يمثل سفر عبد الرحمن الأبنودي فصلاً فارقًا في ديوان شعر العامية المصرية، فقد استطاع عبد الرحمن الأبنودي أن يُقدم صياغة جديدة لشعر العامية المصرية، كتابة أخرى تتجاوز كتابات العامية السابقة عليه رغم قيمتها الكلاسيكية كنصوص تأسيسية لشعر عامية مصرية صاغها آباء العامية السابقين على الأبنودي كبيرم التونسي وصلاح جاهين وغيرهما. الأبنودي الذي نزل القاهرة، العاصمة، مع رفيقي حلمه الإبداعي القاص يحيى الطاهر عبدالله والشاعر أمل دنقل، قد اقتحم المدينة، المكان الذي لم يألف من قبل، بإقدام الفاتحين وتصميم «الجنوبي» على أن يحتل مكانًا متقدمًا في طليعة الصفوف.
تجاوز شعر الأبنودي الشكل الذي كان راسخًا لشعر العامية قبله، بما قام به من إعادة هندسة القصيد بتشييد معمار شعري يتجاوز البناء المحدود لشعر العامية المصرية الذي كان مكتفيًا بأغراض محدودة، كما كان تركيبها العضوي من وحدات قصيرة مهما كانت الروابط بينها.
اتسمت شعرية الأبنودي بنفس طويل لتراكيبه مع تنوع أسطره الشعرية بين الطول والقصر بحسب مقتضيات الأداء الدلالي، بعدما كانت الأسطر الشعرية في العامية تكاد تكون متساوية تفعيليًا في توال سيمتري، لقد حرر الأبنودي شعر العامية من قوالبه السابقة الثابتة، كما استغنى عما كان يعتمد عليه شعر العامية من وسائل البلاغة اللفظية والزخارف الشكلية التي كانت تتقدم المعنى في أولويات الصياغة، لقد كان حرص الأبنودي على المعنى والصور المشهدية أو تلك الصور ذات التجريد الرمزي أكثر من الصور الجزئية التقليدية وهو ما حرر بناءه الشعري- فيما عدا المرحلة الأخيرة في مشواره الإبداعي- من التقييد بشكل ثابت ومتساوٍ للأسطر الشعرية، فقد أصبح للكلمة في بنايات عبد الرحمن الأبنودي الشعرية الفاعلية الأهم والأولى في النسق التركيبي لتكون أسبق من الجملة، كما صار للجملة في فضاءات الأبنودي الشعرية ارتباط وثيق بغيرها من جمل النص في تلاحم عضوي وتفاعلي ارتباطي له وشائجه العلية بنسبة أعلى مما كان عليه شعر العامية قبل الأبنودي.
الارتباط بالأرض
مثلت الأرض مكونًا رئيسيًا وتيمة حاضرة في خطابات الأبنودي الشعرية لا سيما في كتابات البدايات، فالأرض هي الجذر الوجودي للذات الإنسانية ومنبتها، ليس فقط لمنشأ الأبنودي الريفي ولكن لما حملته تلك الفترة في أواخر الخمسينيات والستينيات من أيدلوجيات قومية توثق ارتباط الإنسان بمكانه، بالتوازي مع أيدلوجيات اشتراكية تندد بانتفاء عدالة اجتماعية في توزيع الثروات بالمجتمع واستلاب الفقراء كالفلاحين والعمال في حياتهم في ظل اختلال منظومة المال وتوزيعه على المواطنين، فيقول في قصيدة «حطب القطن» من ديوانه الأول «الأرض والعيال»:
إتناشر واد
حدفتهم ع الدنيا ليالي ما شافتش نهار.
قناديل مطفية ف عين الكون.
بتدخِّن عين والد مديون
قورتُه محروته بمحرات الزمن اللي حْييه
يسعل في الليل..
تتهز مع سعاله آخر شعره ماسكه دماغه.
حاضن بعينه وصدره الموضوع:
«القطن خلاص حيموت م الجوع..»
حيموت القطن
لو ما تفكش هوَّه وقام لاجل يفك الرهن.
وتنوح ع البعد سواقي
وراها واد عمال يحْدي موال أخضر لون البرعم.
يرسم الأبنودي لوحة تجسد معاناة الفلاح المصري بين الأبناء الاثني عشر والديون المتراكمة عليه وأخطار فساد محصوله الذي يمثل هاجس حياته اليومي، والمرض والمعاناة الصحية نتيجة الضغوط النفسية عليه. ويبدو معجم الأبنودي الشعري منحوتًا من عناصر البيئة الريفية التي تفرض سطوتها في تشكيل الصورة الأبنودية، فتبدو مفردات مثل (القناديل- محرات- العصافير، فيمسي أثر الزمن وفعله المتمرئي على سطح الجسد والمنعكس في ملامحه (قورته/ الجبهة) كفعل المحراث (محرات الزمن) في الأرض، فالأبنودي يستل مكونات صوره من الوسط الريفي الذي يُشكِّل فضاء الصورة الأبنودية، فتبدو الذوات في مشاهده ولوحاته الشعرية متماهية مع الطبيعة الريفية وكأنها قطعة من نسيجها، فلا فرق بين الشكل الإنساني والأرضية أو الخلفية الطبيعية. ويأتي حضور الساقية في الصورة الشعرية من أعطاف الوعي الجمعي والمخيال الذاكراتي مرتبطًا بكون الساقية أداة ري الأرض وإحيائها بغمرها بالمياه وحركة الساقية الدائرة ترمز لللاتناهي، غير أن الصورة الأبنودية التي تُطَبِّع الإنساني وتصبغه بالطبيعي وتؤنسن الشيئي والطبيعي لتلبسه حلة إنسانية، فنواح السواقي إنما كحركة للطبيعة ولو الصناعية ما هو إلا تمظهر للانفعال الإنساني، ورغم حالة الحزن والانكسار جراء الشقاء والأخطار المحدقة بالإنسانية إلا أن ثمة نوعًا من المقاومة والتشبث بأهداب الأمل لا سيما في الرهان على الفتيان الصبايا رغم حداثتهم، إذ يحدون موال الأمل الأخضر، وكما هو بادٍ فإن ثمة اندياحًا- لدى الأبنودي- بين الحواس مع غلبة المعطى اللوني كتمظهر للفاعلية البصرية على غيره، فقد اكتسى المعطى الصوتي (الموال) لونًا (أخضر)، والأخضر لون الحياة الناضرة النابضة، لون الأمل والحيوة الذي يشير لتغلب الحياة على خطر الزوال واحتمال الفناء في تمثل لروح التفاؤل وإرادة الحياة والمقاومة لهزيمة اليأس والانكسار.
وفي قصيدة «الأرض والعيال» يعمل الخطاب الشعري الأبنودي على تقديم صورة للشخصية الريفية:
يا رازق الدود في الحجر
الناس في بلدي طيبين
لما يلاقوا اللقمة.. والهدمة
ومَلْو ماجور عجين.
لكن إذا م الجوع كفر
ياخد في وشه الإنسانية والبشر.
يملى الطريق
تربه وزعيق
وغبار ويتخطى الحفر.
يا رازق الدود في الحجر!!
يسلط الخطاب الشعري للأبنودي أشعته النافذة على الشخصية الريفية من أجل تشريحها وبيان مكوناتها التركيبية وحالاتها المتقلبة، في تمثيل شعري يلتفت إلى التشكيل الدرامي للشخصية الريفية القائم على التقابل الحتمي والتجادل المتقلب بين مكونات ضدية: (الطيبة والرضا) حال الكفاف والاكتفاء، في مقابل (اللاإنسانية والغضب) حال العوز والجوع، ويبدو واضحًا- هنا- اقتفاء نص الأبنودي (الصادر في 1959) أثر النص الفارق لصلاح عبد الصبور في قصيدته الشهيرة التي حمل ديوانه الأول عنوانها «الناس في بلادي» (الصادر في 1959):
الناس في بلادي جارحون كالصقور
غناؤهم كرجفة الشتاء، في ذؤابة الشجر
وضحكهم يئز كاللهيب في الحطب
خطاهم تريد ان تسوخ في التراب
لكنهم بشر
وطيبون حين يملكون قَبْضَتيْ نقود
ومؤمنون بالقدر.
يبدو نص الأبنودي إعادة إنتاج لنص عبد الصبور في تعالق تناصي معه ينجلي في عدة تمظهرات سواء على مستوى السطح الخارجي للنص أو الباطن المعنوي. ومن العنوان يبدو عنوان الأبنودي (الأرض والعيال) إعادة إنتاج لعنوان عبد الصبور (الناس في بلادي) فكلا العنوانين يقوم على تناول علاقة الإنسان (الناس- العيال) بالمكان (بلادي- الأرض)، غير أن إنسان الأبنودي يبدو معنيًا بـ(العيال) حيث الحداثة العمرية والصبا في مواجهة تحديات المعيشة التي تحرمهم من الاستمتاع بالحياة وبما يليق بتلك المرحلة العمرية الفتية (العيال) من لعب وترفيه، لتحملهم هموم الحياة ومسؤولياتها. كما تحل (الأرض) عند الأبنودي محل (بلادي) عند عبد الصبور، وكأن الأبنودي يستحضر (الأرض) بوصفها مناط الحياة بالنسبة للريفي وهمه وحلمه ومعاناته ومكابداته، فتعادل الأرض في الوعي الشعبي- لدى الريفي- العِرض والشرف. الجذر والمنبت الوجودي الذي يمنح الريفي هويته الوجودية.
ورغم أن نص الأبنودي يعيد إنتاج بعض تفاصيل الصورة عند صلاح عبد الصبور كإثارة الريفي الأتربة والغبار حال مضيه غاضبًا عند شعوره بالعوز، غير أنه يعيد إنتاج صورة الـ(نقود) عند عبد الصبور بـ(اللقمة والهدمة وماجور عجين) في نزوع أكثر نحو التمثيل الذي يتفق أكثر وبنية وعي الريفي وعقليته التي تنأى عن تمثل القيم بعيدًا عن صورها الأولى وعياناتها المجردة.
كما يسير نص الأبنودي في تسويره الموسيقي وسياجه القافوي في فلك نص صلاح عبد الصبور الذي يعتمد حرف الراء روايًا في بعض أسطره، فعند عبد الصبور الراء روي في: (الشجر- بشر- القدر)، أما عند الأبنودي في: (الحجر- كفر[فعل]- الحفر)، فالراء من حروف الجهر التي تتسم بوضوح في المخرج الصوتي كما أنها حرف «التكرير» الوحيد في العربية الذي يمكن تكراره حينما يأتي في مختتم اللفظ في ترديد صوتي يبرز نهايات بعض الجمل، فعند صلاح عبد الصبور تأتي الراء في (بشر) لتستدرك ما صدره التشكيل الخطابي لصورة الناس في راء (الشجر) تعبيرًا عن غنائهم الذي قد يبدو حاد الوقع وذا أثر مرهب: (غناؤهم كرجفة الشتاء، في ذؤابة الشجر)، ثم تأتي راء (القدر) لتقييد مصائر الناس. أما عند الأبنودي فالراء في (حجر) تعبر عن اللواذ بالله في منحه الرزق رغم ضيق الحال وعسر الوسط، ثم التعبير عن تصعيد (الناس) غضبهم حال الجوع الذي يؤدي إلى فعل الكُفْر كما في (كَفَر) مما يؤدي- كما في راء (البشر)- إلى فقد الناس حسهم الإنساني وطابعهم البشري كما في (ياخد في وشه الإنسانية والبشر)، واجتياح الغضب الإنساني ما يمر به في طريقه كما في راء (الحُفَر)، ثم يعود التشكيل الخطابي لمقطع الأبنودي إلى اختتامه بنفس الجملة المبدوء بها: (يا رازق الدود في الحجر) للتعبير عن أن الله هو الملاذ الأول والأخير والدائم للشخصية الريفية للخروج من عثراتها وثورتها الغاضبة التي تهدد إنسانيتها، على عكس ما اتخذه صلاح عبد الصبور من مسلك تجاه الذات الإلهية قد يبدو صادمًا- ولو في ظاهره:
ومدَّ عزريل عصاه
بسرّ حرفي (كن)؛ بسر لفظ (كان)
وفي الجحيم دحرجت روح فلان……
(يا أيها الإله
كم أنت قاس موحش يا أيها الإله)
لقد بدا في شعر صلاح عبد الصبور جسارة في التعامل مع (المقدس) ومحاججته، غير أن الأبنودي سار في الاتجاه المعاكس، المأمون، بما لا يصدم الوعي التقليدي للمتلقين والجماهير بأن جعل هذا المقدس ملجأه ومقصده حال العسر.
وإذا كان نص عبد الصبور قد أتى بحكاية العم مصطفى الذي مات للتدليل على مأساة تلك القرية ومواجدها:
بالأمس زرت قريتي… قد مات عمي مصطفى
ووسّدوه في التراب
لم يبن القلاع (كان كوخه من اللبِن)
وسار خلف نعشه القديم
من يملكون مثله جلباب كتان قديم.
فإن نص الأبنودي «الأرض والعيال» قد اختار مشهد «الفرح» أو «العُرس» لرسم معاناة الفلاحين، أهل القرية:
وفيه عروسة وفيه عريس في دربنا
ومصمصت ستي وقالت يا سلام
بقى ده فرَح..؟
الناس ما عادتشي بتستطعم فرح.
الضحكة ضحكة مجانين.
والواد على الدكة.. حيدخل على العروسه
ومخه داير..
لجل يحسب في الديون.
وغيرشي بكره يجيبله كام عيل يا عيني معصعصين
عيال قديمه مهلهله.. ومبهدله
جوه الجرون متغطِّيَه بقش وعيدان
متغطيه بضل الحيطان.
لقد لجأ الخطاب الشعري للأبنودي- كما هو الحال عند سلفه عبد الصبور- وغيرهما من أصوات الشكل الشعري الذي أسس تيار الحداثة الشعرية في خمسينيات القرن العشرين المتمثل في قالب الشعر التفعيلي الحر- إلى تسريد الواقع وتشعير أحداثه ما أمدَّ الشعر بطاقة درامية بعد أن كان غنائيًا خالصًا، فأخذ الشعر يتخلى عن رومانسيته الغنائية واتجه لطابع القص الذي يتخذ من حكاية الواقع مجازًا للخطاب الشعري بدلاً من الاعتماد الكلي السابق على مجازية الصور الجزئية البسيطة.
تبدو «المفارقة» الأبنودية في التمثيل لمعاناة الريفي في عز وقت الفرح، ليؤول العرس همًا جاثمًا على صدره، وفي هذه الحالة يصير الفرح والموت سيان، فرغم أن مسلك الأبنودي قد سار- ظاهريًا- باختيار مشهد العرس عكس اتجاه عبد الصبور الذي اختار مشهد الموت، غير أنه يفضي في النهاية إلى موت معنوي، حيث العوز والعدم جراء ما يحمل من نير الديون التي تثقل كاهله.
الفضاء المديني
تمثل تجربة المدينة- عند الأبنودي- كغيره من شعراء الحداثة العربية في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين مجتلى لتحولات رؤيوية كبرى في تشكيل أفق الوعي الجمالي والتماس رؤية كلية للعالم:
أنا الشاعر اللي فـ حكاية الأميرة السجينة
وقالولي: «عايز الدوا»؟
عليك بالمدينة
وجيت المدينة
معلق في كتفي الربابة الحزينة
لقيت النجوم وشها في التراب
وفوق الميدان كاكَى نفس الغراب
ونفس الإيدين اللي تضرب في بعض بأسف
ونفس البيبان اللي من غير ضرف.
حبيبتي.. جميع الحاجات زي بعض
ما كانتشي أبدًا.. صُدف.
لكن انتي كنتي فانوسي الملون
فانوسي المنور بعين برتقاني
وبعيون أخويا (خَلَف).
يؤسطر الشاعر لنفسه كينونة مفارقة، ضاربة بوجودها في حكايات التاريخ والقص الشعبي للأبطال التاريخيين للسير الشعبية، فيكون الصوت الشعري كأبطال السير في ارتحالهم المكاني بحثًا عن حياة أفضل، فحلت المدينة محل البلاد الأخرى. فمثلما كان أبطال السير والملاحم يغتربون في بلاد أخرى، فإن أبطال الشعر من الريفين يعيشون في مرتحلهم المديني في مغترب نفسي يفاقم أزمتهم الوجودية، فلا هم استطاعوا البقاء في حياة متعسرة في الريف، ولا هم لاقوا في المدينة احتفاءً أو تقديرًا، مما فاقم شعورهم بالاغتراب والعزلة. وفي عالم المدينة تفقد الذات إحساسها بالأشياء: (حبيبتي.. جميع الحاجات زي بعض/ ما كانتشي أبدًا.. صُدف)؛ فتفقد الأشياء في الفضاء المديني تمايزها الهوياتي، لتصبح ممحاة الهوية.
كما يتكرر لدى الأبنودي ما كان عند غيره من الشعراء الذين هاجروا إلى المدينة تيمة الحبيبة المهجروة بالريف والحنين المعذب إليها، كما كان- مثلاً- عند أحمد عبد المعطي حجازي:
ملاكي! طيري الغائبْ!
حزمت متاعي الخاوي إلى اللقمه
وفتُ سنيني العشرين في دربك
(….)
وذات مساء
وعمر وداعنا عامان
طرقت نوادي الأصحاب، لم أعثر على صاحبْ!
فعند الأبنودي تماما كما لدى حجازي وغيرهما، ثمة حنين للمكان الأول، الريف، حيث الحبيبة والصحبة، بعد أن تصطدم الذات بقسوة المدينة وغلظة ناسها. ومن ثم، تمسي الحبيبة محكيًا عنها ومحكيًا إليها، فلِمَنْ يحكي الريفي الغريب في مدينة مأساته؟ لتكون ذكرى الحبيبة علامة على الفقد وشعور الريفي بالخسران من ارتحاله إلى المدينة. وكأن الذات الريفية في فضاءاتها المدينية إنما تستدعي الحبيبة المتروكة في الريف إمعانًا في تأجيج مشاعر الشعور بالذنب والتأثم، ولكأنها بذلك تنشد نوعًا من التطهر وانفعالات التصفية النفسية.
تجليات الزمن
تبدو الذات شديدة الحساسية إزاء الزمن وتحولاته في أشعار عبد الرحمن الأبنودي، عبر تمثلات تحيل الزمن من كونه مكونًا موضوعيًّا ليصير تمظهرًا مفارقًا وإشكالية وجودية تعلق الذات بتجلياتها، فيقول في تمثل الشتاء في قصيدة «الشتا» بديوان «الفصول»:
ييجي في حين
بارد.. عريض الكف.. خاوي العينين
رجليه تقال يا صحْابي.. متسلسلين
بسن كفه يقصنا.. كالرغيف
نبقى أصحاب من بعيد.
ييجي في حين.. يا صحاب
تركي.. غشيم الشناب
بارد.. يقش المدينة.. والكورنيش.
لا إيد صديق على باب
ولا نعرف البدر لسه في الدروب
أو غاب.
يرسم التصوير الشعري المجردات كالزمن في تمشهد تمثيلي يناسب المخيال الشعبي والوعي الجمعي الذي يميل إلى استيعاب القيمي والمفارق في وعاء مجسد وقالب تشخيصي مؤنسن للأشياء والمعاني والقيم. أما تمثل الزمن- هنا- الشتاء- فيبدو نفسيًا. هو شتاء المشاعر الذي مس العلاقات الإنسانية وضربها بالجمود. وفي مقابل تشخيص المجردات كالزمن يتشيأ الإنسان نتيجة لفعل الزمن الباتر، فيُقطع كالرغيف. ولا نغفل-هنا- حضور الرغيف مشبهًا به مكررًا في عديد من صور الأبنودي مع تنوع المشبهات بين الإنساني والشيئي. فلِمَ كان ولع الأبنودي بالرغيف مشبهًا به ومحالاً تصويريًّا؟ هل يكون ذلك لريفية الأبنودي ومنتمياته إلى «صعيد» مصر الجنوبي الذي يعني أهله بالخبز إذ تمسي صناعته وإنتاجه عملاً بيتيًا وفعلاً يوميًا لأهل الريف وخصوصًا في الصعيد؟ هل يرجع ذلك لكون الرغيف أو الخبز وسيلة الحياة والغذاء الأولية البسيطة، الذي يمثل عند كثير من الفقراء والمعدمين حدَ الكفاف؟
كما يُلاحظ- هنا- تغير نبرة الشاعر نحو المدينة، بعد أن تواءم معها، فصارت همه ومناط قلقه. كما يبدو- في هذا المقطع كما في شعر الأبنودي عمومًا- نزوع الخطاب الشعري والرسالة اللغوية لاستثمار فاعلية النفي بطاقاتها المتعددة، فالنفي في الجملة الأولى: (لا إيد صديق على باب) يسلب القيمة، ويحسم الحكم (غياب الأصدقاء). أما النفي في الجملة الثانية (ولا نعرف البدر لسه في الدروب أو غاب) فيعبر عن تردد الحكم بين نقيدين متقابلين لا يثبتان معًا ولا ينتفيان معًا (حضور البدر/ غيابه)، وهو ما يبرز روح التشكك وحالة التردد وهو ما يتماشى مع طبيعة الشعر اللاحاسمة.
ومع استمرار الشتاء تبقى الذوات في حال انتظار لمقدم الربيع:
في اللحظة دي.. أشرف ما في الإنسان
هوه اللي يقدر يلمح الكلمات
جوّاه.. بتتعذب.. وتستنى
(ورق الربيع لاخضر.. على الأغصان)
(الصبح.. والدَّفيان)
(الحَر.. وخروج اللفندية من الديوان..)
(الليل.. أبو النجمات وابو الخلان).
في اللحظة دي.. أقوى ما في الإنسان
هوه اللي يبقى يا صُحاب
بارد.. عريض الكف.. تركي غشيم
يقاسي..
لكن يتخلق في الصبر.
تعمل الرؤية الشعرية على تمثل وجوه الذات الإنسانية ومراياها المتعددة في الموقف الواحد واللحظة الواحدة، حيث موقف الشرف المرتبط بالشعور بالكلمات وإطلاقها من مكنونات الدواخل الذاتية، الكلمة هي صوت الذات ووحدة الشعر، والكلمة/ الشعر في انتظار الربيع، فكثيرًا ما وقفت أشعار الأبنودي تنتظر على «باب الربيع» كما يقول في إحدى أغنياته، فالربيع فصل تجديد الحياة وإعادة الخلق من جديد. ومن اللعب الإيقاعية التي يمارسها الأبنودي في شعره تكرار جملة بعينها أو تعبير ما (بارد.. عريض الكف… تركي غشيم) مع اختلاف المتعلق به، فمرة تعود-هنا- على الزمن (الشتا) ومرة على الإنسان لبيان مدى التماهي الكينوني بين الإنسان والزمن:
حبيبتي.. افتكرت النسايم
ليالي الربيع الشهيده
هناك.. في اللي فات في اللي جايْ
في الليالي البعيده.
إيديا ف إيديكي كمفتاح خشب
في قفل خشب.. ع البيبان الخشب
في دار ريفي.. فين؟
في الليالي البعيده
ماهوش في القمر.. ربما تحت ضوُّه
ماهوش في الكفور اللي شيَّطها شظو القنابل:
لكن ربما ع البحور.. في البحور
في الكُفور اللي لسه بتطلع في قلب النيران
خضرا أخضر من الضحكة ومن الكافور.
ما الحبيبة إلا الوطن، الوطن حال الهزيمة، الأرض السليبة، وهو ما يبدو في مفردات الأبنودي؛ كالشهيدة تعبيرًا عن شعور مكلوم وتأسٍّ ملتاع. وكأن الشاعر يقف بين زمنين الماضي والمستقبل (هناك.. في اللي فات في اللي جايْ) أو كأنه يقف خارج الزمن بعد اندياح الحدود الفاصلة بين الأزمان. ورغم نيران الاعتداء والموات فإن الحياة واللون الأخضر الذي هو غالب في أشعار الأبنودي الأولى ما يلبث أن يقاوم النيران، فهذا الأخضر بلون الضحك والكافور بل أزهى، هو لون المقاومة للهزيمة:
لا غريب.. ولا ليّا دار
عادم.. كَمَيّ البيار
عادم.. بلا دلال ولا متمنين
ضايعه حلاوة المغْنى جّوه الغبار.
ده حلم والاّ كفن..؟
دي دهشه والا انتظار..؟!!
تغني الذات شعورًا يداهمها بانعدام الهوية وانمحاء الشخصية، في ظل وطأة الإحساس بالهزيمة يتعالى شعور بالتشتت المكاني إذ تفقد الذات إحساس الاستقرار في المكان، بمثل ما تفقد شعورها بـ»طَعْم» مائز للشخصية، وتعيش حالة اضطراب هوياتي تُنفى معها كل هوية محتملة للذات، ويرمز «أمشير» الفاعل الموضوعي في القصيدة إلى الهبوب العاصف لرياح الهزيمة التي اجتاحت الوطن، ويأتي الغبار في المشهد ليؤكد على حالة الفقد والعدمية المفسدة والقبح المشوِّه، مما يشكِّك الذات في عالمها.
المشترك الإنساني وتعميم التجربة
لم يكن الأبنودي مهمومًا فقط بالحالة المصرية أو العربية بل كان معنيًا كذلك بالمشترك الإنساني الجامع البشرية، كان مشغولاً- لا سيما في شعره الستيني- بقضايا الإنسان في العالم، ربما للواقع الفلسفي المحايث في العقدين الخمسيني والستيني مع المد القوي للفلسفة الوجودية التي تعاين أزمة إنسان العصر الوجودية بالتقاطع مع الصعود القوي للأيدلوجيات الاشتراكية والماركسية وحركات التضامن العالمي والتكتلات الدولية لمجموعة دول عدم الانحياز، هذا المناخ الذي خلق تمددًا هوياتيًا للذات الإنساني التي أمست ذاتًا عالمية لها همومها المشتركة وتطلعاتها المتداخلة والطامحة في حياة كريمة للإنسان على الأرض، وتجيء قصيدة كـ«الخواجة لامبو العجوز مات في أسبانيا» تمثيلاً للرؤى الكلية للإنسان في شعر الأبنودي:
كانت القرية اللي دايسه عليها أسبانيا
ظلام من غير عيون.
فلاحين فقرا بلا غيط أو كانون.
أسبانيين بس في شهادة الميلاد.
يندغوا الأحزان مع كاس النبيت.
إنما
كان فيه كمان ناس أغنيا
ليهم بيوت ليها سقوف طايله السما
ممتليه باللي أسبانيا فراغ منه.
ولامبو
لامبو كان شاعر مُغنِّي
يمشي والجيتار عشيقته
يلمسه
يملا ليل أسبانيا بفصوص الأماني والأغاني البرتقاني.
يستحضر الشاعر الحالة الإسبانية وما شهدته إسبانيا من ديكتاتورية كان لها أثرها في انتفاء عدالة توزيع الدخل القومي على مواطنيها ويمثل الريف الإسباني نموذجًا على انتفاء العدالة والقهر في مجتمع غربي كان يتشدق باحترام الحريات بعد أن أهدرتها الفوارق الطبقية الشاسعة، ومن ثنايا هذا المشهد القاتم يخرج الشاعر المغني «لامبو» ليضطلع بدور نبوي في استنهاض المستلبين. ومن اللافت في هندسة الأسطر الشعرية وتشييد التراكيب التفاوت البارز في أطوال الجمل كما يبدو في السطرين الأخيرين من المقطع؛ إذ يتشكل السطر قبل الأخير من تكوين متناهي الصغر: (يلمسه) ثم يكون انتقال لسطر بالغ الطول: (يملا ليل أسبانيا بفصوص الأماني والأغاني البرتقاني) وهذا التفاوت اللافت في طول السطرين الشعريين المتتاليين يجلي الفاعلية الساحرة والمقتدرة للمس المغني لجيتاره وما يبثه ذلك الفعل من آثار في الواقع السوداوي المتمثل في الليل حتى يغشاه اللون البرتقالي، لون البهجة الذي يشع من أغاني الشاعر:
الخواجة لامبو ماشي
دخل الخمارة حيّوه السكارى
تاره بالضحكه و«بالبزتّه» تاره
غنى لامبو وبرد أسبانيا مزنهر مناخيره:
(يا غلابه
سيروا في الأرض العريضة.
والْسعوا النسمه بطواحين الهوا.
فيه في قلب الظلم حتة نجم بيضا
العمل مش حاجة ضايعه في الهوا
برد أسبانيا استوى..)
يتوزع الخطاب الشعري في قصيد الأبنودي بين السرد الوصفي الذي ينقل حركة الأحداث ولفتات المواقف، والحوار سواء كان تبادليًا (ديالوجًا) أو أحاديًا (مونولوجًا)، وكما يبدو من المقطع السابق نجد أبطال قصائد الأبنودي، كالخواجة لامبو، ينهضون بفعل تثويري، فهم أبطال إشكاليون، يقودون الجماهير، تمامًا كما كان يحلم الأبنودي بدور فاعل لشعره في إلهاب الحس الثوري لمتلقيه. وفي المقطع السابق تبدو نهايات الأسطر الشعرية مشبعة بحروف مد كالألف أو كهاء الوصل وهو ما يعكس على صعيد الأداء الدلالي الانطلاق الشجاع للكلمة في مواجهة الاستبداد.
———————
رضا عطية