تنطلق الدراسة في هذه الرواية من اطروحة المسافات، وهذه الاطروحة تعني عندي: مجموعة من الفواصل بين الأنا والآخر، أو مجموعة من الحواجز التي تفصل بين رؤية ورؤية، أو بين تصور. تبدو الرواية – من خلال قراءة افقية – إنها من النوع الاجتماعي، بفضل ما تكشف عنه من صراعات، بين شخصيات تنتمي الى عدة شرائح اجتماعية، تتآلف وتتباين في الطموحات والأحلام. يتم ذلك في لحظات زمانية تشهد تحولا في التوجهات السلوكية والثقافية. ان هذه الصراعات تتم في مرحلة حساسة من حياة الانسان، التي تشهد نوعا من التحول والتطور في كل القيم، ومن صفات هذه الصراعات أنها غير متكافئة وغير متوازنة، مما سيؤدي بأصحابها جميعا الى الهزيمة والسقوط في النهاية. لكن الى جانب هذه القراءة الأفقية، هناك قراءة أخرى عمودية، تدفع بالقارئ الى السمو بحدثها الى المستوى الانساني، بفضل شمولية رؤية كاتبها، وتقنية بنائها الفني المتميز. لقد عودنا سعود المظفر، في جل رواياته المنشورة، أن ينوع في أساليب التقنية الروائية، ونظم بنائها الفني، وتكفي الاشارة هنا، الى رواياته الثلاث: المعلم عبدالرزاق، ورمال وجليد، والشيخ، فهذه الروايات الثلاث، تمتاز بصراع شخصياتها التي تنتمي الى عدة شراع اجتماعية وفكرية ونفسية، كما انها تمتاز أيضا بروح الانسجام وفق منطق الكتابة الروائية، ونمو الحدث وسيرورته في النص الروائي، وأيضا باعتماد عنصر الاحلام بشكل مكثف للكشف عن حالة او موقف، في اطار جزئي او كلي للشخصية، سواء أعانت هذه الشخصية محورية أم ثانوية في النص الروائي. ثم ان هناك شيئا آخر، ينبغي ان نثير اليه، وهو أن الكاتب: يشعر معه القارئ: ان جميع أعماله الروائية يستغرقها هم واحد، وتجمعها رؤيا واحدة، فالكاتب في كل رواية يعالج مشكلا له علاقة بمشاكل رواياته السابقة، وكأن ما يريد الكشف عنه، يظل يهرب منه باستمرار، ولا يستسلم له بسهولة. هكذا تظل كل كتابة جديدة مرتبطة بكتاباته السابقة. ان الانسان الذي يعيش التمزق في مرحلة انتقالية حاسمة، هو العصب الأساسي في لحمة الحدث الروائي. وفي هذا الاطار العام يمكن ان نقرأ رواية سعود المظفر: "عاطفة محبوسة". اننا في هذه الرواية نصطدم بمجموعة من الاحداث تنطلق من أمكنة محددة، وتقع في لحظات زمانية معينة، وتجري في مجتمع انساني يعيش مرحلة انتقالية مسبة، حيث تحتدم انواع من الصراعات بين قيم اجتماعية وثقافية وفكرية واقتصادية، ويمكن حصر انواع هذه الصراعات في صنفين اثنين: صنف لفئة تحاول الابقاء على المألوف والمعتاد، وعنف آخر لفئة تنشد التغيير في ضوء ما تتطلبه الحياة الجديدة، وما يفرضه منطق التطور والتقدم. فنحن نلتقي – منذ البداية – بثلاث شخصيات رئيسية: سعيد، ووليد وغالية.. تدخل فيما بينها في علاقات معقدة سلوكا وتوجها وثقافة وحلما. تنتمي هذه الشخصيات جميعها الى عالم الشركات والمال، من خلال ما تؤديها من وظائف تتفاوت في الدرجة والمنصب.. ولكن بعضها كانت له هواياته الفردية التي تكمل شخصيته الاجتماعية. فسعيد كان الى جانب وظيفته الادارية في الشركة شاعرا. وغالية ايضا كانت رسامة، تقيم بين الحين والآخر معارض لرسوماتها المتميزة. سعيد هو نائب المدير العام في أحدى الشركات المالية، وهو الى جانب ذلك كان شاعرا، يحب الحياة ويقبل عليها بقوة، الى ان توفيت زوجته، بسبب حادث طارئ في المنزل، فتغيرت حياته رأسا على عقب، حيث اصبر لا يعيش الا للحزن والوحدة والصمت، لقد انقطع في منزله المطل على البحر، يقضي في شرفته معظم وقته تحت أضواء القمر. حاولت أمه ان تختار له أكثر من فتاة للزواج بها، ولكنه كان يرفض، وتحت الالحاح الشديد قبل عرضا لزيارة أحدى العائلات الدبلوماسية مع عائلته، لطلب يد ابنتها التي كانت تحب ركوب الخيل والتمثيل على خشبة مسرح أحدى المدارس الخاصة ولكن العرض لم ينته الى نتيجة، فيعود الى حزنه ووحدته. وتوالت الايام بشكل روتيني الى ان التقى بغالية التي هزت كيانه، كانت قصة اللقاء بينهما مثيرة، كان سعيد مكلفا من قبل مدير عام شركته لمراعاة حفل افتتاح معرض لرسومات اقامته غالية. وفي هذا المعرض أثارت انتباهه لوحة فنية، بدا له من خلال ظلالها وابعادها انها تمثل، "ولادة الكون، او بداية الأشياء"، ولكنه لاحظ بعد ذلك لونا من المسافات التي تفصل بين الظلال وأبعاد هذه اللوحة، مما دفع سعيدا الى الاستفسار عن معاني هذه المسافات. عرف سعيد على لسان غالية أن هذه المسافات "عاطفية غير مرئية للأشياء.. فكل شيء بينه وبين الشيء الآخر مسافة.. انسانا كان أو جمادا" (ص 223). "ما معنى هذه المسافات التي تحدثت عنها؟- يقول سعيد وهو يحاور نفسه – أتهني ما بيني وبينها؟ أهذا هو شعورها؟ إذا كان كذلك فهو عكس شعوري.. ان شعوري يريد أن يندمج مع انسان آخر، هي تتكلم عن المسافات وأنا أريد طمس تلك المسافات.." (ص 224)
لقد شعر سعيد – منذ هذا اللقاء الاول – ان ولادة لشيء ما قد بدأت. أما غالية الشخصية الرئيسية الثانية في النص الروائي، فهي أيضا موظفة في أحدى الشركات المالية. كانت محترمة لدى رئيسها، وزملائها في العمل، لجديتها وتفانيها في العمل. وكانت الى جانب وظيفتها الادارية رسامة مبدعة. كانت غالية طموحة أكثر من اللازم، وتود أن تحقق شيئا في حياتها، ولكنها – حسبما يبدو- كانت في حاجة الى من يأخذ بيدها، ويشجعها، ويقدر عملها الفني. ولذلك كانت ترى في سعيد الرجل الذي يفهم بعمق اسرار ابداعاتها الفنية، كان سعيد يقول لها في اكثر من مناسبة: "إن الرجل القوي يكون قوة دافعة للمرأة.. الرجل القوي هو الذي يدفع بها الى أعلى المراتب.. الرجل القوي هو الذي يشعر المرأة بأنها مكملة له.. الغريب أن الرجل المتعلم أحيانا يكون أقسى من الجاهل على المرأة " (ص 211لم 212)..
وتبقى الشخصية الثالثة في النص الروائي، وهي شخصية وليد التي تمتاز بمواصفات مختلفة. يتعرف القارئ الى وليد، أثناء تسارع الأحداث، بكونه موظفا في أحدى الشركات بالمدينة، وخطيبا لغالية ثم زوجا لها بعد ذلك. ومن خلال سلوكا وأسلوب تفكيره وخاصة مع غالية، يكتشف القارئ أدق الجزئيات في شخصيته القلقة وغير السوية.. كان يحب غالية.. هكذا قالت غالية عنه قبل الزواج بها: "كان يعدها بجنة زوجية وردية" (ص 291لم. ولكن هذه الجنة الزوجية الوردية ستتحول الى جحيم بعد أسابيع قليلة من الزواج. كان يشرب بلا انقطاع، ويعيش مع اصدقائه أكثر مما يعيش مع زوجته.. كان لا يعود الى بيته الا في وقت متأخر، تسبقه رائحة الخمر التي تملأ أرجاء البيت.. حاولت غالية ان تذكره بالوعود المعسولة، وبالجنة الموعودة، ولكنها لم تفلح في ردعه.. كان يقول لها دائما: "أنا زوجك.. أنا رجل.. أنا أفعل ما أريد.. الزوجة ليس لها الا البيت.. الرجل سيد كل شيء.." (ص 292). ولم يكن اصدقاء وليد يختلفون عنه. كان أغلبهم من طينة وليد وفكره وسلوكه وموقفه من المرأة. لنستمع الى أحدهم وهو يقول: "الزوجة هي الزوجة، ولا تعطها أكثر من هذا المعنى.. أعني أن الزوجة لها البيت والأولاد.. وأما الرجل فهو سيد كل شيء.. فمثلا أنا متزوج بامرأتين، لكن كل واحدة تمشي على الشخط!" (ص 301).
هذا هو وليد، وهؤلاء هم أصدقاؤه، وتلكم هي الأفكار التي كانوا يحملونها عن المرأة! وأكثر من هذا، ان وليدا كان يعمد في أغلب الأحيان – الى اقامة حفلات الشراب لأصدقائه في بيت الزوجية، كما كان يحضر باستمرار حفلات ماجنة مع فتيات آسيويات، يستغللنه أبشع استغلال بل وأكثر من هذا وجدناه يقدم على الزواج من احداهن سرا. كانت غالية – في خضم حياتها الزوجية – تشعر بخيبة أمل حقا، ولكنها لم تكن من النوع الذي يستسلم بسهولة. كانت تتصرف برزانة وحكمة وعفة وتسامح، كانت تغفر لوليد كل أخطائه، حينما يعود اليها نادما يطلب منها العفو والصفح.. لم تكن ترفع صوتها عليه، كانت مثالا للزوجة الناضجة بالرغم من أنها كانت تعرف وليد جيدا، وتدرك ان ندمه لا يستمر غير ليلة أو ليلتين. وفي أحدى الليالي يعود وليد متأخرا الى البيت، كعادته دائما، تسبقه رائحة الخمر، وأخذ ينادي عليها بصوت عال. كانت غالية في مرسمها، تحاور رسوماتها الصامتة، لم تنتبه اليه، ولكنه حين بدأ يقترب منها رويدا رويدا: "يخطو بخطوات متثاقلة وسريعة تشبه خطوات حيوان ضخم " (ص 291).- دخل وليد في حوار صاخب معها، وبعد لحظة انقض عليها صفعا وركلا ورفسا، الى ان غابت عن وعيها. ولم تسترجع وعيها الا بعد أيام، حين وجدت نفسها داخل مصحة للأمراض النفسية.. زارها وليد وعلى وجهه علامات الحزن والندم، ولكن غالية لم تحفل به.. حتى اعتقد الجميع أن غالية انتهت فعلا الى الجنون! ظلت صامتة وقتا ليس بالقصير، كما ظلت تعاني من نوبات الصرع شهورا طويلة.. ولم تسترجع بعض عانيتها الا في الوقت الذي سمعت فيه بخبر موت وليد في حادث سير وهو في حالة سكر! وتخرج غالية من المصحة النفسية، وتعود الى عملها بعد خمس سنوات من عذاب الحياة الزوجية، وتلتقي مع سعيد مرة أخرى، وينصب هم سعيد بعد هذا اللقاء على شيء واحد، وهو كيف يستطيع اعادة غالية الى حياتها الطبيعية، وكيف يجعلها تتخلص من نوباتها العصبية، ويعود بها الى حياة المرسم من جديد. لقد استطاع سعيد العودة بها فعلا الى حياتها الطبيعية، بعد ان قدم لها جميع أنواع المساعدات وأعانها على اقامة معرض لها في جناح خاص من منزله. وكان من بين المعروضات لوحة فنية رسمتها تحمل عنوان: تجديد الحياة. واللوحة الفنية تمثل في الواقع: "شمسا بازغة محمولة بين كفي امرأة، عروقها بارزة وداعية في وسط قرص الشمس.. وتبدو بخفاء وسرية ملامح وجه سعيد" (ص ) 51).
هذه هي الشخصيات الرئيسية في رواية "عاطفة محبوسة"، وهي جميعها ينتهي بها المطاف الى الهزيمة والسقوط ثقافة وفكرا وسلوكا: فغالية قادها اختيارها لوليد كزوج لها الى مستشفى الأمراض النفسية بعد خس سنوات من حياة زوجية فاشلة. ووليد ينتهى به المطاف الى الموت، بسبب حادث سير وهو في حالة سكر. وسعيد- كما سنرى بعد قليل – سينقطع الى صمته وعزلته في غرفة منزله المطل على الشاطئ، ليعيش حياته في الصمت والتمزق الفكري. أما اذا أضفنا الى هذا كله، الشخصيات الهامشية، المتمثلة في زوجة الجنرال الانجليزي (جوليان ) والخدم الآسيويين والخادمات الآسيويات، وحليمة صديقة غالية، فاننا نقف حقا على قمة المفارقات في القيم المتصارعة، وهي كلها قادت أصحابها الى الخيبة والهزيمة والسقوط.. فها هي (جوليان) المرأة الأوروبية، تدخل في علاقات مكشوفة مع سعيد قبل زواجه، وبعد موت زوجته.(ص228). وهؤلاء الآسيويات، لا شغل لهن الا ان يرمين بشباكهن على الرجال. ولم ينه منهن حتى وليد زوج غالية، فقد حاولت احداهن الزواج به سرا، طمعا في ماله. تقول أحدى الآسيويات وهي توصي صديقتها باستغلال وليد وابتزازه: "استغليه.. انتهزي هذه الفرصة.. كوني ثروة منه، اسمحي له بما يريد، وخذي منه ما تريدين!" (ص 402).
وهذه حليمة صديقة غالية، وهي غير متزوجة، لا تفارق السيجارة فمها، وجدناها تكره الزواج بل وتخاف منه ومن عواقبه، بسبب ما عرفته من مشاكل عن أختها من زوج يضربها باستمرار ويركلها لاتفه الأسباب، وقد نصحتها بالطلاق منه، ولكن الزوجة المسكينة كانت تخاف أن يأخذ منها أولادها (372).
تلكم هي القراءة الأفقية لرواية عاطفة محبوسة، وهي قائمة على هذا الصراع بين القيم المختلفة في مجتمع يعيش مرحلة انتقالية صعبة، وهذا الصراع لم يكن ليهدأ في هذا الوسط الاجتماعي، وهو يأخذ اشكالا مختلفة حسب المواقف والحالات، والطموحات والاحلام، وقد انتهى هذا الصراع بأصحابه – كما أشرنا- الى الخيبة والسقوط والهزيمة. الى جانب هذه القراءة الافقية هناك قراءة أخرى عمودية ترمي الى اختراق الافق الاجتماعي، وتسمو بالحدث الروائي الى مستواه الانساني العام. وهذا المستوى هو الذي يجذر العمل الروائي، ويكشف عن عمل الابداع الروائي. فالأبداع يكمن في الخفي، وليس فيما يواجهك مباشرة، وفي بنية العمل العميقة وليس فيما يطفو على السطح. فالعمل اذا لم يجبر قارئه على الفرص الى ما هو أعمق، لا يعد عملا أدبيا. تنطلق القراءة العمودية في النص الروائي، من تلك المسافات التي أثارت انتباه البطل بين الظلال والألوان في أحدى لوحات غالية الفنية،(ص 223) مما دفعه الى طرح هذا السؤال: ماذا تعني غالية بهذه المسافات؟ "أتعني ما بيني وبينها؟ أهذا هو شعورها؟ اذا كان ذلك كذلك فهو عكس شعوري" (ص 224).
ان سعيدا شعر حقا بأن شيئا ما يشده الى غالية، ومع مرور الوقت سيجد فيها ملهمته، فلأول مرة يأخذه الحنين الى كتابة الشعر، بعد ان انقطع عن الكتابة الشعرية منذ وفاة زوجته، وتتزوج غالية ومع ذلك تظل ملهمته عن بعد، فهو لم ينسها، ولم يشعر انه بعيد عنها، ولذلك وجدناه يقف الى جانبها في محنتها، محاولا العودة بها الى حياتها الطبيعية بعد خروجها من المصحة النفسية.
كان من ضمن رسوماتها، التي عرضتها في أول نشاط لها بعد خروجها من المصحةرسمة تمثل "شمسا بازغة، محمولة بين كفي أنثى، عروقها بارزة وداعية، في قرص الشمس، تبدو بخفاء وسرية ملامح وجه سعيد" (ص 505).
فاللوحة بما تحمل من رمز، تنفي ذلك التباعد الذي كان بينها وبين سعيد. ولكن هذا النفي مازال مستقرا. لقد كان الحب بينهما خفيا، الى أن قالت له غالية ذات يوم: "إن صديقتي حليمة تقول: اننا مخلوقان لبعضنا" وأجابها سعيد: "هي صادقة في النظرة الظاهرية لعلاقاتنا.. اما سر علاقتنا فهي تجهله.. حليمة عواطفها عادية.. أما عواطفنا فسامية!" (ص 521) بل ان سعيدا في موقع آخر وجدناه يقول لها بصراحة: "الزواج صعب.. صعب يا غالية، لكنه غير مستحيل " (ص 522).
ها هنا نجد الحدث الروائي يأخذ مسرى آخر، بعد أن سمعت بصراحة هذه الجملة الروائية الأخيرة، ستنهار غالية، وستبكي كثيرا، وستحاول ان تنقطع وتنعزل في بيت أمها، ريثما تستجمع قواها من جديد لتواجه الحقيقة المرة. لماذا يخلق سعيد هذه المسافات بينه وبين غالية برفضه الزواج صراحة؟ ولقد كان سعيد في غمرة الرفض يتعذب ويتألم ويبكي. كانت غالية هي صاحبة فلسفة المسافات بين الأشياء، في الوقت الذي كان يسعى فيه سعيد الى طمس المسافات. أما الآن فان سعيدا هو صاحبها، بينما غالية تحاول طمسها. يقول سعيد: "كيف يتزوج الانسان سعادته؟" (ص.522).
فالزواج يعني قتلها والقضاء على غالية التي أحبها، "أنت يا غالية كالروح لعواطفي.. كيف أقتل سعادتي.. العلاقات الآن بين الناس عنيفة، حتى لو غلفت بابتسامات.. لا أريد أن أمتلك، بل أفتخر بك، وتكوني مفجرة لطاقاتي.. وتحمليني الى آفاق الكلمة.. ان روحي التي أعيش بها ستفنى، اما روحك فستبقى خالدة في أشعاري" (ص 522).
وفي هذا الجزء الأخير من الرواية، ينشط الحوار النفسي وتتأجج اللغة الروائية، وتتوهج المشاعر الانسانية. وينتقل القارئ من مفاجأة الى أخرى، خلال سير الحدث الروائي، ثم يفاجأ بعودة غالية الى سعيد في أحدى الليالي، وهي تحمل اليه آخر هدية منها اليه، طالبة منه الا يفتحها الا بعد مغادرتها اياه. كانت الهدية عبارة عن رسمة ملفوفة بعناية، أخذها بين يديا ثم همس بلا شعور: "رسمة زهور لم أر هذه الرسمة ضمن معروضات المعرض.. ما أجمل هذه الزهور!… ما هذه الزهرة الكبيرة؟ ان قلبها يحمل ملامح وجه غالية، ونظراتها فيها شوق خفي.. يا الهي! ان هذه الزهرة تكاد تتكلم.. أوه يا غالية، تأبين إلا أن تكوني معي دائما!": (ص 529). انه التواصل عبر الابداع والفن اذن، وليس عبر الزواج الفعلي ان سعيدا لا يريد غالية امرأة من لحم ودم، أو زوجة عادية يتملكها، وانما يريدها رسمة زهور، تحتضن تلك الزهرة الكبيرة، التي يحملها قلب غالية.. هكذا تتباعد المسافات في دنيا الواقع وتتقلص وتختفي في دنيا الابداع والفن. فسعود المظفر لم ينجح في نظري بموضوع هذه الرواية وانما بعملية بنائها ولغتها الروائية النامية من البسيط الى المعقد. ان أهم ما تمتاز به شخصيات الرواية هو هذا البناء الفني الذي يحكما منطق خفي، يجعل كل شخصية ينتهي بها المطاف الى الهزيمة والسقوط، نتيجة لما تحمله كل شخصية من عناصر سلبية، فوليد تتحكم فيه عناصر مرتبطة بتركيبته النفسية. انه فرع من شجرة منتمية الى وسط، أسباب المرض فيه أكثر من اسباب الصحة، وكذلك كان سعيد الذي يمتاز بأفق ثقافي واسع ويؤمن بالأفكار الجديدة، ولكنه هو أيضا لم يستطع التخلص من الموروث التقليدي السلبي الذي يشده الى الوراء. فهو بالرغم من ثقافته وسعة أفقه، وموقفه المتسامح مع المرأة، مازال يعتقد ان الزواج امتلاك شخص لشخص آخر: "لا اريد ان امتلكك، بل افتخر بك، وتكوني مفجرة لطاقاتي". ثم اننا نجد فيا شيئا من وليد، فهو لم يسلم من تلك العلاقات النسائية الشائنة. فلقد دخل في علاقات نسائية مشبوهة أكثر من مرة " مع جوليان زوجة الجنرال الانجليزي مثلا". وحليمة صديقة غالية التي لم تكن السيجارة تفارق فمها، كانت ترفض الزواج رفضا نهائيا، أما النساء الآسيويات،فهن جميعا يقوم دورهن على الابتزاز والاستغلال، والعمل بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة. انهن يبعن كل شيء من أجل جمع المال وتكوين الثروة. ثم ان الكاتب نجح الى حد كبير، في استغلال لغة الحلم، هذه اللغة التي تتوهج في النص الروائي حسب الحالات والمواقف. ان استغلال الحلم عامة في النص الروائي أعطى الرواية زخما فنيا، زاد في توهج عملية البناء الروائي. لنقف – مثلا – عند هذا النص الذي يصف ليلة زفاف غالية: "يشعر سعيد بقلبه وهو يدق على غير عادته.. ترى ماذا يحدث الآن.. فجأة ظهرت غرفة النوم مملوءة بضباب.. انبثقت من ذلك الضباب حورية ترتدي ثوب زفاف أحمر قانية.. غالية! كيف أتيت الى هنا؟ لا أعرف؟! شعرت أن روحي في حاجة الى روحك.. هربت عواطفي من الحبس.. وفجأة رن الهاتف المجاور.. اهتز الجسم المستند بتراخ، أغمض عينيه، ثم فتحهما.. كانت الغرفة غارقة في برودة..". فلغة الحلم تتلون بلون مشاعر النفس، والحورية التي بدت في الحلم، في ثوب أحمر قدن، تحمل أكثر من دلالة، ان الليلة لها علاقة بطقوس خاصة، ويزيدها اللون الأحمر القاني عمق عناها، أما غرفة النوم فهو يردها قد امتلأت بالضباب! ان الكاتب يترك فراغات كثيرة للقارئ، عليه ان يملأها. ثم انه ليس من باب المصادفة أن يرن الهاتف القادم من المستشفى في هذه الليلة، لينقل اليه خبر موت والده ان الحلم ها هنا، يجمع بين كثير من المفارقات، بين بهجة ليلة الزفاف وحزن سعيد، ثم بينها وبين موت والد سعيد!! كل شيء قابل للتحقق في عالم الحلم. وانظر كذلك الى حلم وليد الذي يحمل اكثر من دلالة في النص الروائي (ص 327): "..ثقلت جفونه، وببطء اختطفه النوم.. رأى نفسه راكضا في صحراء ذات عاصفة ترابية اجتازها، انقشعت العاصفة الترابية عن سراب يتفجر.. رأى شبح انسان يتخلق في ذلك السراب.. وقف مشدوها.. اقترب الشبح، ميز غالية في ثوب فضفاض أبيض، ميزها كأنها معلقة في جوف السراب. اقتربت منه، مادت الأرض من تحت قدميه، رأى نفسه يغوص، رفع ذراعيه مستنجدا.. كانت تحدق فيه بعينين زجاجيتين. ابتلعته الأرض حتى الرقبة. صرخ: غالية.. غالية! سمع صوته في جوفه يتردد، فجأة ابتلعته الأرض. فجأة قفز من فوق السرير لاهثا..!". ان لغة الحلم هنا، مشحونة بالرموز. بدا ذلك واضحا في الثوب الفضفاض الأبيض والعينين الزجاجيتين، وفي صورة غالية المعلقة في جوف السراب. ان توظيف لغة الحلم في هذه الرواية، هو الذي أعطى الرواية توهجها العميق، وجعلها متفردة ومتميزة عن كثير من روايات الكاتب. كانت اللغة الروائية في صورها العامة، عبارة عن اشارات ورموز، تكشف عن أبعاد رؤيا الكاتب وظلالها الايحائية.
أحمد الطريسي (ناقد وأكاديمي من المغرب)