ساطعة بدت "كوكبة الجبار ".وعالية في السماء المدلهمة. متبوعة كالعادة بـ«سيريوس " الكلب الوفي المجرة تحت نطاقها تلمع كما لم تكن من قبل، شريط الاسفلت يرجع الوهج الذي امتصه من قبيل، غمغمة خفيفة تكسر حدة الهدوء السحري.. أي ايحاء!.
أكمل علي بن جمال أحدى صلواته الخمس في اتجاه مباشر مع الله. قبل دقائق كنا ننسل في الطريق الصحراوي بين نزوى وأدم. استسمحني علي بإيقاف "اللاند روفر" فبئر الماء هناك تمكنه من القيام بالوضوء استعدادا للصلاة.
في اليوم السابق كنت أقود السيارة في الأزقة الضيقة لواحة أدم في سبيل البحث عن الكتابات فوق بعض الشواهد التاريخية، وبين حين وآخر تصطدم السيارة بأسيجة الطين المنخفضة التي تحيط بمناطق النخيل. مضى على تجوالي ربع الساعة عندما فاجأني صبيان بدراجتهما النارية الصغيرة وقد تمكنا من ايقافها بعدما كادت تلامس مقدمة السيارة. انفرجت الأفواه عن أبتسامة عريضة وحطت الأيادي على موضع القلب، إشارة اعتذار. عندها سألتهم عن المسجد. ترجل سائق الدراجة وفي لمح البصر قفز داخل العربة.
بعد ثلاث دقائق توقفنا أمام بوابة متداعية بمساميرها السوداء الضخمة. قال علي: "قبل خمس عشر سنة، كان هذا الباب يغلق وقت الغروب ويفتح وقت الشروق فقط، فمن كان في الخارج لا يعود بمقدوره الدخول لأن رجال الحرس كانوا يملكون الأوامر بعدم فتح الباب لأي سبب كان. النزاعات القبلية كانت على أشدها، وفي الليل يحتمي كل في مخبئه المحاط بالأسرار الطينية ومن القرى المحصنة وذلك تحسبا من غارة محتملة، وأضاف علي أنه: تم الخروج على هذه القاعدة عندما هدد سيل عارم الوادي بالغرق. سالت المياه باتجاه المدينة وربما قد أدت الى اقتلاع إحدى بواباتها، عندها صدرت الأوامر بفتحها مع واحدة أخرى في الاتجاه المقابل بحيث تندفع المياه خارج نطاق التحصين.
وكسماعه الحدث أول مرة.يوم كان صغيرا، تألقت عيون على السوداء أثناء قصة هذه الحكاية مأخوذا بالتأثير الذي خلفته في نفسه.
كنا قد ولجنا المدينة المبنية بالطين والتي هجرها سكانها، قام علي باطلاعي على أثار بقايا أحد المنازل المتساقطة قائلا: "حتى خمس سنوات مضت كنا نسكن هنا،.. الصاروج، هذا النوع من الطين المخلوط بالتبن والمدعوم بألياف وخوص النخل لم يستطع الصمود بسبب الحاجة الى الترميم والعناية المستمرة. وهكذا تداعت جذوع النخيل التي كانت تسند السقف نتيجة النخر الذي أحدثته الأرضات.
ها نحن قد وصلنا المسجد ومن نافذة أحد البيوتات الجانبية كان ينساب الينا دعاء ديني: "الله أكبر، الرحمن، الرحيم، الغفور، لا إله إلا الله»، ومن الداخل أطلت فتاة محجبة وحالما رأتنا ارتدت الى الداخل، رمقني علي بنظرة، ربما لمعرفة ردة الفعل من رؤية الفتاة. أبديت عدم مبدلاتي مما دفعه الى تهدئة باله.
صحن المسجد في حالة سليمة وكذلك مكان الوضوء حيث رائحة البول كانت تشي باستخدامه، اضافة الى الأكواز المعلقة التي يتقطر منها ماء. شيخ ذو لحية بيضاء طويلة خرج من هذا المعبد الصغير، يتبعه عدد من الرجال والصبية بدشاديشهم ذات الألوان البيضاء والزرقاء والبنية والعمائم المشكلة بمختلف الألوان. عندما اقتربوا مني وتحلقوا حول أفهمتهم نيتي تصوير المسجد من الداخل، خصوصا المحراب المتجه صوب مكة بكتاباته ونقوشه وذلك لصالح وزارة التراث القومي والثقافة، كانوا لطفاء عبدين استعدادهم لمعاونتي. "لا نحتاج للمساعدة " هكذا حسم علي المسألة. تصرف وكأنا زملاء منذ زمن طويل فأخذ قاعدة الكاميرا والمحفظة ودخل مندفعا الى المسجد الذي كان فسيحا ومقسما الى ثلاثة أروقة بصفوف مزدوجة من الأعمدة الضخمة. بدأ علي قراءة الكتابات بسهولة، رغم تلف بعض الكلمات وسقوط بعض الحروف، على المحراب المبني من الجص والذي بدا في حالة سليمة.
في مساء اليوم التالي كنت أفكر فيما جرى بينما كان علي ينهي صلاته. ارتحلنا سريعا وبهدوء، باكرا وصلنا الى أدم. مساء الأمس سارعت لاقناعه باستحالة الذهاب الى بيته بحكم ارتباطاتي المسبقة، هذه المرة شعرت بعدم قدرتي على اختلاق الأعذار ولم أنو القيام بذلك خاصة انه لم يتحصل أن دخلت بيتا عمانيا وهذا ما أجج فضولي.
البناء في غاية البساطة، السبلة أو غرفة الاستقبال على شكل متوازي الأضلاع مطل على طريق سبخي وقسم أخر مشابه يستخدم للسكنى الحقيقية ومكونا الجزء الداخلي من البيت بباحته المحاطة بسور حيث يدور الجزء الأكبر من حياة العائلة. دعاني علي لدخول السبلة مباشرة. القهوة تفلي في الدلال النحاسية على الجمر وصوان من العنب والموز والتفاح تملأ المكان بشذاها، جهاز التلفزيون يبث الآذان بمنظر خلفي لمسجد مسقط أثناء الليل. لاحظت وجود جهازي فيديو جاهزين للاستخدام وذلك لشح البرامج المبثة من محطة التليفزيون المحلي. تدخل علينا طفلة جميلة بشعرها الأسود زي الخمل المعقوصة، العيون البارزة بتأثير الكحل، زوج من الخلاخل تحيطان رسغ القدمين المصبوغتين بالحناء الذي استحال سوادا بباطن القدم. ركضت باتجاه علي واختفت خلفه، تراقب الغريب الذي برز أمام عينيها. كانت ليلى ابنة علي.
علي الذي بلغ 22 عاما مقترن منذ ثلاث سنوات بابنة عمه التي شاءت الأقدار أن تكون دميمة.خضع علي لهذا العرف المتداول بين العرب وان لم يكن راضيا بهذا القسمة، أو هذا ما بدا لي. خلال وجودنا في السبلة ظهر رجل مسن ذو لحية رمادية انه ابو علي.، بدشداشته القصيرة البالية. كان سعيدا بوجودي بينهم وبينما كان يدعوني للجلوس على السجاد أحاطني بمجموعة من الوسائد المحشوة بالمطاط الزبدي والتي تلفها بطانات قوية. قدم التمر، أولى علامات الترحيب بالضيف في الجزيرة العربية مصحوبة بعبارة "أهلا وسهلا" أخذت تمرة وبعد أن أكلتها لفظت نوى التمرة في يدي المكورة كأي أوروبي متحضر. لم يكن تصرفا في محله. شرح علي كيفية أكل التمر بطريقة العماني المدرك للأصول: تستخرج النوى بطريقة الضغط بالأصابع على التمرة مع مواصلة الدعك عليها. العصيد المتكون يغمس في زيت السمسم لاضفاء النكهة ولكن أبو علي لم يكتف بذلك بل قام بالعملية كاملة أمامي ثم قدم لي نتيجة عمله. لم يغب عن بال علي عدم استطاعتي تذوق خلطة التمر بالزيت، أدرك بأن التذوق لا يعتمد على عوامل ذاتية فقط بل يشمل نواحي التأدب والعادة وبالتالي لم يلح علي. فيما بعد فهمت أن عادة الالحاح وفرض العادات المحلية على الضيف كما هو الحال في البلدان العربية الأخرى لهي أقل حدة وتأتي بشكل متوازن ومنطقي في مناطق عمان وبذلك أثبت علي أنه رجل، مدرك ومرن في نفس الوقت.
من دلة نحاسية قدمت القهوة العربية، كان لونها عسليا غامقا، حادة المرارة ورائحتها تعبق بروائح عطرية. كان لنكهة المشروب مذاقها الطيب في فمي مختلطة مع ما تبقى من التمر. صب علي فنجانا ثانيا ثم آخر.بعد أن ارتشفت آخر جرعة هززت الفنجان بميل معين دليل كفايتي من القهوة.انتقلنا بعد ذلك الى الفواكه. تناولت منها قليلا متوقفا عند العنب الباكستاني. طقوس الضيافة اختتمت بكوبين من الشاي بالحليب الذي قدم لنا من ترمس ياباني حديث بدأت تحل محل دلال القهوة التقليدية.
تنبه علي لوجود جهاز الفيديو وعرض علينا شريط منوعات مصرية تتحرك فيه الراقصات على ايقاع الدف. في تلك الأثناء تدخل سعاد زوجة علي ولدى رؤية العرض، الذي بدا لها غير. محتشم، أظهرت استياءها. برأس منخفض اتجهت نحوي، مدت يدها المغطاة لتحيتي، لمستها قليلا بالكاد. فهمت أن ملامسة شخص غريب ولد فيها احساسا ما. أقنعها علي الا تبدو تقليدية جدا بوجود الأجنبي. كانت تلبس كبقية نساء القرية:رداء. من الحرير زاهي الألوان وسروالا موشى بأشرطة فضية من الأسفل،خمار شبه شفاف انسدل من الرأس لتغطية الأكتاف لينغلق على الصدر. وبالرغم من نظراتها المتجهة الى الأسفل أمكنني ملاحظة حول واضح في عينيها. بعد أن همست المرأة بكلمة "زرنا دائما" اتجهت بنظرها كالمعتاد الى علي الذي اشار اليها بالخروج، برأس منخفض اتجهت حالا للخارج. الاستحياء البادي من هذه المرأة كان يقابله بداخلها عدوانية كابدها علي وعانى منها. الأقدار وحدها وفرت له منفذا من خلال العمل بشركة بترولية في مدينة صلالة التي تبعد عن قريته بمسافة 800 كيلومتر. في كل ستة أسابيع عمل بالشرركة كان يمنح أسبوعين من الراحة في بيته وهذا ما كان يكفيه على ما يبدو. كنت محظوظا بالالتقاء به في بداية فترة الراحة تلك فلم تكن عنده انشغالات أخرى.
اقترح علي الذهاب لرؤية بعض الكتابات بمسجد في مقرح، قرية في جبال ولاية ازكي على بعد 55 كيلومترا من أدم حيث كانت تقطن أخته. في تلك الليلة نمت على وسائد المطاط المزبد ببطاناتها الصلبة.
وفي اليوم التالي غادرنا مبكرين الى مقزح، ارتدى علي دشداشته البنية والمكوية بعناية. أخذ عصاه الجلدية المجدولة الضفائر والتي بين فترة وأخرى كان يطرق بها ثنايا ثوبه الطويل. بعد أن قطعنا 8كيلومترات من الشارع المسفلت ندخل دربا وعرة مؤدية الى الجبل مما حتم استخدام الدفع الرباعي للسيارة.
أثناء سيرنا نقلنا معنا إحدى الفلاحات كانت حمولتها من التبن بالكاد تتسع لها مؤخرة "اللاند ووفر" قطع علي فترات الصمت بحكاية أخرى يخبرني فيها بشؤونه الخاصة والعادات المحلية ومعلومات تتعلق بحيوانات المنطقة ووصف بعض الخصائص العلاجية لأنواع من النباتات الصحراوية، في المقابل استمع بفضول الى شؤوني الخاصة وأوجه العادات والتقاليد الايطالية.
وصلنا مقزح قبل الظهر ومررنا بدار فاطمة أخت علي. أدهشتني طريقة الترحيب بين الأخوين، أحدهما يواجه الآخر، تساءلا بطريقة جد رسمية عن أحوال العائلة بكاملها والأقارب والأولاد، وتواصلا الى أن أمورها على أحسن ما يرام بفضل الله العلي القدير.
عندما فرغ من الرسميات تبين أن بنت فاطمة في المستشفى وحالتها الصحية مدعاة للقلق وكان المستشفي بعيدا ولا تستطيع المرأة أن تزور بنتها كما ترغب. لفت علي انتباهي الى أنه قبل تولي السلطان قابوس مقاليد الحكم في عام 1970 لم يكن في البلاد كلها الا 14 سريرا للمرضى بينما الآن في كل ولاية مستشفى وفي الحالات الخطيرة والمستعجلة فان من مهام الشرطة نقل المصاب بالهليكوبتر الى المراكز الصحية الكبرى في العاصمة. أصرت فاطمة على تناول الغداء في بيتها بعد انتهائنا من مشاهدة المسجد. اكتملت مظاهر الحفاوة الأولى عند فاطمة بتناول التمر والقهوة والفاكهة والشاي.
المسجد عبارة عن بناء رائع من الصاروج وتحته يجري الفلج وهو القناة المائية الصناعية لاستخدامات الوضوء وسقي النخيل اضافة الى تزويد القرية بمياه الشرب. الكتابات على محراب المسجد دلت على قدم البناء الذي يعود الى خمسة قرون مضت. بالمعونة الماهرة التي قدمها علي قمت بمهمة تصوير المكان. في هذه الأثناء وصل كبير أعيان القرية بصحبة القاضي وبعض كبار السن الذين قدموا لنا التمر مع زيت السمسم بينما الحظ ابتسامة علي تحت شواربه. كنا نشرب القهوة عندما قام أحدهم للآذان. هب الجميع لتأدية الواجب وقمت أنا بالتقاط الصور من الخارج.
عدنا الى دار فاطمة حيث كان في انتظارنا الطعام البدوي بصورته البسيطة: طبق الأرز بالتوابل وحلت دجاجة محمرة فوقه مكان الخروف كما هي العادة في البادية. شاركنا الغداء بالاضافة الى عبدالله صهر علي، أحد الأقارب ومجموعة من الأطفال. جو المكان والملابس أعطت انطباعا بالفقر والعوز. تحلق الجميع حول الطبق الموضوع على الأرض وكان يستخدم اليد اليمنى للأكل، صاحب الدار كان يرمي الى الأجزاء اللذيذة من الدجاجة كما هي عادة البدو. دار الحديث عن الطفلة المريضة والمعيشة في الوادي الشحيح ودارت الذكريات أيضا عن نزول الثلج في المنطقة من زمن بعيد.
قفلنا عائدين وبعد مسيرة ساعتين وصلنا أدم بينما كانت الشمس الحمراء تغرق خلف المدينة.
كان عندي بعض الصور التي التقطتها للكتابات في بعض مساجد عمان والتي صعب علي تراءتها وفهمها. ساعدني في فهم جزء من هذه الصور ولكن بقيت مجموعة منها عويصة الفهم. اقترح علي عرضها على معلم الحي الذي كان يعتد به. في صبيحة اليوم التالي عثرنا على المعلم في غرفة كبيرة بالمدرسة. الغرفة عارية إلا من الأطفال الذين كانوا يمثلون مختلف الآعمار من سن السادسة الى الثانية عشرة وقد تكدسوا حول الجدران، الأولاد من جهة والبنات من جهة أخرى. القرآن هو النص الوحيد. المكان مثل حي عن الكتاتيب كتلك التي قام بتعريفنا عليها الكاتب المصري الشهير طه حسين في سيرته الذاتية. الفرق بينهما انه كان يكتب عن حالة يعود عهدها الى قبل نصف قرن مضى. وعلى كل حال فان الكتاتيب هنا أيامها معدودة، لقد تم البدء في إقامة نظام تعليمي قائم على أسس حديثة بمبان جديدة ومدرسين من مصر، حتى انه في بعض القرى تم نصب خيام عسكرية للمدارس كبنى مؤقتة في انتظار إقامة بناء من المواد الثابتة، وكان التعليم فيها يتم بشكل حديث. تعاليم الدين مازالت شائعة بيد أنه أمكن تخصيص حصص متعددة للنصوص الأدبية والحساب والعلوم بمختلف فروعها وقد تمكنت من معايشة جزء من ذلك الواقع، أما علي. الذي أدهشني بغزارة معلوماته، فقد تكفل باخباري عما تبقى منه.
حدق المعلم في الصور وفي النهاية أقر بعدم قدرته على فهم الشيء الكثير. كنت أعرف من خلال تجربتي بأنه تكفي فترة زمنية قصيرة لفك حروف الكتابة وهذا ما قام علي بفهمه.
وكذلك فعل سلمان محمود الذي اصطحبني اليه علي، لا يتجاوز الثلاثين من العمر، سلمان الزاهد كان يعيش لربه واليوم الآخر، لا تهمه الشؤون الدنيوية الى درجة انه لم يحلق ذقنه منذ سنين.
استقبلنا سلمان في حجرته المتواضعة وطلب منا الانتظار ريثما ينهي صلاته، بعد ذلك جلس على الأرض لفحص الكتابات. أمكنه تحديد المكتوب وكان مقطعا من القرآن قام بتلاوته عن ظهر قلب. قام بحل كثير من النقاط الغامضة وعندما شق عليه فهم إحدى الكلمات اقترح علي الاستعانة بمساعدة ابنة أخيه عائشة التي كانت تدرس في المرحلة الثانوية لعل لديها القدرة على قراءة النص. نادى سلمان عائشة التي وصلت مترددة. قالت: "انا خائفة " عندما دعاها سلمان لقراءة الكلمات الناقصة. تجاوزت عائشة مرحلة الخوف بعد أن وجدت نفسها محط اهتمام الجميع فقامت بحل المشكلة بعد فترة تركيز معينة.
كانت عائشة جميلة بعيني غزالة سوداوين، بالرغم من طبقات الأغطية والملابس فوقها فقد أمكن ملاحظة القوام البديع لبنت في الخامسة عشرة من عمرها، تفهمت كم كانت تعجب علي وكيف كانت تبادله نظرات الاعجاب. انتابني الشك بأن علي قد اصطحبني لسلمان بالذات لرؤية عائشة. بالتأكيد ان كان ذلك مقصده فقد أفلح في غايته فلم يكن الأمر سهلا فيما لو كان وحده، حيث لن تتعدى زيارته بيت سلمان لحظات قصيرة وصدفة، وبالطبع لن يكون بمستطاعه السؤال عن الفتاة، وجود أجنبي سهل له القصد وأصبح عاديا استجواب الفتاة. انتابني الشعور بأنني قد وظفت من طرف علي لرؤية الفتاة. صاحب الدار لم ينتبه الى النظرات الخاطفة التي تبادلها الاثنان. واصلنا قراءة الكتابات وشرب الشاي حتى اللحظة التي طلب فيها سلمان توصيله بالسيارة الى مكتب الوالي. انطلقت عائشة الى الخارج ونحن بدورنا غادرنا المكان.
اغتنمت الفرصة لزيارة الوالي وهي مهمة غير ضرورية وان كانت في محلها، خاصة للأجنبي في عمان وبالذات في المناطق الصغيرة حيث يمكن ملاحظة الأجنبي بسهولة. في كل الأحوال إن تحية الوالي يمكن اعتبارها استثمارا فيما لو استدعت الضرورة. وجدناه جالسا على سجادة في صالون بيته المشيد حديثا. كان يرتدي دشداشته البيضاء، متمنطقا خنجره المصنوع من الفضة كزينة اعتيادية وهو يمثل تماما ربطة العنق عندنا بالنسبة لكبار الموظفين. يلبس الخنجر أيضا في المناسبات والأعياد كيفما تسمح أحوال الشخص بذلك. كان الوالي محاطا بالقاضي ونائب الوالي وهو شاب واره ومتعلم كما تدل لغته الانجليزية السليمة، ومحاطا أيضا بمسني المنطقة ومجموعة من العسكر بمنظرهم اللافت بالخناجر ومحازم الرصاص والبنادق الطويلة.
قام علي بتقديمي للجميع، وحسب التقاليد العمانية. سألني الوالي عن الأخبار والعلوم. والاجابة الاعتيادية: لا توجد أخبار. أحضرت الحلوى وهي مكونة من النشا وسمن الأبقار والعسل واللوز وماء الورد، وتقدم للبارزين من الضيوف. بأصبعين اثنين أخذ كل منا قطعة، بعدها صب أحد العساكر الماء لغسل الأيدي وقام آخر بتقديم القهوة التي ارتشفنا منها ثلاثة فناجين قبل هز الأخير.
الوالي الذي أظهر اهتماما شديدا بالأبحاث التي أقوم بها، اقترح أحد العساكر العاملين لديه كدليل لي. شكرته على ذلك مؤكدا العون الوافر الذي قدمه علي. ابتسم الرجل للشاب قائلا ما قصرت. نظر الي علي ممتنا، فلم يكن ذلك الاعتراف بالجميل شيئا هينا بالنسبة له، خاصة من قبل الوالي وأمام حشد من شيوخ المنطقة. استأذنا من الجميع بالانصراف مع الوعد بزيارات أخرى.
لم أستطع أن أمسك نفسي من سؤال علي عما اذا كانت فكرة الذهاب الى دار سلمان قد هدفت الى أغراض أخرى منها على سبيل المثال رؤية عائشة. سألته مبتسما دون النظر في عينيه وكأني متواطيء معه نوعا ما. تراءى لي وكأنه انتفض من قولي. وجم فترة وأجاب بطريقة حادة: "لا، ظننت فقط بأن سلمان ربما كان ذا عون لك كما تبين ذلك ". وهكذا أنهى الموضوع.
كانت لدي ارتباطات في مسقط. فتركت علي مع الوعد بالمرور عليه للقيام بجولة حتى شواطيء رمال وهيبة وهي عبارة عن صحراء رملية واسعة، الجمل هناك هو الوسيلة الوحيدة التي تملك مناعة ضد العواصف الرملية التي تهب على بحر العرب بدون شريط اخضر يحميه. في هذه الصحراء تعيش مجموعة من القبائل أهمها تلك التي تعطي اسمها للصحراء آل وهيبة.
لجنة عمانية _ انجليزية كانت تجري أبحاثها على المنطقة من عدة وجوه مختلفة. أبدى علي رغبته في مرافقتي كونه لم تتح له من قبل رؤية شاطيء البحر.
انطلقنا صباحا متزودين بالحصر، جرب النوم، صحائف الماء والمجارف. سلكنا الطريق العريض مخلفين وراءنا سحب الغبار الكثيفة وبين حين وآخر نتقاطع والسيارات القادمة من الاتجاه المعاكس متبادلين زوابع الغبار مع فقدان الرؤية لعدة ثوان. عبرنا قرى منعزلة ومتناثرة هنا وهناك في واحات الصحراء المنبسطة. يتكون كل من هذه القرى من جزءين: القديم الذي هجره الناس حيث المباني في طريقها للتداعي، والجديد الذي قطنه الناس في السنوات الأخيرة. عثرنا على الطريق المسفلت وبعد برهة لاحت في البعد هضاب الرمال العالية الحمراء والموحية وقد سدت الأفق رويدا رويدا من الجانب الأيمن من الطريق. بعد أن قطعنا مسافات رملية شاسعة وصلنا عصرا الى المركز العماني _ الانجليزي لدراسة رمال وهيبة في "المنترب " حيث ضربت موعدا مع أحد أعضاء البعثة الانجليزية.
علي الذي كان صامتا طوال الرحلة أظهر حيوية عندما وجد نفسه في الجو المرح الذي خلقه الرجال والنساء الذين كانوا يعدون حفلة ذلك المساء بمناسبة "سان فالنتينو"، عيد العشاق. المشهد كان مؤثرا بالنسبة لعلي،أن يجد نفسه محاطا بهؤلاء الشباب المتحررين في جو من الزمالة بين الجنسين وهو الشيء المرفوض في مجتمعه. تركته على هذا الحال، منخطفا وفي الأثناء اهتممت بمشاغلي حتى الظلام. الحفلة بدأت عندها بحثت عن علي وبدهشة برز مصره الملون وسط ثلاث فتيات وقد أثار فضولهن بتواجده في الحفل بدشداشته، بدا علي وقد أغراه الاهتمام الذي أبدته تجاهه المجموعة المرحة. التجربة بالنسبة له غريبة ومثيرة وكأنه وجد نفسه في حديقة خلابة، هذا على رغم ضرورة تجاوز وقع الصدمة الأول ومشكلة التكيف قبل القدرة على الاستمتاع بالجو المحيط.
"جودي"، إحدى الفتيات كانت تعرف قليلا من العربية فقامت بهمزة الوصل. علي كان يطلق بعض الجمل الانجليزية التي حفظها أيام الدراسة ومع ذلك فإن الاتصال لم يكن عقبة بينهم. جاء دور المشروبات، كان اهتمام علي عندها منصبا للحصول على أحد المرطبات لم يكن يتذوق الكحول، أما جودي ورفاقها فكان وضعهم مغايرا، وهكذا تحول مرحهم الصاخب الى نوع من الضيق لعلي، تصاعدت حدته، الحوار المتزن الذي دار بينهم فقد رزانته تدريجيا، فالأسئلة الموجهة أخذت تمس الأوتار الحساسة للشاب العربي. لحسن الحظ أن خيط الحوار بدأ ينقص بين الطرفين بسبب الهرج الذي ساد جو الحفلة وعدم وضوح الرؤية لـ"المترجمة "جودي. شعر علي بسوءنية الآخرين حتى في الحديث الذي لم يستوعبه كاملا والذي ربما يأتي بغير قصد متعمد وذلك بسبب الرؤية المشوشة للحاضرين وفقدان الانضباط نتيجة الكحول، وقد ازداد احساس علي بالدونية تجاه النساء عندما قامت جودي، جذلة بسؤال علي عما اذا كان مختونا مما دفعه للخروج من الخيمة مكفهرا.
لم يمكنني ابتعادي عنهم من متابعة الموقف جيدا. تركت محدثي واندفعت للخارج فقد كان علي يستعد لعبور بوابة المركز متأهبا للذهاب الى بيته بطرقه الخاصة. لحقت به وتمكنت من إيقافه. كان غضبه ينم عن العجز والاهانة التي لحقته، وبذلت جهدي في سبيل إفهامه بأنه لم يكن في أحاديث تلك المجموعة من الشباب أي نوع من الخبث،. انما هي بالأحرى رؤية ونعم مختلفان لأوجه معينة من الحياة مقاربة ساخرة بشكل ما تجاه المشاكل التي يواجهها المسلم بفلسفة مغايرة لكنها متناغمة مع نشأته والثقافة التي اكتسبها. ومع التسليم بأن تحريم الكحول له ما يبرره، فإنه بدون التأثير الذي مارسته الخمرة على تلك الصبية فإن سلوكهم لم يكن ليفقد الاحترام تجاهه. تمكنت من تهدئة أعصابه وأقنعته بحججي لكنه طلب مبارحة المكان حالا وعدم المبيت هنا كما هو متفق عليه. توقفنا على بضعة كيلومترات للنوم على الرمال التي كانت يذررها النسيم. حكاية علي التي دارت حول لقائه بالأفعى المجنحة لم تنجح في جلب النعاس. صحوت من نومي مرات عدة متتبعا القوس السماوي لكوكبة الجبار. بينما كان علي يتقلب بعصبية.
عند الفجر تيقنا بأننا في إحدى نواحي إحدى الواحات الفسيحة والبديعة السابحة على موج رمال وهيبة، انها واحة "الحوية " حيث التمر يعالج بالطريقة التقليدية في "التركبة " وهو بناء من الصاروج ويداخله يغلى البسر ثم يجفف ويتم تغليفه. بمشقة صعدنا أحدى الهضاب لتصوير الواحة، بعدها ألقينا بانفسنا على الرمال متدحرجين الى الأسفل مثيرين الأتربة حولنا. بدا على علي وكأنه نسي حادثة الأمس وان لاحظته مستغرق التفكير بعض الأحيان، لكنه يستجمع نفسه عند احساسه بأنه مراقب. أخذنا طريقنا باتجاه الشاطيء مجتازين الجهة الشمالية للمناطق الرملية الفسيحة التي لبست شتى الألوان من الأصفر الفاقع هنا حتى اصطباغها بالحمرة هناك. صدفة ولجنا أحد الأودية وكثيرا ما كنا نقابل في الطريق عربات التويوتا المكشوفة وهي محملة بالثلاجات الضخمة لحفظ الأسماك مسرعة الى داخل البلاد. وتستهلك كمية السمك التي تجلبها مع كميات هائلة من الأرز في المطاعم الباكستانية.
حال وصولنا للشاطيء غاصت السيارة في الرمال وقد وفر علينا جهد الصيادين في اقتلاعها من تلك الرمال التفكير في استخدام المعدات الموجودة لدينا، سلكنا الطريق البحري متجهين جنوبا، الدلافين المتوحشة تتقافز على سطح البحر وكثيرا ما شاهدنا في طريقنا هياكل أسماك متعفنة جنحت الى الشاطيء لسبب أو لآخر، بالاضافة الى بقايا قواقع كبيرة وقد قلبها الصيادون تعبيرا عن انتقامهم غير المجدي للأضرار التي سببتها تلك الكائنات لشباك الصيد.
سبب عبور السيارة في إثارة أسراب النوارس والبط وطيور البنغور، وعند سماع مدير "اللاند روفر" ترتفع رؤوس المجموعات المتناثرة من الصيادين التي تلوح أياديهم بالتحية. في عملهم المعتاد يقوم هؤلاء الصيادون بتنظيف شباكهم من أسماك القرش الصغيرة، وهم الذين لم تصبهم الثروة كما أصابت زملاءهم في المراكز البحرية الكبرى حيث مراكب الصيد الحديثة بمحركات "ألياماها" التي أزاحت القوارب التقليدية كـ "السنبوك " الذي
مايزال يستخدم في هذه الأنحاء وهو عبارة عن قارب صغير مؤلف من ألواح الخشب المشدودة بألياف نباتية مقواة، وتستخدم أيضا "الشاشة " وهي مصنوعة من «الكرب" مشدودة الى بعضها بمؤخرة وحيزوم من سعف النخيل، وتتسع بالكاد لشخصين. في طريقنا الى الشاطيء وبمحاولتنا تجاوز إحدى الصخور انحرفت السيارة الى الحاجز الرملي مما أدى الى غوص العجلات فيه. أعملنا مجارفنا وما تيسر من وسائل لازاحة الرمال، وبد فترة واصلنا مسيرنا كما هي العادة في كل مرة تصادفنا فيها تلك المشكلة والتي أثبت فيها علي مساهتمه الوافرة باستخدام المجرفة واستخدام قواه في دفع السيارة. وليبرهن على معرفته بالأشياء اندفع في تفريغ العجلات من الهواء لتسهيل عملية الدوران على الرمال. واصلنا مسيرنا على طول الشاطيء لمسافة تزيد على المئة كيلومتر، لم نستعله بعدها بسبب حالة المد والجزر، اضافة الى الصخور المتناثرة، فتوقفنا بعيد حلول الظلام.
تناولنا العشاء المكون من جبن الماعز والخبز الهندي والتفاح، وتدبرنا من الحطب ما يكفي لتحضير الشاي. تطلعنا الى "كوكبة الجبار" الحارس الليلي لذلك الشتاء العماني الساخن، نمنا بـ "أجفان مغلقة واكف مقفلة". كما قال علي. غادرنا المكان في ساعة مبكرة وكان وصولا سعيدا الى أدم.
كان على علي قبل مباشرة عمله في صلالة إصلاح بعض الأشياء في بيته، أما أنا فكانت تنتظرني أعمال في مسقط، على أمل أن التقي به لتحيته قبل مغادرته الى صلالة. الأسبوع الذي قضيته في مسقط كان مليئا بالمشاغل وكان علي طباعة بعض الصور التي طلبها مني علي، حيث كان من المفترض أن يغادر يوم السبت فكرت بالذهاب للقائه يوم الجمعة ولكني في يوم الخميس استلمت الرسالة الممهورة بختم والي أدم.
بسم الله الرحمن الرحيم
عزيزي الفاضل
نظرا لمشاعر الصداقة التي كنتم تكنونها للفاضل علي بن جمال، فإنه يؤسفني إبلاغكم بانقضاء حياته على وجه هذه الأرض عائدا الى وجه ربه الكريم، في ظروف غامضة وحزينة.. رحمة الله عليه
وتفضلوا بقبول تحياتي المخلصة
محمد بن سليمان
والي أدم
كثيرا ما حلم علي بن جمال بعائشة من اللحظة التي راها في بيت سلمان بن محمود. بادلته نظرة بأخرى من عينيها الواسعتين السوداوين كعيني غزالة. حلم بها وابتغاها. كانت المرة الأولى التي يحس فيها بتلك المشاعر المسيطرة على ذهنه. بدأ التردد على بيت سلمان على أمل رؤية الفتاة، ونادرا ما حقق حلمه هذا، كون ذلك مربوطا بعامل الصدفة. عندما انقضت فترة الراحة وغادر الى صلالة لم يستطع أن يكف عن تخيل عائشة. صورة سعاد تشوش عليه حلمه لكنه يبعدها حالا عن مخيلته منزعجا. أصابه من جراء ذلك هاجس عظيم، خيل اليه أنه يتحدث عن الموضوع مع سلمان.. لا.. مع أبيها أخي سلمان ليسأله الزواج منها. تخيلاته هذه كانت تعكرها ردة الفعل لدى سعاد بدون أن نحسب ما يمثله الآن تعدد الزوجات من صعوبة في بيئته فهذا من عادات البدو!
عاد الى الراحة في بلدته، يتحول في الحي بدراجته النارية لكنه لم يستطع مقابلتها ولا حتى رؤيتها لثوان. لحسن الحظ. أفلح برفقتي في مبتغاه بحجة قراءة الكتابات وتمكن من الجلوس معها فترة أطول. انها أجمل نصف ساعة من الزمن في عمره، خفق فيها كل كيانه مشاعر جياشة لعائشة التي كانت قادرة على ادراك مشاعره وفهمها. أعقب ذلك الانفصال. قاسيا كان الشعور بأنه حتمي.
الأسبوع الذي أعقب ذلك الحدث، بينما كان يشتغل في البيت، سرح ذهنه مع عائشة، استغل عدم تواجد سعاد في تلك اللحظة ليتجول بدراجته نواحي بيت سلمان بن محمود.لمح عائشة تعبر تبعها على قدميه. عندما رأته البنت وهو يقترب منها شحب وجهها وأسرعت في سيرها. فركض الشاب فهمست له.
– ابتعد !
– يجب أن أتحدث اليك.
– ابتعد فأنا خائفة !
– من الضروري أن أتحدث اليك.
– ستحدث المشاكل لو رآك أهلي.
– لا يهم، فأنا أريد التحدث اليك!
فأبطأت عائشة في سيرها..
في ذلك المساء ينهض "كوكبة الجبار" للصيد كعادتة متبوعا بمسافة قصيرة بسيروس.. بجانب إحدى أشجار الطلح. خارج أدم، كانت عيون علي تتطلع اليه بدون أن تراه، لا ترى حتى عيون عائشة الغزالية الواسعة السوادء. هناك بجانبه تسيل دماء الاثنين متحدة في الأخدرد نفسه، وفي الاثناء يفرغ سلمان
محمود من صلاته الخامسة.
بقلم : ايروس بلديسيرا(مستشرق وأستاذ في جامعة البندقية)
ترجمة :سالم المعمري (مسقط)
مراجعة:نزيه أبوعفش (دمشق)