لا يتجاوز عدد الذين شاركوا في الاجابة على الاسئلة المتصلة بهذا الملف، ثلاثة عشر كاتبا ينتمون الى مجالي الابداع والنقد أو يجمعون بينهما، وتوجد بينهم فوارق في السن وفي طرائق التفكير والتحليل. ونحن فعلم أن هذا العدد غير كاف، ولكننا نأخذ الاجابات على أنها عينة لا تخلو من تمثيلية اهم التصورات وردود الفعل التي ترتبط بالجدال حول االتزام ومفهوه الأدب ومغامرة الكتابة. على أن فكرة هذا الملف تظل قابلة للتوسيع والتقصي لالتقاط مختلف الهواجس والتوجهات "النظرية" الفاعلة في وعي ولا وعي المبدعين الادبيين العرب. وما يشفع لنا، في هذه المحاولة، هو المقصد المتوخي منها: استثارة نقاش نستشعر، ضرورته وأهميته حول علاقتنا بالأدب وغائيته في سياق يبدو أكثر فأكثر، معاكسا للابداع والقراءة، وفي شروط اجتماعية وثقافية تميل الى الخلط والمزايدة والشعارية وتهميش الاسئلة المعرضة عن ضوضاء الموضة وببغاوية المتنافسين..
لقد حاولنا في الاسئلة الموجهة الى المبدعين والنقاد، ان نعيد طرح مفهوم الالتزام من منظور اشكالي ينسبه ويربطه بسياقه الفكري والثقافي (تنظيرات سارتر في الاربعينات) ويتساءل عما تبقى من فعاليته واجرائيته النقدية. وسبب اختيار الالتزام، هو كونه موضوعة ما تزال مائلة بشكل اواخر في ممارسات الادباء وفي وعي وأفق انتظار القراء، رغم الحديث الشائع، المتداول، عن مجاوزة الالتزام وتساقطه بالتقادم. فضلا عن ذلك، فإن الالتزام السارتري، في هجرته من فرنسا واوروبا الى الحقل الثاقفي – الادبي العربي خلال الخمسينات، قد تعرض لكثير من التحويرات ولغير قليل من الاختزال، وهذا يبرر محاولة العودة الى بعض أحوال الالتزام السارتري وقراءتها في سياقها ومقترنة بالانتقادات التي وجهت اليها آنذاك. من ثم حرصنا على إدراج شهادة كتاب ونقاد ومترجمين أسهموا في التعريف بالالتزام ودافعوا عنه بوصفه أفقا ممكنا لتطوير الادب العربي. وبعد مرور أكثر من خمسين سنة على "فورة" الالتزام، فإن آثارها وبصماتها مستمرة عند البعض ومنتهية عند البعض الاخر، لكنها تشكل في جميع الاحالات، نقطة بارزة عند كل محاولة لاعادة صوغ اشكالية الادب بأبعادها النظرية وفي تماسها وتفاعلها مع تحققات النصوص المستجدة. لاجل ذلك لم تقتصر أسئلتنا على مفهوم الالتزام بل تناولت ايضا مفهوم الادب كما يتبلور حاليا. عند الكتاب العرب والغائية التي تبرر الاستمرار في الكتابة والابداع.
على هذا النحو، سيتبين القاريء أن أسئلة الأدب متداخلة، متشابكة، مفتوحة لا يمكن حصرها في نطاق ضيق. الا أن الانطلاق من سؤال ما، قد يسعف على "استيقاظ" بقية الأسئلة المنسية أو المهمشة لندرك بأن حقل الأدب أوسع وأعمق من أن نسجنه في خانات تصنيفية أو تحقيبات جيلية.. مع ذلك فإن تراءتنا للاجا بات والمساهمات التي يتضمنها هذا الملف، قد تتيح التعرف على خلفيات وتصورات أثرت في التوجهات النظرية والابداعية للأدب العربي الحديث. ومثل هذه الفروق والتلاوين تعمل خلسة في غالب الأحيان، على تمهيد سبل التحول والتمرد والتجريب..
في شهادتي سهيل ادريس وجورج طرابيشي، تستوقفنا مفارقة تستحق الابراز، ذلك أن مؤسس مجلة "الآداب" يدافع بحرارة عن سارتر ورواياته ومفهومه للالتزام، لأنه جمع بين الحرية والمسؤولية وأثبت أنه شاهد شجاع على عصره.. وهذا كلام صحيح الا أنه لا "يمثل" سارتر في مجموع مساره ومغامراته الفكرية والسياسية. ذلك أن الالتزام عند سارتر قد عرف – على الأقل – لحظتين متمايزتين كما أوضحنا ذلك في مدخل هذا الملف. فسارتر الى حدود 1968، كان ينطلق من مفهوم شامل يعتمد الأدب والفلسفة لانجاز نقد جذري لاختلالات المجتمع وللمخاطر المهددة للفرد في صراعاته الدائمة ضد الدولة والمؤسسات وقيما بعد، أراد أن يصبح أداة فاعلة في التغيير السياسي للمجتمع ضمن مواقف مراعية راهنة تتحيز لرؤية ماركسية متطرفة تصاعدت في السبعينات وأوهمته بأنها الطريق الى بناء "مدينة الغايات"! وهذه التحالفات، كما هو معروف، قادت سارتر الى تحليلات متسرعة أخطأت فهم تحولات فرنسا بعد فورة 1968، كما قادته الى ممالأة اسرائيل والدفاع عن "اشتراكيتها" و "ديمقراطيتها"!
هل نقول اذن، بأن سهيل ادريس اختار سارتره واحتفظ له بتلك الصورة التي جعلت جيلا من المبدعين والمثقفين العرب، يجدون فيه زواجا ملائما بين التطلع الى قومية عربية متحررة ومحررة وبين فلسفة تعطي الحرية المسؤولة والكلمة الملتزمة زمام القيادة؟
بينما يعترف جورج طرابيشي بأن اهتمامه بسارتر وترجمته لدراساته ومقالاته النقدية والسياسية انما كانا استجابة للنزعة العقلانية التي نمات في الخمسينات تشكل أفقا لتغيير بنيات المجتمع العربي الما ضوية، المتآكلة تحت وطأة التفكير الغيبي والمقولات التقديسية. غير أن طرابيشي سرعان ما تبين – من خلال ممارسة القراءة – أن النصوص الروائية التي تجتذبه وترجه هي تلك التي لا تصدر عن تصور للالتزام الأدبي، ولا عن تخطيطات عقلانية، بل تعبر عن الغامض والكامن في الأعماق.. ومن ثم تأكد له عبر التجربة والزمان. أن مفهوم الالتزام السارتري قد سقط بالتقادم. لكن ذلك يفسح المجال أمام الالتزام بالصميمية والتجربة الداخلية.
وبالفعل عندما ننتقل الى شهادات المبدعين (ادوار الخراط، عبدالمنعم رمضان، قاسم حداد، نورا أمين) نجد أن مفهوم الالتزام قد تغير ليأخذ أبعادا ذاتية، جوا نية تجعل من كتابة النص مغامرة كلية لا تقبل التجزيء والخضوع لما هو صادر عن محافل أخرى تلغط بالشعارات والبيانات وتحول بين المبدع وبين خوض المغامرة لحسابه، وبين هؤلاء المبدعين فروق ولاشك بحكم المسار الشخصي لكل واحد منهم، فالخراط، بعد معاشرته لآمال الثورة التروتسكية وقراءاته الواسعة ومعاناته لانكسارات أحلام جيله، يعود الى ملجأ الكتابة بوعي صارم لا يقبل التنا زلات ليضع اشكالية الالتزام على صعيد أشمل وأعمق ينشد المطلق ويلتزم بالحرية والدفاع عن المجد الانساني. انه يكتب "لأنه لا يعرف لماذا يكتب" ولكن الكتابة تسعفه على مجابهة العالم – اللغز..
ويعمد عبدالمنعم رمضان، من خلال مايشبه السيرة الذاتية لمساراته الشعرية والفكرية الى استجلاء محطات الالتزام المتباينة الأصول (وجودية، ماركسية، تروتسكية…) والى رصد انجلاء الأوهام أمام "حقيقة" الشعر التي انتقلت في الحقل العربي من صورة الشاعر العام الى طيف الشاعر الخاص، الشاعر اليتيم المحكوم عليه بأن يواجه العالم منفردا وبأن يخوض التجربة لحسابه الخاص..
ويرصد قاسم حداد سيرته من الالتزام المتأثر بأصداء السياسة والمعارك الاجتماعية الى أفق استبطان قيم الحرية والالتزام ومقتضيات الابداع. ولاشك أن علاقة المناضل بالشاعر وما رافقها من مجالات في البحرين، تمثل ظاهرة عامة عرفتها بقية الأ قطار العربية بشكل أو بآخر، نتيجة لوجود وثوقيين كانوا ستالينيين أكثر من ستالين. وتجربة حداد قادته الى تغيير مفهومه للأدب الذي لا يغير الواقع مباشرة وانما يستجيب لطبيعة انسانية عميقة تنطلق من الذات وعواطفها لتلتزم بممارسة الحياة.
وترى نورا أمين، وهي من الأصوات الشابة المميزة في القصة والرواية، أن الأدب الملتزم تحول نحو الموت قياسا الى أدب التسعينات، لأنها – مثل الكثيرات والكثيرين من جيلها – تكتب لتحرر نفسها أولا، ولتقيم علاقة ملموسة مع القاريء لأن المتلقي مشرط جوهري لوجود الأدب. الكتابة عندها، استكشاف للذات وخبا ياها ووساوسها واستيها ماتها، وهي قائمة على المجاز والاستعارة وعلى القناص والتهجين والتلاقح حتى تقترب من الالتزام بالتعبير عن الذات وأسئلتها..
في أجوبة هؤلاء المبدعين، اذن، سمات أمامية مشتركة تنتقل بالالتزام من دلالة اقترنت بالاجتماعي والعام والتغيير الى أفق يفسح المجال للذات وأسئلتها وقلقها لكنهم لم يستبدلوا الالتزام السارتري بمفهوم حداثي للأدب على طريقة مالارميه الموغلة في نفي كل غائية للأدب. فهم يشيرون الى أن النص الأدبي يسوغ فنيا أسئلة معرفية تنطلق من الذات لتختلط "بما بين الذاتيات" أو يقصد اقامة "علاقة شخصية مع كل قاريء". ومن ثم يرون رغم التبالات التي لحقت حوامل التعبير وتقنياته أن الأدب ممكن بعد، لأنه يقتنص ما لا تستطيع وسائل التعبير الأخرى أن تلتقطه وتدمجه في مخيلة القاريء.
ومن منظور النقاد، نجد أنهم عاشوا اشكالية الالتزام على ضوء الثقافة الخاصة وأيضا من خلال التغيرات التي عرفها الوعي الأدبي وانجازات المبدعين العرب وانعراجات الخطاب النقدي الأدبي في العالم. هكذا يحدثنا الناقد الرائد محمود أمين العالم عن مساره الثر، الساعي الى التجدد، الحريص على ثوابت فكرية وايديولوجية يربطها برؤيته الشمولية المؤمنة بالدفاع عن الانسان العربي وحقوقه في التحرر والترقية والوجود الفاعل. رحلة محمود العالم التي امتدت عبر التصورات الجمالية والسوريالية الى المعايير المنهجية الماركسية لم تتوقف عن الانفتاح على ما يجد في مجال النظريات النقدية وقراءة الابداعات العربية المتلاحقة. ومن تلك الرؤية الدينامية، صاغ العالم انتقادات لمفهوم الحرية والالتزام عند سارتر، وخالف أدونيس في مسألة الغموض. وهو يرى أن كتابة الأدب ستستمر لأنها تسعف القاريء الايجابي على تجديد السلوك العملي تجاه الواقع، وتتيح معرفة وجدانية للحقيقة تشكل مواجهة لكل ما يشوه قيم الانسان العربي وطموحاته.
ومن جيل آخر، نجد الناقد جمال شحيا يؤكد بأن مفهومه للأدب والالتزام قد تغير من خلال اطلاعه على الأعمال الأدبية الجديدة ومتابعته للتحليلات النقدية التي ازدهرت منذ السبعينات، ورؤيته النقدية تنطلق من أن للأدب دورا في ترقية الوعي والمعرفة وهذا ما يبرر استمراره اليوم لأنه يعمل على تقليص وحشية العالم ويقدم متعة نبيلة وشفافة..
ويتتبع فيصل دراج اللحظات البارزة لمفهوم الالتزام في الأدب العربي الحديث مميزا بين ثلاثة منعطفات: تزامن الأدب والثورة قبل أن تتلاشى هذه الأخيرة والالتزام الصريح بعد الحرب العالمية الثانية وامثتداد الصراع الايديولوجي حيث كان الالتزام صراعا بين مواقف سيامية اختارت الأدب موقعا لها، ثم الالتزام بعد هزيمة حزيران اذ استطاع النص الأدبي أن يقرأ القائم والمسيطر وأن يؤرخ فنيا، لوقائع الحاضر، نابشا المسكوت عنه.. الا أن هذا المسار الذي قطعه الالتزام في الحقل الأدبي العربي ليصل الى "الالتزام بالحقيقة" يثير عند دراج امثلة اشكالية تتصل بشروط التقويض التي تحاصر المجتمعات العربية وتجعل نزوعها الى الحداثة مبتورا متعثرا باستمرار. وهذا ما يجعل الابدا عات المميزة الجريئة، الواعية لسياقها التاريخي. تغدو "مقاومة مبدعة من أجل الكتابة" وضد مناخ الانهيار والتآكل.
وفي شهادة نبيل سليمان، تلفت النظر تلك الثنائية المتصارعة عند هذا الناقد – الروائي: فقد استجاب الناقد فيه الى عياق المعرفة والايديولوجيا في العالم العربي من من منظور الماركسية والوجودية، فراح يلح على التزام الأدب بقضايا التاريخ والثورة الا أن الروائي فيه، لم يكن يعير اهتماما لتلك المقولات النقدية المقيدة لحرية الابداع وبذلك استطاع ان يكتب عددا لا بأس به من الروايات التي قادته الى الالتزام بخصوصية النص ومقتضياته المجاوزة للمعايير المقننة.
ونجد في مقالة صبري حافظ، استجلاء لدور الايديولوجيا في تحديد مفاهيم الأدب والنقد والالتزام. فالمعنى العميق الذي اكتسبته الايديولوجيا اليوم، بعد تحليلات جرا مشي، وألتومير، وفوكو، وبورديو، وآخرين، تجعل منها عنصرا حاضرا بتجليات متباينة، في النصوص الأدبية ضمن احا لات معقدة على الخلفية المعرفية والرمزية. وهذا ما جعل الالتزام في التجربة المصرية، كما حللها صبري حافظ، ~خذ طابعا متدرجا انطلاقا من ربطه بالشعب ووصولا الى المفهوم الراهن الذي يوسع دائرة الالتزام ليشمل أساسا خصوصية البنية الفنية وقدرتها على التقاط الواقع المراوغ المعقد. ومن ثم أصبح الالتزام كما يلاحظ صبري، مو الطريق لرفض التبعية لواقع عربي مهين وللماسكين بسلطته، وغدا الابداع الأدبي وهيلة جوهرية لتشخيص اللحظات المضيئة في وجدان المجتمعات العربية وذاكرتها.
اذا أضفنا الى ما تقدم، الوقفة التي خصصناها لالتزام الشعر من خلال مقالة عبدالكريم جويطي التي تستعرض مواقف ثلاثة أصوات بارزة في تجربة الشعر العربي: صلاح عبدالصبور، عبدالوهاب البياتي، أمل أنقل، فاننا نجد أن شعراء الحداثة العربية توزعوا بين موقفين التباعد عن الظرفي والاجتماعي عبر مسافة صوفية تتيح التأمل والتعالي على العابر نشدانا لجوهر الكينونة وجذور العلة، وهذا ما مثله صلاح عبدالصبور الى جانب شعراء آخرين، ثم موقف الاستجابة لأسئلة الحاضر وتجليات الواقع بأشكال متباينة تحقق للشعر سافته التعبيرية عن طريق توظيف الأساطير والحكايات وأقنعة التاريخ، وهو ما نجده واضحا في تجربة كل من البياتي وأمل دنقل مع اختلاف في المنحى الفني.
لكن هذه الشهادات والتحليلات لا تستوفي مجموع تجليات الالتزام في الأدب العربي الحديث، الا أنها تقدم عينات بارزة يمكن أن يندرج ضمنها عدد واسع من المبدعات والمبدعين في أجناس أدبية. مختلفة. غير أننا نؤكد مرة أخرى، على أن غرضنا من هذا الملف ليس هو متابعة تفاصيل تجليات الالتزام وانما استخراج السمات العامة التي تسعف على إدراك تأثيرات الالتزام السارتري ودورها في اعادة صوغ مفهوم الأدب والتصورات النظرية الكامنة وراء رؤيات المبدعين العرب.
من هذا المنظور، نلح على نسبية مفهوم الالتزام السارتري وعلى لبوساته المتباينة التي تجمدت عبر حقول أدبية تنتمي لثقافات مختلفة. وقد اتضح من مقالة حسان بورقية "الالتزام السارتري في مرآة أدورنو، وكانيتي وبارط"، أن دلالة الالتزام لم تكن أحادية، وأن التنظير السارتري، رغم مرتكزاته الفلسفية والمعرفية الواسعة، انما كان لحظة في مسار ثقافي وفكري ارتبط بصراع مجتمعي وايديولوجي واسع. وهو ما يفسر لنا كون الابداع الأدبي يرفض التقيد بطريقة معينة أو بتعاليم مقننة. ففي فترة ازدهار الالتزام. السارتري، كان الأدب يتابع مغامراته وتحققاته النصية في أشكال عديدة: الرواية الجديدة فلسفة العبث وانعكاساتها على الأدب، الواقعية السحرية.. ونغمى الظاهرة نلاحظها في حركية الأدب العربي الحديث وتداخل اتجاهاته نمير أن كل ذلك لا يجيز القول بأن الالتزام السارتري بصعناه العميق، قد تلاشى كسؤال نظرية خاصة في سياق صعود الأشكال الالكترونية للتعبير والثقافة. بعبارة ثانية، فإن كل مبدع يظل ملتزما بالتساؤل عن غايته من الكتابة وعن موقفا مما يجري داخله وحوله، وعن الطريقة التي يتدخل بها أدبيا في حومة الابداع..
والسمة الأخرى البارزة في هذه الشهادات والمقالات، هي أن الالتزام بدلالاته المتفرعة في الحقل الأدبي العربي، انما هو ذو مضمون محايث للحقل الاجتماعي والثقافي والتاريخي، على نحو ما أوضح فيصل دراج وآخرون. ومن ثم، نلاحظ أن الالتزام ارتبط في فتراته الأولى بالتفاؤل والجرأة على الانتقاد، قبل أن يغدو تابعا للخطاب السياسي ثم منفصلا عنه، بعد الهزيمة وباحثا عن حقائق مطموسة وسط ضجيج البلاغات والخطب الرسمية التبريرية. وهذه الدلالة الجديدة للالتزام التي تكتسي طابع مقاومة الايديولوجيا السائدة، هي التي تبويء الأدب العربي الحديث (في نماذجه الجيدة) مكانة الريادة لاستكشاف الحقيقة المراوغة المخيبة، والاسهام في انزال المقدس الى الأرض لتدعيم مسيرة الانسان.
وهذا يفضي بنا الى مسألة نقرأها بين السطور ونلحظها فيما ينشر من نقود وشهادات، وهي استمرار الالتباس لدى كل من الناقد والمبدع فيما يخص توضيح علائقهما بمفهوم الأدب والكتابة والقاريء. ويبدو أن ضغط الرأي العام الذي لم يتطور بالقدر الكافي في مجال وعي خصوصية الفعل الأدبي، يدفع بالكثيرين الى الاستمرار في تأكيد قدرة الأدب على تغيير الواقع. وفي اعتقادنا، أن مغامرة الكتابة تستلزم التجريب وتحمل في طياتها تحولات عديدة، وهو ما يقتضي من الكتاب والنقاد أن يبلوروا علاقة ملموسة وأكثر جرأة وصراحة مع المتلقين لتحسيسهم بتفرد تجربة الكتابة مع ارتباطها المعقد بما هو خارج عنها. ذلك أن الحرص على "الخصوصية المجتمعية" أو العربية لا يلغي السمات المشتركة بين المبدعين بعامة، في تجاربهم مع اللغة والأخيلة والأشكال والأبعاد الحلمية واللعيبة المرافقة لتخلق النص الأدبي لأجل ذلك فان مكاشفة القاريء هي منطلق للخروج بالأدب من مفاهيم عائمة شعاراتية، الى مجال استيعاب التعقيدات التي تحيط بالنص الأدبي قبل ولادته وأثناءها ثم الشروط المرافقة لاستهلاكه وتقييمه.. ومن بين القضايا والأمثلة التي تستحق أن يتوقف عندها قاريء هذا الملف، هو أن الالتزام في دلالاته المختلفة يفضي بنا الى أن الأدبا، العرب اليوم هم "ملتزمون" بمواجهة سؤال مثمترك بينهم وبين جميع الذين أدركتهم حرفة الأدب وحبه في العالم، وأقصد سؤال: كيف تمتطين الكتابة الابداعية الاستمرار في عصر منافسة الأشكال الالكترونية الثقافية للأشكال الأدبية المكتوبة؟
يخيل الي أنه لم يعد يكفي أن نردد بأن ما "يحمي" الأدب هو خصوصيته غير المتوافرة في بقية أشكال التعبير والتواصل، ذلك أن التحولات التي يعيشها العالم عميقة ومخلخلة لكثير من "الخصوصيات" والعلائق. وهذا يقتضي تفكيرا أكثر جذرية ويتصل باعادة صوغ البنيات المجتمعية وعلائق الأفراد بالهوية والتكنولوجيا والعلم والفن.. لكن هذه اشكالية أخرى!
محمد برادة (ناقد واكاديمي من المغرب)