*جلال برجس
شاعر وروائي أردني
ذهلَ حين رأى، وهو يجلس في الشرفة، كلبه الذي نَفَقَ قبل أعوام. كان ضخمًا يفوق حجمه المنازل، يمشي في الحي، وينهش البنايات كأنها قطعة بسكويت طرية، ويأكلها، من دون أن ينتبه أحدٌ إلى ما يفعل. ألقى هاتفه النقال جانبًا، وفرك عينيه بباطن يده، ثم عاد يحدّق بالشارع، ولم يجد شيئًا. اعتقد أن ما حدث له، جراء مشاهدته ليلة البارحة لأحد أفلام الرعب، أو بسبب عمله الذي صار يقلقه مؤخرًا. لكنه استغرب ما رأى. قال في سره بعد أن نهض، وراح يمشي في الشرفة، متوترًا: (تبًّا للخيال الذي تقدمه الأفلام. لا بد أني أتخيل، ولا بد أن سببًا وراء ما تخيلت، والدليل على ذلك أن ما من أحد انتبه لما يقوم به كلبي الوفي، الطيب، بهذه الصورة المتوحشة؟).
مر أسبوع، ونسي الرجل ذلك المشهد المرعب، لكنه هاجمه من جديد، وهو يرخي رأسه على مسند الكرسي في عمله في دائرة ضريبة الدخل، ينظر بلا تركيز بشيء خلال النافذة. نهض من وراء طاولته مضطربًا، وهرع نحو النافذة. رأى كلبه يقوم بفعلته ذاتها، وحين وجده يلتقط أحد المارة، وتهيأ لالتهامه؛ أسرع بالخروج وهو يرتطم بكل ما يعترضه، إلى أن وصل رصيف الشارع الذي أقيم عليه مقر عمله؛ فوجد كل شيء على حاله، خاصة حين مر بقربه الرجل الذي كان الكلب على أهبة التهامه، وألقى عليه السلام بعد أن رآه يحدق به باهتمام غريب. كان يلهث، وهو يلتفت يمينًا، وشمالًا، بينما زملاؤه عبر النافذة ينظرون إليه، يحاولون فهم سلوكه الغريب.
في المساء لاحظت زوجته شروده، لكنه لم يخبرها بشيء. حين سألته عما به؛ غادر منزله، والتقى صديقًا، وباح له بما يقلقه؛ فنصحه بمراجعة طبيب نفسي. وبالفعل قام الرجل بذلك، لكنه حين قرأ عما تسببه تلك العقاقير، التي وصفت له، من متاعب صحية، ألقى بها في حاوية القمامة قبل أن يصل البيت. ورأى أن تشخيص الطبيب لحالته بالذهان، تشخيص خاطئ؛ إذ إنه رجل هادئ، لا يعاني من أي متاعب اجتماعية، أو صحية، أو مالية، سوى أنه بات غير مقتنع بعمله، في دائرة ضريبة الدخل.
بات مشهد الكلب يتكرر كثيرًا، لذا أخذت حالته النفسية تستاء أكثر من ذي قبل. رآه مرة أخرى وهو يقف في المطبخ يشرب الماء في منتصف ليلة حرمه فيها الأرق من النوم، حينها أصابه شعور عارم بالغضب؛ فضرب الكأس بالحائط. نهضت زوجته فزعة من نومها، ورأت شظايا الزجاج، ووجهه المحتقن. أصرت على أن تعرف ما يعانيه؛ فأخبرها. ليلتها شعر بأن تهشيمه للكأس قد أراحه، وما رأى الكلب مرة أخرى؛ إذ نام مرتاحًا. لكنه خشي أن يعاوده المشهد في اليوم التالي، لهذا هبط صباحًا، قبل أن يذهب إلى عمله، إلى مستودع أسفل البناية، يحمل عبوات زجاجية فارغة، وهشَّم عددًا منها. كان مع تطاير شظايا كل زجاجة يحس بنهر يتدفق في دواخله، يمر عبر حقل معشوشب، تشرق من ورائه شمس دافئة. وابتداء من ذلك اليوم ما عاد يرى كلبه النافق؛ فقد التزم بعادته السرية يوميّا، وراح يحتفي بالحياة من وراء ابتسامته العريضة. بعد أشهر، عاودته رؤية كلبه فجأة، وما تبقى لعادته السرية أثر سوى رؤيته لشظايا زجاج تتناثر على جبين الجدار. اعتقد أن عليه استخدام المزيد من الزجاج؛ لهذا هشم كلَّ ما لديه من عبوات فارغة، وحين لم ينل ذلك الأثر المريح، حمل، على مرأى من زوجته، كل أواني البيت الزجاجية، وراح يهشمها، من دون أن يحدث شيء إلى أن نفدت؛ فالتقط عصًا، وأخذ يهشم زجاج النوافذ، والأبواب، وأي شيء زجاجي يقع عليه بصره، ثم هرع نحو سيارته، وهشم زجاجها، بلا اكتراث بصراخ زوجته المفزوعة. مع هذا لم يحدث شيء؛ فتهاوى أرضًا. كانت السماء في تلك اللحظات قد شجت قميصها للتو؛ فانداح المطر بغزارة، بينما الرجل غارق في حزنه، يرخي رأسه على ركبتيه، ينصت لصوت ناي حزين يأتي من زاوية الشارع، ينفخ فيه رجل يسند ظهره على الجدار، ومن خلفه يتلذذ الكلب بالتهام البنايات، والناس، والأشجار، وحتى الطيور التي تفر هاربة من بطشه.