جاءَ من حافة الأزقة التي تكاد تسقط في البحر. من تلك الدروبِ التي تضيءُ فيها عيونُ السمكِ الميتِ.
وجد أنواراً وجدراناً عالية وأرواحاً محبوسةً وأشجاراً متدنية.
قال الكهفُ: سيدي احذرْ من الأزهار!
قرعَ الجرسَ وهو في حديقةٍ غَناء، أمامَ بيتٍ شامخٍ، تطلعَ إليه البيتُ بكاشفاتٍ حارقة.
لم تكنْ في جعبتهِ تعاويذٌ، ورأى ورقَ الشجرِ المصفرِ وخيوطاً من الفضةِ على شكلِ حشراتٍ ضارية.
فـُتح البابُ وانهمرتْ العائلةُ فوقهُ، يتقدمها ربُ البيت، رفيقُ دربهِ السابق، الكاتبُ الرسميُّ لإمامِ العصر، جسدٌ كبيرٌ يضخُ الزيتَ من كلِ مسامهِ، ابتسامتهُ شفافةٌ، صلعتهُ مهيبةٌ، احتضانهُ حميمٌ وقوي.
– يا إلهي ! مضتْ سنواتٌ لم نلتق.
– أجل بَعُدتْ بيننا الدروب.
– ولماذا يحدثُ ذلك؟ هل بيننا إشاراتِ مرورٍ حمراء؟
– بل ألوانٌ مختلفة.
أُدخلَ في صالةٍ واسعة، كراسٍ كثيرةٌ فخمةٌ، ثرياتٌ تتدلى بحنو للسجاد، نوافذٌ تستريحُ على سواعدِ الحديقةِ والمزهرياتِ النابضة. نبضاتٌ موسيقيةٌ على أصابعِ البيانو في الحجرةِ القريبة.
فجأةً رأى أدغالاً. وتدفقتْ رؤوسٌ شيطانيةٌ من حوافِ الشجر.
قال الكهفُ: ألم نكنْ سعداءَ بوحدتِنا؟!
الأولادُ والبناتُ الذين كبروا من دونِ مراقبتهِ تناثروا على الكراسي كأنهم مطاطٌ حي. الزوجةُ التي غدتْ هيكلاً عظمياً لا يزالُ يتصاعدُ دخانُ موقدِها الغازي على هيئةِ أشباحٍ وقتلى. لم يبقْ فيها سوى عينين كبيرتين تتسعان لمرورِ بواخرٍ كثيرة.
قال المضيفُ:
– دعوتكَ لتخرجَ من عزلةٍ رهيبةٍ فرضتَها على نفسك. وأنت غدوتَ مهماً.
– لكن لم أعرفْ بالضبط ماذا تريد، أرسلتَ برقيةً غامضةً؛ (صديقي العزيز ثمة مشروعٌ عظيمٌ لن يتحقق بدونك. أحضرْ حالاً!).
تكرمشَّ الورقُ في يدهِ، وتحولَ العيالُ إلى عيونٍ من خرزٍ مضيءٍ في روعهِ.
عقودٌ مسترخيةٌ هنا، غرفةُ مكتبةٍ واسعةٍ تبدو من وراء الزجاج، شيءٌ حلمَ به طويلاً ولم يتحقق. أبناءٌ مثل الأقحوان في خريفِ العمرِ والأشجارُ تتساقطُ رماداً.
قالَ المضيفُ :
– أنا كرستُ أهميتي من العزلةِ وأنتَ من المشاركاتِ الرهيبةِ المؤلمةِ، فأنظرْ كيف جرتْ الأمورُ ؟ الكلماتُ الجميلةُ تأتي من أنهارٍ مختلفة!
(أي عيشٍ مريح؟! وأنا الذي سَحلتُ جلدي في الشوارع!). التقيا مراتٍ وامضةٍ في مقاهٍ، في طائراتٍ تخترقُ الأجواءَ لعواصمَ بعيدةٍ يقرآن شيئاً من الورق، يمضيان لاحتفالاتٍ واحدةٍ، ولم يعدْ الناسُ يفرقون بين الحبرِ والدمِ.
– لقد هجمتَ على الموضوعِ كعادتك. ألا تريدُ أن تشربَ شيئاً ؟ هات الحلوى يا منير. أنت تعرقُ ألا يصلكَ الهواءُ الباردُ ؟!
– نوباتُ الربوِّ لا تفارقني.
– الشققُ الضيقةُ والأزقةُ والدخانُ والترابُ كلُها تسببُ هذا وغيره.
– نعم. أعيشُ بشقةٍ في عمقِ حارةٍ مكتظة. دخانُ السياراتِ، والورشُ، والدكاكينُ التي هي أكثرُ من النعال. لم أعدْ أحتملُ هناك!
– بعدَ كلِ هذا النشر؟!
ضحكَ.
العيالُ كانوا يتطلعونَ فيهِ، يلتفتون نحو بعضِهم البعضِ، يهمسونَ كلماتهِ بدهشةٍ.
– أنت تعرفَ ماذا يكسبُ النشرُ !
ذهبتْ الزوجةُ والأولادُ إلى الداخلِ وهم يرقصون معاً، غدا المكانُ موحشاً أكثر.
يتطلعُ فيه متسائلاً.
– أعرف إنكَ مستعجل، لكن القضيةَ كبيرةٌ وخطيرةٌ. لا بد أن تجلسَ طويلاً لتصغي وتفكر.
كانت العائلةُ تطلُ برؤوسِها من وراءِ الزجاج. انقطعتْ وشوشةُ الموسيقى. حدثَ صمتٌ عميقٌ. رأى وجهَ زميلهِ وقد تجعدَ. ظهرتْ أخاديدٌ. صاحَ التليفون فجأةً وصمتَ فحأةً.
بدأ الموقفُ يوتره.
صاحبهُ صارَ يمضغُ الحلوى ويشربُ القهوةَ بتلذذٍ مزعج.
– القضيةُ يا صاحبي هي أن الرئيسَ، رئيسَ الدولةِ، يريدكَ أن تعملَ معه !
كادَ أن يضحك. أهذه هي القضيةُ الخطيرةُ ؟ وهذا الاتصالُ المبكرُ المخيفُ في الفجر، والإلحاحُ، ومنذ متى كان صاحبهُ يتصل ؟ ومتى كانَ مهتماً به ؟!
يعرفُ هذا الرئيس الذي لم يعرفْ غيرَهُ حقيقةً، فمنذ أن وعى ورفعَ العلمَ الوطنيَّ في المدرسةِ وأنشدَ له كانت لا توجدُ سوى رأسهُ فوقَ البيوتِ والأشياءِ.
والآن هو كهلٌ، سربَ جلدَهُ وأعماقَهُ وجروحَهُ إلى الورق، ولم يَعُدْ سوى أن يطيرَ بشعرهِ الأبيضِ الكثيفِ إلى سماءِ الغيوم.
ولم تكنْ له قضيةٌ سوى أن يعريَّ هذا الرجلَ وعالمَهُ ودهاليزَهُ وأقبيتَهُ، فتسربتْ أوراقهُ في كلِ مكان، لكن الرئيسَ ومملكتَهُ ظلا يمضيانِ ويكبرانِ ويتضخمانِ على نحوٍ مخيفٍ حتى لم تعدْ كلماتهُ قادرةً على اللحاقِ بهما، وجاءتْ أجيالٌ لا تعرفه، وامتلأ العالمُ بضجيجِ الأجهزةِ المعتمةِ، وهو الآن مشرفٌ على الموتِ، ولم يتمتعْ بالحياة.
قالَ بهدوءٍ فاجعٍ:
– لم يبقْ في العمرِ شيءٌ وأنا عاجزٌ عن العمل. فأي عرضٍ متأخرٍ وغريبٍ هذا ؟!
اندفعتْ موسيقى قويةٌ مفاجئةٌ ثم خفتت.
كانتْ العائلةُ وراءَ الزجاجِ تـُمثلُ بأرديةٍ بيضاءَ في الحجرةِ ذاتِ الأنوارِ المتقلبةِ. تحولتْ إلى أشباح.
– لا تستطيعَ أن ترفض. أنتَ تعيشُ في الشقةِ الصغيرةِ وحيداً. تجتاحكَ الأوجاعُ، لديك سلةٌ من الأمراض.
حدقَ فيه منزعجاً. الآخرُ يتطلعُ إليهِ بقوةٍ. تحولَ وجههُ إلى البلاستك الصلبِ. بدا كأنها تهديداتٌ غريبةٌ. صاحبهُ الذي عاشَ مثل عمرهِ وبدا نائياً عن الوسخِ العامِ يحفرُ في كائناتهِ الغرائبيةِ، ولا يضايقُ أحداً، ويحصلُ على جوائز، أذهلهُ بهذهِ القفزةِ في هوةِ الغاز.
ارتفعَ صوتهُ فجأة:
– هذا إيحاءٌ غيرُ مقبول !
– هذا تقريرٌ بواقعكَ الصحي !
– وبعد ؟!
– ألا تريد أن تعرفَ العرضَ ؟
– أليس هذا هو العرض ؟
– التفاصيلُ هي المهمةُ كما في الأدب.
– وما هي هذه التفاصيل، هل سأغدو وزيراً ؟!
– بل أهم من وزيرٍ وأرفع. سوف تشرفُ على ترميمِ القصر الأثري القديم ولن تقولَ إن هذا يحتاج إلى نزولٍ ميداني وتعرضٍ للغبارِ والأصباغ، بل سيقومُ بكلِ هذا طاقمٌ كبير، وليس عليكَ سوى الإشراف عن بُعدٍ وأنتَ في بيتٍ كبيرٍ ذي هواء نقي.
يعرفُ هذ القصرَ جيداً. هو تحفةٌ معماريةٌ قديمة، لكنه أُهملَ لعقودٍ طويلة، وتحولَ إلى معهدٍ مرةً ثم صارَ مركزاً واسعاً للشرطة. وكان مقراً لذكرياتٍ مريرةٍ ولأشباحٍ ومدنٍ مرعوبةٍ ولشبابٍ يمضي في الليل ويتوارى ولجنازاتٍ تظهرُ وأناشيدٍ مدويةٍ وأشياءٍ مخيفةٍ أخرى !
– هي فرصةٌ أن نستعيدَ هذا القصرَ منهم. نرجعهُ إلى عصرهِ الذهبي. نزيلُ هذه الرممَ والدمَ اليابس من على جدرانه. أن يمرَ به الناسُ وقد اختفتْ ذكرياتُ الأشباح. أن يَجلبَ لك المهندسون والعمالُ الآثارَ الحديثة لحفرياتِ الأظافرِ والورقَ المخبأَ في الغيران وتحت البلاط.
إن صاحبهُ لم يقرأ الكثيرَ مما كتبه. ابتسمَ بألم. أي علاقةٍ مريعةٍ عاشها مع ذلك القصر، درسَ فيه وهو معهدٌ وحبسهُ المديرُ متهماً إياه بتمزيقِ كتبٍ ثمينة. ثم عاشَ فيه سنوات مروعة ! كان حين يمرُ بقربهِ وهو في مشي الكهولةِ يترقرقُ الدمعُ في عينيه ! ضرباتُ البشرِ القساةِ التافهين وبصاقُهم عليه ظلتْ لوحاتٍ حيةً تكشطُ جلدَهُ بتوترٍ كل يوم وبلا توقف. وتدفقَ حبرهُ حتى غطى على الأشباحِ وانتشر في العالم وأحيلَّ القصرُ للتقاعدِ وسكنهُ الغبارُ والذكرياتُ الأليمة. وفيما كان الرئيسُ يتضاءلُ كان هو يظهرُ في صحفِ الأرضِ ويزورُ القادةَ والمؤتمرات المثيرة.
وقال على نحوٍ مفاجئ:
– هي فرصةٌ ثمينةٌ !
– أليسَ كذلك، أنت توافقني إذن !!
كان كرههُ للرئيسِ شديداً. لم يكتبْ له التماساً لكن حين أُصيبتْ زوجتهُ بالسرطان ووجدَ رصيدَهُ فارغاً، طرقَ أبواباً كثيرةً كانت كلها تؤدي إليه. كتبَ أخيراً رسالةً يرجوهُ فيها المساعدةَ بصفتهِ رئيساً للدولة ومسؤولاً عن أرواحِ المواطنين ! فحصلَ على مساعدةٍ ماليةٍ تكفي لتذكرة طائرة، في حين دخلتْ حبيبتهُ ممراتِ الغازِ وكشطِ الشعر والجلد. تعمقتْ كراهيتهُ حتى صارت كوابيسَ وغدتْ هوةً كبيرةً بينهما مملوءةً بالجثثِ والصرخاتِ المروعة.
– أنت لم تفهمني. هي فرصةٌ لتغييرِ القصرِ فعلاً ولكن ليس لتغييري.
– لم أفهم ؟!
– الرئيسُ يقومُ بتغييرِ الديكورات، لكن كلَ شيءٍ صار متعفناً، لو أنكَ ألقيتَ نظرةً على القصر الأثري، لعرفتَ إنه صارَ مأوى للمدمنين والمجرمين، وتوارتْ الآثارُ القديمةُ الجميلة.
وراح يرسمُ التفاصيلَ المروعةَ ولكن الموسيقى تصاعدتْ فجأةً وبقوةٍ وراحتْ الشخوصُ تدورُ حول بعضها في حركةٍ عاصفة.
– هذه فرصةٌ لكَ لكي تستريح بعض الوقت. أعتبرها إستراحةَ المحارب. فرصةٌ للعلاجِ من كلِ هذه الأمراضِ والضغوط. لم تتغير الكلماتُ كثيراً بين حارةٍ نازفة وبيتٍ مريح !
– لا ! ثمة فرقٌ كبيرٌ.
– حين يمضي الرئيسُ في القهرِ تصرخون وحين يتحولُ تغضبون. قلْ إنك لا تريدَ أن تغيرَ دورَ الشهيدِ الحي، دورَ المصلوب، الذي يعذبُ نفسَهُ وغيرَه. يتلذذُ بمناظرِ الدماءِ والأسواط. أنت تنتهي مع عصرِ الفرحِ والاحتفالاتِ البهيجة. لقد فلقتنا بموضوعاتكَ التي لا تتغير. أليسَ ثمة شيءٌ سوى الماضي والألم والقهر، اكتفيت بقراءةِ كتابٍ واحد مختنقاً به ! ثمة هناكَ أمل ، ثمة حياةٌ جدديدةٌ ممكنة !
ازدادتْ الموسيقى عنفاً، جثمتْ فوقَ فمهِ، حاولَ أن يسربَ كلماتٍ فتمزقتْ شفتيهِ، ثم حدثَ هدوءٌ رصاصي، وكأن العائلةَ جاءتْ إليهِ كلهَا، وحدقتْ فيه الزوجةُ وضربتهُ بماعونٍ على رأسه، وتحاوطهُ الشبابُ بقبضاتِهم وغاصَ في ردهاتِ القصرِ وأسنانهُ في يدهِ.
لكن لم يكن ثمةَ شيءٌ. الهدوءُ نفسهُ، الأشباحُ في أمكنتِها. نهضَ صاحبهُ وأحضرَ شراباً. دفقَ كأساً سريعاً في جوفهِ، وهو قد تعبَ في الحارةِ، كلُ يومٍ صراخٌ وقذارةٌ، ولكنهُ حرٌ هناك، الكهفُ المضيءُ هو غرفتهُ، تتدفقُ الكلماتُ ويستلفُ العصافيرَ من الشواطئِ والحدائق، وشبكةٌ من الشخوصِ العجيبةِ تحيطهُ أسئلةً وضحكاً وتسلفهُ السمكَ والخضروات، سنواتٌ وهذه الجيرةُ تحيطُ به، ومعها الشهداءُ والزوجةُ وصناديقُ الكتبِ الأولى وذكرياتُ الأهلِ.
حاولَ أن يتكلم.
لكن لم يكنْ لديهِ ما يقولهُ لصاحبهِ الذي لا يعرفهُ. لم يقرأ كتابَهُ عن القصر.
عبــدالله خليفــة
قاص وكاتب من البحرين