لا أتذكر، الآن، بالضبط، أول مرة التقيت فيها الصديق الشاعر عبدالله الريامي، كما لا أتذكر كذلك أين حدث ذلك اللقاء البعيد. هل في الدار البيضاء أم في الرباط، لكن ما أتذكره جيدا، وهذا هوا الأهم، هو أننا تصادقنا من وقتها، دون أن نكون بحاجة الي توطئات أو الى وسيط آخر غير الشعر. ومن ساعتها صرنا لا نلتقي الا في تلك الممرات المضيئة والنبيلة، التي لا يحتاج المرء منا أن يضرب بشأنها المواعيد أو اللقاءات المهيأة بكثير من الافتعال والافتراء والكذب.
ولأني أعرف أن عبدالله، مثل شعراء قليلين، يفضل الإقامة في حذائه، فانك نادرا ما قد تعثر عليه في المكان نفسه أو حتى في المدينة نفسها في أوقات متقاربة، مستطيبا الاقامة كأي تماسك يرهبه السفر وتجريب الأقصى دائما والترحال. فهو، في حدود معرفتي بصمته وخجله معا، يضجر من الاقامات الميتة المميتة، تلك التي لا تتوانى في تحويل مستطيبيها الى مجرد قطع أثاث ممسوخة قد لا تصلح حتى للكسر.
من هنا كنت دائما أرى فيه ذلك البدوي المرح الذي لا يروم كل ما يجلب الضيق، بدءا بالملابس والبيوت والأفكار وصولا الى الخيال، خياله الذي نكاد لا نخطئ رحابته وجموحه، ونحن نستلذ بقراءة نصوصه المهربة هنا وهناك، بعيدا عن فضول البصاصين ونميمة العاهات، التي لا تكف عن استهلاك الهواء دون ما نتيجة أو جدوى.
فهو، على غرار شعراء قليلين، يجد حرجا كبيرا في أن يخبرك بآخر ما كتب، أو أن يقرأ عليك قصيدة انتهى من تدبيج دهشتها على التو، يسبقه صمته ودليله في ليل المتعة وشبهة العلاقات والتباس المعنى، مكتفيا في ذلك بالانصات الى عظامه، بعيدا عن ضجيج الإدعاء، كيف لا، وهو الذي ما توقف عن البحث عن قبر لا يتسع لسواه، قد يقايض بها كل هذه الرغبة في العزلة، كل هذا الصمت :
((مستعد أنا (قال مرة) لمقايضة هذه البلاد بقبر لايتسع لسولي أو بضوء خافت ينبعث من غرفة استقبال في مجرة أكثر حنوا من محفة ))
ربما كان لهذه العزلة، التي يركض خلفها الريامي، تفسير في تلك الإقامات التي جربها أو جربته في ازمان ماضية وفي تربات أخرى، فهو العماني الذي ازداد بمصر وفضل أن يكون مغربيا بالعائلة، هذا، دونما حاجة الى الحديث عن تلك الأوطان الشعرية الباذخة التي يفضل الشعراء، في العادة. عدم الخوض فيها بصريح النثر.
انه، بكل بساطة، هنا وهناك، وليس، في الوقت نفسه، هناك ولا هنا:
((غيمة شاردة تختبئ في محفة الانتظار تطل على هذا الجفاف الذي ينبت في الشفاه وكأن الفرص القاتلة انتهاز لهذا القلب وحده))
إنه عطش النخب، إذن، وغربته، كلما أحس الشاعر بضائقة التنفس، لا بضيقه، وكلما صار ظلا للعنة اثمة وغريقا في إفلاس الخطى أليس هو القائل، ذات ألم :
((ولأني ولدت في يوم ماطر فقد عشت دوما كالغريق))
لقد أحسست بهذا الغرق في وقت مضى، كما أحسه الآن في صمت الشاعر وخجله الخلاقين. رغم أني لا أتذكر، أول مرة التقيته، ولا أين حدث ذلك اللقاء البعيد. لكن ما أتذكره جيدا الآن، وهذا كما أسلفت هو المهم، هو أننا تصادقنا من وقتها، دون أن نكون بحاجة إلى توطئات أو الى وسيط آخر غير الشعر.
عزيز أزغاي (شاعر من المغرب)