدى الإدارة فأثمر بعضها وخاب بعضها من دون أن يكفوا، أو أكف، لكأنما وجدنا في المعهد معا كي يخطئوا على الدوام وكي أتورط في تبرير أخطائهم لدى الإدارة على الدوام أيضا!
من رحم اللغط انبثق صوت أحدهم:
– بدنا نتصور معك استاذ..
– طبعا! أقل منها؟!
أجبته، ثم هممت معهم نحو حديقة المعهد في الطرف الآخر منه.
وفيما راحوا يمضون باشتهاء الوصول وأنا أمضي خلفهم متأملا عكازاتهم وهي تشتبك مثل أفرع غابة كثيفة ساحبة أرجلهم التي بدت، على وهنها وهزالها، عازمة مريدة… عاودتني حميتهم أيام كانوا يلحون علي كي أحكم مبارياتهم في كرة القدم، أو مسابقاتهم في الجري، أو منافساتهم في تسلق الأشجار أو صعود التلال التي كنا نصادفها في رحلاتنا.
رحلاتنا؟ لا شي ء كان أحب منها اليهم، وأعجب منها لدي!
فما أن يتقرر موعد رحلة حتى يتغلغل نشاط النحل في أبدانهم: يهيئون كرات القدم.. يتفحصون قطع الجلود أسفل عكاكيزهم.. يلفون حبال التسلق.. يحتذون نعالهم الرياضية ثم يأتلقون بضياء غريب على بوابتي الحافلة كأنما انفكوا، للتو، من أسر مديد!
فشلي – داخل المعهد وفي الرحلات خارجة – في إقناعهم بلعب الشطرنج أو التباري بالأشعار أو معرفة عواصم الدول، حيرني حقا! فما أكاد أعرض عليهم حتى يهبوا الى ابداء امتعاضهم واستيائهم بنبرة رجاء، فاذا ما عاندتهم وعنت تذرعوا بشتى الذرائع ليتنصلوا مني، مختلين بألعابهم الأثيرة لديهم بعيدا عن وصايتي الى أن ألحق بهم وأنخرط معهم ممتثلا مستسلما!
وفي حمأة اللعب، وضجيج المتعة، وشهوة العكاكيز، بت -أنا أيضا – أؤثر ألعابهم الحيية على ألعابي البليدة المقترحة، مما جعلني أسهو تماما عن معوقات أبدانهم، فأغضب بجد إثر تمريرة خاطئة للكرة، وأتبرم من تباطؤ أحدهم في الجري، وأنبر بحدة على متردد في صعود تلة !!
ولا أدري حتى الساعة لم لم يعترضوا يوما، أو يلفتوني بكلمة أو بإشارة حين كنت أغالي وأتمادى في تصرفاتي فأصرخ محتجا أو أقوم بفصل المتكاسل منهم، أو أتهددهم بالتخلي عن التحكيم.. بل على العكس، كانوا يثنون على احتجاجي ويصادقون على تهديدي، حافزين بعضهم بعضا أو لائمين !
واذ أمضي الآن خلفهم، وهم يحجلون بهمة أبدى ونشاط أظهر.. يحز في قلبي شعور بالغ الأسى بذنب لم يعد بإمكاني التكفير عنه أبدا: "لقد جرت عليهم كثيرا وقسوت. لكأنني عميت عن عذر إعاقاتهم طوال عامين مضيا، وأبصرتها الآن !".
وما كنت لأبلى من أساي النازف لولا أن باغتوني في الحديقة بما لم أعهده فيهم يوما، ولا خطر لي على بال أن يفعلوه ! كانت الحديقة قد بسطت أرضها بانتظارنا.
اقترحت: «أصوركم كخريجين أولا، ثم أتصور معكم» واتخذت من جذع شجرة متكأ ريثما ينتظمون في وقفتهم.
رغم اعتيادي تأخر استقرارهم كلما اجتمعنا في فسحة أو قاعة، إلا أن تقلقلهم زاد عن مألوفه وهو ما رابني في وضعهم !
طفقوا يحومون في المكان، وحول أنفسهم. يداورون. يلوبون كمن فقد شيئا ثمينا. وثبوا وحجلوا من حيز الى آخر. تقاربوا، هامسين مهمهمين،ثم تفرقوا متبادلين الأماكن. شد بعضهم أبدان بعضهم وتراصوا، مستعينين بأيديهم في رفع أرجلهم وتثبيتها وقد اتخذت وجوههم هيئة جد محيرة ووشت ملامحهم باجهادنا بهم.
نبرت مستاء: «خلصنا يا شباب !» غير أنهم، لغاية لم أدركها وقتها، عاجلوني برجاءات متكررة: «لحظة أستاذ..لحظة أرجوك..» وتابعوا بهمة أكبر، من غير التفات الي، شد صفوفهم وتعشيق أبدانهم تعشيقا قويا محكما!
بصوت واحد، بعد تبادل للنظر خاطف، ندهوا:
– صور أستاذ.. صور.
ثم استتب سكون كثيف لكأنما غادروا المكان.
رفعت الآلة الى عيني فبدوا أسرى خط المربع الأصفر، ناهدي الصدور، تشخص أبصارهم نحو أفق بعيد.
– انتبهوا..
لم تطرف عين.
– سأعد: واحد.. اثنان..
بلمحة، قبل أن أثلث، رمت الحديقة عنها انبساطها، وارتجت الأرض تحت قدمي،اثر قيامهم في حركة سريعة عازمة، بدفع العكاكيز بعيدا عن أبدانهم، لتهوي بدورها محدثة دجات متراكبة، فيما انفلق خط المربع الأصفر متبعثرا جراء ارتفاع أياديهم بأوراق شهادات تخرجهم التي بدت، في تذبذبها ورفاتها، أجنحة طيور بيضاء تهم لتوها في الطيران.
ـــــــــــــــــــــ
القصة الاولى من قصتين تحملان العنوان ذاته
ابراهيم صموئيل (كاتب من سوريا)