الدكتور عبد العزيز المقالح اسم في الثقافة العربية معروف. فقد كتب الكثير وكتب عنه الكثير. اهتم بالنقد واهتم به النقد شاعرا وباحثا وأكاديميا.يشغل حاليا، منصب رئيس مركز البحوث والدراسات اليمنية، ومدير جامعة صنعاء والمشرف العام على مجلة "أصوات" فصلية الجديد والأجد، التي تصدر في صنعاء، مجلة عربية ذات دور تنويري تحديثي.
وللمقالح عدد كبير جدا من الكتب والبحوث والدراسات الأكاديمية منها (قراءة في أدب اليمن المعاصر) ( شعر العامية في اليمن) (الأبعاد الموضوعية الفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن) (الشعر بين الرؤية والتشكيل) (أصوات من الزمن الجديد) (أزمة القصيدة الجديدة) (من البيت الى القصيدة) (قراءات في الأدب) (بدايات جنوبية) (ثرثرات في شتاء الأدب العربي) (الحورش الشهيد المربي) (الزبيري ضمير اليمن الثقافي الوطني) (أزمة القصيدة العربية – مشروع تساؤل) (عمالقة عند مطلع القرن) (أوليات النقد الأدبي في اليمن) (من أغرار الخفاء الى مشارف التجلي) (تلافي الأطراف – قراءة أولى في نماذج في أدب المغرب العربي) وفي الشعر : (لابد من صنعا 1971) (رسالة الى سيف بن ذي يزن 1973) (هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي 1974) (عودة وضاح اليمن 1976) (الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل 1978) (الخروج من دوائر الساعة السليمانية 1981) (أوراق الجسد العائد من الموت 1986) وغيرها.
وفيما يلي حوار معه :
* هناك مقولة شائعة تقول : إن المجتمع المتخلف قد ينتج أدبا متقدما وأن المبدع راء يتقدم حالته الاجتماعية، وكشاف يخط طريقا من ضوئه. هل نتحدث عن علاقة الابداع بمحيطه، من خلال تجربتك الخاصة الخصبة، وهل يستطيع المبدع أن يحقق المعادلات الصعبة، ويوازن بين ذات متقدمة في غاياتها ومشاريعها، وبين معوقات المحيط واشتراطاتها، وخصوصا في يمن الخمسينات والستينيات ؟
`32; لا أعتقد أن تلك المقولة صحيحة على الاطلاق فالمجتمعات المتخلفة لا تنتج سوى التخلف، والمزيد من التخلف، ولا أخفي أن حرف "قد" جاء في مكانه ددقد ينتج أدبا متقدما»، ولو كانت
المجتمعات المتقدمة قادرة على انتاج أي شكل من أشكال الأدب، لكانت بلادنا – وقد كانت صورة للتخلف – قادرة على انتاج ذلك الأدب، لكنها لم تفعل ومازال التخلف يطارد
المبدعين حتى الآن، لذلك فالأبداع الأدبي في نهاية القرن في اليمن ما يزال متواضعا وشاحبا نتيجة الرواسب الموروثة عن أزمنة التخلف. وكنت قرأت نماذج من الكتابات الطريفة تتحدث عن أوضاع الأدب المتقدم في روسيا قبل ثورة اكتوبر وأوضاع الأدب بعد الثورة. وأعتقد أن المقارنة هنا خاطئة من الأساس، فلم يكن المجتمع الروسي متخلفا قبل الثورة كان النظام قيصريا فاسدا وظالما، وكان الاقطاع يلهب ظهور الفلاحين ولكن الحياة الأدبية كانت في عنفوان ازدهارها، بفضل المجتمع الواعي الذي يهوى الشعر ويتابع الرواية والمسرح، وكان يسعى الى تقليد الغرب، في عنايته بالموسيقى وفن التصوير وفي هذا الوسط ظهر بوشكين وتورجنيف
وجوجول وديستويفسكي وتولستوي وغيرهم من عمالقة الابداع الأدبي، الذي لم تتكرر نظائرهم في مجتمع ما بعد الثورة.
وبالنسبة الينا نحن في اليمن، فقد كان المجتمع متخلفا وخاضعا لنظام متخلف وظالم وفي مناخ كهذا، ما كان يمكن لأي نوع من أنواع الأدب، أن ينمو ويتطور، ربما تكون قد نمت قصائد المديح، أما بقية الأبعاد والأغراض في الشعر فقد ظلت شاحبة وصفراء وباستثناء كتابات الشهيد الزبيري التي صنعها المنفى، والكتابات الشعرية المتقدمة نسبيا للشعراء اليمنيين في جنوب البلاد: لطفي أمان، محمد عبده غانم، علي لقمان، فقد كان التخلف يلف جميع البلاد، ويلقي بظلاله الكئيبة على المشهد الأدبي بأكمله في كل البلاد.
ومن هنا، فلا يمكن الحديث عن أدب تتقدم حالته الاجتماعية في اليمن إلا بعد الثورة، ومن خلال تجربتي الخاصة، فانني لم أكتب قبل الثورة شيئا يستحق الاشارة لا شعرا ولا نثرا، لقد كتبت بعض القصائد المذعورة مرتبكة الصور والمعاني، باستثناء أحمد الشامي وابراهيم الحضراني، فان شعراء ما كان يسمى بالشطر الشمالي من اليمن لم يبدأوا كتابة شعرهم المتميز الا بعد الثورة بسنوات.
* أنت في موقع الحسد – اذا استثمرنا المفاهيم الشائعة عن الموقف والموقع. فانت في موقع الاهتمام النقدي العربي، ولديك امكانية استثمار الموقع، لتنشيط الابداع،ومد يد الالفة للكثيرين، ولا تشكو، أبدا، من حضور ثقافي مؤثر، وحولك "إلفة" بنيتها بمسلكية مميزة أليفة تجعلك مثار اهتمام عدد واسع من المبدعين العرب، في مشرق الأمة ومغربها: مسلكا انسانيا ونقدا وتواصلا، الى آخر المواصفات التي تفترض حالة غير التي أريد الحديث عنها معك.
في شعرك ونثرك حزن آسر، ونسبته في دم القصيدة عالية جدا، وكأن الشكوى من ألم)الصداقة والملمات والانكسارات.. الخ. من أسباب هذه النبرة العالية في لغتك. أذكر بهذه المناسبة أن ابا حيان التوحيدي يرى في الحزن منظفا للنفس، لأنها تصدأ كما يصدأ الحديد. دكتور عبدالعزيز لماذا أنت حزين ؟
`32; في الرد على الشق الأول من السؤال والخاص بالحسد أسمح لي أن أقول بأن أبي الطيب المتنبي، كان حكيما وعظيما، وهو يسخر من حاسديه، ومن بؤس تصوراتهم حين تساءل : (ماذا لقيت من الدنيا؟!!) ثم وهو يجيب على السؤال نفسه : (اني بما أنا باك منه محسود!!) وهل أنت معي في أن أحق الناس بالرثاء في العصر الحديث هم الحاسدون الذين تشتري قلوبهم بحقد لا مبرر له على نقمة لا وجود لها، وان وجدت فهي من النوع الذي يبعث على الاشفاق لا على الحقد والحسد!! ثم لا تنسى -والحديث في السؤال هو عن الحزن. إن الشعراء أكثر الناس قدرة على التعبير عن أحاسيسهم بعيدا عن المواربة، ولانفعال الشاعر وتوتره الدائم تأثير على اذكاء هذه المسلكية. والقليل من الشعراء هم الذين يستطيعون كبح جماح هذه الانفعالات فلا يشكون ولا يذيعون أحزانهم تجاه الخيبات والأحلام، سريعة الزوال، سواء في الأصدقاء أو في المدن الفاضلة التي تكشف الأيام أنها ليست كذلك.
ولا يغيب عن البال، انه بمقدار اعتزاري غير المحدود باصدقاء العمر، ورفاق رحلة الحرفة وهم كثير بحمد الله، فان تساقط بعض الأوراق من شجرة الصداقة يثير في النفس قدرا من الحسرة والشجن ويجعل الروح -بين حين وآخر- تقلب صفحات الذكرى بصوت مسموع، وتكون النتيجة هذه القصائد الشاكية. ويبدو أن للمتغيرات التي طرأت على الواقع تأثيرها الذي لا ينكر، كما أن للمطر الأسود الناتج عن احتراق المواد اللزجة التي بدأ الانسان يستخدمها في حياته، تأثيرات على بعض النفوس الضعيفة، تقودها من الائتلاف الى الاختلاف.
أما لماذا أنا حزين ؟ فهو سؤال معكوس وينبغي – من وجهة نظري – أن يكون على النحو التالي: لماذا لست حزينا بدرجة كافية ؟ فكل ما حولنا، منذ الميلاد وحتى الممات، يراكم الأحزان، ويقتل كل لمعة فرح. ويحضرني في هذا المجال حوار عاصف دار في منتصف الستينات، عندما ظهر ديوان الشاعر المرحوم صلاح عبدالصبور. فقد استقبله الناقد الكبير الأستاذ محمود أمين العالم بمقال قاس نشرته مجلة "المصور" ينعي فيه على الشاعر حزنه في عهد عبدالناصر، عهد المنجزات الكبيرة على كل صعيد، من السد العالي، الى مصانع الصلب، الى الجامعات والمسرح. وكان الاستاذ العالم خارجا لتوه من سجن طويل، وعندما قرأ صلاح عبدالصبور المقال رد على الكاتب الكبير بكلمة واحدة : كنت حزينا لأن محمود كان في السجن !!
ونحن الآن، وقد جرت في الحياة العربية منذ ذلك الحين، أنهار كثيرة من الدموع أحق من كل الشعراء، في سائر الأقطار، وفي مختلف المراحل والعصور، بأن تكون أشعارنا صورة من الحزن الحارق، بشرط أن تكون صادقة غير مفتعلة. وليس عيبا ولا نقصا أن يصبح الشاعر بحكم الواقع شاعر مراث، مراث لنفسه ولاصدقائه، ولوطنه، مراث للأحلام الضائعة ولسنوات العمر التي لم تكن جميلة، وحين تشرق الشمس يوما على مشاهد ورؤى تبعث على الفرح، فان الشاعر سيكون أول انسان يغني لها ويلتقط أنفاسها الأولى، وما من شاعر عربي إلا وقد استطاعت قصائده أن تلتقط لحظات الصفاء القليلة وان تتابع كل ضوء وكل لون يتسلل الى قلبه في ساعة فرح حقيقي. واذا كان الشاعر العربي القديم قد أدين لمحا ولته تصنع الحب في مطالع قصائده، فان الشاعر المعاصر سيتعرض لادانة أكبر حين يحاول تصنع الفرح.
* لقد ارتهن الواقع العربي-والثقافي منه بالطبع – في فترته الواهنة تحديدا، للسياسي وللحاكم منه بالتحديد، وبدا تراجع الثقافي وانحسار دوره، واضحا ومؤسفا، من خلال ظواهر كثيرة وبدت العودة للحديث في هذا الموضوع -مع غيابه -ضرورة ملحة مع معرفة الجميع بأن علاقة السياسي بالثقافي -وهي مقولة شائعة -علاقة معقدة ومتشابكة، بتشابك الأطراف والمصالح والتغيرات.
إن علاقة المثقف بالسلطة، السلطة الحاكمة أو غير الحاكمة، تحتاج من جديد الى المناقشة. كيف تنظر الى طرفي العلاقة والى دوريهما والي العلاقة ما بينهما في الظرف الراهن على وجه الخصوص.
`32; عندما تكون الشعوب في حالة مقاومة، مقاومة للعدو الاجنبي، ومقاومة للتخلف، ومقاومة للامساك بخيوط التغيير، فان التناغم بين السياسي والثقافي تبدو ضرورة لابد منها، أما عندما يتحور الوطن ويبدأ السياسي في الضغط على الثقافي، ليكون الى جواره، ديكورا أو مبررا أو بوقا للدعاية فان حالة الفصل بينهما، أمر تقتضيه أيضا، ضرورة المحافظة على كرامة الثقافي، والحرص على أن تكون للثقافي استقلاليته وقدرته على فهم القيم والغايات المبدئية.
وفي ضوء ملاحظاتي الشخصية حول هذا الموضوع الشائك المعقد، أستطيع الجزم بأن لكي نظام سياسي محس بي، أيا كان لونه، مثقفيه المرتبطين به والمدافعين عن توجهاته بالحق أو بالباطل، وان لكل حاكم أيضا، مثقفيه الذين يسيرون في ركابه، منتفعين بالرغبة أو الرهبة، وحين ينحسر هذا النظام، أو ذلك الحاكم، يتحول مثقفوه الى معارضين أو ضحايا، وهناك في كل نظام مثقفون حالمون لا تغريهم السلطة ولا هوية النظام أو توجهات الحاكم بقدر ما يغريهم الشعور بالمسؤولية تجاه الوطن، بوصفهم مواطنين، أحرزوا قدرا من المعرفة التي لا ينبغي أن تهدر في تمجيد السلطة أو معارضتها وبعض من هؤلاء ينجحون ويتركون بصماتهم على الواقع، والبعض الآخر يصبحون نزلاء المصحات العقلية.
وبين هؤلاء وهؤلاء، تقف طوابير من المثقفين الانتهازيين الذين يصفقون لكل نظام، ويأكلون على كل مائدة وينخرطون في كل حزب، ولهم في كل قطر عربي أمثلة صارخة، يعجز الشيطان نفسه عن مجاراتها، في التنكر والتغير، وفي الاستعداد لأن يرتدوا لكل حالة لبوسها. ومن حسن الحظ أن تطور الوعي الفكري والسياسي والتوسع الهائل في التعليم قد ألقى الى الساحة بكتل جماهيرية قادرة على الفرز والتصنيف، ومعرفة ضحايا الانانية والجشع والتقلبات. ولا أخفيك أن مهزلة الارتدادات المتلاحقة في الساحة الفكرية والانتقال، من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، والتنكر الفاضح والمتناقض للانتماءات تبعا للأهواء والمصالح، قد خلق حالة من التقزز
والغثيان في أوساط الشباب، وربما كانت وراء هذا الاندفاع المفاجيء للأجيال الجديدة، نحو الانتماءات المحافظة والسلفية.
* أنت ناقد ومنقود، دكتور عبدالعزيز المقالح، بل أنت، كما أظن من أكثر المبدعين العرب الذين تناولهم النقد، ومن أكثرهم أيضا من تناول بالنقد الآخرين.
ماذا قدم لك النقد، وماذا قدمت من خلاله ؟ (حبذا لو استحضرنا بعض الأسماء في الحالتين).
`32; لا أنكر فضل النقد الأدبي علي منقودا، ولا أنكر فضله أيضا ناقدا، في الأول استطاع أن يدلني على الطريق نحو الكتابة الشعرية بعد محاولات ارتجالية خائبة، وفي الثانية أعطاني القدرة على التعريف بجوانب كانت خافية من الابداع الأدبي في هذه البلاد التي شاء سوء حظها أن تكون من أقطار الأطراف المهمشة والبعيدة عن مركز الضوء والمتابعة، واذا كان النقد الأدبي تجاهل بداياتي الأولى المنشورة محليا، فقد رافقني منذ بداياتي المنشورة في مجلة "الآداب" التي يرجع تأريخ أول ظهور لها الى منتصف الستينات، وكان الاستاذ رفيق خوري أول النقاد، الذين دخلت، معهم في حوار من طرف واحد، بعد أن قرأت نقده لإحدى قصائدي المنشورة في المجلة ومن بين النقاد الذين أفدت منهم في أوائل السبعينات – رغم قسوة نقده الصديق الدكتور جابر عصفور، الذي جعلني أدرك أن القصيدة لا ينبغي أن تستسلم لعفوية الشاعر الذي يترك لنفسه العنان فتذهب حيثما تشاء. وهناك نقاد آخرون تعلمت منهم بعد ذلك وأفدت من ملاحظاتهم سواء في طريقة استخدام الأسطورة والتعامل مع الرموز من هؤلاء الدكتور عزالدين اسماعيل، الذي كان أول من اهتم بالشعر والشعراء في اليمن، وما يزال كتابه "الشعر المعاصر في اليمن، الرؤية والفن" من أهم ما صدر من دراسات نقدية عن الشعر المعا هو في هذه البلاد، والدكتور أحمد كمال زكي الذي ترك الشعر في وقت مبكر واتجه بكل طاقاته الابداعية والنقدية الى الدراسات الأكاديمية. واكتفى بهذه الاشارة عن النقد الذي رافقني في المراحل الأولى من كتاباتي الشعرية لأن النقد الذي جاء بعد ذلك وهو محل تقديري واعتزاري يدخل في مجال التحليل والتطبيق ولم يعد نقدا مقيما أو موجها، يفيد منه الشاعر في تأسيس تحولاته ومغامراته.
أما عن الحالة الثانية للسؤال، وهي : ماذا قدمت من خلال النقد، فاترك الاجابة للدارسين وللنقاد، واذا جاز لي أن أقول شيئا في هذا المجال، فهو أنني أعطيت الابداع الأدبي في اليمن شعرا وقصة ورواية ومسرحا لعصار جهدي النقدي المتواضع وحاولت التعريف بالمبدعين في هذه البلاد على حساب الشعر، الذي نذرت له كلماتي، وكان وما يزال حلمي الأول، وتوق الروح الى أزمنة الضوء والتوهج الأخضر.
* لقد اختفت أو كادت نبرة القضايا الكبرى في الفكر والابداع : الوحدة التحرر، العدل لاجتماعي، وغابت في خضم الانكسارات والاستسلام لها، لغة التآزر مع العربي الآخر، و" لكنة " التعاطف مع قضاياه. وفوضت (بضم الفاء) على الفكر العربي وتجلياته الابداعية حالات تناقض طموحه ودوره.
أية مهمة، إذن، دكتور عبدالعزيز، للمبدع العربي وهو يتقدم واقعه ؟ وأية مقترحات أمامه ؟ بل أية مضامين لاشكاله ؟ في زمن الانعطافات السياسية الحادة والمفاجئة، زمن انهيار الثوابت القديمة والمفاهيم، لاسيما وأن المبدع العربي قد وطن نفسه وعودها على مسلكية ثقافية لم تعد مشروعة ! والعادة، كما يقول أحد المفكرين، هي أرهب قوة عند ملايين البشر.
`32; يحاول السؤال أن يلمس أكثر من منطقة موجعة ومريرة، وأخطرها جميعا: الاشارة الى انهيار الثوابت، وتباعد المثقف العربي، عموما عن المباديء التي عكف على تمجيدها وتكريس قضاياها أكثر من نصف قرن. وليست المشكلة تجاه هذه القضايا مشكلة جيلنا وحده، وانما هي مشكلة الجيل الجديد، الذي يجد نفسا وسط هذا الحطام بلا هوية ولا قضية خاضعا لمجموعة من المؤثرات الداخلية والخارجية، تجعل منه ألعوبة في مهب الريح بعد أن تحول الوطن الكبير الى أوطان صغيرة والأوطان الصغيرة الى جزر طائفية متناحرة. وفي تقديري أن المهمة الأولى للمبدع العربي، وسط هذا الخراب، تكمن في العودة الى الايمان بالثوابت التي كانت وما تزال صالحة للبقاء، وأن يتجنب ربط هذه الثوابت بالمعادلات الدولية أو الاقليمية، حتى لا يكون بقاؤها أو انهيارها رهنا ببقاء وانهيار تلك المعادلات، كما حدث في الواقع الراهن، ويجدر بالمبدع العربي أن يسأل نفسه لماذا لم تكن أقدامنا واقفة بصلابة على أرض الواقع وحده.؟ وما الأسباب التي قادت العربي الى أن يتصادم مع نفسه ومع شعاراته. وأن يتخلى الابداع العربي فجأة عن تجلياته وتنبؤاته القومية، بعد أن ترسخت في الضمير، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من مكونات هويته وتفكيره.
إن مهمة المبدع العربي اليوم، هي نفس مهمته في الاربعينات والخمسينات، بل وفي الثلاثينات، الوطن العربي محاصر ومقسم، وخاضع لما هو أخطر من الاحتلال المباشر وهذا الاحتلال الجديد، أقسى على النفس وعلى القلب، من كل أنواع الاحتلال المباشر، الذي كان قادرا على استفزاز العضلات والمشاعر. وفي رأيي أن الذين استسلموا للعادة الجديدة من المبدعين العرب. قلة قليلة ومحدودة، وان النقاء والشعور بالخطر وبالقدرة على التضحية ما تزال هي الغالبة، وتستطيع أن تقرأ المجلات الجادة وبقايا الصحف المعروفة بقراءة التحدي، لتجد أن المبدع العربي ما يزال -رغم الحصار والاخفاق – قادرا على الوقوف في الخندق الصحيح لم يتزحزح قيد أنملة، وهو يدرك أن هذا الموقف يكلفا مزيدا من العناء ومزيدا من الاقصاء، لكن هذا قدره، وهذه هي رسالته، ولا ننسى أن أشجارا كثيرة تتساقط، كل يوم بفعل العواصف والرياح، لكن أشجارا أخرى تنبت وتسد الغابة بأوراقها الخضراء وبظلالها السابحة في الضوء المكتوم.
* ليست الطفولة، مخزون الذاكرة ومخزنها فحسب، بل هي باعث من بواعث تشكل الذات والابداع والرؤى. وأنا أعرف أن لك طفولة استثنائية، نمت وتشكلت في ظروف اليمن الاستثنائية آنذاك هلا استعدت معنا أبرز محطات ذاك الزمان : العائلة، الواقع الاجتماعي، التعليم، مواقع الطفولة ومواقفها؟
`32; لا أدري إن كان في طفولتي ما هو استثنائي – كما يشير الى ذلك سؤالك – فقد كان الكثيرون من أطفال اليمن الذين ولدوا في محكمة الصمت والارهاب والجدري، يعيشون طفولة استثنائية، بكل ما للكلمة من معنى، من حيث إنها طفولة مسلوبة من أجمل اللحظات. غالبية زملائي من أطفال القرية ولدوا وآباؤهم في المهاجر البعيدة، إما في بريطانيا وأمريكا وفرنسا، أو في أحد الاقطاع العربية كالجزائر وليبيا والسودان، كان ذلك في آوخر الثلاثينات قبل أن يتدفق نفط الخليج. وحين أتيت الى الدنيا كان والدي في السجن وفي الرابعة عشرة والخامسة عشرة من عمري، وجدت ملامح وجهه ورأيته لأول مرة، كانت جدتي هي الأب، كانت والدتي هي مصدر الحنان الفياض ونبع الحزن الدافق، كانت صباح مساء لا تعرف التوقف، تعذبني بنظراتها المنكسرة، وصمتها الغامض، ثم بأغانيها الهامسة التي تشبه البكاء. وفي سن الرابعة ذهبت الى الكتاب، وكنت في السادسة عندما انتقلت من القرية الى صنعاء، لتكون بالقرب من والدي السجين، لكن الدولة كانت قد نقلته الى سجن آخر في منطقة نائية (حجة) وانقطعت أخباره فترة طويلة، ولم يخرج من السجن إلا بعد أن كنت قد انهيت الابتدائية والتحقت بالمتوسطة (الاعدادي الآن) وكان الامام يحيى قد قتل، وأعقبت الثورة الفاشلة مذابح، شهدت مع زملائي الأطفال بعضا منها، فقد كانت المذبحة تقام في الميادين العامة ويساق اليها الناس ليشاهدوا مصارع الخارجين على مشيئة الحكام.
وكانت ثورة 23 يوليو بداية ميلاد الوعي السياسي، وبدأ طلاب المدارس القليلة في الميلاد يتداولون القصائد الوطنية ولاخفائها عن الانظار، كان لابد أن تحفظها عقولنا، وقد شكلت هذه القصائد بعض القراءات الأخرى، المكونات الأولى في ثقافتي الشعرية، ولا أنسى أن الوالد قبل دخوله السجن، وبعد عودته من رحلاته خارج الوطن، قد ترك لنا ثروة لا يستهان بها من الكتب القديمة والحديثة، بعض أجزاء من كتاب الأغاني ومقامات الهمذاني والحريري، وبعض دواوين شعرية وكتاب ألف ليلة الذي كان بمثابة المفتاح السحري الى عوالم الشعر والأدب بكل أنواعه وأشكاله.
لشدة ما تغيرت الحياة منذ الطفولة حتى الآن، ومع ذلك فما تزال أحداثها وأطيافها ماثلة للروح كأنها وقعت بالأمس او أنها ما تزال تحدث اليوم. صور المكان مرسومة بوضوح رفاق الخطوات الأولى على الأرض ما يزالون بأقدامهم الصغيرة الحافية وأحيانا بأجسادهم العارية من كل شيء، يسيرون عبر شريط الذاكرة في براءة الملائكة وانطلاقة العصافير، الالفاظ التي كنا ننطقها من غير وضوح صار لها الآن أكثر من معنى وأكثر من دلالة. وما من شك في أن سنوات الطفولة ومحطاتها الى اشعة مليئة بالرموز والرسائل الغامضة، وحين تعتليء حياتنا الواهنة بالرعب واللايقين تشعر أرواحنا بالحنين الى محزونات الطفولة وبحاجتها الى استخراجها من منجم الماضي، لتظفر بدقائق من الغبطة والأمل.
* الطموح نحو "الأجد" يتبدى لديك في تجليات متعددة، فهو شعار مجلة "أصوات" التي تشرف عليها، وهو كذلك، صورة اهتمامك بمحاولات شعرية، تسعي نحو ذلك، سواء من خلال "التقديمات " الكثيرة، التي تقوم بها، أو من خلال صفحاتك الاسبوعية في جريدة "سبتمبر"، ما مفهومك للاجد في الإبداع وهل هناك تحديد لسماته ؟
`32; لقد أجبت على هذا السؤال منذ فترة قريبة، جوابا لاستفسار أحدى الدوريات العربية،. وأجدني مضطرا للإحالة الى تلك الاجابة.
الأجد في الابداع والشعري منه بخاصة. هو الذي يبدأ مع الشعراء الشبان من حيث انتهى المجددون المبدعون، وهذا الأجد من وجهة نظري، طبعا، ليس كتابة منتزعة من سياقها التاريخي أو من جذورها الإبداعية، لكنه بالضرورة محاولة التجاوز المماثلة والتكرار، شيء آخر غير تلك الجذور، ربما تكون القصيدة المعاصرة التي تصالح الناس على تسميتها مؤقتا بالنثرية، هي التعبير الراهن عن هذا الأجد. وهذا المصطلح الأخير، يفضل الابداع المتجاوز عن هذا الجديد الذي ألفناه وتعايشنا معه. وقد قيل لي أكثر من مرة ؟ إذا قبلنا بهذا المصطلح وأشعناه في حياتنا الأدبية فماذا نسمي الدورة التجديدية التي قد تأتي بعده، فأقول مازحا:
( ما بعد الأجد ثم ما بعد الأجد!!) المهم هو الاتفاق على مفهوم يساعد على ترصيف هذا الابداع الشعري الذي يغادر ساحة الايقاع العالي او الهامش للقصيدة الجديدة وليكن مصطلحا مؤقتا لأن في تسمية القصيدة (الأجد) بالنثرية اساءة للشعر والحاقه بمنطقة النثر. وما يخلقه هذا الالحاق في الأذهان من اضطراب وعسر في الفهم.
حاوره: ابراهيم الجرادي (كاتب واستاذ من سوريا)