حاوره : محيي الدين جرمة
كاتب وشاعر يمني
منذ الثمانينيات أخذت تجربة الشاعر العراقي علي جعفر العلاق مسارات مختلفة من الجنوح والتطور والتمرد الفني المشروع في سياق من ريادات شعرية كرستها ظروف وعوامل شتى، مسمّيات وأدلوجات ظلت تحتدم ولم يسلم من أوراها ومطحنها شعراء وتجارب عديدة، فتم تدوير نتاج بعضهم في خطوط مَكِنة نسيج المرحلة السبعينية وما قبلها مما دمغ روح قصيدة ومجاميع شعرية عدة بمحاليل السياسة وبشيء من نفير الجعير الشعاراتي المتواصل كما بمآلات وأشواك، رغم أهمية بعض السياقات لمسألة الحرية كمطلب جمعي للتحرر من إرث الكولونياليات القديمة والجديدة والانعتاق من شرانق بدائلها المحلية التي فعلت فعلها في وأد أحلام ومطامح ورؤى أجيال عربية كثيرة وسمت حينا مراحلها بالنهوض وأحايين أدركتها وما تزال انتكاسات مستدامة.
غير أن الشعر والنقد كمنحى وخطاب لدى العلاق وسط كل ذلك بقي خيارًا جماليًا وذاتيًا للعزلة المخضرة والمخضلة صبحًا نديًا ولمن حالفتهم لحظات التوق في عناق الشغف وتجذرت في شغافهم ينابيع الكتابة والرؤيا وتلمس لذة المعنى والصورة في جمال الإبداع وخفة التجريب الباكر من داخل معمعان القصيدة، وهو ما غدت تجربة العلاق في سياق معايشاتها حتى اللحظة طرية الامتداد والتجديد والريادة، فلم تتباه أو تطلب السباق أو تتمظهر بالضوء، عدا عن نزوعها إلى الزهد والتوحد بالشعر حد اليتم، وابتكارات مخيلة النهر في جريان امتداده وأثره إلى أحوال الرسو بحرف عذب ما جعل لقصيدته وقعًا في فضاء التلقي واتساع رؤية السير في ضفاف الشعر العربي والإنساني البعيدة والقريبة.
* تمتد رحلتك الشعرية منذ “لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء” 1973، مجموعتك الأولى حتى إصدارك السيري الفارق (إلى أين أيتها القصيدة)، الذي توج بجائزة زايد للكتاب، لعام 2023. إلى أين وصل الشعر في خيال العلاق وقصيدته، التي كثيرًا ما اقترنت في أذهان النقاد بالنهر، رحابةً وعذوبة؟
– سؤال يؤرق الشعراء جميعًا. ولا أحد يملك اليقين المطلق في الإجابة عليه. وقد كان هذا السؤال المقلق قد فرض نفسه عنوانًا لسيرتي الذاتية: إلى أين أيتها القصيدة؟ لأنه سؤال العمر على المستويين: الشعري والإنساني. إلى أين قد وصل بي الشعر، أو وصلت به؟ ولا أدري كيف ستكون ومتى وأين قصيدتي القادمة. فالشعر إبحارٌ مدوخ مثير للذهن والجسد في متاهة من الأسئلة التي تتكاثر كل يوم .
* لك موقع ومنصة جامعة توثق تدويناتك ومنجزك الشعري والنقدي وإبداعاتك المختلفة، ومشاركاتك وإسهاماتك في التحكيم النقدي أيضا لمجريات جوائز عربية ومسابقات عدة أخذ كل منها طابعًا وأفقًا في الرؤية والقيمة، لو تحدثنا عن شاطئ ما رأيت وعايشت وقررت وقيمت وفرحت وتأسيت؟
– رأيت وعايشت الكثير والكثيرين، حدّ الإحساس العالي بالأسى أو الفرح، وكنت في محطاتٍ زمنيةٍ كثيرةٍ جزءًا مؤثرًا ممن يصدرون القرار الأدبيّ سواءً في لجنة تحكيمٍ رفيعة أو في منبرٍ للنشر أو لجنةٍ ترقيات أكاديمية.
– ومن خلال تجربتك الثرية الحضور والرأي، عربيا وعالميا ما الذي ألفيته من قيم ومثبطات الجائزة الأدبية وأثرها على تنشيط أجيال الآداب والفنون الراهنة وتجاربها وأدبائها؟
– للجائزة الشعرية أو الأدبية جانبها الإيجابيّ المبهر الذي يدفع الكاتب إلى مزيدٍ من المسؤولية أمام قرائه وتجربته والنقاد المشتغلين في حقل تخصصه. ولها من جانبٍ آخر، أثرٌ قد يكون سلبيًا أحيانًا على من يستهين بمسؤولية الكاتب أو الشاعر. حين يظنّ أن الجائزة نهاية المطاف، أو ذروة الرضا عما يكتب، فيكفّ عن البحث، والتطور، والإضافة الدالة.
* من المعروف أنك أحد شعراء العصر الحديث، الذين جاد بهم العراق، وكان بعض النقاد قد عدّك من شعراء الحداثة المؤثرين، الذين أفادوا من لغتهم، في تحديث منظورهم للغة، كيف تقوم علاقتك باللغة وفي اللغة وتجذيرها بالكتابة إجمالا؟
– هذا ما أراه دائمًا، في تصوري للشعر خاصة، وللأعمال الأدبية عمومًا. اللغة هي المولد الأول والأخير لكل فتنةٍ في القصيدة أو أيّ عملٍ أدبيّ آخر. هي مدخل المعبد وأبّهة الصالة الأولى، حين ندخلها متجهين إلى ما في الحياة من شعريةٍ كامنة. وما عدا ذلك فهي تفاصيل ومتمّماتٌ ولمسة الاكتمال الأخير.
* ربما اختلفت مسارات الشاعر كلما تعلق الأمر بمعنى “شعرية الصورة” وإدراك وظيفتها، ولعل للكثير من الشعراء طقوسًا متنوعة في كتابة القصيدة، واقتناص وهج اللحظة الشعرية، التي تتحقق خلالها قدرة الحواس في مشموم الرؤية والابتكار واللمس والتراسلات؟
– يقع جزء كبير ربما في هذه اللحظة المحيرة، أعني لحظة الإمساك بتلك المجموعة من المكونات الهاربة، مثل سراب يتناثر في مفازة بيضاء، وهي من أكثر التحديات خطرًا. تضع الشاعر، مخيلةً ورؤيا ولغة وقدرات تخيلية، على المحك، وعليه بعد ذلك ومن خلاله، أن يقتاد هذا المزيج من العناصر إلى أن يتجاوز فوضاه الأولى إلى بهاء التجانس والتشكل، حيث الدهشة وقول ما لا يتيسر قوله لكل عابر.
* من واقع تجربتك وتحولاتها، في مرجل الحدث العربي من المحيط إلى الخليج، امتاز منجزك الشعري بفرادة وخصوصية وريادة مبكرة منذ عقود، كما تجاورت تجربتك مع أجيال التأسيس في العراق وبقية بلدان العالم العربي، كيف تعدد ملامح وشواهد ذلك وأنت قد عاصرت أشكالًا وأجيالًا وتجارب؟
– أن تكون شاعرًا في تربةٍ شديدة الغنى كالعراق، أمرٌ بالغ الأهمية، معناه أن تكون في مهبّ تحدياتٍ كثيرةٍ، وعقباتٍ أكبر، وأن تظلّ على تماسٍ مع وسطٍ أدبيٍّ، حيويٍّ ومليءٍ بالمفاجآت. فالشعراء والشعر، والجمهور المشتعل حماسًا لكلّ جديد، والصفحات الأدبية الرصينة، والأحداث التي تخضّ القلب والجسد والمخيلة. كل ذلك يضاعف من صعوبة حلمك الخاص، في أن تأخذ مكانك الشعريّ بجدارةٍ ذات يوم. إن كلّ شيءٍ كان يبعث على الفعل ونقيضه، حسب موهبتك ودرجة إيمانك بها. الإقدام أو التردد، زهوك بما كتبت أو ندمك عليه، العجلة أو التريث الرشيد.
حاولت منذ بداياتي، أن أحلم، وأن أكون في مستوى هذا الحلم. وبعد أن مررت متعجلًا على فوضى البدايات، لم يكن مطلبي من القصيدة هينًا، كنت أريدها لي، لا يشاركني فيها أحد. وكانت ملامح تلك القصيدة تنمو وتتجذر في مجالٍ روحيٍّ وجماليٍّ ولغويٍّ لم أستعره من سماواتٍ مجاورة. كان شعراء كثيرون، ومن أجيال شتى، لا يتورعون عن الأخذ، والوقوع في مديات الشعراء المؤثرين، والمكوث هناك سنواتٍ، فلا يجدون في ذلك ضيرًا أو مثلبة. بينما كان ذلك، بالنسبة لي، محذورًا يعكّر صوتي، فحاولت النأي عن أيّ شبهةٍ تقربني من صوتٍ ما: السياب، البياتي، سعدي، أدونيس، درويش.
وظللت دائم السعي إلى أن تكون لي نبرةٌ شعريةٌ مغايرة، ولغةٌ لا تُذَكِّر بسواي من الشعراء. وحاولت دائمًا أن لا أمت بقرابةٍ أسلوبيةٍ أو موضوعيةٍ لأيّ شاعرٍ مهما كان كبيرًا أو مؤثرا. ربما اقتربت، في مجموعتي الأولى، من أدونيس، لكن ذلك لا يعني شيئًا، مقايسةً بمن سلخوا سنواتٍ من أعمارهم الشعرية، وهم يتنقلون من حوتٍ شعريٍّ مؤثرٍ إلى آخر. كنت أريد لقصيدتي أن تكون قلبيةً دون زعيق، وفرديةً لكنها تحلم وتتعذب مع الآخرين، وتستمد شعريتها الخاصة غالبًا من فضاءٍ شعريّ مختلف: التعبير المقتصد، والنفور من الباروكات اللغوية، اعتماد الصورة والانزياح الدلاليّ والأسلوبيّ والإيقاع الذي يستثمر البحور المركبة والتجريب في فضاءاتها.
* في شعر التفعيلة، أبقيت بصمة وأثرًا من عذوبة وحرارة ما تتركه قصيدتك حتى الآن، من رهافة وفقدان، ومن شجن أيضا في إلقائك الشعري الذي لا يتكلف الحضور ولا الصوت ولا الظلال كذلك؟
– حاولت دائمًا أن لا تحتفي قصيدتي بلغتها فقط، بل بذلك الخيط من الشجن والترف الوجدانيّ الذي يمتد من الروح إلى اللغة، ومنهما إلى وعي الذات الكاتبة بمتطلبات الكتابة الشعرية. يمكنني القول إنني أكتب القصيدة بإحساسٍ فجائعيّ، إن جاز لي قول ذلك، ينتظم النصّ ويربط الخاصّ بالعام. إن الوعيَ هنا، ملتقى أسىً فرديّ وجمعيّ يخترقان النصّ كله. أما إلقاء القصيدة فهو معادلها الصوتيّ بدفئه أو انهدامه أو تماسكه. وهو انشداد القصيدة إلى جذورها الروحية وارتباطها بحلم الأرض وتوجّع المقهورين.
* ما المدى الذي تتأسس فيه حاسة الشاعر علي جعفر العلاق، بحدوسه و رؤاه ومواقفه وبناءاته الثقافية وما تكتنزه تحليقاته السماوية ومنجم طفولته الأرضيّ من شعرية قد لا تستنفد؟
– لا يمكن للشاعر أو الكاتب أو الفنان إلا أن يكون ابن بيئته ونتاجها النوعيّ، فهو ذاكرة ثقافية وانفعالية، تختزن الألم والفرح وأنماط التعبير عنهما، وتتشرّب كل ما في الطبيعة من إيقاعات الزمن وتحولات الفصول، وما تفترسه حواسّه من اشتباك المشموم والمسموع والمرئيّ والملموس من محرّضاتٍ تستفزّ هذه الحواس. إن أمشاجًا، وتمازجاتٍ شتى وشديدة الإثارة تختلط في الذاكرة: من هيجان فرحٍ جماعيّ إلى آهـة قصبةٍ مجروحة. ومن المفردة العامية إلى رقصات القرى البعيدة، وشجنها الحسيّ والدينيّ وحركتها المائجة أيام الحصاد .
* تبدو في كتابك الجديد و الفارق” إلى أين أيتها القصيدة؟” كأنك تسائل الشعر، تصف، وتبتكر العبارة، توجز فتذهل، وكثيرًا ما تستخدم لغة الشاعر السارد بفطنة وذكاء من خبر العصور والتناقضات والأحوال. هل تعد كتابك سيرةً أم رواية شاعر يكتب ذاته راثيا عراق اليوم أو عرب اللحظة؟
– وقد أخذ الكثير من ذلك مكانه، في هذه السيرة، بنداءات الذاكرة، أو إعمال المخيلة في لحظات استعدادها للعطاء والبذل والمشاركة. هناك في هذا الكتاب أيضًا، لوحاتٌ لهيئاتٍ بشرية، ومداخل سرديةٌ على درجةٍ من الكثافة الشعرية، وفيها وصفٌ واسترجاعٌ لا تنهض سيرةٌ ذاتيةٌ بدونهما. وقد تجد فيها جمعًا بين أزمنةٍ وأمكنةٍ لا تتجاور في حقيقتها داخل سياقٍ ما، غير أن للمخيلة سحرها العجيب دائمًا. كما تجد في الكتاب مواقف وأحداثًا ومآلاتٍ ترتقي، بفعل اللغة، إلى ذرى أدبية مؤثرة.
ويمكنني القول إن سيرتي الذاتية هذه ليست سيرة تقليدية، ففي مبررات الفوز بالجائزة، أشار مجلس الأمناء والهيئة العلمية في جائزة الشيخ زايد إلى عددٍ من خصائصها، منها أنها “إضافةٌ نوعيةٌ إلى جنس السيرة الذاتية العربية”، وأنها “سيرةٌ لتجربةٍ شعرية” تصدر عن “رؤيةٍ فكريةٍ واضحة لشاعر يقدم تجربةً جديدةً منفتحةً على الآخر”، وتجسد تفاعله مع واقعه “الثقافيّ العراقيّ والعربيّ على امتداد نصف قرن”. كما كشفت تلك المبررات أخيرًا عما في الكتاب من ” مستوياتٍ أسلوبيةٍ راوحت بين اليوميّ والشعريّ”، مما أسهم “في بناء عملٍ متميزٍ وذي طبيعةٍ متفردة “.
ولذلك لا أبالغ حين أقول إنها، إضافةً إلى كلّ ما ذكر، سيرة ذاتٍ شعريةٍ وإنسانيةٍ، فرديةٍ وعامة، اشتبكت مع الفضاء الجمعيّ، حتى اختلطا معًا في نشيدٍ، من المرارة الشخصية والعذاب العام، لا يمكن التفريق بين مكوناته.
* كتبت “سيرتك الذاتية” في كتابك الأخير، وكأنك تكتب رواية، بالأحرى، عمادها الرؤية والتوثيق الشعري المغاير لتوثيقات عدة جرت، في حين توسلت لغة سارد ماهر لا تعوزة حبكة القول وبلاغة العبارة، مجاوزًا في ذلك مجاراة التاريخ، في قول ما قد يغفل عنه هنا أو هناك؟
– هذا صحيح إلى حدٍّ بعيد، وفي الجواب السابق إشارةٌ واضحةٌ إلى ما تميزت به هذه السيرة من خصائصَ موضوعيةٍ وجمالية، كما أن فيها اشتباكًا وتماهيًا شديدين بيني وبين ما واجهني من ظروفٍ فرديةٍ وعامة، حيث الحروب والحصارات، وحيث نميمة الوسط الثقافيّ، ومحاباة النقد الشلليّ وأمزجة أصحابه التي لا تؤتمن. لكن انفعالية التعبير وظروفه لا تأخذني بعيدًا عما تتطلبه أدبية التعبير من انضباط بلاغيّ وأسلوبيّ.
* ولدتَ في قريةٍ من قرى محافظة واسط في العراق. وحصلت على الإجازة في اللغة العربية من الجامعة المستنصرية في بغداد عام، 1973 تلا ذلك حيازتك على الدكتوراه من جـامعة إكستر البريطـانية عـام 1984، ما الذي مـا زال طريًـا في ذاكرة الأيـام وطـازجًا يمـكن أن يقـال هنا؟
– كلما تذكرت تلك الأيام لفّتني غلالةٌ من الحزن، شفافةٌ لكنها واخزة، ثمة دمعٌ جارحٌ كالشوك، وذكرياتٌ تتزاحم على حافة بئرٍ بعيدة. طفولةٌ تتعصّى على التلاشي. كان هناك فورة الشباب ومتعة التعرف على الأسماء والفضاءات والتخيلات والمقاربات الأولى للكثير من متع الذهن والمخيلة والحواس. وكان، في تلك الأيام أيضًا، طبيعةٌ ترتجل الشعر والمطر والحنين القاسي، فأرى الكون كله يسيل من ذاكرةٍ شجية. أيامٌ كانت وما تزال، ربما، مبعث أحلامٍ يانعةٍ تارة، أو ندمٍ شديدٍ تارة أخرى يجعلني في حالة شـجارٍ دائمٍ مع ما كتبت وما أهـمُّ بكتابته أحيانًا.
* عشت ممهدات الكتابة في زمن مخالف على الأرجح، هل تزامن ذلك وتحولات الشأن الثقافيّ والأكاديميّ في سياق عراقيّ وعربيّ متلاحق من التراجيديا والعدوانات كما هي الحال الفلسطينية مع ما حدث ويحدث في غزة بوجه خاص في مرأى وحواس وبُكم العالم؟
– قطعًا لم يكن زمنًا فردوسيًا، أو حقبة ذهبية، لكن فضاء الأحلام الكبرى كان مترامي الأطراف. كان ثمة نهوضٌ في أمورٍ كثيرةٍ سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، تشكل مجتمعةً ملامح أمةٍ أو شعوبٍ في حالة نهوض. أما الحقبة الراهنة فيعمها الكثير من مظاهر التردّي والضعف. من يصدق أن بعض بلداننا باتت مستعمراتٍ طوعًا أو قسرًا، في وقتٍ نشهد فيه نهاية الاستعمار في العالم أجمع تقريبًا، هناك شعوبٌ يأكلها الجهل أو الكبت وأخرى تموت من الفاقة رغم ثرواتها الهائلة.
* عملت أستاذًا للأدب والنقد في جامعة صنعاء. ما أبرز المحطات اليمنية التي أثرَتْ وأثّرت في تجربتك الشعرية ومقامك هنا وهناك، وتجاورت مع كونك ناقدًا أدبيًا فذًا؟
_ حين أذكر اليمن لا أتذكره معزولًا عن المقـالح الكبير، ذلك الاسثنائيّ مفكرًا وإنسانًا وشاعرًا، والذي كان وراء العديد من مظاهر الحداثة في اليمن: في الشعر والأدب والنقد والانفتاح على العالم.كنت قد وصلتُ صنعاء في بداية التسعينيات، بعد حربٍ مدمرة، وفي الفصل الذي كتبته عنها قلت: “وصلتها وكأنني آخر الناجين من المذبحة”. لا أستطيع أن أتناسى ذلك الثراء الإنسانيّ والثقافيّ والوجدانيّ في تجربتي اليمنية. لا يمكنني الإفلات من إحساسٍ بالحنين إلى تلك الفترة، التي كانت من أجمل فترات حياتي إنسانًا وشاعرًا وكاتبًا وأستاذًا. كان اليمن مقبلًا بحيويةٍ على تجربة الجديد في أنماط التعبير والحياة معًا. وكنت دائم الإعجاب بقيم الشخصية اليمنية، القوية رغم بساطتها، والعزيزة النفس رغم وضعها الماديّ المتواضع.
* انحصر تأثير النقد الأدبيّ في البنيويات والاستاتيقا، على مدى عقودٍ منصرمة، بعدما ظل تأثيرها متوزعًا ما بين المراكز والأطراف، ما نتج عن ذلك طغيان ما أطلق عليه البعض “النقد الرسمي” في طابعه الأكاديميّ الجامعيّ، بعيدًا عن التخفف من حمولات استهلاكية بحتة، كيف ترى في السياق إلى عملية التلقي الراهن للمنتج المعرفيّ؟
– في هذا السياق لا بد لنا أن نستذكر صيحة تودوروف، مذعورًا: العالم في خطر. هذه الصرخة التي جاءت عنوانًا لواحدٍ من كتبه الأخيرة، بعد أن رأى النقد يتحول في معظمه إلى رطـانات وأحجيات لا تجد طريقها إلى عقول القراء أو ذائقتهم، وبعد أن صارت أكثر الاتجاهات النقدية تنشغل بالحديث عن ذاتها وطرائقها في التحليل المجهريّ الممعن في تفاصيل التفاصيل. وهكذا لم يعد النقد، إلا في القليل والثمين منه، جزءًا من الأدب، أو مصدرًا للبهجة والمعرفة، كما هو لدى الموهوبين الكبار من النقاد. لذلك لا بد للنقد أن يكون عونًا شديد الرقيّ للمتلقي، يجعل قراءة الأعمال الأدبية أكثر جمالًا وعمقًا، بدل أن يزيدها إبهامًا وحذلقة، فتصبح المقاربة النقدية، في الكثير من الأحيان، تجربة مجهدة وكئيبة بالنسبة للكثيرين.
* نمت تجربتك في ظلال النهر ونخيل العراق وشجرة الأدب، التي تعهدتها باكرًا فأثمرت. كذلك بالكتابة والتحرير الثقافيّ والإدارة، وبالمثابرة حيث مثل حضورك على رأس مجلة “الأقــلام” الأدبية في عراق الثمانينيات، أفقًا إيجابيًا لمسنا تأثيره المحفز في اليمن، كما لمسه غيرنا كذلك في غير بلد عربيّ وأفريقيّ، كانت تصله طرود البريد أيامها كهدايا تبهج، ما الذي مثلته لعلي جعفر العـلاق تلك المرحلة؟
– فترة شديدة الغنى بالأحلام الكبيرة، منذ السبعينيات والثمانينيات وما تلاها، وحافلة بالحيوية الثقافية والشعرية. حركة النشر في دار الشؤون الثقافية، والتي مرت بعناوين كثيرة قبل أن تستقر على اسمها الحالي، كان هناك دار المأمون للترجمة، وهناك مجلات أدبية وثقافية وفكرية وتراثية مرموقة: الأقلام، الثقافة الأجنبية، آفاق عربية، الطليعة الأدبية، المورد، والتراث الشعبي، وكان ثمة حركة نشطة في النشر ونظام للمكافآت المجزية.
كانت الأقلام أفقًا عربيًا وعراقيًا، يحضر من خلاله أحدث ما يدور في المشهد الأدبيّ، ولم نكن نركن إلى البريد إلا نادرًا، باستثناء ما يصلنا من كتّاب أو شعراءَ راسخين، لكننا كنا ننشط في سياسة الأعداد والملفات الخاصة التي تغطي جوانب مخصوصة من الإبداع الشعريّ والسرديّ والنقديّ . وفي فترةٍ من فتراتها، كانت المجلة تصدر كتابًا شهريًا، مؤلفًا أو مترجمًا. وما زلت أتذكر أن كتاب “جماليات المكان” لباشلار كان أول كتابٍ تصدره المجلة، بترجمة الروائيّ والمثقف والمترجم العربيّ غالب هلسا.
توالى على رئاسة تحريرها، قبلي، الكثير من النقاد والشعراء، خفافًا أو متباطئين: عبد الجبار داود البصريّ، طراد الكبيسيّ، سامي مهدي، حميد سعيد، باسم عبد الحميد حمودي .وكانت المجلة تضم في هيئة تحريرها وعبر تاريخها، مجموعة مميزة لكتّاب العرب، كان من أبرزهم محمـد عفيفي مطر، وخيري منصور، وغالب هلسا وآخرون. وكان لنا مراسلون في معظم العواصم العربية الثقافية ينقلون على صفحات المجلة مشاهد شديدة الحيوية لما يدور في تلك العواصم من أنشطة شعرية ونقدية وما تصدره دور النشر هناك من جديد. كانت الأقلام نافذة العبور، في اتجاهين من العراق وإليه. وكانت تحديًا أمام الشاعر خصوصًا، من أجل جوازٍ شعريّ، تضمن له اجتياز ذلك الغربال الصعب، الذائقة العراقية القارئة، التي لا يقوى على تخطيها، في الغالب، إلا من كان ذا موهبة حقيقية.