تبدأ لغة عقل العويط في الكلمة الأولى بتشنج وبقلق كبيرين ، لغة تبدو في النظرة الأولى متقطعة الأنفاس ، مجزأة بحسب الانفعال الصدامي الذي تولد لدى الشاعر منذ اللحظة الأولى لكتابته . والتصادم هذا هو المواجهة القاسية التي حصلت بينه وبين الموت ، الموت في الجسد، هذا الجسد الذي بالنهاية هو كل المعنى ، الذي يحمل معاني الحياة والوجود والموت . الصدمة تلقاها الشاعر في مواجهته الحالة الحاسمة ، النهائية ، الجذرية ، إنها حالة انتهاء الجسد، وكان على العويط أن يطلع الينا بلغة مفككة تفكيك أجزاء الجسد، مكبلة تكبيل الجسد المنهكة ، ساحته صلبة صلابة الجسد المقاوم ، مخربطة خريطة خلايا البدن وخريطة مفاهيم الحياة عندما تحل النهاية على غفلة منه.
لغة عقل العويط هي لسان المتعثر في ايجاد المفردة الملائمة ، الوصف الملائم لحالة اسمها "موت "، المتلعثم في قول مشاعره ازاء جسد يزوي في قلب عالم عبثي ، خاو، الا من دقائق الحياة القليلة ، الا من برهة الغش العظيمة . لغة عقل العويط هي لسان المتعالي على الحزن وعلى الحقيقة ، هي لسان الباحث عن كلمة تشبه حالة الموت لما يفاجيء حالة الحياة الهشة ، لسان يعبث بعبث الحياة ، تلك التي تصر على انهاء الوجود دائما،على انهاء ذاتها، التي تصر على انهاء وجود جسد بريء في أشياء هذا العالم ، جسد في غمرة الوجود، جسد مشع ، جسد أليم حوله العويط كلمة جارحة تشع أبدا على بعد أزمنة كاملة من نتانة الجسد الذي لم يرد لنفسه النتانة كلمة نازفة دائما على مقربة من شعاع الجسد الذي لم يذهب بجسده . لغة عقل العويط المندفعة اندفاع الجسد في شفف بين الموت والوجود شفف البقاء في تضاد مع شفف الفناء، الجسد الذي استحال كلمة هاذية هذيان موت الجسد، الجسد في إرادة البقاء، كلمة شفافة شفافية الجسم الرقيق الذي منه نكون وبدونه لا نكون ، شفافية روح الجسد. فالجسد نور والجسد روح أبدا.
لغة عقل العويط الشديدة الايقاع شدة الجسم المتشبث بجسمه ، شدة النور المتبقي بعد الجسم ، لغة عقل العويط كتبت الحياة في موت الجسد. "الأحزان افتراس " يقول الشاعر وكلمة الحزن التي ابتكرها العويط عبر الافتراس ليقول الموت ، الكلمة كأنها فريسة كاتبها وكأنها جلاده في الوقت ذاته . الافتراس لدى العويط ذو حدين ، فهو مفترس في الحياة كما هو مفترس في فراش الموت ، كأن لعبة التناقض تكتمل هنا لدى الشاعر فيضحي كاتب القصيدة ضحية الجسد المائت كما ضحية الحلم بجسد يعود الى الحياة . واذا كان الموت مسألة يتوقعها الشاعر، فالجسد مسألة ينتظرها الموت ، فتقع الكتابة فريسة الحلقة المفرغة حيث يسعى الشاعر لايجاد مخرج نحو الحياة خارج الجسد الفاني. واذا قال العويط ان "احتمال الشيء يعني حدوثه " فلان الحتمية تملكت حالة الجسد الحزين ولم يبق أمام الشاعر سوى انتظار ما هو محتم ورغبته في أن يبقى احتمالا. ويصير الشاعر أثناء كتابة ألم الجسد، يصير يرى الجسد مكانا ، ويصير أيضا يوسع المسافة التي بين الألم والمكان ، لكي يتسع المكان لفضاء أوسع ، لكي يتسع مكان الجسد لجسد أكبر. إلا أن سرعان ما "… يخلو المكان في الحجم .." وكأن بالكلمة حاول أن يوسع الشاعر الجسد الا أن الموت خارج الكلمة وسع مكان الجسم وحجم حجم الجسم حتى خلد المكان من مكانه ، وخلد الجسد من جسده .
لغة عقل العويط لغة العاصي على الموت وكان على هذه اللغة ان تخلق الشجرة ومنها تخلق الغابة ، وفي الغابة تقطن الأرواح وتدفن الأجساد البريئة ، فالشجرة عنده رمز البقاء كما رمز الجسد. الشجرة هي رمز الانسان الأبدي. الشجرة هي رمز الجسد ورمز الروح . وصار الآخر ، الميت ، شجرة ويربط العويط بين الغياب والوقت والجسد _ الشجرة . انه يصف "الغياب بالوقت الذي صار شجرة " ، ووقت الحياة هو عكس
وقت البقاء، أي أن وقت الجسد الحزين والفاني هو نقيض وقت الشجرة المشعة والدائمة . الشجرة تحولت عنده الى وجود يلفي الغياب ، تحولت الى وقت خارج مفهوم وقت الجسد وصارت حضورا في غياب الغياب ، صارت حضور الآخر في غيابه ، صارت رمزه وأبديته في كيمائية الكلمة.
وكلما أمعن الشاعر في الحفر داخل الغياب ، داخل موت الجسد الجريح ، واجه هذا الغياب بغياب أعنف منه ، عنف التغييب ، وعبثي أكثر منه ، عبث الخواء الذي يأتي بعد غش الامتلاء.
"أصف الغياب بغيابه في الهواء كلما تدفق الفراغ على الجهات فصار سياجها". لما يغيب الشاعر الغياب فيجعله في غيابه حضورا بل سياجا للجسد الغائب ، يكون قد حفر في فراغ الوجود من أجل لغة تعيش من نقيض النقيض ، من عتمة العتمة ، من ضوء الضوء، من الجنون في الجنون . اذا كانت لغة العويط في الكتاب برمته ، من الدفة الى الدفة ، اذا كانت صلبة في حزنها ومبدعة في ألمها، فهي أيضا، وفي العمق ، مجنونة في عبثيتها ، مجنونة من جنونها وبما أن القداسة ترتبط وثيقا بالموت من أجل أبدية الروح في فناء الجسد، ولأن الجسد في قدسية الموت يستحيل جسدا مقدسا ، أو هو كذلك منذ البدء، والجسد مقدس قبل الروح ، لأنه كذلك، يستحيل الجسد في غروبه ضوءا مشعا كشمس مقدسة في وسط سماء العبث .
"والغيبوبة جسم الغروب لأن فيها انتقال الضوء في الشمس " ، وكأن الشاعر هنا يعير نور الشمس لقدسية الجسد المنير أصلا، وتكون بهذا الكلام ، تكون القصيدة داست عتبة الأمكنة المتأرجحة بين المطوع المعقول ومطرح اللامعقول . فالجسد الفاني معقول وغير معقول . كيف للشاعر أن يقبل أو يصدق ، يؤمن أن جسده أو جسد الآخر بعد وجوده الحقيقي لا يعود موجودا في الحقيقة . ويلتبس الأمر على الشاعر وعلى الجسد المسكين ، ويهيمن الوهم على الفكر وعلى الكلمة وعلى الجسم معا ، مما يجعل انتهاء الجسد وهما وبقاءه حقيقة في الكلمة وفي الرؤيا ، رؤيا عقل العويط والنور هنا قادم من اختزان شحنة الألم واختزان شحنة الانعتاق من حالة الحضور الحقيقي والمادي الى حالة الحضور الوهمي الاثيري، أو العكس صحيح ، فلا يبقى أمام الغموض الذي يلف الجسد الذاهب نهائيا ، الا أن نرفق الى مقام الشمس ، وهو مقام السروة الخالدة في قلب النور، نور كلمة العويط وفي قلب الحقيقة الوهم ، حقيقة الكتابة ووهمها والعويط نحا نحوها.
* مقام السروة _ عقل العويط _ دار النهار للنشر 1996.
صباح الخراط زوين (شاعرة ومترجمة من لبنان)