قضى عبد الوهاب المؤدب (1946 – 2014) عمره موزعا بين اهتمامات شتـّى وأنشطة متعدّدة، حاول الربط بينها بإرادة ممنهجة ممّا استوجبت عملا دؤوبا ومسترسلا مجمّعا في سياق حياته بين تناقضات أو ما يمكن أن يكون تناقضات صارخة، حيث إنفتح حفيد المدرّس في جامع الزيتونة على أحدث المناهج والمدارس الفكريّة الغربية، بين فلسفة وعلم نفس ومدارس فنيّة وأدبيّة عصريّة، ودرس الآداب الفرنسيّة في تونس ليصبح علما من أعلام الدّفاع عن الأدب والفكر العربيين في الغرب (وفرنسا بالخصوص)، وأضحى ابن الأحياء العتيقة في مدينة تونس (ذو الأصول اليمنية من ناحية والدته وطرابلسية، وأندلسي من ناحية والده) مسافرا دائما بين العواصم الغربية والآسيويّة محاضرا عن إبداع العرب (والمسلمين) القديم والحديث في مجال الدب والفكر.
مارس عبد الوهاب المؤدب هواياته مبكرا بعد حصوله على الإجازة في الأدب وتاريخ الفنون (باريس 1970)، شرع في نشر مقالاته في مجالات (Les cahiers du cinéma) كراسات السينما، و (Les temps modernes) الأزمنة الحديثة. وقصائده في مجلة (Change) الفرنسية، وكان ذلك في منتصف السنوات السبعين.
بعد فترة التكوين اقتحم عبد الوهاب المؤدب مجال النشر في مؤسّسات فرنسية (دار “Le seuil”) فيما بين 1973 – 1974 كعضو في لجان القراءة، ليعمل بعد ذلك (فيما بين 1974 و1988) كمستشار للنشر وكمدير مشروع في دار السندباد التي اختصّت في التعريف بالأدب العربي والفارسي القديم منهما والحديث. وأنجز عبد الوهاب المؤدب خلال تلك المرحلة ترجمة لرواية الكاتب السوداني طيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال” (نشر سنة 1983) ليكون ذلك العمل بمثابة وقفة تأمّل قام بها المترجم لتجربته الحياتية في الغرب في أبعادها الثقافية والحضارية، وهو موضوع كان قد خاضه فيما سبق ذلك حينما أصدر باللغة الفرنسية روايته “طاليسمانو” الصادرة سنة 1979 عن دار كريستيان بورجوا والتي تمحورت حول مسائل : اللغة والهويّة والمثاقفة التي تحفز وعي شاب مثقف يعود إلى وطنه بعد إقامة عميقة الأثر في أوروبا، فيتمزق وجدانه من فعل القطيعة النفسية والثقافية التي نمت بين جوانبه واكتسحت عقله وقلبه ليقتحم متاهة صحراوية – حسب تعبير بورجيس – حيث لا يعرف إلى أين المسير وإلى أين المفرّ بين نوستالجيا عنيفة، ونفي متعدّد الوجوه وذات حائرة لا تجد راحة في مدن تشدّها وتلفظها في ذات الحين. فقد مزجت الكتابة في رواية “طاليسمانو” وجه الحياة ورعب الموت في وجع الوجود أصبحت عسيرة مهما كان الطريق الذي تتبعه (حيث لا تكمن الصعوبة في السبيل بل أن السبيل هو الصعوبة بذاتها حسب قول شوبنهاور.. .). صعوبة الحياة لدى العائد من “الشمال” إلى “الجنوب” لا تكمن في صعوبة التأقلم أو عسر التفاعل الخصب بين الثقافتين الأصلية والمكتسبة والتي تصوغ وعيه الجديد، بل أنها تكمن في التوتر الذي يتولد عما يمكن – بالنسبة إليه – أن يتجلـّى عنه من عناصر متناقضة ومتنافرة يعسر التعايش بينهما. وإذا كانت “الهوية” من فقه الدولة المستبدّة برعاياها فهي إذا تزعزعت لا تجد مأمنا إلا في المسكوت عنه الذي ينتقم – طال الوقت أو قصر – من محاولة قمعه بالضياع أو الموت (مهما تنوعت أشكال كل منهما.. .)
كان لا بدّ لعبد الوهاب المؤدب أن يتناول رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” بالدّراسة والترجمة والتحليل، لأنها جزء من معاناة عاشها جيل كامل من مثقفي العرب والمسلمين (أهل الشرق.. .) وتطرّق إلى بعض جوانبها، في مرحلة سابقة، كل من الياباني تانزاكي، والهندي طاغور والمصري توفيق الحكيم، واللبناني سهيل إدريس في روايات رائعة. وقد كانت “طاليسمانو” – بالنسبة للمؤدب – تتمّة أو إضاءة أخرى لتجربة الرحلة إلى الشمال، تلك الرحلة التي استوجب العودة إلى الجنوب ثم فرضت عليه التوغل في مجالات الغرب، ثمّ السعي شرقا بحثا عن معان أخرى كامنة في روحانيات وعقلانية متمازجة في وعي الإنسان وفي الوعي بالإنسان.
مزج الثقافات أو المثاقفة هي المسألة التي شغلت فكر عبد الوهاب المؤدب وهواجسه طوال حياته. وهو كرّس لها طاقاته وهواياته وأعماله. ناقش أطروحة دكتوراه (في جامعة آكس – مرسيليا (1991)) حول موضوع : “الكتابة والجينالوجية المزدوجة”. والازدواج في الأصول أو المرجعية (الجينالوجية.. .) هو ذلك المصدر المشترك المشتهى أو الحتمي بالنسبة إليه : أي ثقافة الأنوار الأوروبية وثقافة العرب والمسلمين الأصلية. فكر ذو أصول مزدوجة ومصادر إلهام متنوعة وثقافة مستوجبة “لنقد مزدوج” كما طرح ذلك عدد من المثقفين العرب الملهمين مثل عبد الكبير الخطيبي الذي يعجب به عبد الوهاب المؤدب إلى درجة لا يعرفها إلا من تناجى وتحادث معه.
لقد عاش عبد الوهاب المؤدب في مفترق الطرق بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب، فكان رحالة (رحلات بعيدة أحيانا وقصيرة دائما.. .) وكان يتلذذ دور الوسيط في مجال الثقافات والحضارة والفكر، إلى جانب تجارب النشر. خاطر المؤدب بتأسيس المجلات الثقافية (باللغة الفرنسية) الأولى فيما بين 1992 و 1994 بالاشتراك مع فتحي بن سلامة وحملت عنوانا دالا على مغازيها : ما بين العلامات (Intersignes)، ثم اقتحم مغامرة أخرى بمفرده مع مجلة المتاهة (Dédale) سنة 1995 وأشرف على سلسة كتب تحمل ذات الإسم في إحدى أهم دور النشر الباريسية المهتمّة بالثقافة الشرقية (دار ميزون نووف – لاروز). إلى جانب الوساطة في مجال النشر والترجمة عمل المؤدب بالتدريس الجامعي كأستاذ زائر في عدد من الجامعات بفرنسا وسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان حاملا الكلمة الطيبة “للأدب العربي والإسلامي” (القديم) عبر ترحاله الأكاديمي ومحاولا التوفيق بين هوايتي الاكتشاف والكشف عن التراث، تلك المحاولة التي سوف يعود إليها في الإشتراك في شريطين سينمائيين : “الخط العربي” لمحمد شرباجي (1986) و”مرايا تونس” لراوول رويز (1993)، ليستقر به الأمر في إنتاج برنامج أسبوعي في إذاعة “فرنسا الثقافية” (1997) وسمه : “ثقافات الإسلام” مؤكدا حقيقة التنوّع والتعايش في حضارة وثقافة العرب والمسلمين منذ عصورها الأولى.
لم يبارح عبد الوهاب المؤدب مفترق الطرق بين الثقافات التي ورثها أو تلك التي اكتسبها وذلك ليس خوفا من أن يختار موقعه بل أنه في قرّر أن يكون تونسيا وفرنسيا (شرقيا وجنوبيا وشرقيا وشماليا.. .) وأن يقرأ بالعربية وأن يكتب باللغة الفرنسية كما أنه إختار أن يكون وسيطا بين كل تلك التيارات وناقلا لنفسائها. وقد كتب المؤدب الشعر والرواية والنقد والدراسات محاولا تنويع مصادر استلهامه من ثقافات الشرق (العربية الإسلامية والصينية واليابانية) ومن ثقافات الغرب التي إختار العيش فيه والكتابة بإحدى لغاته (الفرنسية).
لم تكن تجربة المؤدب الشعرية طويلة المدى إبداعا وترجمة (ترجم المؤدب شعر اليابني ساغيو تحت عنوان نحو العدم (2004)، كما أن كتاباته الروائية يمكن اختصارها في كتابي “طاليسمانو (1979) و”فانتازيا” (1986) وحكاية “الغزالة والطفل” (1992).
أما في أدب الرحلة فهو أصدر “رحلة آية في المدن” (1986، “99 محطة في يال” (1995) و”جنس الطيور” (2001) وهو الكتاب الذي التحم فيه فن الكتابة في أدب الرحلة مع التأمّل الصوفي.. .
شكل التصوّف بالنسبة للمؤدب أهمّ جانب من الإرث الحضاري العربي الإسلامي الذي كرّس له عناية مسترسلة على صعيد البحث والدرس والتعريف رغم أنه كان شديد الشغف بالعقلانية الرشدية والمنهجيّة التاريخية الخلدونية. وقد تكون المقاربة الفكرية التي تناول من خلالها عبد الوهاب المؤدب الثقافة العربية الإسلامية تتماهى مع بعض الآراء الاستشراقية الكلاسيكية بحيث انه تمثل – إجمالا – الغرب كموطن للعقلانية المسيطرة على الحياة والعالم وإعتبر أن فكر أمم الشرق يخصّ الروحانيات بشكل رئيسي، لكن المؤدب كان مدركا أن للغرب تراثا روحانيا لا يستهان وأن للشرق عقلانيين عظماء. وقد كان اهتمام عبد الوهاب المؤدب بالأدب الصوفي العربي الإسلامي مركزا على ابن عربي والسهرودي والحلاج والبسطامي، وابن الرومي كما يظهر ذلك في كتبه : “كلمات البسطامي” (1989) و”قبر لابن عربي” (1987)، قصة “المنفي الغربي” حسب الهروردي (1993)، معتبرا أن ذلك الفكر المتمحور حول المجال الروحي المحض يشكل سعيا وراء كشف جوهر الكائن الإنساني والطبيعة الحقيقية للوجود، والقوى المحركة الداخلية للبشر وللكون بغية لفت الإنتباه إلى الحقيقة الكامنة وراء المجال الداخلي للإنسان عموما دون اعتبار الفوارق والاختلافات بين أصناف وأصول وشروط البشر. فالتصوّف أذن، بالنسبة إليه، هو تجاوز للشكليات، والحيثيات البسيطة وهو إنفتاح على ما هو عام وشامل لكل البشرية وتجاوز للظرفية والمكان المجددين والضيقين.. . وقد خلص المؤدب إلى أن الطابع الإنساني للثقافة العربية الإسلامية يكمن في جذرها الروحاني القادر على تطعيم وتخصيب مناهج العقلانية والتقنية (الغربيتين) المعاصرتين. وإن لم يكتب المؤدب كثيرا في شؤون فكر التصوف الإسلامي فإن برامجه الإذاعية في محطة “فرنسا الثقافية” تكاد تكون مدونة حوارية فريدة من نوعها في مقاربة المسائل النظرية والمعرفية الخاصة بموضوع الروحانيات في الإسلام. أمّا السؤال الأخير الذي يمكن أن يكون من أبرز اهتمامات عبد الوهاب المؤدب الفكرية هو الذي خصّ المسألة السياسية عموما ومسألة الإسلام السياسي على وجه الخصوص، حيث ان مقاربته للمسألة كانت تنطلق من مسلمات الفكر الليبرالي الحديث القائل بالفصل المطلق بين السياسة والدين مما دفعه إلى مناهضة فكر وممارسة الإخوان المسلمين ومختلف التيارات الجهادية، خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، كما أكد ذلك في مؤلفه المثير للجدل “أوهام سلام السياسي” (2002)، وفي كتابي “فتاوى مضادة” (2006) و”الخروج عن اللعنة” : الإسلام بين الحضارة والهمجية” (2008).
اعتبر المؤدب أن الإسلام السياسي الحديث هو قوّة مكبلة للتقدّم في العالم العربي الإسلامي، وأنها خانقة لمسيرة الحداثة فيه، وأنها تشكل – في نهاية التحليل – قوّة ارتداد إلى الماضي وتأبيد للتخلف، بل أنه صرّح في حوار تلفزي (القناة الثانية الفرنسية في سنة 2008) مع طارق رمضان : “إن السم الذي ينخر الجسم الإسلامي اليوم، قد زرعه جدكم (حسن البنا !!).. .” وطالب بالتخلي عن سنة ذبح الكباش في عيد الاضحى (2009)، وتضامن مع جريدة “شارلي هبدو” سنة 2007، حين أعلنت مساندتها للدانمارك في قضية الرسوم المسيئة للرسول، تحت شعار حرية التعبير والمعتقد.. إن التجذر الفكري في المنظومة الفلسفية العقلانية والحداثة الجمالية والفنية لدى عبدالوهاب المؤدب، هو مصدر مخاصمته لمشروع الإسلام السياسي، وليس الانخراط في شبكة مصالح الغرب كما ذهب إلى ذلك خصومه ونقاده الذين اعتبروه (أي عبد الوهاب المؤدب) نتاجا غربيا بجلدة عربية خصوصا وأن كتبه النقدية إزاء المشروع الإسلاموي نالت ترحابا نقديا ملحوظا في الغرب (جائزة فرانسوا مورياك عن الأكاديمية الفرنسية سنة 2002 لفائدة كتابه : أوهام الإسلام السياسي.. .). والمسألة وإن كانت تستحق معالجة تحليلية ونقدية فهي لا يمكن أن تهمل حقيقة أن سؤال السياسة لم يكن أمرا مهمّا بالنسبة للمؤدب وأنه خاضه تحت وطأة الأحداث (كما سوف نبيّن أسفله) ووفق رؤيته القائلة بوجوب اعتبار “التنسيب في التقييم السياسي حسب الظروف.. .”
مأزق ثورات الربيع العربي
لم يكن عبد الوهاب المؤدب معنيا بالشأن السياسي ولا بالفلسفة السياسية بل كان همّه المركزي فني وثقافي، لكن تقلبات التاريخ الذي عاصره فرض عليه – عبر المشاركة في الشأن العام فكريا – أن يتبنى مواقف تبدو وكأنها مرتبكة لكنها مرتبطة بخيط ناظم لم يقطعه طوال حياته وهو الذي تجسده المسألة الديمقراطية من منظور ليبرالي. وهو لم يكن معارضا لنظام الحكم في تونس خلال فترتي الدولة الوطنية (1956 – 1987) و(1987 – 2010)، بل أنه انتقد كليهما وشجب العيوب (الحكم الفردي والطغياني ومظاهر الفساد) التي برزت في نهاية كل منهما، وابتهج بموجة “الثورات” العربية وربيعها الكاذب في البداية (مؤكدا سذاجته السياسية !!) لينتقل سريعا إلى مواقف نقدية متمحورة حول معارضته ورفضه لقيام نظم حكم تحت قبضة الإسلام السياسي في البلدان التي عرفت تلك “الثورات” (تونس، مصر، ليبيا، اليمن وسوريا.. .). وقد دوّن المؤدب فرحته الأولى بالربيع التونسي في كتابه “ربيع تونس : تحوّل التاريخ (2011 وفي مساهمته في كتاب جماعي تحت عنوان : ارحل ! إنها ثورة !” (2012). ليبدأ بعد ذلك في مراجعة موقفه تدريجيا وعلى ضوء صعود نفوذ التيار الإسلامي في المجتمع والسلطة المنبثقة عن مسار الثورة”.
اهتمّ عبد الوهاب المؤدب بالشأن السياسي عن بعد وبشكل عرضي. وهو كان من أقرب المساندين لنظام الحكم التونسي إلى المعارضة المطالبة بتوسيع دائرة الحريات والحقوق العامّة والفردية. وبعد 2011 أصبح في فترة أولى من أشدّ المساندين لحركات الشباب وقوى المجتمع المدني المتخاصمة مع السلطة الجديدة والمساندة لها والمنخرطة في مسارها “الثوري” ليتحوّل بعد انتخابات (أكتوبر 2011) التي أفرزت انتصار الإسلاميين إلى أحد أشدّ المعارضين للحكم (الديمقراطي) الجديد تحت عنوان الدّفاع عن المكاسب والاجتماعية والثقافية والسياسية لمرحلة ما قبل “الثورة”. ويكمن مفتاح فهم موقفه في قناعاته الليبرالية العنيدة والتي جلبت له عداواته وانتقادات قوى الاحتجاج الراديكالية (إسلاميين ويساريين) التي سرعان ما تفطنت إلى “متانة علاقاته مع سلطات ما قبل الثورة”، والتي لاحقته في فرنسا عبر كتابات طارق رمضان (حفيد حسن البنا) وآلان غراش (ابن هنري كوريال، الشيوعي المصري السابق.. .)، وانتهى به الأمر إلى مناصرة القوة السياسية والمناهضة للإسلاميين في إنتخابات 2014 حين أصدر وثيقة (كانت آخر شيء كتبه !) لخص فيها رأيه : “… نحن إزاء إختيار بين مجتمع منفتح، حيوي، متأقلم مع نواميس العيش في هذا القرن، لا يخشى النظر إلى الأمام، وبين مجتمع منغلق، رجعي قديم وغارق في الخلط بين الدين والسياسة،، جاعلا من الإيمان مجرد الاعتقاد في مبدأ هش، وهزيل وخاو رفع إلى مرتبة البداهة ونزعت عنه ثقافته الذاتية والمؤسسة على فقه الشك وتعدّد الآراء والحوار وصولا إلى التساؤل وشعور الإشكال والريبة التي تثيرها المسألة الدينية. ونحن نعتقد أن الرؤية الشمولية التي نلقيها على الإسلام قد تحوّلت إلى إيديولوجية شمولية لا يمكن أن تقودنا إلا الفاشية”. (مجلة ليدرز. أكتوبر 2014، النشرة الالكترونية).
نالت مسألة الملاءمة بين التراث الثقافي الإسلامي وبين متطلبات الحياة الحديثة اهتماما ملموسا ودائما لدى المؤدب وشغلت فكره منذ أن انطلق في الكتابة والتدريس والترجمة وهو بقي وفيا للمقاربة التي هيمنت على الفكر العربي (الليبرالي) المعاصر، رغم تعدّد الرؤى والاجتهادات حول مفهوم الملاءمة والمعاصرة. لكن القراءات النقدية لمواقف عبدالوهاب المؤدب كانت تؤكد انسياقه في تيار التحاليل الغربية والاستشراقية للواقع العربي الإسلامي وترى في عمله الفكري خطاب “غربي” و”استعماري جديد” يعيد صياغة تمثلات وإدراكات الغرب للآخر العربي والمسلم. وقد يجد أصحاب هذا النقد فيما استعمل المؤدب من صيغ تحليلية ومفاهيم ما يعزز رأيهم حيث إن صاحب “فانتازيا” لا يتوانى في إستدعاء مفاهيم “الفاشية الإسلامية” و”التخلف” و”الشمولية الدينية” لتقييم مشاريع الإسلام السياسي المعاصر، وهي مفاهيم مهيمنة في منظومة الخطاب الإعلامي والأكاديمي (الغربي) الدّاعم للإسلاموفوبيا الغربية الراهنة إزاء الإسلام والمسلمين. مع أن هذا لا يعني عدم ورود إشارات في تحاليل المؤدب الفكرية والسياسية تؤكد وجاهة النقد (المعرفي) الموجه إليه، لكن اهتماماته بالشأن العام وبالمسائل (السياسية) المرتبطة به لا ترتقي إلى مستوى الإهتمام المركزي أو الوجودي (كما يعترف بذلك بنفسه.. .) حيث انه لا يبحث عن مبرّر لآرائه في الواقع على الطريقة السارترية، بل أنه يعتبر نفسه فنانا وأديبا يتقاطع طريقه مع واقع التاريخ المتعرج والمتلعثم فينقر فيه حسب انطباعه الحيني (ووفق رؤيته العامة للواقع.. .)، ثمّ ينصرف إلى همومه الأخرى، على طريقة ألبار كامو، أي أنه لا يتمثل دوره كمثقف “ملتزم”، بل كمثقف أو مبدع يمكن أن يكون له رأي فيما يرى حوله وإذا ما إستوجب الأمر ذلك… وقد إعتبر المؤدب أن تنامي نفوذ التيارات الإسلامية في البلدان العربية يشكل خطرا تاريخيا على مجتمعاتها وعلى آفاق تطورها نحو الحداثة والنمط الاجتماعي المنفتح والذي تعلق بهما، لذلك فهو قارن تلك الحركات بالنازية.. . في مستوى هدفها السياسي (نظام شمولي) وصيغ عملها (توظيف الحرية لضرب الحرية) وأسلوبهم (الخطاب المزدوج) بالرغم من أنه اعتبر أن الكفاءة النازية في المجال الاقتصادي والصناعي منعدمة في قوى البديل الإسلامي في العالم العربي (مما يبشر – حسب رأيه – بحتميّة قيام أنظمة إسلامية تسلطية واستبدادية قادرة على لجم الإحتجاجات المتولدة من الفشل التنموي المؤكد.. .).
تلك هي الإعتبارات التي جعلته يدعم ما حدث في مصر على يدي السيسي، ويدعم القوى المناهضة للإسلام السياسي في تونس مؤكدا فيما كتبه (مقال: هزيمة الإسلاميين والتحالف الغربي : مجلة ليدرز 25/9/2013) أن السبب الجوهري لخلافه مع ذلك التيار يكمن في شعار : “الإسلام هو الحل” في حين أنه كان يعتبر أن “الحرية هي الحل” وأن قدر العالم العربي لم يعد محكوما “بمأساته الأصلية التي تختزل مصيره في بديل الإستبداد العلماني أو الحكومة الدينية الشمولية”.
وتمثل المؤدب أن أسلوب الحكم الإسلاموي في بلدان “الربيع العربي” مباشرة بعد ما حصل فيها من تغييرات يشكل تأكيدا للتحليل السياسي القائل أن المدرسة الإخوانية غير معنية – في حقيقة الأمر – بالبناء الديمقراطي، بل أن هدفها الظاهر/ المستتر هو الانقضاض على الحكم والانفراد به. وأن مقاومة ذلك التيار جاء – حسب المؤدب – من قبل الشعوب ذاتها، مستحضرا – بالتأكيد – ما كتبه أرنست رينان في مؤلفه “كاليبان” (1878) والقائل أن الشعوب رغم ضيق أفقها العلمي يمكن أن تكون في تناغم مع المعرفة حيث أن عصر الديمقراطية وفوائدها تدفعهم إلى الفضيلة الذهنية المناهضة لإقرار أنظمة أرستوقراطية أو شمولية، وإن كانت التجربة النازية التي كثيرا ما يستحضرها المؤدب لتحليل المشروع الإخواني تفيد بعكس استنتاجات أرنست رينان. أمّا عبد الوهاب المؤدب الذي يحصر مرجع تفكيره السياسي والفلسفي في الفضاء المعرفي الغربي فهو إعتبر أنّ معالجته للمسألة التي يختزلها المشروع الإسلاموي تشكل بداية للمساهمة العربية في تخصيب الفكر الإنساني في حدوده الجديدة التي لا تقبل حدود الجغرافيا والتي ترجع إلى الينابيع الأصلية لها في فلسفة إيمانويل كانط في صفحات كتابته حول السلام الأبدي.. .
إن الإعتقاد وفي مفاهيم شمولية فكرة الإنسانية، وحقوق الفرد وإستقلاليته ومشروعية مساهمة كل أجزاء البشرية في بلورة وتجذير المثل العليا والقيم الإيتيقية المرافقة لتيّار التقدّم البشري، يتعزز، لدى المؤدب، كما أشرنا إلى ذلك لماما، بالرافد الثاني لتفكيره ونعني بذلك رافد الفكر الروحاني والصوفي العربي الإسلامي. وهنا نقطة أخرى يرتكز إليها المؤدب “للقطيعة الجذرية” حسب تعبيره في مقال “إغتيال الذاكرة” في مجلة “ليدرز” (23/1/2013 النسخة الالكترونية) – مع التيار الإسلامي حيث أن هذا الأخير يرفض عنصري المرجعية الفكرية الأساسية بالنسبة إليها وهما : العقلانية الأنوارية الغربية من ناحية والفلسفة الصوفية الإسلامية من ناحية ثانية. وقد كان حرق وتدمير 16 مزارا ومقاما صوفيا في تونس من قبل “إسلاميين متطرفين” عملا شنيعا – حسب المؤدب – لأنه يجسد رغبة “إغتيال الذاكرة” الإسلامية التونسية، ولأنه يرسم صورة لنموذج حضاري لم تعرفه البلاد عبر تاريخها الطويل التي تعايش خلاله المسلمون والسنيون المالكيون والحنفيون والإباضيون والمتصوفة إلى جانب أتباع ديانات (سماوية أخرى). ويستعدى مشروع الإسلام السياسي – حسب المؤدب – أهمّ عناصر الحياة الحديثة (الحداثة الثقافية والحرية السياسية وأهمّ مكوّنات الروح الدينية (التصوّف الإسلامي) ممّا جعله يستخلص أن ذلك المشروع يناقض الحرية والروحانية الإسلامية. ويكمن أصل ذلك التناقض في الربط العضوي بين الدين والسياسة الذي يعتبره الإسلام السياسي حجر الأساس في منظومته الدينية والفكرية والسياسية حيث حاول فرضه ضمن أحكام الدستور الجديد في تونس مما دفع بعبد الوهاب المؤدب إلى النهوض إلى مقاومته عبر مقالات عديدة.
إعتبر عبد الوهاب المؤدب في كتابه “ربيع تونس.. .” (2011) أن مآل التغيير الثوري في تونس يجب أن يقود في المقام الأوّل إلى الرّفع من منسوب الحرية في المجتمع والمشاركة في الحياة العامّة وتعزيز كرامة الإنسان وحقوقه وخاصة لفائدة الشباب والمرأة والمبدعين. وكان المؤدب قد أكد في عمل مشترك سابق أن المرأة هي عنوان التحوّل الكبير الذي تحتاجه المجتمعات العربية والإسلامية، وأن الحداثة والحرية لن تكونا حقيقة تاريخية وواقعية في تلك المجتمعات إلا إذا كانت تشمل وضع المرأة وحقوقها وأدوارها (المؤدب، باري كلار، جارمان توما : (المرأة والحب والمقدس، 2010). لذلك نهض المؤدب بعد سنة 2011 إلى الدّفاع عن كل الفنانين والمدونين والمطربين (الراب) والمثقفين والنساء الذين تعرّضوا إلى مضايقات من قبل سلطة التيّار الإسلامي (الدفاع عن عزيز عمامي، جابر ماجري و أمينة – وهي من منظمة فيمان –.. .). هذه الأحداث المذكورة ليست أساس التقييم الفكري والسياسي السلبي لـ”الثورة التونسية” كما صاغه عبد الوهاب المؤدب، بل أن المنطلق الأساسي في موقفه هو رفضه للدولة الدينية التي كان الإسلام السياسي الذي تسلم الحكم في إنتخابات 2011 يهيّأ لإرسائها. صاغ المؤدب مرتكزات قطيعته النهائية مع حكم الإسلاميين في مقال وسمه : “الأسس النظرية للمساندة الأمريكية للتيّار الإسلامي” (مجلة ليدرز 23/01/2014) هيأ له بمقالين سابقين : أشرنا لأحدهما : هزيمة الإسلاميين والتحالف الغربي (25/09/2013) وأما الثاني فهو : “لماذا نرفض مشروع الدستور التونسي” (لومند 30/04/2013).. . تملك هاجس قيام دولة دينية في تونس بعقل عبد الوهاب المؤدب، خاصّة بعد أن حلّ بتونس نواه فيلدمان ليرافق مسألة تحرير الدستور من قبل المجلس التأسيسي، لذلك إنطلق المؤدب في نقد دور الخبير الأمريكي (الذي ألهم تحرير دستور كل من أفغانستان والعراق)، وهو المعروف بإنتمائه إلى حلقات المحافظين الجدد وتلميذ للمستشرق جورج إيسبوزيطو وأحد أبرز من منظري وملهمي سياسة بوش الإبن إزاء الدول العربية الإسلامية منذ أحداث 11 سبتمبر. خصّص عبد الوهاب المؤدب نقده في المقال المشار إليه لأفكار فيلدمان الموثقة في دراسة تجربة البناء الديمقراطي في أفغانستان على أساس شريعة الإسلام – حسب رأيه – وهي دراسة صدرت سنة 2003، وفي كتابه الشهير الصادر عن جامعة يربستون 2008 تحت عنوان : “سقوط ونهضة الدولة الإسلامية” والذي بلوره قراءة تاريخية لمسألة الدولة الإسلامية معتبرا أن تاريخ المسلمين عرف ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى التي عرفت بزوغ دولة قائمة على الشريعة (مماثلة لتجربة الدولة اليهودية في بداية تاريخ اليهود باعتبار إشتراك الإسلام واليهودية في مبدأ الربط بين الدين والسياسة، وقيام الدولة على أساس الشريعة الدينية).
المرحلة الثانية : سقوط دولة القانون (الشريعة الإسلامية) خلال الفترة الأخيرة من حكم العثمانيين (خاصّة بعد تجربة التنظيمات التي يعتبرها الفكر الإصلاحي الإسلامي تجربة إيجابية).
عودة دولة القانون (الشريعة الإسلامية) في العصر الراهن كدولة جديدة يتصدّر تيار الإخوان المسلمين لبنائها.
إعتبر عبد الوهاب المؤدب أن قراءة فيلدمان هي الأساس النظري للسياسة الأمريكية إزاء تيّار الإخوان المسلمين وثورات الربيع العربي. وأنّ فك الارتباط معها يستوجب الإبتعاد عن المسار السياسي الذي تقترحه على العرب (دول وحركات سياسية).. . وقد خاض المؤدب نقاشات وصراعات إعلامية (عبر إذاعة “فرنسا الثقافية” والمحاضرات) ضدّ أنصار فكر نواه فيلدمان في فرنسا مثل فرنسوا بورغا، وفانسان جايسر، وستيفان لاكروا، لكن تلك النقاشات لم تتواصل بسبب إنصراف المؤدب إلى إهتمامات أخرى، والتطوّر السريع للداء الذي سرّع في غيابه (فيما بين جويلية ونوفمبر 2014).
لقد حاول عبدالوهاب المؤدب أن يحلل ويتمثل تطوّر الواقع التاريخي الراهن من زاوية بعده الفكري والإبداعي، حيث اعتبر أنّ التحوّلات التي إنطلقت في المجتمعات العربية خلال السنوات الأخيرة قادرة على تدشين مرحلة راقية من تاريخها شريطة أن يفتح المجال التربوي والثقافي إلى مرجعية الفكر الأنواري الغربي وأن تعزّز الشخصية الثقافية العربية الإسلامية في المستوى الشعبي بروح الفكر الصوفي الرافض بطبعه لعقلية التحجر.. .
كان ذلك رأي أو حلم.. . لم يكتمل.. . ولم يكمل عبد الوهاب المؤدب الاشتغال عليه.
زهيـــر الذوادي / كاتب من تونس