الإهداء:
لو تنطقُ الرحمةُ أو يكون لها شكلٌ آدميّ لقلتُ: هذه أمي.. طفوتُ على نهرِها مثل ورقةٍ خضراءَ فكانت تحميني كلّما نتأتْ الصخورُ في طريق طفولتي. شربتُ من نبع حليبها عسلاً إلى أن غصّ فمي بالعذوبةِ، وكنتُ أصعدُ باتجاه الضّوء متسلّقاً ظهرَها الذي انحنى أمامي جسراً لأعبرَ فوقه نحو غابةِ الاكتشاف. بأصابعي الصغيرة تشبّثتُ في جدائل شعرها محتمياً من السقوطِ، وهي تعبرُ بي في الريح وسط حقولِ المطرِ وشدائد الأيامِ. كلُّ جرحٍ يطيبُ إنْ مسحتْ بيدها عليه ويفْنى، كلُّ دمعةٍ تجفُّ إنْ ابتسمتْ في عيوني أو قبّلتني لأنامَ. وأنا الشّقيّ كنتُ أقفزُ جاهلاً بين الحفرِ، أسقط كلَّ يومٍ وهي تسعفني لأنهضَ في تحدي الحياةِ.
لو كان للحنانِ عينان ووجهٌ يبتسمُ لقلت: هذه أمي.. الشجرةُ التي لعبتُ تحتَ ظلالها آمناً، غير مكترثٍ من أين يأتي الرزقُ، وهي تمدُّ أغصانَها لي بالثمارِ. تطعمني من ثدي الأرضِ حبّاً لأعيشَ أعشق ترابها مهما ارتحلتُ في البراري ومهما داستْ قدماي في المدنِ الغريبةِ..وأمي هي البلادُ التي يشتعلُ الحنينُ إليها كلّما اكفهرّتْ الغيمةُ فوقَ رأسي وحاصرتني القضبانُ الصدئةُ وشلّت أجنحتي. ذهبتُ عنها ألهثُ في الوجودِ مفتِّشاً عن كنوز الملوكِ وتيجانهم، لكنّي عرفتُ أنَّ كلَّ ذهب العالم ومجده، لا يساوي لحظة أن ارتمي متمرِّغاً في حضنها.
لو كان للعطاءِ يدٌ لا تمنّ لقلت: هذه يد أمي.. غسلتني في نهرِ عينيها لأرى الوجودَ أغنيةً ونداءً حلواً في المدى. ألقمتني الكلامَ حرفاً حرفاً فصار النشيدُ سلامي كلّما مررتُ في طرقِ الخصامِ، وكستني من ثيابِ القناعةِ حتى مشيتُ متدثّراً لا تلسعني الريحُ مهما تضوّر لفحُها. أمي.. في كفِّها عطاءُ الأرضِ كلّه، وفي عروقها مصلّى.
لو كان للحياة قلبٌ ينبضُ كي تستمرَ الحياةُ، لقلتُ: هذا قلبُ أمي.. كلُّ خفقةٍ منها ترِّن في صدى الوجودِ فيطربُ الكونَ ويعتدلُ الميزانُ. رميتُ برأسي على صدرها ورأيتُ كيف تستوي الدنيا مناسبة عشقٍ، واحتفالاً لا ينتهي أبداً. يسألني الجبناء وهم يرتجفون في توابيِتِ الخوفِ أين تنامُ. أقولُ: في قلبِ أمي. ويسألني الموتى كيفَ انتصرتَ على ندمِ السنين وكيف تحيا سابحاً في جنانِ أمانٍ. أقول: أحيا بنبضِ أمي.
لو احتشدتْ طيورُ الأرضِ وغنّتْ صوتاً واحداً عذباً، لقلتُ: هذا صوتُ أمي.. كانتْ تغمرني في الخيالِ، تُهدهدني رضِيعاً في مَهْدِها، فيضيعُ صوتُ البكاءِ كلّما غنّتْ بلحنِ الأمومةِ الأزليّ. وحينَ كبرتُ مختالاً أخطو نحو الضّياعِ، كان دعاؤها يصعدُ للسماءِ صوتاً، وينْزلُ على شكلِ ملاكٍ يزيحُ الشّوكَ من الدّروبِ التي لا أعرفُ كيفَ قطعتُها وحيداً بلا زادٍ ووصلتُ إلى منتهاها سالماً. وأكادُ أقْسمُ أنّني كلّما وقفتُ على حافةِ الدنيا في البعيدِ، أسمعُ صوتَها يناديني: تعال.
مُتوازِناً مَشيتُ على حبلِ الحياةِ
أمي في كفٍ، والعالمُ كلّه في كف
وأنا أصفّقُ وأصفّر بفمي
مُغرِّداً مُرفرفاً بجناحين من ريشِها
أمي..
قمرٌ على دنياي، وشمس..
الفصل الأول
حدث هذا ذات صيفٍ..
كنتُ عطشاناَ حين وصلتُ إلى قرية مات أهلُها جميعاً بسبب الجفافِ.
طرقتُ البيوتَ والأبوابَ والنوافذَ ولكن لم يسمعني أحدٌ..
جلستُ في حزنٍ وأسندتُ ظهري إلى صخرةٍ فتدحرجتْ، وتدفّقَ من تحتها نبعُ ماءٍ. لكنّي عندما انحنيتُ لكي أشربَ، وجدتهما يقفان فوقَ رأسي كأنّهما كانا هنا قبلي منذُ زمنٍ بعيدٍ..
الشّاعر والحكيمُ
رجلان يتشابهان في الجوهرِ ويختلفان في الشّكلِ..
قال الحكيمُ: أنت عطشان للمعنى، وستظلّ هكذا إلى الأبدِ
قال الشّاعر: لن يرويك سوى الجمالِ
ومضى الاثنان من غير أن يرتشفَ أيٌّ منهما قطرةً وتركاني أمام حيرةٍ عظيمةٍ. فملأتُ قِرْبتي بالماءِ وتبعتهما نعبرُ الأمكنةَ والأزمانَ معاً. ولمْ أندمْ يوماً على هذه الرحلةِ التي أدركتُ في نهايتها أن البشرَ يموتون من جفافِ المعنى حتى وهم أحياء.
لا أملكُ وصفاً للشّاعرِ والحكيمِ، ولكن أملكُ تعريفاً مخترعاَ لهما كما يلي:
ينكبُّ الشّاعر على الورقةِ محاولاً استخراجَ المعاني العميقةِ المدفونةِ في البياضِ الناصعِ البكرِ. ومن غير أنْ يقصدَ، يذهبُ إلى خدشِ المعنى النائمِ في سريرِ الماضي وتفكيكه، وتركيبِ معنى جديدٍ أو جملةٍ لم يحدثْ أنْ التقتْ كلماتُها في مكانٍ واحدٍ من قبلُ، وسطراً بعد سطرٍ يتحوّل الشّاعر إلى جرّاحٍ، حيثُ تنزفُ المعاني القديمةُ دماً عندما يسلخُ جلدَها ويبدّله بدمٍ وجلدٍ مختلفين فتولدُ المعاني الجديدة حيةً متوثّبةً لاستقبالِ الحياةِ، وتصبح قابلةً للاستهلاكِ وإثارة الشّبع في عيون الباحثين عن جمالِ الكلمات وبديع المعاني. وسيظلُ الشّاعر منكبّاً على الورقةِ حتى تبيضَّ عيناهُ ويجفَّ حبرهما الذي يتحوّل إلى كلماتِ شتّى تتجولُ في آفاق الكونِ إلى الأبدِ.
يعتزلُ الحكيم المدنَ والنّاسَ، وفي خلوته البعيدةِ يعيدُ اكتشافَ حواسه الخمس. تبدأُ العينُ برؤية الأشياءِ المحسوسةِ باعتبارها مجرّداتٍ. فالبابُ مثلاً يصير رمزاً لمحنةِ الإنسانِ في ترحاله القدريّ ما بين الدخول والخروج أو الوقوف منتظراَ على العتبةِ. بينما في المدينةِ يكون البابُ مجرّد حاجزٍ خشبيٍّ. وسيظلّ الحكيمُ يبحث عن حقيقة البابِ هل تم صُنعه لكي يفتح، أم ليُغلق؟ وفي العزلة سيدرك الحكيم أيضاً أنّ ما نسمعه ليس مهمّاً، إنّما ما يعلق في صدى الوجدانِ، وأنّ ما نلمسه أو نتذوّقه في الخيالِ هو ما يثيرُ الحواس حتى أقصاها، بينما في حياتنا اليوميّة نشمّ ونلمسُ ونتذوّقُ أشياءَ كثيرةً ولكنّها لا تثير فينا سوى الإحساسِ بالروتينِ والجمودِ.
في منتصف الطريق ما بين المعنى، وبين سؤال الحقيقة. يلتقي الشّاعرُ والحكيمُ وجهاً لوجه. عابسان في الظاهر، ولكنّ خياليهما يضحكان لأنّ كليهما يدرك أنّ الثّابتَ وهمٌ، وأن الأشياء تتغيّر حتى لو كانت جامدةً، وأن الحواس تكون مخدوعةً دائماً بما يطرأ على السّطح، بينما الحقيقةُ الأصليّة تنامُ في الأعماقِ ولا تكشف عن نفسها إلا للمنكبين على النبش في المجاهلِ لاكتشاف المعادنِ النفيسةِ والتعرفِ على جوهرِ الحياةِ التي تبدو للحكيم مثل كرةٍ عملاقةٍ فارغةٍ رغم الامتلاء الظّاهر فيها، بينما تبدو للشّاعر مثل دائرةٍ ضخمةٍ مليئةٍ بالحروف والكلمات التي لو تنتظمُ، أو يتجرأ أحدٌ على ترتيبها، فإنّ دورانها يستقرُ ناعماً وإيقاعيّاً. أما إذا اختفى الشعراءُ من وجودنا فإن دائرة الكلمات ربما تنفجر، وقد يسيل حبرها الأسود ليعمي المعاني كلها. وبعد ذلك لا يعودُ الحكيمُ يعرفُ الأشياء من شكلها الظاهر، ولن يفهم ما يعنيه الشّاعر حين يعبر عن الشيء بنقيضه، كأن يصف عيون المرأة بأنها: السهم يخترق الفؤاد. بينما هي في الأصل عمياء تمشي بفؤاد مكسور.
الحكيم والشاعر يفترقان في نهاية الطريق، مختلفيْن في الاتجاه صوب الحقيقة، الأول يحمل سؤاله المعذِب في العقل، والثاني يستمر في المضيّ حاملاً ورقته وهي لا تزال بيضاء، بينما ظلّاهما يلتقيان على الأرض، ضاحكيْن، ولا أحد يعرف هل هما عائدان أم ذاهبان.؟
أغنيةُ الصحراءِ
كنّا قد مشينا نصف يومٍ في عراء الصحراء من غير أن ينطقَ أيٌّ منهما بكلمةٍ، وكنتُ مذهولاً من سرعةِ الحكيمِ في المشي على الرمال الناعمة وهو يتكئ على عصاه الملتوية، بينما الشّاعر وهو أكثرُ وسامةً وشباباً، يلهثُ كلما صعدنا على تل أو هبطناه. وقبل الغروب اهتدينا إلى شجرةٍ نصف جرداء جلسنا تحتها متعبين.
قال الحكيم:
أيتها الصحراءُ..
يا جلدَ الأرضِ الأملسَ الناعمَ..
تهبّ الرياحُ لتغسلَ ظهركِ كل يومٍ من أثرِ العابرين نحو المجاهلِ، الذين دفنوا أسرارهم في بطن الغموض وكتبوا بممحاة الريح سيرة الزوال، غير مكترثين بفكرة الخلود في الزمان أو المكان. ومن يعشْ في الصحراء ويعبر سابحاً في بحرها العظيم، يدركْ أن كل نقشٍ، حتى لو كان بالحديد والنار، يزول لا محالة، وكل محاولة للوقوف على رمل متحرك ستنتهي بالغرقِ. ولذلك ابتدع البدو أغنية الترحال الأبدي فوق مياهها المتموجة متفوقين على عنادِ الريحِ وغرورها. متتبعين خطوة القمر كلما تعرّج في قوس السماء ونثر فضته على التلال. ومن يسكن في الترحال يدرك أن الموتَ مصيرُ كل الجالسين في حُفرِ الانتظار، أولئك الذين شُلّت أرجلهم في المكانِ الواحدِ، وما عادت عيونهم ترى سوى الجدرانِ العاليةِ، والشاشاتِ التي تعرض الوهم، وزجاج النوافذ المغلقة الذي يمنع النسمة من دخول البيت.
أيّتها الصحراءُ.. وجهك الذي تغزوه التجاعيد في أول الهبوب، يعودُ صافياً في الظهيرة، مطليّاً بلمعةِ السراب، خالياً من نمشِ الرمادِ الذي يخلفه المتسامرون قرب النار في لياليكِ الصافية. يتدفأون على وهج الأغاني التي بلا صدى، ولا أحد يعرف أين تذهب حكاياتهم ومواويلهم الشجيّة. لكن من ينبش بيد روحه في هذه الرمالِ، يكتشفُ أنّ الجهات تتساوى عند انتصافِ الشمس في أفق الهجير، لا فرق بين الذاهبين والقادمين ما دامتْ الأرضُ كلها نقطة انطلاقٍ كبيرة. لا فرق بين النازلين من تلال الأمس والصاعدين عليها. كل الدروب تتعرجُ في متاهة السؤالِ وتقود صاحبها إلى الحتف الذي كان يهربُ منه.
أيّتها الصحراءُ.. تبتسمين كلَّ صباحٍ في وجه الشمس وهي تصعد، مختالةً بالشعاعِ، ترمي عباءتها فوق موجك وتمدّ نورها في السهول البكر. تتبعها الزهرة البريّة قبل أن تذوي في الجفافِ. وأنتِ تتباهين بالذهبِ المنثورِ في أفق الدنيا متاعاً ومشاعاً لبهجة العيونِ التي تعطّش أصحابها وهم يفتشون في كتب الرمل عن المعنى، ولا يجدون سوى النقاءِ. ويقلّبون في صفحات الترابِ، ولا يظهر لهم سوى الرمزِ المحفورِ في دلالات التغيير، كلما انزاح ظلّ واختفى، كلما ظهر غيره في مكانٍ جديدٍ. لا شيء ثابتاً في الصحراء سوى قلبها الذي احتوى سرّ الكونِ كله.
أيّتها الصحراءُ.. تعبرُ السحب الخفيفة وتذرف هتّانها على خدّكِ الصافي، لكن الرياح تذروها وتفرقها بسرعةٍ. ثم يمر الغمامُ فوق صدرك العريضِ ليتخلّص من أحماله الثقيلة فيروي عطش قرونٍ من الجفافِ الذي هو أصلٌ تفرّعت من جذرهِ سيرة الباحثين عن النبعِ. وكان الماءُ يظهر مثل عينٍ عملاقةٍ وسط الصحاري، عين تغمض وقت الجفاف لكنها تعود لتتفتح كلّما طرقت جفونها يد المطر. والغريب أن الصحراء قد يخدشها الماء، وقد يبلل معانيها ازدحام الغيم طويلاً في الأفق وانسداد الشمس وغياب لفحتها الناعمة.
ثم قال الشّاعر:
أحبُّ الشجرةَ رمزاً للحياةِ
أحبُّ الصحراءَ رمزاً لتحدي الحياةِ
وأحبُّ الماءَ حتى لو غرقتُ في عذوبته ومتُّ.
عينُ الشّاعر
كنّا قد غفونا ربما لساعتين أو ثلاثٍ..
فتحتُ عينيّ لأرى آلاف النجوم ناصعة في سماء الصحراء. وكان الشّاعر والحكيم قد سبقاني في الاستيقاظ ودخلا في حوارٍ لم أفهم معناه. بعدها ساد صمتٌ وراح كلاهما يحدّق باستغراقٍ تامٍ في السماءِ.
ثم سمعتُ الشّاعر يقولُ:
تومضُ نجمةُ الحظِّ عند اشتداد الحلكة، وقد تشتعل السماء نجوماً حين تبتسم الدنيا لشخصٍ، فيرى الكونَ مشعَّاً أبيضَ من شدة انتشاء قلبه وامتلاء جوانحهِ بالحبِّ. هكذا يقفزُ الشّاعر فرحاً حين يرى نجمة الشعر تومئ إليه من بعيدٍ فيتبع نورها المنعكسِ في قلبه، وقد يغويه الكلامُ فيرحل وراء المعاني، متتبعاً سحر تداخلها ودورانها وكأنها مرايا الكون. كأن الكلمات تحمل صورة الدنيا على ورقة صغيرة، وقد تتسع هذه الورقة لتحملَ على سطحها كل أشياء الكون مجموعة في جملة مختزلة. وفي تلك اللحظة الساحرة، حين يبدأ الشّاعر بخط الكلمات الأولى، تولد حياة جديدة للمعاني، وتتزحزح الكلمات من قوالبها اليابسة، لتفتح درباً مغايراً في طريق فهمنا للحياة. وحين يصير للحظ نجمة، ويصير للنجمة فم يبتسم في سماء الدنيا، فإن الشّاعر لا يكتفي بالفُرجة والسكوت، بل يذهب لنثر الذهب في الزوايا والأفكار المهملة فتصيرُ مضيئةً ويراها الآخرون كأنها ولدت للتو. ولو قدّر للبشر جميعاً أن يروا الكون بعين الشّاعر، فإن العالم سيكون أجمل وأرحم ألف مرة مما هو عليه الآن. أولاً ستختفي الراء من كلمة «الحرب»، ويصبح القمر جرساً ليلياً لنداء العشق. وسوف ترقُّ القلوبُ التي حجّرها الخوفُ وأعمت عيونها الغفلةُ. ومن جهة البحر، ستأتي سفنُ الحنينِ لترسو في مستقرها الأخير. وبالشِّعر وحده يذوبُ العنادُ، وتزهر أسيجة الشوك، ويتعطل قطار الندم ولا يصل أبداً.
قالَ الحكيمُ: الشّاعر مسكونٌ بالدهشة، وعيونه المفتوحة تقرأ كل شيء.
قالَ الشّاعر: نعم.. يدخل البشرُ إلى الحياة من باب الدهشة، يغويهم لغزُ الوجود على الحفر في رمل الغموض، ويدفعهم الغموض إلى النبش في فراغِ الآفاق بحثاً عن المرايا التي تعكس وجوههم الحقيقية. ولكن هيهات، من لا يرى الدنيا بعين شاعر، لن يقرأ في كل المرايا سوى الأقنعةِ التي تراكمها الحيرة، ولن يتعرَّف إلا على الملامح الخارجية لما يظن أنه هو. والبشر إنما يبحثون عن المرايا التي تعكس دواخلهم، عن صورة الذات التي تمورُ وتثور وتتوه في داخل الجسد، وتشطُّ بأفكارها في متاهة العقلِ، وتصبح صوتاً داخلياً نسمعه طوالَ اليومِ، ولكن لا نعرف مصدره من أين.
هذا الصوتُ سيظل بلا شكلٍ، لأنَّ الذاتَ في عمقها هي جوهر محض وخالص، جوهر بلا شكل، ولكي نراها، ينبغي لنا إزاحة جميع القشور من صفحة العقل ليصير مرآةً صافيةً يمكن أن ينعكس داخلها الكون كله. مرآة تشبه ورقة الشّاعر البيضاء حين يرسم داخلها وجوداً جديداً يتجاوز شكل الوجود الذي نراه. هكذا نصل إلى جوهر المعنى، ونقول إننا نعيش لنتذوق لذَّة الوجود عن طريق فهم معناه، ولا يفهم معنى الوجود سوى الشّاعر، هذا الذي يعزف نغمة الصمت ويجعلها لحنا يسري في عروق الجمادات فتورق بعد يبسٍ، وهو الذي إن شحّت عليه الدنيا، يبني من شواردها قصوراً يطلُّ من نوافذها الإعجازُ.
هل تعرفان كيف ولد الشّاعر في هذا العالم؟؟
كان الشّاعر يركضُ في الدروب مع القطعان والضواري، لكنَّه التفت في ليلة إلى النجمة وقرر أن يسميها «موعد الفجر»، وحين اكتمل البدر في اتساع عيونه، أدرك أنّ كل النور في الكون هو انعكاس لنور قلبه إن صفا، ولذلك راح ينقش على الجدران اسماً لا يعرفه الناس، ويكتب على جبين الكون كلمات هي نجوم تظل تومض عند اشتداد العتمة وتنير للعابرين عقولهم وقلوبهم.
كان الليل قد اكتمل. احتضن الحكيم عصاه، وتوسد الشّاعر الورقة واتخذت أنا قربتي سنداً لرأسي الذي تشبّع بالكلمات. ونمنا
ـــــــــ ــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
مقطع من كتاب يحمل نفس العنوان سيصدر قريبا.